كتاب المناظر/المقالة الأولى/الفصل السابع



إن طبقات البصر التي ذكرناها ووصفناها في شرح هيئة البصر هي آلات للبصر بها يتم له الإبصار. وهيئة هذه الطبقات وأوضاع بعضها من بعض هو الذي به يتم وصول المبصرات إلى البصر.

أما الطبقة الأولى التي هي ظاهر البصر وهي التي تسمى القرنية فهي طبقة مشفة ومع ذلك متينة وهي منطبقة على الثقب الذي في مقدم العنبية. فأول منافعها أنها تغطي ثقب العنبية فتنضبط بذلك الرطوبة البيضية التي في داخل العنبية فتنحصر ولا تتشتت. فأما شفيفها فإنها إنما كانت مشفة لتنفذ فيها صور الأضواء والألوان إلى داخل البصر لأن صور الأضواء والألوان ليس تنفذ إلا في الأجسام المشفة ولا تقبلها وتؤديها إلا الأجسام المشفة. وأما متانتها فلئلا يسرع إليها الفساد لأنها منكشفة للهواء فهي تحتمي بمتانتها من المؤذيات اللطيفة كالقذى والغبار والدخان وكالطرفة وما يجري مجرى ذلك. فهذه هي منافع هذه الطبقة. فأما الرطوبة البيضية فهي مشفة ومع ذلك رطبة مائعة. أما شفيفها فلتنفذ فيها الصور وتصل إلى الرطوبة الجليدية التي بها يقع الإحساس. وأما رطوبتها فلترطب أبداً الرطوبة الجليدية وتحفظ عليها صورتها لأن هذه الرطوبة اعني الجليدية ترفة في الغاية والغشاء الذي عليها رقيق في الغاية واليسير من اليبس يفسدها ويغير صورتها. وكانت الرطوبة البيضية رطبة مائعة لترطب أبداً الجليدية وتحفظ عليها رطوبتها. فأما الطبقة السوداء المحيطة بالرطوبة البيضية وهي التي تسمى العنبية فهي سوداء وهي ضعيفة وفيها بعض المتانة.

وهي كرية وفي مقدمها ثقب مستدير كما وصفنا ذلك في هيئة البصر. فأما سوادها فلتظلم به الرطوبة البيضية والرطوبة الجليدية فتظهر فيها لظلمتها صور الألوان الضعيفة الخفية فإن الأضواء الضعيفة جداً إذا كانت في مواضع مظلمة ظهرت للبصر وإذا كانت في مواضع مضيئة لم تظهر للبصر. فسواد العنبية إنما هو ليظلم به داخل البصر فتحس الجليدية بما يصل إلى تجويف البصر من صور الأضواء وإن كانت ضعيفة يسيرة. وكانت هذه الطبقة صفيقة وفيها بعض المتانة لتضبط الرطوبة البيضية وتحفظها فلا يرشح منها شيء إلى خارج ولا تناقص وليظلم بصفاقتها داخلها لأنها لو كانت صفيقة اشتدت ظلمة داخلها. وكونها كرية لأن الكرة اعدل الأشكال المجسمة وأحماها مع ذلك من التغيير فإن ذا الزوايا يسرع التغير إلى زواياه وليس يكون ذلك في الكرة. فأما الثقب الذي في مقدمها فلتنفذ فيه الصور إلى داخل تجويف البصر. وكونه مستديراً لاعتدال الاستدارة فأما الرطوبة الجليدية فقد جمعت صفات بها يتم الإحساس. وذلك أنها رطبة ومع ذلك ترفة وفيها بعض الشقفيف وفيها بعض الغلظ وعليها غشاء وغشاؤها في غاية الخفة.

وشكل سطحها مركب من سطحين كريين مختلفين والمقدم منهما أعظم كرية من كرية الباقي. فأما كونها رطبة فليسهل انفعالها بالأضواء لرطوبتها فيسرع فيها تأثير الصور التي ترد إليها. وكونها ترفة فليلطف حسها فتحس باللطيف الضعيف من الصور لأن الأجسام الترفة تكون لطيفة الحس. وكان فيها شفيف لتقبل الأضواء والألوان وتنفذ الأضواء والألوان فيها. كان فيها غلظ ولم تكن في غاية الشفيف لتدافع صور الأضواء والألوان التي ترد إليها وتمنعها من النفوذ فيها بما فيها من الغلظ. فيتم للصور بمدافعتها وثبوت الضوء تأثيرها فيها وتظهر للقوة الحساسة صورة الضوء واللون التي تثبت فيها. ولو كانت في غاية الشفيف لنفذت الصور فيها ولم تثبت فيها. ولو لم تثبت الصورة في هذه الرطوبة لم تحس هذه الرطوبة في سطحها ولا في جسمها بشيء من الصور ولم تنفعل بالصور الانفعال الذي هو من جنس الألم ولم تظهر الصورة لها ولم تدركها. فأما الغشاء الذي على هذه الرطوبة فإنما هو ليضبطها فلا تتشتت لرطوبتها وليشكلها أيضاً هذا الغشاء ويحفظ عليها شكلها لأن الرطوبات إن لم يحصرها حاصر تشتت ولم تثبت مع ذلك على شكل واحد. وأيضاً فإن الرطوبات ليس تتشكل بشكل كري إلا إذا حصرها كري. فاشتمال الغشاء على هذه الرطوبة إنما هو ليضبطها وليشكلها بالشكل الكري. وكان هذا الغشاء خفيفاً وفي غاية الخفة لئلا يستر عنها الصور التي ترد إليها.

