كتاب الاعتبار/الباب الأول/طبائع الإفرنج وأخلاقهم
سبحان الخالق البارئ إذا خبر الأنسان أمور الإفرنج سبح الله تعالى وقدسه ورأى بهائم فيهم فضيلة الشجاعة والقتال ولا غير، كما في البهائم فضيلة القوة والحمل. وسأذكر شيئاً من أمورهم وعجائب عقولهم. كان في العسكر الملك فلك بن فلك فارس محتشم إفرنجي قد وصل من بلادهم يحج ويعود، فأنس بي وصار ملازمني ويدعوني أخي وبيننا المودة والمعاشرة فلما عزم على التوجه في البحر إلى بلاده قال لييا أخي أني سائر إلى بلادي، وأريدك تنفذ معي أبنك وكان ابني معي وهو ابن أربعة عشر سنه إلى بلادي يبصر الفرسان ويتعلم العقل والفروسية. وإذا رجع كان مثل الرجل عاقل. فطرق سمعي كلام ما يخرج من رأس عاقل. فإن أسر ما بلغ به الأسر اكثر من رواحه إلى بلاد الإفرنج. فقلتوحياتك هذا الذي كان في نفسي. لكن منعني من ذلك ان جدته تحبه وما تركته يخرج معي حتى استحلفتني أن أرده إليها قال أمك تعيش؟ قلتنعم. قال لا تخالفها.
ومن عجيب طبهم ان صاحب المنيطرة كتب إلى عمي يطلب منه إنقاذ طبيب يداوي مرضى من أصحابه، فأرسل إليه طبيباً نصرانياً يقال له ثابت، فما غاب عشرة أيام حتى عاد فقلنا لهما أسرع ما داويت المرضى! قال أحضروا عندي فارساً قد طلعت في رجله دملة وامرأة قد لحقها نشاف، فعملت للفارس لبخة ففتحت الدملة فصلحت، فحميت المرأة ورطبت مزاجها فجاءهم طبيب إفرنجي فقال لهمهذا ما يعرف شيئاً يداويهم. وقال للفارس ايما لك ان تعيش برجل واحدة أو تموت برجلين. قال أعيش برجل واحدة. قال أحضروا لي فارساً قوياً وفأساً قاطعاً. حضر الفارس والفأس وأنا حاضر، فحط ساقه على قرمة خشب وقال للفارس أضرب رجله بالفأس ضرباً واحداً واقطعها. فضربه وأنا أراه ضربة واحداً ما انقطعت، فضربه ضربة ثانية فسال مخ الساق، ومات من ساعته. وأبصر المرأة فقال هذه المرأة في رأسها شيطان قد عشقها، احلقوا شعرها، فحلقوه وعادت تأكل من مأكلهم الثوم والخردل فزاد بها النشاف، فقال الشيطان قد دخل في رأسها. فأخذ الموس وشق الرأس صليب وسلخ وسطه حتى ظهر عظم الرأس وحكه بالملح، فماتت من وقتها. فقلت لهمبقي لكم إلي حاجة؟ قالوا لا. فجئت وتعلمت من طبهم ما لم أكن أعرفه. وقد شاهدت من طبهم خلاف ذلك. كان للملك خازن من فرسانهم يقال له برناد لعنه الله، من ألعن الإفرنج وارجسهم فرحمه حصانه من ساقه فعملت عليه رجله وفتحت في أربعة عشر موضعاً والجراح كلما ختمت موضع فتح موضع وأنا أدعو بهلاكه. فجاء طبيب إفرنجي فأزال عنه تلك المراهم وجعل يغسلها بالخل الحاذق فختمت تلك الجراح وبرأ وقام مثل الشيطان. ومن عجيب طبهم انه كان عندنا بشيزر صانع يقال له أبو الفتوح له ولد قد طلع في رقبة خنازير، وكلما ختم موضع فتح موضع، فدخل إنطاكية في شغل له ومعه ابنه، فرآه راجل إفرنجي فسأله عنه فقال هو ولدي. قال تحلف لي بدينك إن وصفت لك دواء يبرئه لا تأخذ من أحد تداويه به أجرة حتى أصف لك دواء يبرئه؟ فحلف. فقال تأخذ له أشنان غير مطحون تحرقه وتربيه بالزيت والخل الحاذق وتداويه به حتى يأكل الموضع، ثم خذ الرصاص المحرق وربه بالسمن، ثم داوه به فهو يبرئه. فداواه بذلك فبرأ، وختمت تلك الجراح، وعاد ما كان عليه من الصحة. وقد داويت بهذا الدواء من طلع فيه هذا الداء فنفعه وأزال ما كان يشكوه. فكل من هو قريب العهد بالبلاد الإفرنج اجفى أخلاقاً من الذين قد تبلدوا وعاشروا المسلمين.
