كتب وشخصيات (1946)/في النفس والعالم


 
 
 
 
 
 
 
 
 
في النفس والعالم
- ۲۱۳ -

البيـــــــادر لميخائيل نعيمة إنه في نظري كتاب الموسم لسنة 1945 ، لا لأنه أحسن الكتب التي ظهرت في هذا العام أو أعظمها ، ولا لأنه يفتح في عالم الفكر أو الفن صفحة جديدة ، ولا لأنه مبرأ من المآخذ سليم من العيوب ... ولكن لأنه يحاول أن ينظر إلى ... الكون ، وإلى مشكلات الحياة الإنسانية واليومية بعين خاصة – هي عين الشرق – وأن يحل هذه المشكلات ، ويعالج أمور الحياة بطريقة خاصة هي طريقة وهذا وحده يكفي لأن يجعل للكتاب قيمة خاصة ، ثم تختلف الآراء الشرق بعد ذلك في تقدير هذه القيمة كما تشاء . - والذي يجعل لمثل هذا الاتجاه قيمته أن موجة العقلية الأوربية قد غمرتنا في بدء نهضتنا الحديثة ، وهي موجة عقلية قوية ، صادفت تضعضعا في روح الشرق ، وضعفا في مقدرته على إثر الخمول الطويل والأحداث الميئسة في تاريخه ، فجرفت هذه الروح وغمرتها ، وكانت هذه الظاهرة أشد بروزا في الأدب المكتوب ، لأن الثقافة الأوربية تسيطر سيطرة تامة على مؤلفية ، كما كانت هذه الظاهرة بارزة في الحياة الاجتماعية المدنية ، وإن بقى الريف سليما في معظم البلاد العربية محافظا على طابعة في التفكير، وفي النظر إلى الحياة ومشكلاتها ، وفى مواجهة هذه المشكلات بطبيعته الخاصة العميقة . هنا كانت هناك فرجة واسعة بين الأدب الذي ينشئه أدباء الجيل ، ومن وصميم الطبيعة النفسية والفكرية للشعب ... فالأدب يستقى من عناصر أجنبية ، - ۲۱۳ ولا يجد شخصيته المستقلة ، لأن هذه العناصر قوية طاغية ، بينها الشعب – في صميمه – لا يزال محافظا على طبيعته الخاصة ، وسماته الفكرية والشعورية التقليدية . وما من شك أن هناك فروقا فكرية وشعورية بين الشرق والغرب ، لم تقو عليها إلى اليوم عوامل التقارب والامتزاج ، وليس منشأ هذه الفروق اختلافا في الطبيعة البشرية ، ولكن للعوامل البيئية والتاريخية آثارا لا فكاك منها ، وهذه الآثار من العمق والشمول بحيث تكاد تنشىء فروقا في جوهر الطبيعة ، أو على الأقل فروقا في النظرة إلى مسائل الكون والحياة ، وفى مواجهة هذه المسائل ، والسلوك حيالها على نحو معين . والغبية القدرية سمة واضحة في تفكير الشرق وشعوره ، تقابلها الواقعية العملية في تفكير الغرب وشعوره . وعن هذه السمة تنشأ سمات أخرى في التفكير والشعور ، وفي التصرف والسلوك ، وهذا كله يترك طابعه في الفن إذا كان صادقا بحيث يعطى صورة من الحياة فإذا نحن نظرنا إلى أعمال أدباء الطليعة عندنا لم نكد نعثر على السمات الشرقية الأصيلة إلا في القليل من هذه الأعمال الأدبية ، بينما نجد في سلوكهم العملى كثيرا من هذه السمات ! ذلك أنهم في سلوكهم مخلصون لطبيعتهم ولوراثاتهم وفي أعمالهم الأدبية خاضعون الثقافتهم وقراءاتهم . ومعنى هذا في النهاية أن ثقافتهم جاءت أكبر من شخصياتهم ، فغمرتها وطمست معالمها ، وأننا لا نزال ننتظر الطبائع الفنية القوية التي تهضم الثقافة الأوربية ، ثم تبقى لها بعد ذلك خصائصها الأصيلة . وأقرب مثال يحضرني الآن هو « تاجور » شاعر الهند العظيم . وكذلك نجد هذه الروح في عمل رجل كتولستوى الروسى يستقى من المسيحية في روحها الشرقية الشفيفة ، قبل أن تكثفها مادية الغرب الكثيفة !

      • - ٢١٤ -

هذا الكتاب الذي بين يدي الآن يحاول أن ينبه الشرق إلى خصائصه الروحية والفكرية ، وأن يكشف له عن حقيقة قواه وعن الممكنات المهيأة لهذه القوى ، وأن يرشده إلى ميدانه الأصيل الذي يناسب طبيعته ، ويتسع لرسالته ، وتبدو فيه قوته بلا معوقات ؛ كما يحاول أن ينظر إلى مشكلات الكون والإنسانية بعين الشرق ، بعد أن يزيل عنها الغشاوات الطارئة ، والشيات العالقة ، ويجلوها كما كانت في يوم مضى ، وكما يرتقب لها في يوم من الأيام . . ومن هنا كل قيمته في هذا الأوان . وهو ليس كتابا ذا تصميم خاص في تأليفه ، إنما هو مجموعة خطب أذيع بعضها بالراديو وألقى بعضها في مختلف الأندية في لبنان وسوريا وفلسطين بين سنتي 1940 – 1944 ، ولكن له وحدة في روحه واتجاهه وأنا أوثر - متى كان ذلك ممكنا – أن أدع المؤلف دائما يشرح وجهة نظره بألفاظه ؛ قبل أن أعلق عليها بشيء ، لأن في ذلك إنصافا له وللقارىء ، وفرصة للمشاركة في الحكم والنقد مع سائر القراء . « من عقد المؤلف سلسلة مقالات تحت عنوان : « التوأمان : الشرق والغرب » . أودعها خلاصة دعوته ، وحدد فيها حقيقة مواهب الشرق والغرب ، وطبيعة دوريهما في الحياة نقتطف منها هذه الفقرات : أكمل كمالات العربية وأسماها تمييزها ما بين « البصيرة » و « البصر » وجعلها الكلمتين فرعين من أرومة واحدة ، بل توأمين من بطن واحد ؛ ولكن ذاك الفرع غير هذا . ولكن هذا التوأم غير ذاك . فكأنهما واحد وليسا بواحد فالعين إذ تمر بهما تحس" ما بينهما من تجانس ، ولكنها تحس مع التجانس تباينا . والأذن إذ تلتقطهما تستأنس في الاثنين برنة تكاد تكون واحدة ، ولكنها غير واحدة ، فهما أبدا متلاصقان متباعدان ، ومتشابهان متناقضان . أما التلاصق والتشابه ففى المصدر ، وأما التناقض والتباعد ففي الطريق والواسطة. « فالبصر – ومركزه العين -. يحصر كل همه في التقاط أشكال الأشياء ا - ٢١٥ - وألوانها ، ومن أشكالها وألوانها يحاول أن ينفذ إلى كنهها حين أن البصيرة --- ومركزها القلب أو الوجدان – همها الوصول إلى بواطن الأشياء دون التلهي بظواهرها . فالاثنان يدأبان وراء المعرفة . ولكن سبيل الواحد غير سبيل الآخر ، أما أي السبيلين أفضل وأكفل بالوصول إلى المعرفة ، فأمر لكل منكم الحق أن يبت فيه بحسب هواه » . }} = « أما أنا فقد قلت من زمان – وما أزال أقول – بأسبقية البصيرة على البصر في بلوغ الغاية المنشودة ، التي هي الفهم الأقصى المؤدى إلى الحرية القصوى» . « لن يبلغ البصر قلب الحقيقة قبل أن يبلغ حدوده ، ويدرك عجزه وقصوره ، ويلوذ بالبصيرة فينقلب بصيرة ، أما البصيرة فلا حدود لها مثلما لا حدود للحقيقة التي تتوخاها . فهي وإن توكات على البصر لا تسير على نوره . فالمحدود لا يسع - - سوى المحدود ، وما كان بغير حدود لا يسعه إلا ما كان بغير حدود . « والآن إذا قلت لكم : إن الشرق هو بصيرة العالم ، وإن الغرب هو بصره نما إخالكم تسيئون فهم ما أقول ، فتحسبون أن الشرق كله بصيرة ولا بصر ، وأن الغرب كله بصر ولا بصيرة . ذاك يعنى تجريدكم الشرق عن كل حس خارجی وتجريدكم الغرب عن كل شعور باطنى ، وهو غير الواقع وغير المعقول . وجل ما أرمى إليه هو القول بأن زبدة الشرق في بصيرته ، وزبدة الغرب في بصره ، وأن الاثنين توأمان متلاصقان يبدوان كانهما واحد ، ولكنهما غير واحد . لقد اتبع الشرق هدى البصيرة ، واتبع الغرب هدى البصر، فأنجب الأول الأنبياء ، وأنجب الثاني العلماء . فكانت هدية الأنبياء إلى العالم أديانا ترفع الأرض إلى السماء وكانت هدية العلماء علوما تهوى بالسماء إلى الأرض » . « لكنها الإنسان ، وقوى الإنسان ، من ظاهرة وباطنة ، في مد وجزر متلازمين . فللبصيرة – مثلما للبصر -- مد يتاوه جزر وجزر يتلوه مد . ومن ذا - ۲۱۹ - ينكر أن من بصيرة الشرق قد فاض على العالم مد جارف من الكمالات والجمالات الروحية ؟ من ذا ينكر على الشرق قوة اندفعت من قلبه وفكره وروحه إلى كل قلب وفكر وروح ، فتغلغلت في نبضاتها وسيطرت على خلجاتها ، وتسلطت على أقدس أشواقها وأعز أمانيها » . « من ذا ينكر على الشرق سلطانه على كل أبناء الأرض مذ كانت الأرض وكان الشرق ؟ وأي سلطان يتوخاه إنسان على إنسان أقوى من السلطان على القلب والفكر والوجدان » «ماهی بالهدية الطفيفة أن تهدى إلى العالم بأسره إلها، ومع الإلـه اليقين بأنه أبوك الشفوق الرحوم العادل ، ومع اليقين الرجاء بالانعتاق من ربقة الموت وآلام الموت . « تلك هدية الشرق إلى العالم . وهي هدية ما تلقفها العالم حتى أصبح كله معبدا لإله تعددت أسماؤه ولكنه واحد ، وإذا الناس يفتحون أبواب قلوبهم وأفكارهم وبيوتهم لذلك الإله ، فلا يأكلون ولا يشربون ولا يزوجون ولا يتزوجون ، ولا يعملون ، ولا يستريحون ، ولا يولدون ، ولا يموتون إلا باسمه ومشيئته » . t وفى هذه الفقرات الأخيرة يبدو ازدواج الشعر بالحقيقة في أسلوب ميخائيل نعيمة على خير نسق واتساق . ثم يعرض للحضارة الغربية المادية التي هي أثر من آثار البصر فيقول : « هو ذا الإنسان يهزأ بالنسر في جوه ، وبالحوت في بحره ، وبالأسد في عرينه وهو يمنطق بصوته الأرض ، ويحبس نور النهار في أسلاك يسلطها على الليل فتمحو ظلامه ، ويجترح من العجائب أشكالا وألوانا في مختبراته العجيبة . ولا ينقصه – على حد قول البسطاء – إلا أن يخلق إنسانا نظيره ثم يغلب الموت « حقاً إنه لتيار هائل جارف تتعالى أمواجه وتتدافع في كل ناحية . وفى - ۲۱۷ – تدافعها صخب الزلازل وعتو العواصف ، مع شيء من بهجة الفصول ، ورونق السماء وسحر الفوز بالغنيمة ، وجاذبية القوة الظاهرة . فلا غرو إذا ما غمرت المعمورة وبهرت الأبصار فهي بنت البصر ، وللبصر الحق في أن يعتز بها . فهو ما أنجبها إلا لينعم بمواهبها وخدماتها ی « لا غرو أن يقف العالم ، . وفي جملته هذا الشرق ، مشدوها تجاه مدنية الغرب المبصر ، وأن يهلل لها ويكبر ، وأن يغفر لها كل زلاتها ، ثم أن يعقد عليها آمالا أبعد بكثير من مدى سلطانها ، فهي – على ما فيها من مرارة – غنية بالحلاوة التي يصعب على أي إنسان تذوقها ، لأنها حلاوة يتذوقها الحس أما حلاوة المدنية القائمة على البصيرة فدون تذوقها شق النفس وقهر الجسد لذلك كانت الأولى أقرب إلى متناول الناس وأذواقهم من الثانية . ففيها كما جاء في بعض الحكايات : « ما يحلى ويسلى ويعشى الحمار » . - ا « ذلك إذا ما أخذتموها من حيث هي تريد أن تؤخذ ، أي من حيث محاسنها لا غير . أما إذا تصفحتم مساوئها فلن تجدوا مدنية قبلها بلغت ما بلغته من التكالب والتباغض والقساوة مع الكثير من التبجح بالعكس . وإما عجبتم لمشهد غريب فاعجبوا معي لهذا الشرق . وقد أهدى إلى العالم المحبة والقناعة والتضامن والتآخي يقف اليوم على مفترق طريق البصيرة والبصر ، كسير القلب ذليل الجفن ضامر الصدر والبطن ، ويمينه الفارغة ممدودة نحو الغرب ، وفى يساره قائمة بأسفاره المقدسة وأسماء أنبيائه . ثم اسمعوه يستعطى بصوت متهدج فيه الانسحاق وفيه المسكنة والاندحار . وماذا عساه يستعطى ؟ إنه ليستعطى طيارات ودبابات ومدمرات ومدافع وقنابل ، وإنى لأسمعه يقول : « من يقايضني قنبلة محرقة بآية منزلة ؟ وطيارة أو دبابة بسفر مقدس ؟ بل من يقايضى مخترعاً واحداً بعشرة أنبياء ؟ - ۲۱۸ - « ما هذا ؟ ما هذا ؟ أبصيرة تستجدى بصراً ، أشمس تستغيث بذبالة ؟ « أجل إن بصراً نشيطاً لخبر من بصيرة كليلة . وبصيرة الشرق حل بها كلال منذ أن بلغت من مداها أقصاها ، وإن ذبالة تشتعل الخير من الشمس اعتراها الكسوف . وشمس الشرق حل بها كسوف منذ أن انكفأ الشرق على ذاته في جزره الطويل . إلا أن الكلال يزول بالراحة ، والكسوف بعد أن يبلغ حده ينجلى عن شمس كلها نار وكلها نور ، ومن ثم فالحياة – وهي أم التوأمين بالسواء ، أم البصيرة والبصر ، أم الشرق والغرب – ما درجت بالشرق إلى أسمى ذراه حتى عادت فدرجت بالغرب . والذروتان ستلتقيان حتما في ذروة واحدة ، هي ذروة الإنسان الموحد ، والمالك زمام نفسه ، وزمام الأرض والسماء » . وفي موضع آخر يقول : « أصحيح ما يزعمه الزاعمون أن أنبياء الشرق قد جنوا على الشرق ، وأن أديان الشرق هي أكبر آفات الشرق ؟ أصحيح أن السماء قد شغلت الشرق عن الأرض ، والآخرة عن الدنيا . وأن الاعتقاد بالقدر قد غل يديه ، وشل" فكره ، وسدل حجاباً على عينيه ؟ أصحيح أن الشرق، مات لأنه آمن بالإله الحي الذي لا يموت ؟ . ( هدف « لا ، ثم لا ، فالذي فعله الشرق حتى اليوم ما كان أكثر من صنع أهداف له وللعالم أجمع . وتلك الأهداف تتوحد كلها في هدف واحد ، هو الكمال لهذا المخلوق الذي ندعوه إنسانا . هدف الانفلات من قيود اللحم والدم والتغلب على الحيرة وما في الحيرة من وجع . وعلى الموت وما في الموت من ألم ، والتسلط على طلاسم الوجود . ثم الانطلاق في حياة لا حدود لها ولا قيود ، برف عليها سلام المعرفة ، ويتألق في جوها بهاء الألوهة ، ويندمج في قبضتها النقيض - ۲۱۹ - وهو بالنقيض ، ويتلاشى في فضائها الزمان والمكان . وهذا الهدف قد نفذ إليه الشرق ببصيرته البالغة منتهى النقاوة والصفاء في بصائر الأنبياء . فهو حقيقة لا مجاز ، رؤية لا رؤيا ، وهو وا واحة حية لا سراب خداع . « أما إن الشرق بمجموعه ما بلغ ذلك الهدف بعد فأمر لا نزاع فيه على الاطلاق . والقائل بعكس ذلك كالقائل بأن كل رجل في الشرق نبي وكل امرأة نبية ، أو كالقائل بأن كل رجل في الغرب عالم أو مخترع وكل امرأة عالمة أو مخترعة ، وفي ذلك ما فيه من السذاجة والبلاهة . ه « ليس يعيب منارة ألا يستنير بنورها الحارس الساكن في كنفها ، مثلما لا يعيب قمة نابتة في بقعة من الأرض ألا يتسلقها أبناء تلك الأرض . فهدف الشرق هو حقيقة وضاءة ثابتة أبدية . سواء أفي هذه الحقبة من حياته أدركه الشرق أم بعد حقب طويلة « ما هو بالشنار على الشرق ألا يدرك الهدف بوثبة أو وثبتين ، أو في خلال قرن أو قرنين . فما هو بالهدف الذي يدرك بألف وثبة وفى ألف جيل ، وإنما الشنار أن يقعد الشرق بمجموعه ، من بعد أن وثب ولم يصل . قعدة اليائس البائس . قعدة المنهوك المقهور . قعدة الخاسر الطائر . ثم أن يشيح بوجهه عن هدفه قائلاً : إنه خيال ، وإن الوصول إليه ضرب من المحال . وأن يدير وجهه شطر الغرب باحثا هناك عن هدف وعن طريق « أقول لكم : لا هدف للانسان أبدع وأقوى على الزمان من الذي نصبه الشرق ، وراح يدعو إليه الناس أجمعين ، وهو إذا ما تحجب عن العصر المقنع بألف قناع ، فلا نه ابن البصيرة النيرة الصافية ، وهو إذا ماعز مناله فلان الكمال عزيز المنال . وهو حقيقة مثلما الوجود حقيقة ، بل هو الحقيقة قبل كل حقيقة وبعد كل حقيقة . - ۲۳۰ - « ثم أقول لكم : إن الغرب لعاجز عن خلق مثل هذا الهدف ، بل عن خلق أي هدف للانسان يقوى على الزمان وتقلباته. ذلك لأن الغرب سائر على ضوء بصره والبصر لا يثبت على حال ، لأن الأشياء التي يتناولها لا تثبت على حال . ولكن للغرب رسالة كما للشرق رسالة ... إن تكن رسالة الشرق البصير خلق الأهداف فرسالة الغرب المبصر هي تعبيد الطريق إليها » . - مع ثم يمضى بعد ذلك يذكر فتوحات العلم الحديث ، ويرى أنها مما يساعد على تعبيد الطريق إلى الهدف البعيد الذي رسمه الشرق منذ أجيال ، لأنها عجائب يدركها البصر – وإدراك البصر مهيأ لأكبر عدد من الناس - ثم يقول : « وعند ما تبلغ علوم الغرب المادية أقصى مداها . عند ما تفلق الذرة أو تريد عاجزة عن فلقها . ستراها وجها لوجه مع ما يجعل المادة مادة وليس بمادة القدرة التي أسماها الشرق ( الله ) ورفعها هدفاً للانسان المخلوق على صورتها ومثالها . وبكلمة أخرى سينتهى الغرب من المحسوس إلى غير المحسوس وبذاك تنتهى مهمته في هذه الدورة من حياة الإنسانية ، وتبتدى من جديد مهمة الشرق . « ومهمة الشرق إذ ذاك ، وقد مهد الغرب له الطريق إلى الهدف ، هي جلو ذلك الهدف كما يظهر في كل بهائه ، نقيا من السفاسف والترهات التي حجب الجهل بها سناء وجهه باسم الله والدين ، وما هي من الدين والله لا يخمر ولا بخل . شعث الإنسانية التائهة ما بين بصرها وبصيرتها ، وبث النشاط في مفاصلها المفككة ، وبعث الإيمان الدفين في قلبها بجمال ذلك الهدف وحكمته وعدله ، ثم السير بهذه الإنسانية المتجددة نحو هدفها بخطى لا تردد فيها ، وعزم لا التواء فيه ، وإرادة تعرف ما تريد ، ولا تريد غير ما تعرف ، فلا يقهرها شك ولا يثنيها عياء » .