فأما كريتها فلاعتدال شكل الكرة واحتمائه من التغير. وكون سطح مقدمها من كرة اعظم فليكون موازياً لسطح مقدم البصر ويكون مركزاهما نقطة واحدة. فأما العصبة الجوفاء التي جملة العين مركبة عليها فإنما كانت جوفاء لتجري فيها الروح الباصرة من الدماغ وتصل إلى الجليدية فتغطيها القوة الحساسة على الاستمرار ولينفذ أيضاً الضوء في تجويفها وفي الجسم اللطيف الجاري فيها إلى أن يصل إلى الحاس الأخير الذي في مقدم الدماغ. وكان مبدأ العصبتين الجوفاوين اللتين تتركب عليهما العينان من جنبتي مقدم الدماغ ليكون وضع البصرين من مبدأيهما وضعاً متشابهاً معتدلاً. ولم يكن مبدؤهما من وسط مقدم الدماغ لأن هذا الموضع يختص بحاسة الشم. فلهاتين العلتين صار مبدأ العصبتين من جنبتي مقدم الدماغ. فأما لم كان البصران اثنين ولم يكن البصر واحداً فإن ذلك رأفة من الصانع تعالى واستظهار من الطبيعة حتى متى حدث بأحدهما آفة بقي الآخر ولتحسين صورة الجسم أيضاً بهما. ثم إن العصبتين الجوفاوين تلتقيان عند وسط مقدم الدماغ وتصيران عصبة واحدة جوفاء ويصير واحداً. وإنما صار ذلك كذلك لما ذكرناه من قبل في كيفية الإبصار: وهو أن الشخص الواحد يبصر ببصرين فإذا نظر الناظر إلى مبصر واحد بكل واحد من البصرين بصورة ذلك المبصر فتحصل في البصر صورتان لذلك المبصر فلو تأدت الصورتان إلى الحاس الأخير لكان يدرك المبصر الواحد اثنين فالتقت العصبتان وصارت واحدة وصار تجويفهما تجويفاً واحداً لتنتهي الصورتان من البصرين إلى هذه العصبة وتنطبق إحديهما على الأخرى فتصيران صورة واحدة فيدرك الحاس الأخير المبصر الواحد واحداً.

فلهذه العلة التقت العصبتان وصارتا واحدة وصار التجويفان تجويفاً واحداً. فأما سطوح طبقات البصر المشفة فهي سطوح كرية متوازية مركزها نقطة واحدة. وإنما كانت كرية لتكون الأعمدة التي تقوم على سطوحها تخرج من نقطة واحدة وهي مركزها ثم تسع ويبعد ما بين أطرافها كلما بعدت عن المركز فيكون المخروط الذي يمتد من المركز إلى مبصر من المبصرات الذي فيه تخرج جميع الأعمدة من ذلك المبصر على سطح البصر يفصل من سطح البصر ومن سطح العضو الحاس جزءاً صغيراً ويكون ذلك الجزء مع صغره يحيط بجميع الصورة التي ترد من ذلك المبصر إلى البصر. ولو كانت سطوح طبقات البصر مسطحة لكانت صورة المبصر لا تصل إلى البصر على الأعمدة إلا إذا كان البصر مساوياً للمبصر. وليس شكل من الأشكال فجميع الأعمدة التي تقوم على سطحه وتلتقي على نقطة واحدة وتحدث من الأعمدة التي تقوم عليه مخروطات تتسع أطرافها ويكون السطح الذي تقوم عليه متشابه الترتيب غير شكل الكرة. وكانت سطوح طبقات البصر كرية لتكون الأعمدة التي تخرج من المبصر التي تأخذ من سطح العضو الحاس جزءاً يسيراً مع عظم المبصر ويحيط ذلك الجزء مع صغره بجميع صورة المبصر مع عظمه وليمكن بهذه الحال أن يخرج من مركز البصر مخروطات كثيرة إلى مبصرات كثيرة في وقت واحد يفصل كل واحد من تلك المخروطات جزءاً يسيراً من سطح العضو الحاس يشتمل على صورة المبصر. وكانت كلها على مركز واحد لما قدمنا ذكره وهو أن تكون الأعمدة التي تخرج من المبصر إلى واحد منها أعمدة على جميعها ولتنفذ الصور في جميعها على سمت واحد بعينه. فأما لم كان البصر لا يدرك شيئاً من المبصرات إلا من سموت هذه الأعمدة فقط فلأن بهذه العمدة فقط تترتب أجزاء المبصر في سطح العضو الحاس ولها تتميز جميع المبصرات عند الحاس.

