لم تبق بعدك في الخطوب جليلا

لَم تُبقِ بَعدَكَ في الخُطوبِ جَليلاً

​لَم تُبقِ بَعدَكَ في الخُطوبِ جَليلاً​ المؤلف شكيب أرسلان


لَم تُبقِ بَعدَكَ في الخُطوبِ جَليلاً
مُذ شِئتَ يا عَبدَ العَزيزِ رَحيلا
خَلَّفتَ لِلإِسلامِ أَيَّ مَناحَةٍ
طَمَت وَعَمَت عَرضَهُ وَالطولا
في كُلِّ أَرضٍ نَصَّ فيها مِنبَرٌ
يَتَذَكَّرونَ بُكرَةً وَأَصيلا
يَتَذَكَّرونَ مَواقِفاً مَشهورَةً
لَكَ لَيسَ تَترُكُ لِلمَراءِ سَبيلا
وَمَآثِراً في الخافِقينَ حَديثَها
وَمَعالِياً رَنَت حَلى وَحُجولا
ما العَبقَرِيَّةُ وَالَّتي يَصِفونَها
إِلّا حَياتَكَ مُثِّلَت تَمثيلا
الخاطِرُ الوَقّادُ أَن يَبدُرَ مَضى
في الحادِثاتِ أَسِنَّةً وَنُصولا
وَالمَنطِقُ الفَيّاضُ أَن يَهدِرَ غَداً
يَتَدَفَّقُ الإِبداعُ مِنهُ سُيولا
لا فَرقَ بَينَ السامِعيكَ وَقَد وَعوا
ما قُلتَهُ وَالشارِبينَ شُمولا
وَإِذا جَرَرتَ عَلى الطُروسِ يَراعَةً
باتَ الصَريرُ بِراحَتَيكَ صَليلا
تِلكَ اليَراعَةُ وَدَّ أَكبَرَ قائِدٍ
لَو أَنَّها في كَفِّهِ لِيَصولا
تَتجاوَبُ الآفاقُ عَن أَصدائِها
وَيَرتُلونَ فُصولَها تَرتيلا
هَيهاتَ يا عَبدَ العَزيزِ أَخو عَلى
مَن دَركِ شَأوِكَ يَبلُغُ المَأمولا
لَم يَعلَمُ الخَلقُ الكَريمُ وَلا الحَيا
مَن لَيسَ يَعلَمُ خَلقَكَ المَعسولا
لَم يَعلَم الآدابَ كَيفَ تَجَسَّمَت
بِشراً فَتى لَم يَصطَحِبكَ طَويلا
فَكَأَنَّ رَبَّكَ عِندَ خَلقِكَ قَد أبى
أَن لا تَكونَ مُكمِلاً تَكيملا
تَغدو أَرَقَّ مِنَ النَسيمِ فَإِن عَرا
خَطبَ غَدَوتَ الصارِمَ المَسلولا
في نِعمَةِ الحَمَلِ الوَديعِ فَإِن عَدا
عادَ تَرى أَسَداً يُفارِقُ غيلا
أَسَدٌ مَتى يَزأَر لِأُمَّةِ أَحمَدٍ
مَلَأَ الفُراتَ زَئيرَهُ وَالنيلا
شيحانِ لَم يُبصِر عَلَيها ذِلَّةً
إِلّا وَمَدَّ ذِراعَهُ المَفتولا
رَضِيَ المَصائِبَ وَالنَوائِبَ وَالنَوى
وَالحَبسُ حَتّى لا يَعيشَ ذَليلا
يَعفو الجَرائِرَ نَحوَهُ طَرّاً وَلا
يَعفو إِذا الإِسلامُ غُضَّ فَتيلا
جَعَلَ الجِهادَ نَصيبَهُ عَن قَومِهِ
فَقَضى الحَياةَ مُغَرَّباً مَجفولا
لا تَعظَمُ الأَخطارَ في أَبصارِهِ
ما دامَ يُبصِرُ حَقَّهُم مَأَكولا
يا راحِلاً أَبقى فَراغاً هائِلاً
هَيهاتَ تَملَأُهُ الرِجالُ فُحولا
آلَيتَ لا أَنفَكُّ عَهدَكَ راعِياً
حَتّى أُغَرَّبَ في التُرابِ مَهيلا
غادَرتَ لي قَلباً عَلَيكَ مُقَطَّعاً
دامي الصَميمِ وَمَدمَعاً مَوصولا
وَسَأَلتُ دَمعي أَن يُجيبَ جَوانِحي
فَاِنباعَ يَجري سائِلاً مَسئولا
أَنسى لَعَمري والِدَيَّ وَعَترَتي
إِن كُنتُ أَنسى فَضلَكَ المَسجولا
إِذ أَنتَ بَرٌّ بي كَما نَفسي وَإِذ
تَغدو عَليلاً أَن أَكونَ عَليلا
إِنّي أَحِنُّ إِلى اِجتِماعِ الشَملِ في الأُخ
رى كَأَنّا في الحَياةِ الأولى
رُبَّ الوَفاءِ وَصَفوَهُ الخِلانِ قُل
أَتَرَكتَ بَعدَكَ مَن أُعِدُّ خَليلا
يا صاحِبَ القِدحِ المُعَلّى في العُلى
أَتَرَكتَ مِثلَكَ يا سِراً فَيَجيلا
أَبقَت عَلَيكَ الحادِثاتُ كَلومُها
وَالسَيفُ يَكسَبُ بِالجَلادِ فَلولا
شَفَّت وُجودُكَ هِمَّةٌ جَبّارَةٌ
تَجِدِ الصُعودَ إِلى السِماكِ نُزولا
أَتَظُنُّ أَن تَمضي وَأَبقى وافِراً
هَيهاتَ قَد صارَ البَقاءُ قَليلا
يا أَيُّها المَولى بِحُبِّكَ قَد مَضى
عَبدُ العَزيزِ مُتَيَّماً مَتبولا
أَمطَرَ عَلى ذاكَ الثَرى غَيثَ الرِضى
وَاِجعَلهُ رَبِّ لَدى عِلاكَ نَزيلا
قَد كانَ فَعّالُ الجَميلِ حَياتَهُ
فَأَثبَهُ في دارِ المَعادِ جَميلا