      • - ۲۲۱ -

هذه السلسلة من المقالات التي اقتطفنا منها هذه الفقرات الطويلة هي العمود الفقرى في الكتاب ، وهي أجود محتوياته على العموم ، وفيها يبدو إيمانه بالشرق وبصيرته ، وهو في الوقت ذاته لا يغمط الغرب وبصره حقه وللشرق إذن دوره الخالد في بناء هذه الحياة ، وأمامه أدواز أخرى عليه أن يؤديها بطريقته الخاصة ، وليست طريقته أن يقلد الغرب في وسائله ، ولا أن بيأس إذا سبقه الغرب في مجاله الخاص ، أو يصغر من شأن معتقداته وشعوره ، ولا أن يحنى هامته أمام الآلة وحضارتها المادية المروعة وأنا أوثر أن يهتف للشرق دائما بهذا الهتاف ، وأنكر الدعوات التي ی تبعتها الفتنة بحضارة الغرب المادية إلى حد التذاوب فيها والفناء إنه يجب أن نفرق دائما بين الضعف والتخلف الموقوتين ، وروح الشرق الأصيلة وتعاليمه الصميمة ، ولا تأخذنا الفتنة بالحضارة المادية إلى حد الزراية على الأهداف الروحية الخالصة ، والتعاليم المثالية المجردة ، والسبحات الروحية المرفرفة ، والومضات الإشراقية حتى شطحات الخيال ومؤلف « البيادر » يرد لهذه الاتجاهات الشرقية الصميمة اعتبارها ، ويعرضها في حماسة شعرية ، وفى وضوح ذهنى كذلك في سلسلة المقالات التي عقدها بعنوان : « التوأمان : الشرق والغرب » وهذه الروح تتمشى كذلك في محتويات الكتاب كله من خطب وأقاصيص ومقالات على تفاوت بينها في الجودة والوضوح وحسن الأداء والتوفيق . وأبرز ما تبدو محاكاة روح الشرق الفكرية والشعورية ، وعقيدته الغيبية القدرية في مقال بعنوان : « إن شاء الله » وفيه يقول : « يشقى العالم بغروره وسيظل في شقائه إلى أن يتعلم ما تعلمه هذا الشرق من زمان ثم نسى معناه . إلى أن يتعلم قول « إن شاء الله » . فالمعيشة لا تكون بغير معرفة ، والمعرفة لا تكون بغير مشيئة ؛ بل إن المعرفة هي المشيئة ، والمشيئة هي المعرفة . أما الجهل فلا مشيئة له . - ۲۲۲ - « كيف لمن يجهل من أبن أنى أن يشاء إلى أين يمضى ؟ أم كيف لمن لا يعرف علة وجوده أن يحتم هذه الغاية أو تلك لوجوده ؟ كيف لمن لا علم له بالأسباب أن يقر النتائج ؟ لا . ليس يعرف شيئاً من ليس يعرف سوابق ذلك الشيء منذ الأزل ولواحقه إلى الأبد كان في مستطاعه أن يقول : « أنا أعرف » حق له أن يقول : « أنا أريد » . أما الإنسان الذي ما برح في عالم البدايات والنهايات والقناطير والفراسخ فقصى" عن هذه المعرفة ، ومشيئته وبال عليه كلا عاكست المشيئة الكلية ، فما له إن هو أراد التخلص من شقائه إلا أن يقول : « أنا أشاء كيت وكيت إن شاء الله كيت وكيت . ا ا « لو تعود الإنسان قول « إن شاء الله » بقلبه لا بلسانه لما عتمت المعرفة أن سكبت نورها في قلبه . وإذ ذاك لآزرت المشيئة العامة مشيئته فأسعدته ، بدلا من أن تسحقها فتشقيه . لكنه لاه عن مشيئة الحياة المبصرة ، وما في طاعتها من طمأنينة لا تدرك ، وغبطة لا توصف ، بمشيئته العمياء ، وما تبذره في كل يوم من مشاكل وهموم « أولا ترون كيف أنه يرهق جسده لتوسيع نطاق حاجاته إلى حد لا يطاق ، ويخنق روحه بتضييق نطاق حاجاتها إلى حد لا يطاق ؟ ما أبسط حاجات الجسد وأقلها لمن يعقلون . فالذي وهب الإنسان الفكر وما فيه من سحر ، والخيال وما فيه من قوة ، والشعور وما فيه من جمال ، لم يبخل عليه برغيف وقيص ومأوى» وهكذا وهكذا من مثل هذه التوجيهات في مواضع متفرقة من الكتاب وبعضها يرتفع إلى حد الإبداع ، ويكون فيه فصل الخطاب في الموضع الذي يعرض له ويستعرضه . - ۲۲۳ - و بعد ، فالمؤلف يظل موفقا ما ظل في الدائرة الواضحة ، وما ظل يواجه المسائل التي يبحثها مواجهة . ولكن يعن له في بعض الأحيان أن يدخل في دائرة الرمز والإيماء ، وأن يعبر بالأمثولة أو بالأقصوصة ، بدل أن يعبر بالبحث أو بالمقال . وهنا يفارقه التوفيق ، لأنه موهوب في الطريقة الأولى وليس موهوباً في الثانية فحينها استخدم أفضل مواهبه بلغ غاية الجودة ، وحينما حاد عنها هبط وجانبه التوفيق ومن هذا الطراز الأماثيل والأقاصيص التالية : في العاصفة. والهزيمة. والقصر والمعمل . وهدية الهم . وحكاية دمعة . وواحة السلام . ورغيف وإبريق وماء . كما أن هناك بعض الموضوعات التي تهبط عن مستوى الكاتب والكتاب ، مثل مقالى : « البيادر ، والصخور » للسبب نفسه ، فليس فيهما من ميزة فنية أو ذهنية تجعلهما جديرين بالنشر في مثل هذا الكتاب ، وإن كان الكتاب قد عنون بعنوان أحدهما « البيادر » وهذا من عجائب المفارقات بين الكتاب والنقاد في بعض الأحيان ! ... وكثيرا ما يجهل الفنان أبدع نتاجه ، ويعتز منه بما هو دونه جودة كما يبدو في اختيار هذا العنوان ! ويسير تعبير المؤلف وأسلوبه في مستوى جيد يبلغ روعة الشعر في بعض المواضع ، ولكنك تعثر هنا وهناك على عبارات و تصورات يبدو تأثر المؤلف فيها بأسلوب الترجمة العربية السقيمة « للكتاب المقدس » . وهي تحجب كثيرا من الجمال الفني في هذا الكتاب . وهناك تلاعبات لفظية وذهنية تقلل من الأصالة الفنية والصدق الشعوري في « البيادر» في بعض الأحيان . ولعل هذه الظاهرة هي التي تعوق هذا الكتاب في مجموعه أن يرتفع إلى مستوى الأعمال العظيمة ، لأن القارىء بحس عندها - ٢٢٤ - أنه أمام ذهن يعرض المسائل الروحية ، لا أمام طبع يفيض ، وشعور يتدفق ، وقد يجد في هذا العرض براعة ودقة وتوضيحاً للمسائل التي يتصدى لها في مستوى معجب ، ولكنه يظل في حاجة إلى عنصر آخر ، عنصرا ر الطبع الدافق الفياض فمثلا عرض المؤلف لمشكلة الشعر في الحياة . وهذه المشكلة نفسها عرض الضخامة لها تاجور في كتاب « السادهانا » والموازنة بين المرضين تكشف والأصالة في تاجور ، كما تكشف عن الفهم والبراءة في « ميخائيل نعيمة » والمجال هنا لا يتسع لإثبات النصوص ، فليرجع إليها من يشاء . ولكني أحب ألا يفهم أحد بعد هذا كله – أن كتاب البيادر كتاب صغير . إنما ها جانبان عرضتهما للكتاب ولمؤلفه ، وبهما معا يكون تقويه الصحيح . - ٢٢٥ - أومن بالانســــــان لعبد المنعم خلاف هذا الكتاب محاولة قوية لبث روح الإيمان بالإنسانية ، والرجاء في مصيرها البعيد – والتفاؤل بمستقبلها الموعود ، والثقة في ضميرها ، وفي عناية القوة الإلهية بها ؛ وتمجيد الكائن الإنساني ، وبيان أنه مقصود لذاته ، والمهمة العظمى التي ندبته لها العناية الكبرى ؛ فلم يكن مجيئة إلى هذا الكون فلتة غير مقصودة ، ولم يكن خط سيره رهينا بالمصادفات العمياء ، وإنما هنالك وظيفة له لا يؤديها سواء ، وهى وظيفة ملحوظة سامية ، يرقى إليها أفقاً بعد أفق ، حيث تنير له العناية طريقة المحوط بالأشواك ، وحيث توصوص له على بعد أنوار تهديه إلى الأفق المترامي المكنون . ومن هنا كل قيمة الكتاب ، سواء اتفقنا مع المؤلف في أسباب إيمانه بالإنسان أم اختلفنا ، وسواء وافقناه على النهج الذي رسمه لبلوغ الآفاق المرموقة ، أم كان لنا نهج سواء . 4 والمؤلف الذي بين أيدينا ليس كتابا بالمعنى المفهوم من لفظ « الكتاب » ليس فصولا منسقة تتبع « تصميما