وقد تبين من قبل انه ليس يصح أن تترب صورة المبصر في سطح العضو الحاس إلا إذا كان قبوله للصور من هذه السموت فقط فلذلك صارت طبيعة مختصة بهذه الخاصة ومطبوعة على أن لا تقبل شيئاً من الصور إلا من أوضاع هذه الخطوط فقط. وتخصص البصر بهذه الخاصة هو أحد المعاني التي تظهر منها حكمة الصانع جّلت عظمته ولطف صنيعه ويظهر منه حسن تأتي الطبيعة وتلطفها في تهيئة آلات البصر الهيئة التي بها يتم الإحساس وبها تتميز له المبصرات. فأما الملتحمة فإنها مشتملة على جملة هذه الطبقات وفيها بعض الرطوبة وهي مع ذلك متماسكة فيها بعض المتانة. وإنما كانت مشتملة على هذه الطبقات لتجمعها وتحفظها وتحرسها. وكان فيها بعض الرطوبة لتتوطأ للطبقات التي في داخلها مواضعها منها ولا يسرع أيضاً إلى تلك الطبقات اليبس بالمماسة والمجاورة. وكونها متماسكة فيها بعض المتانة لتحفظ على الطبقات التي في داخلها أشكالها وأوضاعها فلا تتغير أشكالها ولا أوضاعها. وكانت بيضاء لتشرق بها صورة الوجه وتحسن هيئته.

وكانت جملة العين مستديرة لأن الاستدارة اعدل الأشكال وأسهلها مع ذلك حركة والعين محتاجة إلى الحركة وإلى سرعة الحركة. وكانت العين متحركة ومحتاجة إلى الحركة وإلى سرعة الحركة لتقابل بالحركة كثيراً من المبصرات في وقت واحد ومن نصبة واحدة تكون لصاحبها الذي يحركها ولتقابل بالحركة جميع أجزاء المبصر بوسط الناظر فيدركه بذلك إدراكاً بيناً ومع ذلك متشابهاً لأن الإحساس أبين من الإحساس ببقيته وسنبين هذا المعنى من بعد في الموضع الأليق به. فأما سرعة حركة البصر وحاجته إلى سرعة الحركة فليتأمل بسرعة الحركة جميع أجزاء المبصر وجميع المبصرات التي تقابله في أقل القليل من الزمن. فأما الأجفان فإنها جعلت وقاية للعين تحرسها من الأذى وتكنها عند النوم وتوقيها من المؤذيات ولتريح العين عند انطباقها عليها من ألام الأضواء ومباشرة الهواء لأن الأضواء تؤذيها وتقرعها فلو استمر عليها قرع الأضواء دائماً ولم تسترح لفسدت. وقد يظهر ذلك عند إطالة النظر إلى الأضواء المضيئة.

ويتبين من ذلك أن استمرار مباشرة البصر للأضواء يضر بالبصر. وقد يستضر البصر أيضاًَ بالهواء في بعض الأوقات إذا كان به غبار أو دخان أو برد شديد فجعلت الأجفان لتستر العين عن الأضواء عند حاجتها إلى ذلك ولتوقيها من الهواء وتدفع عنها كثيراً من المؤذيات ثم إذا احتاجت إلى الراحة انطبقت الأجفان عليها واستمر ذلك زماناً إلى أن يزول كلاهما وتتكامل راحتها وذلك يكون عند النوم. وجعلت الأجفان متحركة لتنفتح في وقت الحاجة إلى الإبصار وتنطبق عند الحاجة إلى الانطباق وجعلت سريعة الحركة ليسرع الانطباق عند قرب المؤذيات من العين. فأما الأهداب فإنما كانت لتذب عن البصر ما يمر به من القذى والمؤذيات الخفية ولتكسر عن البصر أيضاً بعض الأضواء إذا استضر بشدة الضوء ولذلك يجمع الناظر عينه ويصرها وينظر من ضيق إذا استضر بالضوء الشديد. فهذه المعاني التي ذكرناها هي منافع آلات البصر وهي لطائف تتبين منها حكمة الصانع تعالى ورأفته وبديع صنعته وحسن تأتي الطبيعة ولطيف آثارها.