مبسوط السرخسي - الجزء الثامن2

[ 100 ]

على أحد ولانه التزام له مالا بانتفاعه بملك نفسه وتحصيله والولاء لنفسه وهذا باطل قد بيناه في كتاب العتاق وان كان أدى المال رجع عنه لانه أدى بطريق الرشوة ولو أن امرأة تزوجها رجلا على أن يعتق اباها ففعل فالولاء للزوج ولها مهر مثلها بخلاف ما إذا تزوجها على أن يعتق أباها عنها فان التمليك منها يندرج هناك فيتقرر فيها رقبة الاب صداقا لها وهنا لا يندرج التمليك حين لم يكن في اللفظ عليه دليل فيبقى النكاح بغير تسمية المهر فلها مهر مثلها (قال) وكذلك الخلع يعنى أن تختلع من زوجها على أن تعتق أباه فالعتق عنها والاب مولى لها لانه عتق على ملكها ولم يبين أن الزوج هل يرجع عليها بشئ فمن أصحابنا من يقول يرجع عليها بما ساق إليها لانه شرط عليها منفعة الولاء لنفسه ولم ينل والاصح أنه لا يرجع عليها بشئ لان الولاء ليس بمال متقوم ولو خلعها على خمر لم يرجع عليها فهذا مثله ولو قال أعتق عبدك عنى على ألف درهم ففعل فهو حر على الآخر والمال لازم له والولاء له وفى هذا خلاف زفر رحمه الله تعالى وقد بيناه في باب الظهار وكذلك ان كان الآمر بذلك امرأة العبد فسد النكاح لانها قد ملكت الرقبة وذكر حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها حلفت أن لا تكلم عبد الله بن الزبير رضى الله تعالى عنه فشفع عليها حتى كلمته فأعتق عنها ابن الزبير رضى الله تعالى عنه خمسين رقبة في كفارة يمينها وبهذا استدل أبو يوسف رحمه الله تعالى فان البدل ليس بمذكور في الحديث ولكنا نقول كما لم يذكر البدل في الحديث فلم يذكر أنها امرأته بذلك وبالاتفاق بدون الامر لا يكون العتق عن المعتق عنه فانما يحمل هذا على انها كفرت يمينها وابن الزبير رحمه الله تعالى انما أعتق شكرا لله تعالى حيث كلمته وذكر عن عائشة رضى الله تعالى عنها انها أعتقت عن عبد الرحمن ابن أبى بكر رضى الله تعالى عنهم عبيدا من تلاده بعد موته وانما يحمل هذا على ان عبد الرحمن رحمه الله تعالى كان أوصى بعتقهم وجعل إليها ذلك والله أعلم بالصواب (باب الشهادة في الولاء) (قال) رضى الله عنه رجل مات وترك مالا ولا وارث له فادعى رجل انه وارثه بالولاء فشهد له شاهدان ان الميت مولاه ووارثه لا وارث له غيره لم تجز الشهادة حتى يفسر الولاء لان اسم المولى مشترك قد يكون بمعنى الناصر قال الله تعالى ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا

[ 101 ] وأن الكافرين لا مولى لهم وقد يكون بمعنى ابن العم قال الله تعالى وانى خفت الموالى من ورائي وقد يكون بالعتق وقد يكون بالموالاة فما لم يفسروا لم يتمكن القاضى من القضاء بشئ وكذا لو شهدا أن الميت مولى هذا مولى عتاقة لان اسم مولى العتاقة يتناول الاعلى ويتناول الاسفل فلا يدري القاضى بأى الامرين يقضى وأيهما كان أعتق صاحبه (فان قيل) هذا الاحتمال يزول بقولهما ووارثه فان الاسفل لا يرث من الاعلى وانما يرث الاعلى من الاسفل (قلنا) بهذا لا يزول الاحتمال فمن الناس من يرى توريث الاسفل من الاعلى وهو باطل عندنا ولعل الشاهدين اعتقدا ذلك وقصدا به التلبيس على القاضي يعلمهما انهما لو فسرا لم يقض القاضى له بالميراث ثم قد يكون مولى عتاقة له باعتاق منه وباعتاق من أبيه أو بعض أقاربه وبين الناس كلام في الارث بمثل هذا الولاء يختص به العصبة أم يكون بين جميع الورثة فلهذا لا يقضى بشهادتهما ما لم يفسرا فان شهدا ان هذا الحى أعتق هذا الميت وهو يملكه وهو وارثه لا يعلمون له وارثا سواه جازت الشهادة لانهم فسروا ما شهدوا به على وجه لم يبق فيه تهمة التلبيس ويستوى في هذا الشهادة على الشهادة وشهادة الرجال مع النساء لانهم يشهدون بسبب استحقاق المال فهو بمنزلة شهادتهم على النسب وان لم يشهدوا أنه وارثه لم يرث منه شيئا لان استحقاق الارث بولاء العتاقة مقيد بشرط وهو أن لا يكون للميت عصبة نسبا ولا يثبت ذلك الشرط الا بشهادتهم وقولهم لا نعلم له وارثا غيره ليس بشهادة انما الشهادة على ما يعلمون وكما انهم لا يعلمون فالقاضي لا يعلم فعرفنا أن هذا ليس هو المشهود به فلابد من أن يشهدوا أنه وارثه وكذلك ان شهدوا على عتق كان من ابيه وفسروا على وجه يثبت وراثته منه فان قالا لم ندرك اباه هذا المعتق ولكنا قد علمنا هذا لم نجز شهادتهما على هذا اما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى فلانهما لا يجوز ان الشهادة على الولاء بالتسامع وأما أبو يوسف رحمه الله تعالى يجوز ذلك ولكن إذا أطلقا الشهادة عند القاضى فاما إذا بينا أنهما لم يدركا وانما يشهدان بالتسامع فالقاضي لا يقبل ذلك وبيان هذا في كتاب الشهادات ولو أقام المدعى شاهدين أنه أعتق أم هذا الميت وانها ولدته بعد ذلك بمدة من عبد فلان وان أباه مات عبدا أو ماتت أمه ثم مات وهو وارثه فقد فسروا الامر على وجهه فان القاضى يقضى له بالميراث (قال) فان أقام رجل البينة أنه كان أعتق اباه قبل أن يموت وهو يملكه وانه وارثه فانه يقضى له بالميراث لانه اثبت

[ 102 ] سبب جر الولاء إليه وهو عتق الاب فتبين أن القاضي أخطأ في قضائه بالميراث لموالى الام وكذلك هذا في ولاء الموالاة إذا أثبت الثاني خطأ القاضى في القضاء به للاول فانه يبطل ما قضى به ويكون الثابت بالبينة كالثابت باقرار الخصم أو بالمعاينة ولو ادعى رجلان ولاء ميت بالعتق وأقام كل واحد منهما البينة جعلت ميراثه بينهما لاستوائهما في سبب الاستحاق ولانه لا يبعد ارث رجلين بالولاء من واحد كما لو أعتقا عبدا بينهما والبيات حجج فيجب العمل بها بحسب الامكان فان وقتت كل واحدة من البينتين وقتا وكان احدهما سابقا فهو أولى لانه أثبت الولاء لنفسه في وقت لا ينازعه الغير فيه فهو كالنسب إذا أقام رجلان البينة عليه واحدهما أسبق تاريخا ولانه بعدما ثبت العتق من الاول في الوقت الذى أرخ شهوده لا يتصور ملك الثاني فيه حتى يعتقه فتبين بشهادة الذين أرخوا تاريخا سابقا بطلان شهادة الفريق الثاني وان كان ذلك في ولاء الموالاة فصاحب العقد الآخر أولى لانه بعد عقد الموالاة مع الاول يتحقق منه العقد مع الثاني ويكون ذلك نقضا للولاء الاول فشهود الآخر أثبتوا بشهادتهم ما يفسخ الولاء الاول فالقضاء بشهادتهم أولى الا أن يشهد شهود صاحب الوقت الاول انه كان عقل عنه فحينئذ قد تأكد ولاؤه ولا ينتقض بالعقد مع الآخر بل يبطل الثاني ويبقي الاول بحاله فلهذا كان الاول أولى وان أقام رجل البينة أنه أعتقه وهو يملكه وقضى له القاضى بولائه وميراثه ثم أقام آخر البينة على مثل ذلك لم يقبل القاضى ذلك كما في النسب إذا ترجح أحد المدعيين بتقدم القضاء من القاضى ببينته لم تقبل البينة من الآخر بعد ذلك وهذا لان القاضى يعلم كذب أحد الفريقين وقد تأكدت شهادة الفريق الاول بانضمام القضاء إليها فانما يحال بالكذب على شهادة الفريق الثاني الا أن يشهدوا أنه كان اشتراه من الاول قبل أن يعتقه ثم أعتقه وهو يملكه فحينئذ يقضى القاضى له بالميراث ويبطل قضاؤه للاول لانهم أثبتوا سبب كونه مخطئا في القضاء الاول وهو أن الاول لم يكن مالكا حين أعتقه لان الثاني كان اشتراه منه قبل ذلك رجل مات وأدعى رجل ان أباه أعتقه وهو يملكه وأنه لا وراث لابيه ولا لهذا الميت غيره وجاء بابنى أخيه فشهدا على ذلك قال لم تجز شهادتهما لانهما يشهدان لجدهما على ما بينا ان الولاء للمعتق والارث به كان للمعتق بطريق العصوبة على ان يخلفه في ذلك أقرب عصبته وشهادة النافلة للجد لا تقبل وكذلك شهادة ابني المعتق بذلك لا تجوز لانهما يشهدان لابيهما وإذا