فمن جفاء أخلاقهم قبحهم الله، أنني إذا زرت بيت المقدس دخلت إلى المسجد الأقصى، وفي جانبه مسجد صغير جعلوه الإفرنج كنيسة. فكنت إذا دخلت المسجد الأقصى وفيه الداوية وهم أصدقائي، يخلون لي ذلك المسجد الصغير اصلي فيه فدخلت يوماً كبرت ووقفت في الصلاة، فهجم علي واحداً من الإفرنج مسكني ورد وجهي إلى الشرق وقال كذا صلي فتبادر إليه قوم من الداوية أخذوه أخرجوه عني، وعدت أنا إلى الصلاة، فأغفلهم وعاد هجم علي ذلك بعينه ورد وجهي إلى الشرق وقال كذا صل! فعاد الداوية دخلوا إليه وأخرجوه واعتذروا إلي وقالواهذا غريب وصل من بلاد الإفرنج هذه الأيام، وما رأى من يصلي لغير الشرق. فقلت حسبي من الصلاة! فخرجت وكنت أعجب من ذلك الشيطان وتغير وجهه ورعدته وما لحقه من نظر الصلاة إلى القبلة. ورأيت واحداً منهم جاء إلى الأمير معين الدين رحمه الله وهو في الصخرة فقال تريد تبصر الله صغيراً؟ قال نعم. فمشى بين أيدينا حتى أرانا صورت مريم والمسيح عليه الصلاة والسلام صغير في حجرها فقال هذا الله صغير - تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً.
ليس للإفرنج غيرة جنسية
عدلوليس عندهم شيء من النخوة والغيرة، يكون الرجل منهم يمشي هو وامرأته يلقاه رجل أخر يأخذ المرأة ويعتزل بها ويتحدث معها، والزوج واقف ناحية ينتظر فراغها من الحديث، فإذا طولت عليه خلاها مع المتحدث ومضى. ومما شاهدت من ذلك أنى كنت إذا إلى نابلس أنزل في دار رجل يقال له معز داره عمارة المسلمين لها طاقات تفتح إلى الطريق، يقابلها من الجانب الطريق الأخر دار لرجل إفرنجي يبيع الخمر للتجار قد فتح بيته من هذا الخمر، من أراد منها شيئاً فهي من موضع كذا وكذا، واجرته عن ندائه النبيذ الذي في تلك القنينة فجاء يوماً ووجد رجل مع امرأته في الفراش فقال لهأي شيء أدخلك عند امرأتي؟ قال وجدت فراشاً مفروشاً نمت فيه قال والمرأة نائمة معك؟ قال الفراش لها كنت أقدر أن أمنعها من فراشها؟ قال وحق ديني إن عدت فعلتها تخاصمت أنا وأنت. فكان هذا نكيره ومبلغ غيرته.