ً ، خاصاً ، إنما هو مقالات متفرقة نشرت في

أوقات متباعدة بين سنة 1940 وسنة 1945 ، ولكن روحاً واحدة تشيع فيها ، وتؤلف بينها ، فتجعل العنوان «أومن بالإنسان» خبر تلخيص لاتجاهها بوجه عام . ويستمد المؤلف معظم أسباب إيمانه بالإنسان من مقدرته على كشف أسرار ( م – 15 ) - ۲۲۶ - الطبيعة في العهد الأخير ، ومشاركته هذه الطبيعة في التكوين والتنويع ؛ ويرى أن خطواته الأخيرة في هذا المجال تعدل بل تسمو على مجموع خطاه منذ فجر الإنسانية إلى هذه القرون الأخيرة ، وأن هذه الفتوح العالمية بدء مرحلة جديدة في تاريخ الإنسانية ، وأن هذه الخطوة الأخيرة ينبغي أن نتخذ منها دليلا جديداً على الإيمان بالإنسان ، كما أنها دليل على الإيمان بالله رب هذا الإنسان الذي جعله خليفة في الأرض ، دليل مادى ماموس يرقى على كل الأدلة التي لاحت للانسانية في تاريخها الطويل ... وهو شديد الإعجاب بهذه الحضارة المادية إلى حد الافتتان . ولكن مالي لا أدع للمؤلف نفسه شرح فكرته ويعرف بكتابه ؟ فقد يكون هو أقدر من سواء على القيام بهذه المهمة : « هتفت « أومن بالإنسان » استجابة لنداء الحياة ونداء النفس فقد نادتني الحياة الإنسانية الراهنة الزاخرة إلى الإيمان به وبمستقبله رغم إثمه وشره في عصره هذا ، وحملتنى على ذلك بنبوتها – والحياة المدنية الحالية نبوة ، نبوة شيوعية ... أخذت جميع أمم الأرض بمعجزاتها ، وأخضعت أعناقهم بأدواتها المأخوذة من أسرار الطبيعة ، فلنعرفها على حقيقتها ، ولنعلم أنها باب الملكوت الذي وعدت به رسالات الشرق الأولى التي وجهت الإنسانية . - « إنها نبوة الطبيعة وقوانينها ، وحقائق الأشياء وبراهينها ، لا نبوة الإرشاد والتربيب والكلام الذي ألقاه الرجال الآباء في سمع الإنسانية وهي في أدوار تكوين وتطبيع الأعصاب ، وتوجيه الأخلاق بالرحمة والإخلاص والإيمان ، وسمو النظرة إلى الإنسان في حياته هنا وفى مصيره هناك ، وهي صفات لا بد منها في المهود والمدارج . ... « وحينها فجأتني صيحة هذه الحرب الفاجرة الجبارة ، التي تدور طواحينها الحمراء على جماجم الإنسان ، وتذور فيها رياح النار مدنه وآثاره العامرة بالجمال والحرمات . وتحيلها خرائب وأطلالا تعمرها أشباح الهول ، وتتساقط على المصارع - ۲۲۷ في صيحات وصعقات نكراء ، ترسلها أفواه وحوش الحديد والفولاذ الرابضة والسائرة والسابحة والطائرة . زلزات فجأتها وفجراتها وجرائمها دعائم يقينی و عقیدتی في ذلك الجنس وأملى في مستقبله . « ولكني عدت وقلت لنفسي : هل يمكن أن يفعل مثل هذه الأفاعيل لو كان يدرك نفسه ، ويؤمن بها ، ويعلم مدى ما يريده رب الحياة منه ، حين أخرجه إلى الأرض ، وجعله خليفة يخلفه خلافة واسعة في عمارة الحياة وكشف أسرارها ومحاكاة نماذجها وأفساح مداها ؟ » ... « فلا يحملنا واقع الحياة السيء على الكفر بها في نصابها الأعلى من الجمال والصلاح والكمال الذي يوصى به الحق ، والفن الرفيع ، والمثل الأعلى الذي يملأ مخيلاتنا ويثير أرواحنا . ذلك الذي يدل على أنه من الممكن أن الله شغل به أحلامنا وكلفنا السعى إليه ، فلو لم يكن ممكنا ما كلفنا إياه ، ولا شغل به أرواحنا ولا أودعه إلهامنا » . « ولنستعرض تاريخ الإنسان على هذه الأرض لندرك مدى مركزه فيها ، ولنعطيه من تاريخه مصباحاً يرى به نفسه : إن الله أسامه الأرض وليس فيها شيء معقد التركيب غير الأجسام العضوية الحسية ، وهي أجسامه وأجسام الحيوان والنبات ، أما الجوامد فأسلمها إليه بسيطة في صورها الأولى وخاماتها البكر ، فما زال يدور حولها ، وبعبث بها ، وينبش ويخرج أسرارها واحداً بعد آخر، حتى حدثته أخبارها ، وأخرجت له أثقالها ، ووضعت بين يديه أجنتها وعيالها واستفاد من تجاربه فيها عقله وحكمته – والعقل هو حفظ التجارب والحكم بمقتضاها – ووتائق سيرته ومرونات فكره » .

« وإلى لأستعرض أعماله في الطبيعة منذ أن كان هائما لا سقف له ، . ، يصنع من ورق الشجر ستاراً لسوأته ، ويتخذ من الحجر خنجراً لسطوته ، إلى أن صنع – ۳۳۸ – لباسه الأوربي العقد المنوع المزين الملون، وصنع بيته من ناطحات السحاب، وآلات سطوته من الطوربيد و « سلة مولوتوف » والقنابل الطائرة ودبابات « شرشل » ، الحصون الطائرة ، واستوعب جميع ومراكبه من أجزاء الآلات ، المعقدة في رأسه مثل تركيبها بمساميرها وحذافيرها ... وصنع له مجاهر ومقربات يقرب بها مشاهد السموات والسدم ، ويحلل عناصرها ، ويكبر بها مناظر الجراثيم ، ويقيس بها الخلايا ، ويحكم بها على كل أولئك حكما صحيحاً خاضعاً لمقاييس الحس والفكر ... واستعرض أعماله هذه ، فأراه بعد ذلك روحاً ناميا في ذاته ، ومنميا للطبيعة وصورها وأشكالها كذلك » . ... « إن شئت فقل : إن الإنسان أشبه بمجهر تمر من خلاله الطبيعة الأرضية بخصائصها التي كانت « غيباً » مستوراً قبل ظهور هذا النوع ، فتتساقط على عينيه أنوارها وظلماتها ، وعلى سمعه نغماتها وأصواتها ، وعلى خياشيمه عطورها و نقاتها ، وعلى ملابسه نعوماتها وخشوناتها ، ويقع على إحساسه العام ثقل المادة وصعق الكهرباء وشد الجاذبية ، وتمر على فكره معانى الوجود ومعانى العدم ... ثم كل هذه الكلمات الصامتة بكلمات ناطقة من بيانه الذي اختصه به باریء الطبيعة ... فكل شيء في الطبيعة الأرضية كان لا بد أن يمر من حواس هذا النوع وفكره ليأخذ حدوده ومميزاته ، ويرمز إليه بكلمة بيانه يضعها خليفة الله في ما أثبته تحليل ضوء العناصر من الأرض ، وإذا صح . أن العناصر التي في النجوم والكواكب هي بعينها العناصر التي في الأرض ، كان في هذا زيادة في النظر لقيمة الإنسان كمترجم ومحدد لعناصر الطبيعة في غير الأرض أيضاً » . ... « ولست أدرى متى يفيق الإنسان لنفسه .، ويعنى بوضعه ، وتحولات حياته كما يعنى بمستقبل المواد والقوى ، ويربط ما بينه وبين الله مفيض الفكر والحياة ، كما يربط ما بين نفسه وأجزاء الأرض. ... » ی

