كتب وشخصيات (1946)/وظيفة النقد

كتب وشخصيات (1946) المؤلف سيد قطب
وظيفة النقد


وظيفة النقد

النقد الأدبي فصل متخلف في المكتبة العربية ؛ ولكن هذا التخلف هو الوضع الطبيعي للأمور . فالنقد هو عملية الوزن والتقويم ؛ فلا بد أن تسبقه عملية الخلق والإنشاء. لا بد من وجود المادة الفنية التي يزها الناقد ويقومها.

ولقد وجد فصل النقد الأدبي في المكتبة العربية القديمة ؛ ولكنه – في غاليه - كان نقد ألفاظ وعبارات ، لا يكاد يجاوز هذه المنطقة . فاذا جاوزها تناول المعاني من حيث هي معان ؛ ولم يحاول - إلا نادرا – أن يحسب حسابا التنفس القائل وطبيعته ، كما أنه لم يحاول قط أن ينظر إلى خصائص الشخصية في الأدب ، من الناحية النفسية . فإذا نظر إلى هذه الناحية فإنما لينظر إلى التعبير من حيث هو الفاظ و تراکیب ومعان ، لا من حيث هو خاصة فكرية ، وسعة نفسية ، وطريقة شعورية .

وعلى أية حال فقد جمدت قوالب النقد حوالي القرن الرابع ، وأصبحت قواعد محفوظة ، وطرقا مرسومة . ولم يتعد النقد - في الغالب – النقل عن كتب النقد السابقة بلا زيادة تذكر. وبقي الأمر على هذه الحال نحو تسعة قرون !

ومنذ ثلاثين عاما فقط نهض الأدب العربي نهضته الحقيقية ، فهض فصل النقد كذلك . ولكن ماذا كان أمام النقد من المادة الفنية في هذا الأوان ؟

يكفي أن ننظر إلى المكتبة العربية في ذلك الحين فنراها خالية من أعمال:

العقاد وطه حسين والمازني وشگری و توفيق الحكيم ، وهيكل ، والزيات، واحمد أمين ، والرافعي ، وتيمور . ثم من شعراء الشباب و کتابهم وقصاصيهم وباحثيهم وهم كثيرون في . مصر والعالم العربي . لندرك خواء هذه المكتبة وعجزها عن إمداد الناقد الأدبى بمادة عمله الأولية . -- فلم يكن أمام النقاد في ذلك الحين إلا مجرد التعريف بالأدب العربي القديم ، وبالأدب الغربي الحديث . وكلاهما كان في منزلة واحدة من البعد عن التفات القراء في ذلك الزمان . وكلاهما كان التعريف به ضرورة لازمة للنهضة الأدبية التي عمرت المكتبة الحديثة في خلال الثلاثين عاما الأخيرة ... نعم وجد إذ ذاك نوع من النقد – واسكن عمله الأول كان هو الهدم الهدم القاسي المصحوب بكل ضحات الهدم وفرقعاته . فلقد كانت الضجة والفرقعة في ذلك الحين هي العمل المجدي الوحيد ، لإيقاظ الغافلين الساريين في مسارب الجمود القديم وكتاب « الديوان » للعقاد والمازني ؛ كان معول الهدم الذي يسبق البناء ولقد صدر بعده بقليل كتاب آخر يضرب على نغمته ، ولكن في هدوء ، ذلك کتاب « الغربال » لميخائيل نعيمة . هو ( - ولم تصدر خلال فترة طويلة كتب في نقد الأدب المعاصر ، اللهم إلا كتاب « على السفود » للرافعي ، وكتاب « رسائل النقد » لرمزى مفتاح ، وإنما نسميهما نقداً من باب التجوز، إذ أن مكانهما الحقيقي هو فصل« الهجاء » بكامل معناه ! ثم کتاب « شوقى » لأنطون باشا الجميل وهو استعراض لفنون القول عند شوق ولكن ظهرت مقالات متفرقة للعقاد ، والمازني ، وشكرى ، وطه حسين ، وأحمد أمين ، والزيات . ثم ظهر كتاب « شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي » . وهو دراسة وافية للمدارس الفنية للشعر في ذلك الجيل وأخبر أصدر كتاب « في الميزان الجديد» لمندور . وهو مجموعة مقالات في النقد السريع لبعض الأدباء والشعراء ، يحالفها التوفيق كثيراً حين تعرض للقواعد للمقاد 101 العامة ، وبجانبها الصواب كثيراً حين تعرض للنموذج والمثال . والنقد الحقيقي في اعتقادي هو صحة الحكم على المثال وفى العام الماضى ظهر كتاب « دفاع عن البلاغة » للزيات . وهو بحث عام في البلاغة ، لا يتعرض لنقد المعاصرين إلا قليلا وكذلك ظهر كتاب « فصول في النقد » لطه حسين ، وهو كما يدل اسمه عليه ، فصول متفرقة سبق نشرها مقالات في الصحف والمجلات . ن هذا الاستعراض السريع ندرك حداثة فصل النقد في المكتبة العربية ، وصغره عن سائر الفصول . ولكن هذا – كما قلت – هو الوضع الطبيعي للأمور www - وإنه ليخيل إلى أن المكتبة العربية الحديثة قد أصبحت تستحق « ناقداً » ففيها أعمال أدبية ناضجة ، وفيها مذاهب فنية متبلورة ، كما أن فيها محاولات واتجاهات تستحق الاهتمام . فالناقد خليق أن يجد له عملا في هـذه الظروف الجديدة ولكن ما هو عمل الناقد على وجه التحديد ؟ للناقد عملان أساسيان : عمله في الجو العام ، وعمله مع كل مؤلف على حدة . فأما عمله في الجو العام ، فهو التوجيه والتقويم ، ووضع الأسس ، وتشخيص المذاهب وتصوير أطوارها ومناهجها . وأما عمله مع كل مؤلف ، فهو وضع « مفتاحه » في أيدى قرائه الذين يقرأون أعماله متفرقة ، ولا يدركون الطبيعة الفنية التي تصدر عنها هذه الأعمال ؛ ولا يتعرفون إلى شخصيته المميزة الكامنة وراء كل عمل وهذا « المفتاح » ضروري للتعريف بالأديب . وإلا كان النقد عملا جزئيا . رفقاد ليس وراءه كبير طائل بالنسبة للقراء . ونقد كتاب دون تصوير « الشخصية » المال ام العام القائمة من ورائه ، إنما هو عمل ناقص لا يؤدى إلى شيء في هذا الباب . لا . بل إن هـذا « المفتاح » ضروري للمؤلف نفسه ، لا لقرائه وحدهم فكثير من المؤلفين لا يعرفون أنفسهم ، ولا يلتفتون إلى خصائصهم . وهم يستفيدون من الناقد الذي يضع المرأة أمام وجوههم ، ليتبينوا فيها ملامحهم الأصيلة 1- ) ... . وليس من وظيفة الناقد أن يغير طبيعة المؤلف . ولكن من وظيفته أن يعرف هذه الطبيعة ، ويبلورها ، ويقيس أعمال المؤلف بها ، ويهديه إليها إذا ضل أو أنحرف في فترة من فترات الضعف والكلال ! وكلما تناول الناقد أحد المؤلفين مرة ، يجب أن يصبح هذا المؤلف « معرفة » عند القراء . لا من حيث الشهرة والبروز . ولكن من حيث تميز الملامح ، ووضوح الخصائص . وكشف الطبيعة الفنية الكامنة وراء أعماله على وجه العموم على هذه الأسس سرت في هذه الفصول ، وأسميتها : «كتب وشخصيات » لأننى حاولت أن أصور « شخصية » كل أديب تناولت أحد «كتبه » بالنقد . فالكتاب وصاحبه في هذا الكتاب موصوفان مرسومان ممیزان ولم يكن من همي هنا أن أقوم بدراسات مطولة عن « الشخصيات » التي تناولتها بالحديث . فقد كان حسبي أن أضع « مفتاح » كل شخصية في أيدي القراء ومن أراد الدراسة المعاولة قام بها لنفسه ومعه هذا « المفتاح » ! ولم يكن من همى كذلك أن أضع أصولا وأسسا نظرية مطولة للنقد . فلقد آثرت أن أقلل من عرض هـذه الأسس النظرية بقدر الإمكان ، وأن أبقيها لمواضعها عند نقد « المثال » . إيمانا منى بأن النقد الحقيقي هو صحة الحكم على المثال... على أن القارئ سيجد هذه الأسس واضحة متفرقة في مواضعها . في فصول الشعر ، والقصة ، والأقصوصة ، والمسرحية ، والتراجم ، والبحوث الأدبية والاجتماعية ، عدا ما يجده منها في الفصول الأولى من الكتاب.

وكذلك لم أتتبع التسلسل التاريخي لنشأة كل فن من الفنون التي تناولتها هنا ، لأن « الكتاب » و « الشخصية » هما المقصودان . أما الدراسة التاريخية المسلسلة فلها كتاب آخر سيلى هذا الكتاب .

ولقد حرصت على أن أتناول هنا « شخصيات » من جميع الأنماط والمستويات والاتجاهات . ومن شتى البلاد الناطقة بالعربية . وإذا كانت الغالبية من المصريين فليس ذلك عن تشيع ؛ ولكنها ظروف النهضة الأدبية ، التي جعلت مصر هي السابقة في هذه الفترة من التاريخ .

وكذلك حرصت على أن أتناول «كتباً » في شتى فروع النتاج الأدبي في الشعر ، والنقد ، والقصة ، والأقصوصة ، والمسرحية ، والتراجم ، والصور الانتقادية ، والبحوث الأدبية ، والتاريخية ، والاجتماعية ، والفلسفية ، على قدر الإمكان... فإذا لا حظ القارئ ، أن جميع هذه الشخصيات والكتب الكثيرة تجمعها في الواقع مذاهب فنية أقل عددا ، وأنه كان يمكن دراستها على هذا الأساس العام .

فإنني أقر القارئ على الشطر الأول من هذه الملاحظة . ولكنى أقرر له أن الدراسة على هـذا الأساس العام لا تجزئ عن هذه الدراسة الشخصية ، وقد أعددت للمذاهب الفنية مع الدراسة التاريخية كتابا آخر هو « المذاهب الفنية المعاصرة »

وأرجو أن أوفق قريباً إلى إصداره . إن شاء الله

المؤلف