ومن ذلك انه كان عندنا رجل حمامي يقال له سالم من أهل المعرة في حمام لوالدي رحمه الله قال فتحت حماماً في المعرة أتعيش فيا، فدخل إليها فارس منهم وهم ينكرون على من يشد في وسطه الئزر في الحمام، فمد يده وجذب مئزري من وسطي رماه، فرآني وأنا قريب عهد بحلق عانتي، فقال سالم فتقربت منه، فمد يده على عانتي وقال سالم جيد! وحق ديني أعمل لي كذا واستلقى على ظهره وله مثل لحيته في ذلك الموضع، فحلقته فمر يده عليه فستوطأه فقال سالم بحق دينك اعمل للدام والدام بلسانهم الست يعني امرأته. وقال لغلام لهقل للداما تجيء. فمضى الغلام أحضرها وأدخلها، فاستلقت على ظهرها وقال اعمل كما عملت لي، فحلقت ذلك الشعر وزوجها قاعد ينظرني فشكرني ووهبني حق خدمتي. فانظروا إلى هذا الاختلاف العظيمما فيهم الغيرة والنخوة وفيهم الشجاعته العظيمة، وما تكون الشجاعة إلا من النخوة والأنفة من سوء الأحدوثة. ومما يقارب هذا أنني دخلت الحمام بمدينة صور فجلست في خلوة فيها. فقال لي بعض غلماني في الحما معنا امرأة. فلما خرجت جلست على المسطاب وإذا التي كانت بالحمام قد خرجت وهي مقابلي قد لبست ثيابها وهي واقفه مع أبيها ولم أتحقق أنها امرأة. فقلتبالله أبصر هذه امرأة هي. وأنا أقصد أن يسأل عنها. فمضى وأنا أراه رفع ذيلها وطلع فيها فألتفت إلي أبوها وقال هذه ابنتي ماتت أمها وما لها من يغسل رأسها، فأدخلتها معي الحمام غسلت رأسها. قلتجيد عملت، هذا لك فيه ثواب.
عجائب طبهم أيضاً
عدلومن عجيب طبهم ما حدثنا به كليما دبور صاحب طبرية وأنا معه، فحدثنا في الطريق فقال كان عندنا في بلادنا فارس كبير القدر فمرض واشرف على الموت، فجئنا إلى قس من قسوسنا قلناتجيء معنا حتى تبصر الفارس فلاناً؟ قال نعم. فمشا معنا ونحن نتحقق انه إذا حط يده عليه عوفي فلما رآه قال أعطوني شمعاً. فاحضرنا له قليل شمع، فلينه وعمله مثل عقد الإصبع، وعمل كل واحدة في جانب أنفه، فمات الفارس فقلنا لهقد مات قال نعم كان يتعذب سددت أنفه حتى يموت ويستريح.
دع ذا وعد القول في هرم.
سباق ومحاكمات
عدلنرجع من حديث مجاريه حضرت في طبرية في عيد من أعيادهم، وقد خرج الفرسان يلعبون بالرماح، وقد خرج معهم عجوزان فانيتان أوقفوهما في رأس الميدان، وتركوا في رأسه الأخر خنزيراً سمطوه وطرحوه على صخرة، وسابقوا بين العجوزين ومع كل واحد منهم سرية من الخيالة يشدون منها، والعجائز يقمن ويقعن على كل خطوة وهم يضحكون حتى سبقت واحده منهن لأخذت ذلك الخنزير في سبقها. وشاهدت يوماً في نابلس وقد حضروا أثنين للمبارزة، وكان سبب ذلك أن كان حرامية من المسلمين كبسوا ضيعة من ضياع نابلس فأتهموا بها رجلا من الفلاحين وقال واهو دل الحرامية على الضيعة فهرب. فنفذ الملك فقبض أولاده فعاد إليه وقال انصفني أنا أبارز الذي قال عني أنى دللت الحرامية على القرية. فقال الملك لصاحب القرية المقطعاحضر من يبارزه فمضى إلى قريته وفيها رجل حداد فأخذه وقال لهتبارز إشفاقا من المقطع على الفلاحيه لا يقتل فيهم واحد لا يقتل منهم واحد فتخرب فلاحته. فشاهدت هذا الحداد وهو شاب قوي إلى انه قد انقطع، يمشي ويجلس ويطلب ما يشربه، وذلك الأخر الذي