  • - ۲۲۹ –

... « إن الاستسلام الغيبوبة الحياة الآلية ضياع ، وتطبيع بطبع الحديد البليد الأعمى الدائر في غير وعى ولا إحساس ، وأخوف ما يخاف على الإنسان أن يترك هكذا فريسة وضحية للآلات والماديات ، يعيش معها وحدها ويقدم لها وقودها إلى أن يفنى وقود حياته هو، وينطفىء مسباحه ويذهب إلى ظلمة القبور بدون بصيرة روحية منيرة ، يسمي نورها بين يديه في العالم الباقى غير المنظور » « وعلى هذا ينبغي أن تنشط في الناس دعوات الإحساس بالنفس واليقظة الدائمة لها وتزكيتها والرفع من قيمتها ، وهذا لا يكون إلا بالدين والفن الرفيع، الدين العقلى الطبيعي المبنى على إسلام النفس الله الباريء ، وللطبيعة الأستاذة – والفن الرفيع الذي يخلق جواً يحضر للقلب بعض المعاني الغائبة التي ترى الإنسان وضعه الممتاز الفريد الطليق وسط ما في الكون من المواد والقوى والمخلوقات السجينة ... تلك المعاني التي تتراءى وراء ذوى البيان النظيف وألحان ذوى الأصداء البعيدة ، وعيون ذوى الصفاء والإدراك » . ... « لقد صارت الحياة المادية بما أدخله عليها العلم والفن قيمة جداً تحمل على الثقة بالإنسان كمامل عظيم من عوامل التكوين والتنويع التي في يد الله ... فيةبح جداً بالإنسان أن يترك نفسه تحت تأثر الغرائز العنيفة والحماقات القديمة التي تحمله على تدمير تلك الحياة المادية القديمة » . ... « ويخيل إلى أن العالم الغربي – وخاصة الأوربي – على استعداد لأن يسمع كلاماً جديداً غير ما ألفه في السياسة والحياة والاجتماع ، ونحن – سكان الشرق الأدنى والأوسط – أقرب المجموعات البشرية – إلى المجموعات الأوربية وأدناها منها مزاجاً وروحاً ، ومثلنا العليا في الدين والخلق والاجتماع قد انتقلت إليهم، ودانوا بها حقباً طوالا من الزمان ، فمن غير الصعب أن يستمعوا إلينا ، ولكن على شرط أن نكون مخلصين في دعواتنا ، محترمين لأنفسنا مؤمنين بما عندنا ، نقول لهم بأسلوبهم وعقليتهم في غير زهو ولا تعصب ، وإنما بتقديم مودة وشعور رحمة ، لهؤلاء الذين نفعونا وخففوا الآمنا بجهادهم المادي . وسهلوا لنا سبل الحياة بالجسم » . « ونحن ورثة إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد .. أولئك الآباء الذين عذبوا في سبيل الإنسانية ، وقدموا لها وهي في مهد حياتها رسالات الروح والخلق ، نستطيع أن تقدم شيئا من ميرانهم في الهدى؛ وإلا كنا غير جديرين أن نكون سكان ديارهم وأقرب الناس إلى فهمهم » . . « إن الشعوب الأوربية قد شربت من الدم والوحل حتى بشمت وزهدت . وتريد أن تسمع صوتاً يفتح لها حديث الرحمة والحب والتعاطف بعد أن تضع هذه الحرب أوزارها . ... - ۲۳۰ - . ( ... « الغربيون قدموا لنا عبقرية المادة ، ونود أن نقدم لهم عبقرية الروح ، وأن تريح أرواحهم كما أراحوا أجسامنا » . =

وإن حسب القاري في هذه الفقرات التي اقتطفتها من مقالات شتى أنها مقالة متصلة – تعريف كاف بفكرة الكتاب وبطريقة تناوله لها ، وطبيعة تأليفه كذلك . كما أن فيها تصويراً لطريقة الأداء ولأسلوب المؤلف ، وذلك ما قصدت إليه منها . - وقد عرضت فيها المواضع التي تصور فكرة الكتاب في عمومها ، وإن كانت هناك مواضع أخرى - جاءت في السياق – لو استعرضتها مع ما استعرضت لبدا في بعضها شيء من التصادم مع فكرة الكتاب المبسوطة هنا ، ولاستوجب بعضها تعليقاً عليه يخل بالسياق ويقطع التسلسل ، لذلك آثرت أن أؤجل هذا كله إلى مكانه المناسب . - ۲۳۱ - ی لا شك أن للقضية التي يبسطها المؤلف قيمتها ، وأن للدعوة التي يدعو إليها وجاهتها ، والحق أنه بسط قضيته في قوة ودقة ووضوح ، لم تعطل منها أناقة التعبير البادية في كل موضع من الكتاب . والحق كذلك أن هذه الدعوة جديرة بأن تستمع إليها الإنسانية المعذبة الغارقة في الوحل والدماء ، فلا تغرق نفسها في ضجة الآلات كما هي الآن صانعة ، بل تحاول أن تفتح في شعورها ينابيع روحيـة أخرى وتلك زبدة الدعوة التي يدعو المؤلف إليها - على طريقته الخاصة فمن وراء المادة القدرة على الإبداع فيها ، ومن وراء هذه القدرة التسبيح للخالق الأعظم الذي أودعها ذلك المخلوق الفاني الخالد : الفاني ا بحسده وأجله الفردي المحدود ، الخالد بخلاصة أفكاره وإبداعه في الوجود ، ومن وراء هذا التسبيح للاله الواحد ، الشعور بقداسة مخلوقه المفضل - الإنسان - واحترام هذا الإنسان في كل فرد من أفراده ، والعمل على أن يبلغ الآفاق التي قدرها له بارئه وأن لا يتردى في الرذائل والشهوات والأحقاد والجهالات التي تفض من قدره ، وتعوقه عن الوصول إلى الآفاق التي أرادها له رب الوجود . هي سلسلة متصلة الحلقات ، من أمسك بطرفها - على هدى وبصيرة - أسلمته كل حلقة منها إلى تاليتها ، حتى تسلمه الحلقة الأخيرة إلى الفردوس الموعود في عوالم المثل الأعلى ... هنا قيمة هذه الدعوة ، وإنها لقيمة كبرى ومن .

ولكن هنالك أشياء تختلف فيها وجهات النظر ، فلنستعرضها : التكرار ظاهرة ملحوظة في كتاب الأستاذ خلاف ، تكرار الأفكار وتكرار التعبيرات ، ولعل منشأ هذا أن الكتاب كما قلت مجموعة مقالات هو كتبت في أوقات متفرقة ، وأنه ليس هنالك « تصميم » معين للكتاب . ثم لعل هناك سببا آخر هو طبيعة هذه المقالات ، فهي أشبه ما تكون بدعوة جديدة ، تبلغ حماسة صاحبها لها مبلغ الشاعرية ، فهو يتأنق في أدائها ، ويكرر مقاطعها ويعيدها في صور من التعبير شتى . ولعل هذين العاملين ها كذلك علة بعض التناقض بين الدعوات المختلفة التي تتألف منها الدعوة الكبرى ، وذلك حسب مزاج الداعي في كل فترة من فترات دعوته . فأنت في بعض المواضع – كما في إحدى الفقرات التي نقلتها سالفاً - تحس أنه يجعل الفن الجميل واحداً من مقومات النفس الإنسانية وعاملا أساسياً من عوامل تربيتها وتنمية مقدراتها ، ووصلها بما يغيب عنها من معاني وجودها الكبرى ، ولكنك تراه في بعض المواضع بزرى باللمحات الشعرية كما يزرى بالسبحات الوجدانية والفكرية المجردة ، ويعدها على هامش الحياة الإنسانية أو يراها أثراً من آثار الطفولة البشرية ، أوتزجية للفراغ لاتنمى الحياة ولاتضيف إليها شيئا . ذلك حين يقول : ( « ويخيل إلى حتى درجة الظن ... أن فكر الإنسان لا يجدى عليه شيئاً إلا حين يتجه إلى فتح جديد في عالم أخلاقه ، أو في عالم المادة للانتفاع بها وكشف خصائصها ، ولقط أسرارها واستخدامها ، وأنه ما وضع في الحياة وضعاً أصيلا إلا في هذين الموضعين » 6 « فعرفته بأخلاقه تقيم حياته على الصراط السوى الذي ليس فيه عقبات وسدود من فعل الغرائز والشهوات وعقابيل الطفولة ، وتفرغه للعمل المثمر الدائم في المادة . ومعرفته بأسرار الطبيعة تفتح له أبواب العمل فيها وتنتج له بركات من السماء والأرض وترقيه وتفرغه للعبادة بالفكر والعمل ، أما فترات التفلسف - ۲۳۳ النظري والهيام وراء البـدوات والفروض فتلك لا محصول وراءها أو هناك محصول ضئيل » . أو حين يقول عن الإنسان المهدد بالموت : « ماذا تريدون أن يفعل إذن ؟ أتريدونه بنام حالما يدخن النارجيلة والحشيشة أغلب إنسانية الشرق المضيعة ؟ أم تريدون أن يجلس فارغاً والأفيون كما ينتظر الموت وينشد الأشعار ولهو الأحاديث » . يصنع ا فلا يرتفع الشعر في نظره عن الحشيشة والأفيون ولهو الأحاديث وتغلب على المؤلف فتنة جارفة بالحضارة المادية - وإن كان يريد أن يتخذها أداة لإيقاظ الشعور بقيمة الإنسان الذي صنعها ، وللايمان بالله الذي أقدر الإنسان عليها . ولكن هذه الفتنة تظل بارزة ، وحسبه أنه في تمجيده للانسان يكاد ينسى كل ينابيع عظمته النفسية ، ليدق دقا متواصلا على معجزاته في عالم المادة ، ولا يكاد يشير في هذا المجال إلى أشواقه الروحية وأحلامه في الرقى منذ نشأته الأولى إلاإشارة عارضة تغرق بين عشرات الإشارات القوية إلى مقدرته الصناعية . إن نشيد الإيمان بهذا الإنسان لتتألف معظم مقاطعه في كتاب الأستاذ عبد المنعم من الإعجاب بما بلغت يداه ، ولقد كان هذا النشيد يكون أرفع وأقوى لو تألفت مقاطعه – بنفس النسبة – كذلك من الإعجاب بأشواقه التي تشير إلى · ما هو مقدر له في عالم الغيب من الآفاق ، وأحلامه التي تعبر عن المذخور في طبيعته من الطاقة ، ولوضمت إليها كذلك مقاطع عن نزعاته الفنية وعن لحظاته الوجدانية : عن أغانيه وأناشيده ، وعن ألحانه وموسيقاه ، التي يعبر بها عن أشواقه حين تتسامى على الألفاظ؛ وعن روائعه الفنية في التصوير والنحت ، وعن ن كل ماهجس به خاطره س _ أو انتظمته مقاطعه ، أو خطته يداه وحينئذ كانت تلتقى في النشيد بدائع المادة الجامدة ، وبدائع الفن الرفيعة ، . وأشواق النفوس الحالة ، وخطرات الوجدان المرفرفة ، فيكون التعبير كاملا ع - ٢٣٤ - عن الاتجاهات في آن عظمة هذا المخلوق الانساني العجيب ، الذي تنفسح نفسه لشتى . ی إن الأشواق الحبيسة ، والأحلام الطائرة ، والخواطر المرفرفة والتأملات السابحة ، لا تقل في دلالتها على عظمة هذا الإنسان وتعدد جوانب نفسه وترامی آفاق طاقته عن أعظم المخترعات وأضخم الآلات ، ولكنها في حاجة إلى نظرة رحيبة تدرك ما في النفس الإنسانية من طاقات متعددة المظاهي متوحدة الأصول ، وكلها أصيلة في كيان الإنسان والمؤلف يريد من الشرق أن يحمل المشعل للغرب لينقذه من بلادة الحديد وقسوة | ة الآلات ، ويرده إلى حياة شاعرة بما لها من قيمة ومعنى أكبر من الآلات والماديات من تنبيه إلى قيمة الإنسان هي وأخشى أن لا تكون الفتنة بالحضارة المادية – مهما يكن وراء هذه الفتنة الطريق القويم لإيقاظ روح الغرب المادية فما نزيد على أن نقدم لهم إعجابنا بما أبدعته أيديهم من عالم المادة ... وأياما كانت دعوتنا الكامنة وراء هذا الإعجاب فإنها لن تهز أولئك الغارقين في ضجيج الآلات . إنما طريقنا إذا استطعنا – أن نبشر بحضارة روحية مستمدة من صميم اتجاهنا الروحي الأصيل ، يعلو صوتها على صوت الآلات ، فتكون كفيلة بإنقاذ الغارقين في ضجيج المادة وصخب العجلات - م طريقنا أن نؤمن بأنفسنا ، أي أن نؤمن باتجاهاتنا الروحية الخالصة ، وبما في الشرق من طاقة روحية مذخورة ، تستطيع لو أحسن توجيهها وتنقيتها من الخرافة والجهل أن ترد العالم إلى يقين بعظمة النفس الإنسانية في ذاتها ، لا بما استطاعت أن تبدعه في المادة وحدها . ... تستطيع أن تهب الإنسانية المعذبة العطف والحب والسلام ، بعد أن عجزت الحضارة المادية عن هذه الهبة ذلك العجز الفاضح الذي لا بد أن نحسب حسابه ونحن تحصى مباهج هذه الحضارة . فقيمة الفتوح العامية إنما تقاس قياسها الحقيقي بمدى ما توفره للبشرية من السعادة ، فهي وسائل لا غايات ، والبشرية تنأى عن السعادة كل يوم وتشقى . إن هتافاً روحياً لا يشيد ببدائع التصوير وروائع الشعر وألحان الموسيقى وسائر الأشواق والخطوات - في أول ما يشيد - لهوهتاف خافت ، كالطائر المقصوص الجناح ، لا يحلق في الآفاق ، ولا يملا شعاب النفس ، ولايهز مشاعر الإنسانية . وأين يا ترى تلقى البشرية بروائع الفنون كلها ، وبتأملاتها المجردة ، وسبحاتها تلك الذخيرة الضخمة التي ذخرتها الإنسانية في وطابها على مدى الأجيال؟ اتلقى ذلك كله إلى العدم ، أو تنظر إليه نظرة الساخر من طفولة مرت ولا رجمة لها بعد بلوغ الرشد . وأي رشد هذا الذي يغلق جوانب النفس إلا من حتى العقيدة ابتكار في الطبيعة يبعثه العلم ، أو اهتداء في السلوك يبعثه الدين العملية الدينية لا يراها المؤلف إلا من ناحيتها العملية : ناحية التوجيه الخلق ولا يقيم وزنا لجانبها المشرق الروحاني الخالص إلا في النادر القليل . المرفرفة ٢٣٥ - - ... . إن في كل عقيدة قسطاً أصيلا من الفن ، تملا به جوانب النفس التي لا يملؤها الاتجاه الخلقى وحده ، لأنها أكبر من كل اتجاه عملي فريد . عيب هذا الكتاب « أومن بالإنسان » إنه يكاد يغلق جوانب النفس فيها عدا ابتكار علميا واتجاها خلقياً ... ولكنه بعد هذا يؤدى دعوته على طريقته أدق أداء وأوفاه . فإذا خالفنا مؤلفه في آفاق النظر، فإننا لنوافقه في اتجاه النظر، وهو - على أي حال – ثروة فكرية وثروة أدبية في آن . - ۲۳۶ -- ســــــــــندباد عصری للدكتور حسين فوزی في قرارة كل نفس إنسانية « سندباد » أو شعرة من « السندباد » ، ولو لم يطوف مثله في بحار الأرض ويتعرض في طوافه لشتى الأخطار ! فمن هو « السندباد البحري » في حقيقته ؟ إنه المخلوق الإنساني الذي يناديه المجهول فيلبيه ، ويجذبه الخطر فيستجيب إليه ، ويتعرض للأهوال الشداد الجسام في كل رحلة من رحلاته ، ثم يبلغ مأمنه بعد الإياس ، ويسترد ثروته بعد الفقدان ولكن المجهول يناديه والخطر يجذبه إليه ، فما يلبث أن يودع الأمن ، ويستصغر الثروة ، ويعود إلى المجازفة من جديد ؛ وراء ذلك المجهول المحجوب ، وخلف هذا ا الخطر المحبوب ! ذلك هو السندباد كما تصوره « ألف ليلة وليلة » فأية نفس إنسانية ليس فيها من هذا « السندباد » شعرة أو شعرات ؟ ! من منا لم يجذبه المجهول مرة أو مرات ولم يستهوه الخطر لحظة أو لحظات ، ولم يستعذب « المعرفة » ولو كلفته التضحية والتضحيات ؟ كل منا فيه من هذا « السندباد » شعرة ظاهرة أو كامنة ؛ ولكنها هي التي تربط الإنسانية بالعالم الأرفع ، عالم « المعرفة » في عليين وكم من « سندباد » ظاهر قاد كولمبوس ، وفاسكودي جاما ، وما جـلان وابن بطوطة ، وسواهم ؛ وكم من « سندباد » خفى قاد العلماء والمخترعين إلى آلاتهم ومعاملهم ، وقاد الفلاسفة والفنانين إلى مغامراتهم الفكرية والوجدانية ؟ إنه « سند باد » واحـد تتعدد مظاهره ونوازعه في شتى النفوس ، ا ( – ۳۳۷ - أو « سندبادات » كثيرة موزعة في هذه النفوس ، التي تركب الخطر وتستلذ المجازفة ، وهي تلقى بوعيها كله أو بعضه إلى ذلك النداء السحري ، نداء المجهول الذي يهتف بها من هناك . والدكتور « حسين فوزي » هو « سندبادنا » اليوم ! وهو رجـل ندب لرحلة علمية في البحر الأحمر والمحيط الهندي ضمن بعثة عالمية لدراسة أحياء البحر والمحيط ، وقد طوف – مع البعثة – على باخرة مصرية طوال تسعة أشهر ، في البحر والبر ، في الجزر والقارة ، وزار معابد الهند وسيلان ، وسواها من الجزر - المنثورة في المحيط . ثم عاد . ولحسن الحظ كان « الإنسان » في هذا الرجل أكبر من « الموظف » الذي ندب لعمل رسمى ، وأكبر من « العالم » الذي وجه لمهمة عامية . كان « فنانا » فلم يضع هذه الأشهر التسعة في الدراسة العلمية البحتة ؛ بل أدى واجبه ثم بقيت في نفسه بقية لما هو أكبر من هذه الدراسة وأبقى ؛ وعادت البعثة وملء وطابها تجاربها ومعلوماتها ودراستها ، ثم عاد هو وملوء وطابه الخاص ملاحظاته الإنسانية ، وانفعالاته الوجدانية، واستجاباته العاطفية و تجاربه النفسية، فأودع ذلك كله كتابه « سندباد عصرى » الذي نتحدث عنه اليوم . يقع هـ هذا الكتاب في 383 صفحة من القطع المتوسط ، مقسمة إلى أربعة أقسام « عبث ، وصـور ، وجد ، ومشاعر » وتحت كل قسم من هذه الأقسام الأربعة فصول يجمعها العنوان وخلف جميع العنوانات والفصول يطالعك إنسان حي الوجدان ، متوفز الحس مفتوح الحواس ، ينظر ، وينفعل ، ويستجيب ، وتشترك ثقافته العلمية ، وقراءاته الأدبية ، وتجاربه الفنية ، في تلوين ما ترى عينه من مناظر ، وما يجيش في نفسه من أحاسيس ، وما يصدر عنه من ملاحظات ؛ ولا يعوزك أن تلمح ريشة الفنان ،

