كتاب الأم/الأحباس/الخلاف في الحبس وهي الصدقات الموقوفات

ملاحظات: الخلاف في الحبس وهي الصدقات الموقوفات


[قال الشافعي]: رحمه الله: وخالفنا بعض الناس في الصدقات الموقوفات فقال لا تجوز بحال قال وقال شريح جاء محمد بإطلاق الحبس قال وقال شريح لا حبس عن فرائض الله تعالى.

[قال الشافعي]: والحبس التي جاء رسول الله بإطلاقها والله أعلم ما وصفنا من البحيرة والوصيلة والحام والسائبة إن كانت من البهائم فإن قال قائل ما دل على ما وصفت؟ قيل ما علمنا جاهليا حبس دارا على ولد، ولا في سبيل الله، ولا على مساكين وحبسهم كانت ما وصفنا من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فجاء رسول الله بإطلاقها والله أعلم وكان بينا في كتاب الله عز وجل إطلاقها، فإن قال قائل: فهو يحتمل ما وصفت ويحتمل إطلاق كل حبس فهل من خبر يدل على أن هذا الحبس في الدور والأموال خارجة من الحبس المطلقة؟ قيل: نعم أخبرنا سفيان عن عبد الله بن عمر عن ابن عمر قال (جاء عمر إلى النبي فقال يا رسول الله إني أصبت مالا لم أصب مثله قط، وقد أردت أن أتقرب به إلى الله عز وجل فقال رسول الله حبس أصله وسبل ثمرته).

[قال الشافعي]: وحجة الذي أبطل الصدقات الموقوفات أن شريحا قال: لا حبس عن فرائض الله تعالى لا حجة فيها عندنا، ولا عنده؛ لأنه يقول قول شريح على الانفراد لا يكون حجة، ولو كان حجة لم يكن في هذا حبس عن فرائض الله عز وجل فإن قال: وكيف؟ قيل: إنما أجزنا الصدقات الموقوفات إذا كان المتصدق بها صحيحا فارغة من المال فإن كان مريضا لم نجزها إلا من الثلث إذا مات من مرضه ذلك وليس في واحدة من الحالين حبس عن فرائض الله تعالى فإن قال قائل: وإذا حبسها صحيحا ثم مات لم تورث عنه قيل: فهو أخرجها، وهو مالك لجميع ماله يصنع فيه ما يشاء ويجوز له أن يخرجها لأكثر من هذا عندنا، وعندك أرأيت لو وهبها لأجنبي، أو باعه إياها فحاباه أيجوز؟ فإن قال: نعم، قال: فإذا فعل ثم مات أتورث عنه؟ فإن قال: لا، قيل: فهذا قرار من فرائض الله تعالى فإن قال: لا؛ لأنه أعطى، وهو يملك وقبل وقوع فرائض الله تعالى قيل: وهكذا الصدقة تصدق بها صحيحا قبل وقوع فرائض الله تعالى، وقولك: لا حبس عن فرائض الله تعالى محال؛ لأنه فعله قبل أن تكون فرائض الله في الميراث؛ لأن الفرائض إنما تكون بعد موت المالك، وفي المرض.

[قال الشافعي]: وحجة الذي صار إليه من أبطل الصدقات أن قال: إنها في معنى البحيرة والوصيلة والحامي؛ لأن سيدها أخرجها من ملكه إلى غير مالك قيل: له قد أخرجها إلى مالك يملك منفعتها بأمر جعله لله تعالى وسنة رسوله والبحيرة والوصيلة والحامي لم تخرج رقبته، ولا منفعته إلى مالك فهما متباينان فكيف تقيس أحدهما بالآخر؟

[قال الشافعي]: والذي يقول هذا القول يزعم أن الرجل إذا تصدق بمسجد له جاز ذلك، ولم يعد في ملكه وكان صدقة موقوفا على من صلى فيه، فإذا قيل له: فهل أخرجه إلى مالك يملك منه ما كان مالكه يملك؟ قال: لا، ولكن ملك من صلى فيه الصلاة وجعله لله تبارك وتعالى، فلو لم يكن عليه حجة بخلاف السنة إلا ما أجازه في المسجد مما ليس فيه سنة ورد من الدور والأرضين، وفي الأرضين سنة كان محجوجا فإن قال قائل: أجيز الأرضين والدور؛ لأن في الأرضين سنة والدور مثلها؛ لأنها أرضون تغل، وأراد المساجد كان أولى أن يكون قوله مقبولا ممن رد الدور والأرضين وأجاز المساجد ثم تجاوز في المساجد إلى أن قال: لو بنى رجل في داره مسجدا فأخرج له بابا وأذن للناس أن يصلوا فيه كان حبسا وقفا، وهو لم يتكلم بوقفه، ولا بحبسه وجعل إذنه بالصلاة كالكلام بحبسه ووقفه.

[قال الشافعي]: فعاب هذا القول عليه صاحباه واحتجا عليه بما ذكرنا وأكثر منه وقالا: هذا جهل، صدقات المسلمين في القديم والحديث أشهر من أن ينبغي أن يجهلها عالم، وأجازوا الصدقات المحرمات في الدور والأرضين على ما أجزناها عليه ثم اعتدل قول أبي يوسف فيها فقال: بأحسن قول فقال: تجوز الصدقات المحرمات إذا تكلم بها صاحبها قبضت، أو لم تقبض وذلك أنا إنما أجزناها اتباعا لمن كان قبلنا مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وغيرهم وهم ولوا صدقاتهم حتى ماتوا فلا يجوز أن نخالفهم في أن لا نجيزها إلا مقبوضة وهم قد أجازوها غير مقبوضة بالكلام بها فنوافقهم في إجازتها.

[قال الشافعي]: وما قال فيها أبو يوسف كما قال.

[قال الشافعي]: أخبرني غير واحد من آل عمر وآل علي أن عمر ولى صدقته حتى مات وجعلها بعده إلى حفصة وولى علي صدقته حتى مات ووليها بعده الحسن بن علي رضي الله عنهما وأن فاطمة بنت رسول الله وليت صدقتها حتى ماتت وبلغني عن غير واحد من الأنصار أنه ولي صدقته حتى مات.

[قال الشافعي]: وفي أمر النبي عمر بن الخطاب أن يسبل ثمر أرضه ويحبس أصلها دليل على أنه رأى ما صنع جائزا فبهذا نراه بلا قبض جائزا، ولم يأمره أن يخرجه عمر من ملكه إلى غيره إذا حبسه ولما صارت الصدقات مبدأة في الإسلام لا مثال لها قبله علمها رسول الله عمر فلم يكن فيما أمره به إذا حبس أصلها وسبل ثمرتها أن يخرجها إلى أحد يحوزها دونه دلالة على أن الصدقة تتم بأن يحبس أصلها ويسبل ثمرتها دون وال يليها كما كان في أمر النبي أبا إسرائيل أن يصوم ويستظل ويجلس ويتكلم دلالة على أن لا كفارة عليه، ولم يأمره في ذلك بكفارة.

[قال الشافعي]: وخالفنا بعض الناس في الصدقات المحرمات فقال: لا تجوز حتى يخرجها المتصدق بها إلى من يحوزها عليه والحجة عليه ما وصفنا وغيره من افتراق الصدقات الموقوفات وغيرها مما يحتاج فيه إلى أن لا يتم إلا بقبض.

كتاب الأم - الأحباس
الخلاف في الصدقات المحرمات | الخلاف في الحبس وهي الصدقات الموقوفات | وثيقة في الحبس