يطلب البراز شيخ إلا انه قوي النفس يزجر وهو غير محتفل بالمبارزة، فجاء البسكند وهو شحنة البلد، لأعطي كل واحد منها العصا والترس، وجعل الناس حولهم حلقة. والتقيا وكان الشيخ يلز ذلك الحداد وهو يتأخر حتى يلجثه إلى حلقة، ثم يعود إلى الوسط. وقد تضارا حتى بقيا كعامود الدم. فطال الأمر بينهما والبسكند يستعجلهما وهو يقول بالعجلة، ونفع الحاد إدمانه بضرب المطرقة. وأعي ذلك الرجل فضربه الحداد فوقع ووقعت عصاه تحت ظهره، فبرك عليه الحداد يداخل إصبعه في عينه ولا يتمكن من كثرة الدم من عينه، ثم قام عنه وضرب رأسه بالعصا حتى قتله. وطرحوا في رقبته حبلاً وجروه شنقوه. وجاء صاحب الحداد أعطاه غفارته وأركبه خلفه وأخذه وانصرف. وهذا من جملة فقههم وحكمهم لعنهم الله. ومضيت مرة مع الأمير معين الدين رحمه الله إلى القدس، فنزلنا نابلس. فخرج إلى عنده رجل أعمى وهو شاب عليه ملبوس جيد مسلم، وحمل له فاكهة وسأله في أن يأذن له في الوصول إلى خدمته إلى دمشق ففعل، وسألت عنه فخبرت ان أمه كانت مزوجه لرجل إفرنجي فقتلته، وكان ابنه يحتال على حجاجهم ويتعاون هو وأمه على قتلهم، فاتهموه بذلك وعملوا له حكم الإفرنججلسوا بتية عظيمة وملئوها ماء عرضوا عليها دف خشب وكتفوا ذلك التهم وربطوا في أكتافه حبلاً ورموه في البتية - فإن كان برياً غاص في الماء، فحرص ذلك لما رموه في الماء ان يغوص فلما قدر. فوجب عليه حكمهم لعنهم الله فكحلوه. ثم ان رجل وصل إلى دمشق فاجرى له الأمير معين الدين رحمه الله ما يحتاجه. وقال لبعض غلمانهتمضي به إلى البرهان الدين البلخي رحمه الله تقول لهتأمر من يقرئ القرآن وشيئاً من الفقه. فقال له ذلك الأعمىالنصر والغلب! ما كان هذا ظني! قال ما ظننت بي! قال تعطيني الحصان والبغلة والسلاح وتجعلني فارساً قال ما اعتقدت ان أعمى يصير من الفرسان.
ولحم الخنزير
عدلومن الإفرنج قوم قد تبلدوا وعاشروا المسلمين فهم أصلح من القريب العهد ببلادهم، ولكنهم شاذ لا يقاس عليه. فمن ذلك أنني نفذت صاحباً إلى إنطاكية في شغل، وكان بها الرئيس نادرس بن الصفي وبيني وبينه صداقة، وهو نافذ الحكم في إنطاكية. فقال أصحابي يوماًقد دعاني صديق لي من الإفرنج، تجيء معي تراى زيهم قال فمضيت معه فجئنا إلى دار فارس من الفرسان العتق الذين خرجوا في أول خروج الإفرنج، وقد اعتقى من الديوان والخدمة، وله بإنطاكية ملك يعيش منه، فأحضر مائدة حسنة وطعاماً في غاية النظافة والجودة، ورآني متوقفاً عن الأكل فقال كل طيب النفس، فأنا ما أكل من طعام الأفرنج ولي طباخات مصريات لا أكل إلى من طبخهن، ولا أدخل داري لحم خنزير. فأكلت وأنا محترز وانصرفنا. فأنا بعد مجتازاً في السوق وامرأة إفرنجية تعلقت بي وهي تبربر بلسانهم وما أدري ما تقول. فاجتمع علي خلق من الأفرنج فأيقنت من الهلاك. وإذا ذلك الفارس قد أقبل فرآني، فجاء فقال لتلك المرأة مالك ولهاذ المسلم؟ قالت هذا قتل أخي عرس، وكان هذا عرس فارساً بأفامية قتله بعض جند حماة. فصاح عليهم وقال هذا رجل برجاسي أي تاجر لا يقاتل ولا يحضر قتال وصاح على أولئك المجتمعين، فتفرقوا وأخذ يدي ومضى، فكان تأثير تلك المواكلة خلاصي من القتل.