( – ۳۳۸ – تسجل هذا كله في بساطة ويسر ووضوح ، وبلا تكلف إلا في النادر ، وبلغة سهلة صحيحة إلا في مواضع قليلة ، لم يكن من العسير تحرى الدقة فيها ، وكان من الخير تحريها . وليس من الضروري أن نوافق « السندباد المصرى » في آرائه وأحاسيسه واتجاهاته لنؤدى له هذه الشهادة ، فنحن – على العكس - نخالفه في أساس اتجاهه الذي يعلن عنه « إهداؤه » في صدر الكتاب حين يقول : « درجت على حب الغرب ، والإعجاب بحضارة الغرب ، وقضيت أهم أدوار التكوين من عمرى في أوربا ، فتمكنت أواصر حبي ، وتقوت دعائم إعجابي ، فلما ذهبت إلى الشرق ، عدت إلى بلادى وقد استحال الحب والإعجاب إيمانا بكل ما هو غربي » (( = ا نحن نخالفه في هذا « الإيمان بكل ما هو غربي » وفى زرايته على الشرق وعاداته وأساطيره ودياناته وسنناقش منه هذا الاتجاه . ولكنا – مع هذا يعجبنا فيه « الإنسان » الحي الوجدان ، « والفنان » المفتوح العين والحس والضمير ، وإنه لحسبك أن تجد « الإنسان » و « الفنان » في أي مخلوق ، ثم ليكن له بعد ذلك ما يكون من الآراء والاتجاهات ، فستجد عنده مادة إنسانية وفنية تستحق العناية والاهتمام . وهذا هو المطلوب - قبل كل شيء – في كتاب يقرؤه الناس في حدود « الأدب الخفيف » الذي يمثله هذا الكتاب . وأنت تخالف « السندباد المصرى » أو توافقه في اتجاهاته العامة ، ولكنك ستعجب به، وهو يحدثك عن «مشمشة» قطة السفينة ، حديث «الإنسان» العارف بقدر الحياة ، فيشعرك بالتعاطف الإنساني بينه وبينها ، هذه « المشمشة » التي « عادت إلى مصر ضمن من عادوا إليها بعد أن طوفت معهم تسعة أشهر في طول ) ۲۳۹ - المحيط الهندي وعرضه ، ونشرت صورتها على صفحات الجرائد ، فلم تزدها الشهرة خيلاء على خيلاء ، ولم تزدها رؤية الأمصار ثروة أو خبرة ، بل ولم تمكنها هذه الحياة من انتقاء عريس صالح بين هررة سيلان أو قطط زنجبار أو سنانير الهند . عادت إلى مسقط رأسها في السويس عذراء ذهبية الشعر ، أوفت على من الزواج ، وقد غادرتها طفلة في لون الحناء » ! أو حين يقف بك في هذه السفينة نفسها بعد انتهاء الرحلة وتفرق الركب وخواء المكان ، فيحدثك حديث الشاعر الذي يخلع الحياة على الجماد وعلى وتستجيب الذكريات فتنبض وتتحرك « لقد عاد كل منهم إلى وطنه وعمله ، وعادت سفينتنا في نفوسهم ذكرى يزيدها الزمن ائتلاقا . ولكنهم تركوني هنا وحدى ، كالشاعر البدوى ، أبكى فوق الدمن ، وأستبكى الرائح والنادي ! تركوني أجوس خلال هذه القمرات والمعامل ، فتتألب على أشباح ذكراهم حتى لأخال نفسي شبحا بين الأشباح « إيه أيتها السفينة ! . إيه أيها الجواد الأشهب ! « هل قدر لنا أن تنوء بحمل الذكرى ؟ أو أننا سوف نعود سويا إلى خوض D 6 البحار النائية ، حيث للموج اصطخاب وهدير ، وللاعصار صرير وصفير ؟ » . أو حين يتحدث عن « حياة البحار » فينقلك نقلا إلى جو هذه الحياة ، أو حين يقف بك على « منفى الزعيم » في سيشل فتجد نبضات القلب المصرى ، وخفقات القلب الإنساني تلتقيان في خلال الكلمات . أو حين يتحدث عن « غادة ممباسا » في فصل « نسائيات » فتلتقى بالفنان الحي الذي يعبد الحياة في أجمل أوضاعها في جسم فتاة مكتمل جميل تزينه الأنوثة وتحمله الحياة ، ويرفعه الاحترام . أو حين يقف أمام تمثال « بوذا » فيبدو لك المفكر الحر الذي يستروح في « البوذية » شذا الحرية والبساطة والسياحة ، بعد ما كاد يختنق تحت كابوس القيود والتعقيد ... – ٢٤٠ - والتشدد في « الهندوسية » التي تخيفه وتفزعه وتطلقه ساخطاً على الشرق كله في بعض الأحيان !

وهنا يصل بنا الحديث إلى مفرق الطريق بيننا وبين السندباد ! . إنه فنان شديد الحساسية عصبى المزاج . . ومن عادة هذا الصنف من الناس أن تستغرقه اللحظة الحاضرة ، وأن تستفزه المشاهد المثيرة ، وأن يفزع من والكوت ، وأن تمتد ثورته من الطرف الواحد إلى بقية الأطراف ! الضغط هذا الفنان الشديد الحساسية العصبي المزاج « قضى أهم أدوار التكوين من عمره في أوربا » فبهرته الأضواء ، وأعجبته الحيوية ، وراقه النشاط، ولذله الانطلاق

