كأس الخيّام

​كأس الخيّام​ المؤلف علي محمود طه


هاتف الفجر الذّي راع النّجوم
و أطار الليل عن آفاقها
لم يزل يغري بنا ينت الكروم
و يثير الوجد في عشّاقها
صيدح جنّ غراما بالسّحر
أنطقته لهفة الرّوح المشوق
موثوق القلب، و ميعاد النّظر
مهرجان النّور في عرس الشّروق
فرح الجنّة في ألحانه
و صداه في السّحاب العابر
أرسل السّحر على ألوانه
من فم شاد، و قاب شاعر
ي له صوتا من الماضي البعيد
رائع الإيقاع فتّان النّغم
جدّد الأشواق باللّحن الجديد
وهو كالدّنيا عريق غي القدم
كم عيون نفضت أحلامها
حين نادى، غير حلم واحد
سلسلت فيه المنى أنغامها
و هي تشدو بالرّحيق الخالد
كلّما لألأ في الشّرق السّنا
دقّت الباب الأكفّ الناحله
أيّها الخمّار! قم و افتح لنا
و اسقنا من رحيق القافله
خمرة العشّاق لا زالت و لا
جفّ من ينبوعها نهر الحياه
نضبت في قدح العمر الطّلا
و هي في الأرواح تستوهي الشفاه!
كم شموس عبرت هذا الفضاء
و ألوف من بدور و نجوم
و الثّرى بين ربيع و شتاء
ضاحك النّوار و هاج الكروم
كلّ عنقود دموع جمدت
و قلوب فنيت فيها شعاعا
ما احتواه الفجر إلاّ اتّقدت
جمرة تذكو حنينا و التّياعا
لو أصابت ريشتها و ثبت
بجناحين من الشّوق القديم
أيّها الخالد في الدّنيا غراما
أين نيسابور، و الرّوض الأنيق؟
هذه الكرمة و الوادي الظّليل
مثلما كانا، و هذا البلبل
حاضر أشبه بالماضي الجميل
لو يغنّيه المغنّي الأوّل
اليد البيضاء في كلّ الغصون
زهرة تندى و نور يشرق
و الثّرى من نفس الرّوح الحنون
مهجة تهفو، و قلب يخفق
كم تشهيّت الحبيب المحسنا
لو سقي مثواك بالكأس الصّبيب!
و تمنّيت، و ما أحلة المنى
خطوات منه، و المثوى قريب!
أترى أعطيته سرّ الخلود؟
أم حبوت الحسن سلطانا يدوم!
عجبا، تخطئ أسرار الوجود
أيّها الحاسب أعمار النّجوم!
شفقة الكأس التي أنطقتها
لم تدع للسائل الصّادي جوابا
حجب عن ناظريّ مزّقتها
فرأيت العيش برقا و سرابا
و لمست الخافق الحيّ المنى
طينة تبكي بكفّ الجابل
تشتهي الرّشفة ممّا علّنا
و هي ملأى تحت ثغر النّاهل
نسي الأنخاب من تهوى و أمسى
مثلما أمسيت يستسقي الغماما
و اشتكت رقّته في الأرض يبسا
و غدا الإبريق و الكأس حطاما
لا، فما زالا، و لا زال الحبيب
أيّها المفعم بالحبّ الوجودا
إنّ من غنّيت بالأمس القريب
منحته ربّة الشّعر الخلودا
مرّ بي طيفكما ذات مساء
و أمن بين أحلامي و كأسي
استبدت بي أصياف الخفاء
و تغرّبت عن الدّنيا بنفسي
صحت باللّيل إلى أن أشفقا
فليقف نجمك...و لينأ السّحر
جدد العشّاق فيك الملتقى
و خلا الهمس على ضوء القمر
فادخلا بين ضياء و غمام
حانة الأقدار و اللّيل القديم
مجلسا يهفو به روح الغرام
كلّ نجم فيه ساق و نديم
و انهلا من سلسل النّور المذاب
خمرة ليس لها من عاصر
فنع الصّوفيّ منها بالحباب
و هي تنهلّ بكأس الشّاعر
فارو يا شاعر عن إشراقها
إنّما كأسك نور و صفاء
كيف طالعت على آفاقها
روعة الغيب و أسرار السّماء؟
كيف أبصرت الجمال المشرقا
بصر الفانين في حبّ الإله
و فتحت الأبد المستغلقا
عن ضمير الكون أو سرّ الحياه؟
أ بروحانية الشّرق العريق
أم ببوهيميّة الفنّ الطليق
سبحت روحك في الكون السّحيق
حيث لا يسمع طاف لغريق!
حيث أبصرت الذي لم تبصر
أعين مرّت بهذا العالم
ذاك سرّ الشّاعر المستهتر
و فتون الفيلسوف العالم
ذاك سرّ النّغم المسترسل
و الصّفاء السّلسل المطرّد
روح شاد فنيت في الأزل
و تحدّت شهوة المنتقد
صرخت آلامه في كوبه
فهوى يثار من آلامه
إنّما البعث الذي تشدو به
يقظة المفجوع في أحلامه!
إنّما البعث المرجّى للورى
غاية الحيّ التي لا تحمد
إنّما تبعث في هذا الثّرى
بعض ما يقطف أو ما يحصد
حسبها تعزية أن نحلما
بأناشيد الصّباح المنتظر
و تشقّ الأرض عن وجه السّما
حيث نور الشّمس أو ضوء القمر
ربّما جدّد أو هاج لنا
نبأ أو قصة من حبّنا
نوّح ورقات أرّنت حولنا
أو شجى قبّرة مرّت بنا
أو خطى إلفين في فيجر الصّبا
أترعا كأسيهما من ذوبه
أو صدى راع على تلك الرّبى
صبّ في النّاي أغاني حبّه
حلم مثّاته في خاطري
فعشقت الخلد في هذال الرّواء
أنكرو فحكوا عن شاعر
جنّ بالخمر و أغوته النّساء
و لقد قالو: شذوذ مغرب
و أباحيّة لاه لا يفيق
آه لو يدرون ما يضطرب
بين جنبيك من الحزن العميق
أولا يغدو الخليع الماجنا
من رأى عقبى الصّباح الباسم؟
و رأى الحيّ جمادا ساكنا
بعد ذيّاك الحراك الدّائم؟
أولا يغرب في نشوته
شارب الغصّة في اليوم الأخير؟
أولا يمعن في شهوته
مسلم الجسم إلى الدود الحقير؟
قصّة الزاهد التي غنّوا لها
علّلتهم بالسّراب الخادع
نشوة الشّاعر ما أجملها!
هي مفتاح الخلود الضّائع!!
لو أصابو حكمة ما اتهموا
و بكى لاحيك المستهجن
فهو من دنياهم لو علموا
عبث مرّ، و لهو محزن!!