ثم «ذهب إلى الشرق» وإلى الهند بوجه خاص ، فالتقى هناك بالوجه الثاني للدرهم : الزهد والصوفية ، والصمت والسكون ، والكبت والحرمان ، والوراثات والعقائد . وهان كل ذلك ، لولا أن الحياة الاجتماعية تبدو في أشنع الصور ، وأحط الدركات : العرى والجوع والقذارة وظلم الطبقات : النجاســـــــة للمنبوذين ، والتقديس للبراهمة ... إلى آخر المناسك والتقاليد والأوضاع وبعد ذلك كله الخوف الديني الموغل في المعتقدات حول تناسخ الأرواح ، وما تلقاه في أطوار التناسخ من العذاب للتكفير عن السيئات ... )) . السخط على لم يكن هناك مقر بعد هـذا كله ـ لمثل صاحبنا السندباد ـ من هذا الشرق التاعس ، والهلع من أشباح الخوف الكامنة في هذه المعتقدات « الإيمان بكل ما هو غربى » كما يقول في إهداء الكتاب . ومن . فإذا شاهد الراقصة « جليلة » في كراتشي «ترقص رقصاً توقيعياً لافن فيه» صاح : « جليلة هي هذا الشرق الطويل المريض الفارغ . هي تلك الشعوب التي ما زالت تفكر وتحس بإحساس القرون الوسطى ؛ وتصر على حسبان بواقي – ٢٤١ - حضارتها البائدة لا ملكا للتاريخ والمتاحف بل أداة للحياة حتى في القرن العشرين » . وإذا شاهد صخرة « ما هابالى بورام » وقد نحت فيها فنان شرق تشخيصاً لأسطورة « نهر الكنج » المقدس ، وقد أقبلت الأناسي والحيوانات من كل فج تشهد ميلاد النبع المقدس ، في صوفية وخشوع جعل يقول : « لو أن نحاتاً إغريقيا أعمل إزميله في هذه الصخرة تحت شمس « أتيكا » . ويحى لقد أفسدت الصورة التي طبعتها في ذاكرتى « ما ها بالى بوارم » وأفقدتها كل معانيها في نفسي . فلم يكن الإغريقي ليصور نبعاً مقدساً ، بل كان في الأغلب ممثلا « أرفيوس » في الشق الأوسط وهو يوقع على قيثاره المعجب وحوله الإنس والجن خاشعة ... الخ » . ' وإذا شاهد فيلما هنديا يمثل الروح الهندية المتسامحة التي تنتهى من الصراع على الحقوق الخاصة ، إلى الزهد في أعراض الدنيا والاتجاه إلى عبادة الروح الأعظم قال : « أدركت ناحية من نواحي الضعف في بعض الحركات الروحية حين تدخل ميدان السياسة العملية » وإذا سمع زميله الإنجليزي يقول عن « النيرفانا » أي الفناء في الروح الأعظم ـ وهو الغاية التي يطمح إليها الهندي من وراء حرمانه وآلامه : « دعنا من هـذا فلا قبل لي بهذا الهجص وتلك الشعوذة يا عم حسن » لم يجد في نفسه أية حماسة للرد على هذا الكلام . وهكذا وهكذا مما قد يبالغ فيه فيصل إلى حد الزراية والسخط الشديدين على الروح الشرقية بوجه عام . ومهما افترضنا للسندباد من الأعذار في قسوة الأوضاع الاجتماعية والمظاهر ( م - 16 ) - ٢٤٢ - البائسة التي شاهدها في الهند ، فقد كنا نرجو أن يكون أوسع أفقا وأكثر عطفاً وأعمق اتصالا بروح الشرق الكامنة وراء هذه المظاهر والأوضاع ، والروح الصوفية المتسامحة المشرقة بنور الإيمان . ونحن لا ندعو إلى الروحانية السلبية في الحياة العملية ، ولكننا ندعو فقط إلى فهمها والعطف عليها ، وتقديرها من الوجهة الإنسانية والروحية . فالغربي معذورحين يغلق حسه وفهمه دون روح الشرق الأصيلة ، أما الشرقي فلا عذر له في هذا الإغلاق . إنه يقول عن لوحة الكنج المقدس : لم يكن الإغريقي ليصور نبعاً مقدساً الخ » أجل ! وهذا هو مفرق الطريق بين الشرق والغرب . في الشرق قداسة تمت إلى القوة العظمى المجهولة ، وفي الغرب حيوية تمت إلى المشهود الحاضر المحسوس . وليس لى أن أفضل هذا أو ذاك . فكلاها جانب من جوانب النفس الإنسانية الكبيرة التي تهش لكليهما على السواء ؛ إن لم تؤثر في حسابها الروحي والفنى جانب المجهول على جانب المشهود

وهو يسخر بعقيدة « النيرفانا » كسخرية زميله الإنجليزي الذي يقول : ما كنت أحسب أن دينا يعد بنعمة الفناء ! ووجه الخطأ هو اعتبار « النيرفانا » . فناء ! إنها كذلك في نظر الغربي الذي يصارع الطبيعة وينعزل عنها ، فأما الهندي الذي يحس بنفسه ذرة منسجمة مع الطبيعة ، ويعدها أما رؤوما ، فيرى في فنائه في القوة العظمى حياة وبقاء وخلوداً . وعلينا أن نفهم هذا ونعطف عليه ولا نراه بعين الغربيين ، وهو يبدو في أرفع صورة في « ساد هانا تاجور » فلنقف خشماً أمام هذا السمو الإلهى ، ولو بعض لحظات ! ! وهكذا يجب أن تجاوز مظاهر الجيل وأوضاع الاجتماع ، لننفذ إلى قلب الشرق ، وإنا لواجدون فيه كثيراً من الكنوز الروحية التي تنقذنا من قسوة ـــــــ ٢٤٣ ـ الحضارة الآلية التي لا قلب لها ولا ضمير ، هذه التي تنسجم في أصولها مع روح الغرب كل الانسجام . أريد الدكتور أن أضرب له مثلا على سطحية الروحانية في نفوس الغربيين وضحولة القداسة في قلوبهم ؟ إننى إذن أدعوه ليعاود في كتابه نفسه حكاية صلاة الراهب الانجليكاني بالبعثة في هذه الفقرات : « كان الخبر الهام الذي أسر به حاكم الموقع إلى رئيسنا هو أن طيارة عسكرية حملت من عدن قسيسا انجليكانيا ليقيم الصلاة في النادي البريطاني في « بيريم» ويعود في اليوم التالى . وقد ألقى الخبر إلى رئيسنا في لهجة من يقول : « إننا نترقب الليلة هجوما عنيفا من بعض القبائل الثائرة » ! « وأخفى الرئيس عنا الخبر حتى « الشوب » الثالث . ثم أبرقت أساريره ، وأعلننا به خلال غمام الذباب قائلا : - هيا بنا يا أولاد فقد حانت ساعة الصلاة . «دخلت القاعة واتخذت مقعدي في الصف الثاني . وجعلت أهمهم وأحنى رأسى مجاملة لإخوانى . ووزعت علينا كتب الترتيل. وهي ما أستريح إليه في هذه الحفلات لأنى بعد شطرين من الأنشودة أستطيع أن أشترك في الغناء مع شيء من النشاز لا خطر منه على متانة الأبنية ! « وبينما أنا في خشوعي إذ لاحت منى التفاتة إلى حائط المكان فوقعت عيناي على تلك الصور الخليعة مودة 1900 . ومع أنها خلاعة بريئة باردة إلا أن وقعها في تلك اللحظة كان كما لو أخرج لنا أستاذ الديانة صورة راقصة تلبس ملابس حواء في الفردوس . « وانتهت الصلاة بالدعاء للملك والأسرة الملكية البريطانية ، ثم رفعت – ٢٤٤ - المقاعد . وعاد الكلوب وقدم لنا الويسكي بالصودا ، وتسامرنا حتى منتصف الليل مع جميع أفراد الجالية البريطانية في « بريم » ... ! هكذا هي : الصلاة تسبقها شوبات البيرة وتعقبها كاسات الويسكي : وتتم كأنها لعبة بين لاعبين أو عمل رسمي بين الرسميات اليومية لا وجدان فيه ولا روح ولا خشوع ) فقد انقلب كل شيء حتى الوجدانيات إلى رسميات ! وأخيرا فإنها مرة واحدة التي ارتفع فيها المؤلف إلى القمة في« شجرة البودي المقدسة » وهو يقف أمام الزنجي عابد « البوذا » فيحترم عقيدته التي أحالته روحا علوية ، وهو الذي يقوم بعمل الحمار في جر العربات بالركاب . لقد كان « السندباد » هنا « إنسانا» كبيرا يتجاوز المظاهر لينفذ إلى قلب « الإنسان» وليحس بحلال الإيمان 33 - ٢٤٦ - وأحداثه ، وفى توسيع مجال النظر إلى هذه الأحداث وأولئك الأشخاص ، فلا يكون ميدانها الخارجي هو وحده الذي تضطرب فيه ، إنما تكون هناك السراديب والدروب والمنعرجات النفسية الخفية التي تتصل بهذا الميدان المكشوف ! وهذه ميزة الدراسات التاريخية الحديثة على السرد التاريخي القديم . وفي المكتبة العربية الحديثة دراسات تاريخية، وتراجم الاشخاص، تقوم كلها على دراسة العنصر النفسي وإبرازه على خير الوجوه . فدعوة الاستاذ شفيق جبري متحققة فعلا في تلك الدراسات التي كثرت في الاعوام الأخيرة كثرة ملحوظة . أذكر منها على سبيل المثال مجموعة « العبقريات » للعقاد ، و« محمد على الكبير » لشفيق غربال ، و « تلاقى الأكفاء» لعلى أدهم ، و«بشار» للمازني ، و«أبو نواس» لعبد الرحمن صدقى وسواها ، ولا أنسى دراسات الاستاذ شفيق جبرى نفسه لبعض الشخصيات الأدبية

وللاستاذ المؤلف توفيقاته الكثيرة في هذا الكتيب الصغير . تارة في تسجيل نظريات عامة ، وتارة في تحليل مواقف خاصة ... ولكن هناك ما نختلف فيه كل الاختلاف ! t من أمثلة التوفيق في تسجيل نظريات عامة ، ماجاء في مقدمة الكتاب عن سياسة الناس : ل لاشى أصعب من سياسة الناس، لأن الرجل عادة مركب من شخصيات شتى لاتظهر إلا في أحوال معينة ، وما هذا الثبات الذي نراه في شخصية كل واحد منا إلا شكل ظاهر لاغير ، تثبت هذه الشخصية بثبات أحوال معينة ، فاذا تغيرت هذه الأحوال تغيرت شخصية الرجل ، فالهادىء قد يصبح ثائرا ، والرقيق قاسيا ، والفاضل قد تتناثر فضائله . فاذا جهل رجال السياسة هـذه قد يصبح الخفايا النفسية ، فان جهلهم يؤدى إلى الإخفاق في سياستهم ، أو إلى الذهاب بحياتهم ، أو إلى القضاء على بلادهم في بعض الأحيان – ٢٤٧ فالشطر الأول من هذه القضية صادق نافذ دقيق ، وهو يتضمن لفتة بارعة إن لا يكن الأستاذ جبرى هو أول من يتنبه إليها ، فهو - في اللغة العربية - أول من يبرزها في هذا التبلور الحاسم في بضع كلمات . لقد اعتدنا أن نتحدث عن « الشخصية » كأنها كل" متماسك ذو طابع دائم واعتدنا أن ننتظر هذه الشخصية استجابات معينة للمؤثرات المتعددة ، تتفق مع هذا الطابع ... ولكن الملاحظة الدقيقة الشاملة لتصرفات كل شخصية تهدى إلى أن هذا الطابع ليس أبديا ، وليس جامدا . فهناك حالات كثيرة نسميها حالات شاذة في حياة هذه الشخصية ، وهي في الواقع ليست شاذة . إنما هي جزء من هذه الشخصية أصيل فيها كالأجزاء التي نعدها طبيعية بالقياس إليها وكل ماهنالك أنها حالات كامنة لا تنكشف إلا في مواعيدها . وقد تكون على نقيض الخصائص الشائعة عن شخصية معينة وأحسب أن هذه الملاحظة النافذة تهم المتخصصين في « علم النفس » كما تهم كل دارس للشخصيات في مجال التاريخ أو الأدب . والتطبيقات عليها تؤلف فرعا من « علم النفس » تلذ دراسته وتشوق أما الشطر الثاني الذي يقول فيه : )) >> « فاذا جهل رجال السياسة هذه الخفايا النفسية ، فان جهلهم يؤدى إلى الإخفاق في سياستهم . . . الخ » . فنحسبه يحتاج إلى دقة في العبارة ، بل إلى دقة في النظر، فليس المهم أن يعرف رجال السياسة هذه الخفايا النفسية أو يجهلوها ، إنما المهم أن يدركوها ، وأن يستطيعوا التصرف المناسب في اللحظة المناسبة وفق ما يدركون ! وإلا فالمعرفة وحدها لا تكفى . وكم من أناس يعرفون الدوافع النفسية ، ثم لا يعرفون التصرف المناسب . أو يعرفونها ويعرفون التصرف المناسب ، ولكنهم – ٢٤٨ - لا يملكون الإقدام عليه . إما لضعف فيهم عن الإقدام ، وإما لعفة فيهم عن استخدام بعض الأسلحة ، وإما لعوامل « نفسية » شتى لا تجعلهم ينفذون ما يرتأون ! و« مکیافیلی » صاحب کتاب « يعل من الوجهة النظرية لمذهب « الغاية تبرر الوسيلة » يروى عنه أنه كان عاجزا ضعيف الحيلة « أميره » « قيصر بورجا » الذي ألف قليل الحول ، في حياته العملية ، حتى مع له هذا الكتاب ، ليرشده إلى سياسة الأفراد والجماهير ! t « الأمير » الذي ) استاذا ومما يدعونا إلى زيادة البيان لهذه النقطة أن الأستاذ شفيق جبرى في تطبيقاته بعد ذلك في الكتاب ، لم يفرق بين معرف رفة العناصر النفسية ، والتصرف العملي هذه المعرفة ، فعد كل من لم يتصرف عمليا وفق الطرف النفسي جاهـلا حسب لهذا الظرف النفسي . كالإمام على مثلا . . . وذلك موضوع سنناقشه في حينه فحسبنا هنا إذن ذلك البيان ( . ومن أمثلة التوفيق في تحليل مواقف خاصة ، ماعرفه من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم ، مثال ذلك قوله : « قالت سيدتنا عائشة : دخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو مضطجع ، وعليه ثوبه ، فقضى حاجته وخرج ، ودخل عمر ، فقضى حاجته وخرج ، ثم جاء على فقضى حاجته وخرج ، ثم جاء عثمان ، فجلس له رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت له عائشة : لم تصنع هذا بأحد . فقال : إن عثمان رجل حي ، وإلى خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلى في حاجته » مم يعلق على هذا الخبر فيقول : « قد نمر بخبر مثل هـذا الخبر ، فإما أنا لا نحتفل به ، وإما أنا لا نهتدى إلى جلالة قدره في معرفة عبقرية سيدنا محمد ، فهو عنوان من عناوين هذه العبقرية . – ٣٤٩ - وما أظن أن الذين كتبوا في سيرة الرسول أهملوا الاهتمام بأشباه هذا الخبر ، ولو فعلوا لما كانت كتابتهم كتابة . فقد كان سيدنا محمد عالما بنفوس جماعته وصحابته واقفا على دقائق أخلاقهم ، محيطا بغوامض أمزجتهم ، يعلم ما يغضب له فلان من الصحابة ، وما يرضى به فلان ، ويعرف مايستثير فلانا وما يهدأ به فلان . فعامل كل واحد منهم المعاملة المناسبة له ، اللائقة به ، حتى أشربت القلوب محبته ، وانطوت على طاعته ، فلم ينفض أحد من حوله . وهـذا منتهى الحذق في سياسة ی الناس . . وكنت أود أن أقف عنـد تسجيل التوفيق للاستاذ جبرى في اختيار المثال في موضعه المناسب . ولكنى مضطر – بعد اثبات هذا التوفيق – أن أتجاوزه إلى شيء في تعليقه عليه ! لم أكن أحب أن يكون حديثه عن « الذين كتبوا في سيرة الرسول » بمثل هذه اللهجة . فما الداعي لأن يقول : « ما أظن أن الذين كتبوا في سيرة الرسول أهملوا الاهتمام باشياء هـذا الخير .. » . إن الذين كتبوافى هذه السيرة في العصر الحديث معروفون . وكتبهم كذلك معروفة . والمفروض أن يكون الاستاذ جبرى قد اطلع عليها . بل من واجبه أن يكون قد اطلع عليها وهو بصدد أن يؤلف كتابا عن « العناصر النفسية في سياسة العرب » فإن لايكن فعل ، فقد كان من واجبه قبل أن « يظن » أو « لا يظن » أن يرجع إلى هذه الكتب ، ولوقد فعل لوجد أنهما كثروا من الحديث في هذا الموضوع، وأكثروا من الأمثلة والنماذج ، ونظروا إلى المسألة في محيط أوسع من أن يكون « الحذق » وحده هو الدافع لمحمد على تصرفاته مع قومه وغير قومه . وإنما رحابة النفس وسمو القصد، وخير البشرية كذلك ... والاطلاع الدقيق هو واجب التحقيق ، الذي لا يعنى المؤلف منه ظن ولا افتراض .

      • وأخيرا نصل إلى مواضع الاختلاف الرئيسية :

إن أول ما يلاحظه القارىء ء لهذا الكتيب ، أنه تصدي لموضوع ضخم لا يمكن دراسته في هذا الحيز الضيق ، وهذا يجر إلى أن تعرض موضوعات كبيرة ثم لا تدرس الدراسة الواجبه لها ، فينالها التشويه أو خطأ طأ الحكم ، أو اقتضاب أسبابه . والضرر من هذا النهج كبير والملاحظة الثانية – ولعلها ناشئة عن الأولى – أن المؤلف يصدر أحكاماً ضخمة حاسمة في يسر وسهولة وبدون اكتراث ، وبلا تخرج . هذا التحرج الذي توجيه عوامل كثيرة - 140-1 - والملاحظة الثالثة وقد أشرت اليها من قبل - : هي عدم التفرقة بين المعرفة بالعنصر النفسي ، والقدرة على التصرف بما توجبه هذه المعرفة والملاحظة الرابعة أن روح « النفعية » تنال الاستاذ الترحيب والتنويه في كثير من الأمثلة التي ضربها ، وفي كل تعليق عليها ، وهـذا اتجاه خطر في تقويم الأشخاص والأحداث وندع هذا الإجمال إلى التفصيل بذكر الأمثلة على ما نقوله . ((

تتحقق الملاحظة الأولى في الكتاب كله . وحسبك أن تعلم أن الاستاذ المؤلف قد أصدر أحكاماً حاسمة على محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى خلفائه رضي الله عنهم ، وعلى معاوية وعمرو بن العاص ، وبشير بن سعد ، والمغيرة بن شعبة ، وزياد بن أبيه ، وعبد الملك بن مروان ، والحجاج ، وموسى بن نصير ، ومروان بن محمد . . . كل أولئك في عشر ومئة صفحة ، إذا نحن أخرجنا المقدمة والتعقيب ، وفصلا عن سياسة المال ، من الكتاب الذي لا تتجاوز صفحاته أربعا وأربعين ومئة صفحة من قطع الجيب في سلسلة اقرأ » – ٢٥١ - ولو كان الأمر أمر حادثة تشرح ، وموقف يروى . لسكان في هذا الحيز الكفاية ، ولكنه -كما قلت – أصدر أحكاما حاسمة ضخمة على هذه الشخصيات ، ومدى معرفتها أو جهلها بالعناصر النفسية في سياستها . وهـذا تقويم نهائى لكل شخصية من تلك الشخصيات التي يحيط بها عدد لا يحصى من العوامل والأسباب والخفايا ، ولا بد من دراسة هذا كله قبل الحكم عليها ذلك الحكم القاطع الصريح

  • * *

أما الملاحظة الثانية فتبدو على أتمها في الحكم على موقف « عمر بن الخطاب » من العهد بالخلافة ، وندع المؤلف يبين رأيه في هذه السطور : « مرض رســـــــول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي قبض فيه فأمر أبا بكر أن يصلى بالناس ، فلم يزل أبو بكر يصلى بالناس حتى اليوم الذي مات فيه الرسول ، ثم كان من أمر السقيفة ما كان ، وجرى فيها من تنازع المهاجرين والأنصار ما جرى حتى تمت البيعة لأبي بكر . ) « ثم مرض أبو بكر المرض الذي مات فيه ، فاستخلف على المسلمين عمر بن الخطاب « ثم طعن عمر، فدخل المهاجرون عليه وهو في البيت من جراحه ، وسألوه أن يستخلف عليهم ، ، فكيف كانت سبيله في هذا الاستخلاف ؟ « لم يخل استخلاف عمر على المسلمين من كثير من الحيرة والتردد ، فهو لم يشأ أن يحمل المسلمين حياً وميتاً ، ثم رأى أنه إذا استخلف فقد استخلف من خير منه ، يعنى أبا بكر ؛ وإذا ترك الأمر فقد تركه من هو خير منه ، يعنى النبي ؛ ثم رأى أنه لو أدرك أبا عبيدة بن الجراح لاستخلفه وولاه ، ولو أدرك معاذ بن جبل لاستخلفه ، ولو أدرك خالد بن الوليد لولاه ، وفي هذا كله كثير هو – ٢٥٢ - من الحيرة . ثم رأى في على بطالة وفكاهة ، وفى طلحة زهواً ونخوة ، وفى عبد الرحمن بن عوف صلاحاً مع ضعف ، ورأى أن سعداً صاحب مقنب وقتال لا يقوم بقرية لو حمل أمرها ، ورأى أن الزبير لقيس ، مؤمن الرضى ، كافر الغضب ، شحيح ، ورأى أن عثمان لو ولى الخلافة لحمل قومه أبي معيط على رقاب الناس ؛ ثم سأل أن يدلوه على بر تقى بوليه ؛ ثم صح عزمه على أن يستخلف النفر الذين توفي الرسول وهو عنهم راض . فجعل الخلافة شورى بين هؤلاء الستة من المهاجرين الأولين ، وهم : على وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أبي وقاص . ومنهم من حدث أن سعداً لم يكن في الشورى ، أما عبد الله بن عمر فقد أدخله أبوه فيها على أنه خارج من الخلافة وليس له إلا الاختيار . 6 « كل هذا يدل على الارتباك ، ولقد كانت هذه الطريقة سبيلا إلى المخاصمة ، فقد تشاح أصحاب الشورى على الخلافة ،وأخروا إبرام الأمر، ورجا كل واحد منهم أن يكون خليفة ، حتى إن أبا طلحة بكى وقال : كنت أظن الحرص ، إنما كنت أخاف أن يتدافعوها ، فلقد طال تناجي القوم وتناظرهم خلاف هذا ودفع كل واحد منهم صاحبه عنها ، وكاد يؤدى هذا الأمر إلى الفتنة ، فقد تطلع الناس إلى معرفة خليفتهم وإمامهم ، واحتاج من أقام لانتظار ذلك من أهل البلدان إلى الرجوع إلى أوطانهم ( « ولسنا ندري ما الذي حمل سيدنا عمر على الوقوع في هذا الارتباك ، وقد كان قادراً على أن يستخلف أصلح القوم ، وهو يعرفهم واحداً واحداً ، ويعرف عيوبهم وفضائلهم ، ولكنه عدل ذلك . وإذا لجأت إلى الحرية في الكلام عن قلت : خاف التبعة ففر منها ، فإن جعل الأمر شورى بين جماعة كل واحد منهم يريد الخلافة لنفسه مخالف للقواعد النفسية في السياسة ، ولقد أنقذ الله المسلمين فتنة الشورى وكانوا في غنى عنها لو حزم عمر . = ٢٥٣ = ی « لاشك في أن انتخاب الرعية لراعيها أو الأمة لرجال الحكم فيها على تعبير هذا العصر إنما هو أرفع ما وصل إليه عقل البشر من أشكال الحكم الديمقراطي ، ولكن هذا النوع من الحكم لم يتكامل بعد في أيامنا هذه ، فجدير به أن يكون في أيام عمر أقل تكاملا ، ففكرة عمر في أن يجعل أمر المسلمين شوري بين ستة يتزاحمون على الخلافة غلطة نفسية ، وقد أدرك معاوية هذه الغلطة ، ومثله لا يكاد يفوته شيء من أسرار السياسة النفسية ، فقد ذكروا أن زياداً أوفد ابن حصين إلى معاوية ، فأقام عنده ما أقام ؛ ثم إن معاوية بعث إليه ليلا فخلا به ، فقال له : يا ابن حصين ! قد بلغني أن عندك ذهنا وعقلا ، فأخبرني عن شيء أسألك عنه ، قال : سلنى عما بدا لك . قال : أخبرني ما الذي شتت أمر المسلمين وملا هم وخالف بينهم ، ، قال : نعم ، قتل الناس عثمان ، قال : ما صنعت شيئا . قال : فمسير على إليك وقتاله إياك ، قال : ما صنعت شيئاً ، قال : فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال على إياهم . قال : ماصنعت شيئاً ، قال : ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين . قال : فأنا أخبرك ، إنه لم يشتت بين المسلمين ولا فرق أهواءهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر ، وذلك أن الله محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، فعمل بمـا أمر الله به ، ثم قبضه الله إليه وقدم أبا بكر للصلاة ، فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر دينهم ، فعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه و- الله ، واستخلف عمر ، فعمل بمثل سيرته ، ثم جعلها شورى بين ستة نفر ، فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه ، ورجاها له قومه ، وتطلعت إلى ذلك نفسه ، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف الرأي المختمر ، فالشورى غلطة نفسية رحم الله من غلطها » بمثل هذا الجزم الحاسم يصف موقف عمر . وأيسر الإنصاف كان يقتضى ، وسلم ، ، وسار بسيرته حتى قبضه « هذا هو 1550 19-3102 1 – ٢٥٤ - أن يحسب حساب الزمن المتطاول بين عهد عمر وعهدنا ؛ وحساب العوامل الكثيرة المتشابكة في الموقف ؛ هذه العوامل التي قد يكون معظمها قد ضاعت معالمه ، والباقى بين يدينا منها قليل ، والشخصية التي يصدر عليها مثل هذا . الحكم السريع شخصية جليلة ضخمة ، فذة في تاريخ الإسلام كله ، فلا أقل من مثل هذا الاحتياط على أننى لست من أنصار القداسة المطلقة للشخصيات الإسلامية ، ولست أعنى مما تقدم أن أحرم المعاصرين حق الحكم على هذه الشخصيات . ولكنى أريد أن تتوافر أسباب الحكم كاملة . ولقد كان هذا الجزم الحاسم يقتضى من المؤلف بسط الكثير من ظروف الموقف ، وتجليتها في سعة من المجال ليجي الحكم مستوفيا أسبابه ، وليقنع الناس بأحقيته على أنه لم يرد حتى أن يلتفت إلى الأسباب التي أثبتها في روايته . ولو التفت إليها لحماه ذلك من الجزم القاطع في قوله : « فالشورى غلطة نفسية رحم الله من غلطها » ! وفى قوله كذلك : « لو حزم عمر » ! )) ، وحيرة عمر - كما يسميها - كانت لها أسبابها الوجيهة كما يقرر : « فهو لم يشأ أن يحمل المسلمين حيا وميتا » ، وهذا عنصر نفسي في نفس عمر له تقديره « ثم رأى أنه إذا استخلف فقد استخلف من هو خير منه ، يعنى أبا بكر ، وإذا ترك الأمر فقد تركه من هو خير منه يعني النبي » . ووجود هاتين السابقتين القريبتين كفيل بأن يجعل الجزم القاطع لا محل له . وقد اختار عمر طريقة تجمع بين الطريقتين ، لأن ظرفه وموقفه لم يكن كواحد من الاثنين قبله ، فمحمد صلى الله عليه وسلم لم يوص لأحد لئلا تصبح هذه سنة ، ولعوامل أخرى كثيرة وكان واضحا أن أبا بكر هو أول مؤمن به من الرجال ، وهو صاحبه في النار ، وهو « الصديق» فقدمه في اللحظة الأخيرة إلى الصلاة . وقدم اتجهت الأنظار إليه يو TOO- السقيفة لهذه الأسباب جميعاً ولعوامل الموقف السريع في هذا اليوم ، وأبو بكر أوصى لعمر ، لأن حروب الردة كانت قريبة ، فلم يكن من المأمون أن يترك أمر المسلمين بعده لأي نزاع ، وقوائم الاسلام تهتز وهي في حاجة إلى التوطيد . وكان عمر هو أبرز رجل بعد أبي بكر – وذلك إذا استثنينا عليا وحوله كانت ملابسات كثيرة في نفوس القوم – ولو لم يكن أبو بكر حيا بعد النبي لكان عمر هو رجل يوم السقيفة . فلم يكن أبو بكر إذن ليخشى معارضة لعمر بعده ، في الوقت الذي يحتم عليه الموقف أن يختار خليفته . أما عمر فلم يكن موقفه كواحد من سلفيه العظيمين . فالاسلام امبراطورية ثابتة ولا خوف عليها من التشاور . وليس أحد بعده بارزا يرتضيه الجميع بلا منازع . كما كان هو بعد أبي بكر . والرجال الذين مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض – وهم الذين جعل عمر الشورى فيهم - ليس فيهم الأفضل إطلاقا في ضمير عمر – وقد تحدث عن كل منهم بما يفيد ذلك – فلم يبق له إلا أن يجعل الأمر شورى فيهم . وقد فعل . وليس ما نقله الأستاذ من أقوال «معاوية» حجة .فمعاوية كان يريد بهذا القول التمهيد لاستخلاف ابنه يزيد . وهنا عنصر نفسى فات الأستاذ جبري ملاحظته ! واست أجزم الجزم القاطع برأيي هذا – كما فعل الأستاذ في مخطئة عمر ولكني أريد فقط ألا نسارع إلى الحكم القاطع ، وبين يدينا كفتا الميزان – على الأقل – تتأرجحان ! ! ! أما الملاحظة الثالثة فأظهر دليل عليها حكمه على « على بن أبي طالب » بأنه كان يجهل العناصر النفسية في صراعه مع معاوية . ذلك حين يقول : « إذا ثبتت الحاجة إلى معرفة الأمور النفسية في سياسة أحد من العال والخلفاء . فما ثبتت هذه الحاجة مقدار ثبوتها في سياسة « على بن أبي طالب » - كرم الله وجهه – ۲۵۶ - أو حين يقول : « لم تكن معرفته بالأمور النفسية على قدر صراحته ، فإذا لم تنجح سياسته النجاح كله ، فهذا سببه أنه لم يخطر على باله أن طلب الحقوق يستلزم كثيرا من حسن الموارد والمصادر . فليس كل صاحب حق في هذه الدنيا بواصل إلى حقه على مثل هذه السبيل ومن بعض كلامه : « لا يزيدني كثرة الناس حولى عزة ، ولا تفرقهم عنى وحشة ، لأني محق » . فهذا كلام رجل لا يبالي بأساليب السياسة في طلب الحق ولا يهتم بروح الجماهير » . أو حين يقول : صعب « وكما صعب عليه إدراك أسرار السياسة من حيث الكثرة والقلة فيها ، فقد عليه إدراك هذه الأسرار من حيث عمل المال في الجماعات . قام رجال من أصحابه فقالوا له : يا أمير المؤمنين ! أعط هؤلاء هذه الأموال ، وفضـل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالى ممن يتخوف خلافه على الناس وفراقه . فإذا استقام لك ما تريد عدت إلى أحسن مما كنت عليه من القسم . فقال على : أتأمرونى أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه من الاسلام ، فوالله لا أفعل ذلك ما لاح في السماء نجم ! » . ثم يعلق على ذلك فيقول : . « لم يدر نضر الله عظامه ، أن الناس عامة إنما همهم حطام هذه الدنيا ، فكان يعز عليه أن يعتقد أن الناس يدورون كيف دارت مصالحهم ومنافعهم ، فلم يعاملهم كما يجب أن يعاملهم رجل السياسة ، وإنما عاملهم كما يعاملهم رجـل الأخلاق ، فكان من عواقب هذه المعاملة شكواه منهم في كل كلام ، وفي كل خطبة » . - ٣٥٧ - « وعلى كل إذا قل نصيبه من معرفة نفوس البشر على حقائقها ، ومن قرنه السياسة بهذه المعرفة ، فلم يقل نصيبه من غير هذه الفضائل » وهكذا يحكم على على" - كرم الله وجهه – بأنه كان يجهل النفس البشرية لمجرد أنه لم يستخدم الوسائل السياسية التي استخدمها خصماه : « معاوية وعمرو بن العاص » وأبسط نظرة تكشف أن هناك فارقا كبيرا بين معرفة السلاح ، واستخدام هذا السلاح . فلم يكن الفرق بين على وبين خصميه أنه يجهل النفس البشرية وأنهما يعرفانها. إنما كان الفرق في حقيقته هو الرضى باستخدام كل سلاح ، برضاء الخلق العالى أو يأباه . فعلى" لم تكن تنقصه الخبرة بوسائل الغلبة ، ولابنوازع النفوس البشرية وأهوائها . ولكنه لم يكن يتدنى لاستخدام الأسلحة القذرة جميعا . وفي رده على من أشاروا عليه بتوزيع المال لرشوة الضمائر ما يكفى : « أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه من الإسلام . فوالله لا أفعل ذلك ما لاح في السماء نجم » ! فحين قالها لم يكن جاهلا « أن الناس عامة همهم حطام هذه الدنيا » . ولكنه كان مترفعا عن استخدام سلاح تستقذره نفسه الكريمة ويستخدمه خصمه بلا تخرج ! - . وكذلك رده على «ابن عباس» حينها استصوب إشارة «المغيرة بن شعبة» على على بأن يولى الزبير البصرة ويولى طلحة الكوفة ، يدل على هذا ، فلقد قال : « ولو كنت مستعملا أحدا لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام » فهو إذن لم يكن يجهل ما يضر وما ينفع ، ولكنه كان يأبى ويترفع ! وقد عاد الأستاذ جبرى ليقول : « أجل ، إنا نظلم عليا إذا جردناه من معرفة الناس وبواطنهم » بعد ما رأى أن هناك حوادث وأقوالا تقطع بفطنته إلى نوازع الناس وبواطنهم . واسكنه عقب على هذا بقوله : « إلا أنه كان قليل الحظ من ( م – ۱۷ ) <-YOX- الاستفادة من المعرفة النفسية في السياسة » دون أن يبين لماذا كان قليل الحظ الاستفادة . فقد يكون هذا عن عدم معرفة الوسائل ، أو لضعف عن استخدام هذه الوسائل . كما قد يكون للترفع عن الأسلحة الملونة والوسائل الهابطة . وهذا الذي كان ، وكان حقيقا بالبيان . هو إن معاوية وزميله عمراً لم يغلبا عليـا لأنهما أعرف منه بدخائل النفوس ، وأخبر منه بالتصرف النافع في الظرف المناسب . ولكن لأنهما طليقان في استخدام كل سلاح ، وهو مقيد بأخلاقه في اختيار وسائل الصراع . وحين يركن معاوية وزميله إلى الكذب والغش والخديعة والنفاق والرشوة وشراء الذمم لا يملك على أن يتدلى إلى هذا الدرك الأسفل . فلا عجب ينجحان ويفشل ، وإنه لفشل أشرف من كل نجاح . على أن غلبة معاوية على على ، كانت لأسباب أكبر من الرجلين : كانت غلبة جيل على جيل ، وعصر على عصر ، واتجاه على اتجاه . كان من الروح الإسلامي العالى قد أخذ ينحسر . وارتد الكثيرون من العرب إلى المنحدر الذي رفعهم منه الإسلام ، بينما بقى على في القمة لا يتبع هذا الانحسار ، ولا يرضى بأن يجرفه التيار . من هنا كانت هزيمته ، وهي هزيمة أشرف من كل انتصار . وهنا نصل إلى الملاحظة الرابعة . إذ نرى المؤلف بهش لروح النفعية في السياسة ، ويشيد بأصحابها ، ولا يعترف بغير النجاح العملي ، ولو على أشلاء المثل العليا والأخلاق . ونحن لا نتجني على الأستاذ شفيق جبرى بهذه الكلمات . فاسمعه يقول عن « خديعة المصاحف » : « وعلى كل حال فإن هذه الخديعة التي أوحى إلى صاحبها ٢٥٩ - بها علم النفس . كان فيها حقن دماء المسلمين ، وخديعة فيها منتهى حرب ، ومنتهى دماء ، إنما هي خديدة خير » ! ! ! من هذا التعليق ، ومن إشادته بمعاوية في كل موضع نحس شديد إنجابه بسياسة معاوية ، وقد عرفنا من قبل رأيه في ترفع على . ونحن نأخذ على المؤلف هذا الاتجاه الخطر . فما كانت خديعة المصاحف ولا سواها خديعة خير ، لأنها هزمت عليـا ونصرت معاوية. فلقد كان انتصار معاوية هو أكبر كارثة دهمت روح الإسلام التي لم تتمكن بعد من النفوس . ولو قد قدر لعلى أن ينتصر لكان انتصاره فوزا لروح الإسلام الحقيقية : الروح الخلقية العادلة المترفعة التي لا تستخدم الأسلحة القذرة في النضال . ولكن انهزام هذه الروح ولما يمض عليها نصف قرن كامل ، قد قضى عليها فلم تقم لها قائمة - إلا سنوات على يد عمر بن عبد العزيز – ثم انطفأ ذلك السراج ، وبقيت الكليات الظاهرية من روح الإسلام الحقيقية . لقد تكون رقعة الإسلام قد امتدت على يدى معاوية ومن جاء بعده . ولكن بعد روح الإسلام قد تقلصت ، وهزمت ، بل انطفأت فأن بهش إنسان لهزيمة الروح الإسلامية الحقيقية في مهدها ، وانطفاء شعلتها بقيام ذلك الملك العضود فتلك غلطة نفسية وخلقية لا شك فيها على أننا لسنا في حاجة يوما من الأيام أن ندعو الناس إلى خطة معاوية . فهي جزء من طبائع الناس عامة . إنما نحن في حاجة لأن ندعوهم إلى خطة على" ، فهي التي تحتاج إلى ارتفاع نفسي يجهد الكثير بن أن ينالوه . وإذا احتاج جيل لأن يدعى إلى خطة معاوية ، فلن يكون هو الجيل الحاضر على وجه العموم . فروح «مكيافيلي» التي سيطرت على معاوية قبل مكيافيلي بقرون، – ۳۹۰ – هي التي تسيطر على أهل هذا الجيل ، وهم أخبر بها من أن يدعوهم أحد إليها ! لأنها روح « النفعية » التي تظلل الأفراد والجماعات والأمم والحكومات ! و بعد فلست « شيعيا » لأقرر هذا الذي أقول . إنما أنا أنظر إلى المسألة . جانبها الروحي الخلقي ، ولن يحتاج الإنسان أن يكون شيعيا لينتصر للخلق الفاضل المترفع على « الوصولية » الهابطة المتدنية ، ولينتصر لعلى على معاوية وعمرو . إنما ذلك انتصار للترفع والنظافة والاستقامة . ويخطىء من يعتقد أن النجاح العملي هو أقصى ما يطلبه الفرد وما تطلبه الإنسانية . فذلك نجاح قصير العمر ينكشف بعد قليل ، والأستاذ شفيق جبرى يتفق معنا في هذه النتيجة النظرية – وإن لم يطبقها على أحكامه – فقد قال في نهاية الكتاب : ا « فإن السياسة التي لا خلق لها إنما هي سياسة لا تلبث أن تتلاشي كما يتلاشى الدخان في الفضاء . وما نجحت سياسة بعض رجال العرب في الماضي ، مثل الذين أتيت على ذكرهم إلا لأن أصحابها كانوا على خلق عظيم . وكانوا زيادة على ذلك عالمين بأسرار النفوس ، واقفين على حقائق الطبائع ، مطلعين على خفايا الأمزجة . « فاذا مجرد رجال السياسة من الأخلاق ومن معرفة نفوس الناس ، ضاعت سياستهم ، وضاع الناس ، وضاعت البلاد في وقت واحد » کلام صادق مسلم عند التعميم . نختلف عليه مع الأستاذ عند التطبيق «ولكل وجهة هو موليها » وله الشكر على كل حال أن أثار هذه الخواطر والتعليقات في هذا الموضوع القيم الدقيق .