[ 103 ] ادعى رجل ولاء رجل وأقام البينة انه أعتقه وهو يملكه وأقام الآخر البينة ان هذا حر الاصل أسلم على يديه ووالاه والغلام يدعى انه حر الاصل يقضى به للذى والاه دون الذى أعتقه لان حرية الاصل تثبت له بالبينة وحرية الاصل لا ناقض لها فبعد ثبوتها تندفع بينة العتق ضرورة لان العتق ينبنى على الملك وقد انتفى الملك بثبوت حرية الاصل ولهذا قضى بولائه للذى والاه وكذلك لو كان ميتا عن تركة لان إحدى البينتين تقوم على رقه والاخرى على حريته فالمثبت للحرية أولى ولان صاحب الموالاة أثبت ببينته أنه عاقده عقد الولاء وذلك اقرار منه بأنه حر ولا ولاء عليه فثبوت هذا الاقرار بالبينة كثبوته بالمعاينة أن لو كان حيا أو ادعى ذلك فان كان حيا فأقر أنه مولى عتاقة لهذا أجزت بينة العتاقة وكان هذا نقضا من الغلام للموالاة لو كان والى هذا الآخر لان العبد مكذب للذين شهدوا بحريته في الاصل ومدعى الموالاة خرج من أن يكون خصما في اثبات ذلك لان العبد باقراره بولاء العتاقة على نفسه يصير نافضا لولاء الموالاة لما بينهما من المنافاة وهو متمكن من نقض ولائه ما لم يعقل عنه فإذا لم يبق خصم يدعى حرية الاصل له صح اقراره بالملك وولاء العتاقة ومن أصحابنا من يقول هذا قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى لان من أصله أن البينة على حرية العبد لا تقبل من غير الدعوى وعندهما تقبل فيثبت له حرية الاصل بحجة حكمية وذلك لا يحتمل النقض باقراره فينبغي أن لا يثبت عليه ولاء العتاقة عندهما والاصح ان هذا قولهم جميعا لان بينة العتاقة تعارض بينة حرية الاصل فيما لاجله تقبل البينة عندهما وهو اثبات حقوق الشرع عليه ثم تترجح بخصم يدعيها أو لما انتفي ولاء الموالاة فهذا حر لا ولاء عليه وقد أقر بأنه مولى هذا الذى يدعى ولاء العتق عليه فيكون اقراره صحيحا لانه يقر بما هو من خالص حقه كما لو أقر بالنسب لانسان ولا نسب له رجل مات عن بنين وبنات فادعى رجل أن أباه أعتقه وهو يملكه وشهد ابنا الميت على ذلك وادعى آخر أن أباه أعتقه فأقرت بذلك بنت الميت فالاقرار باطل والشهادة جائزة لان الابنين يشهدان على أبيهما بالولاء ولا تهمة في شهادة الولد على والده ثم الاقرار لا يعارض البينة لان الاقرار لا يعد و المقر والشهادة حجة في حق الناس كافة فلابد من أن يقضى القاضى بأن الميت معتق أب المدعى ومن ضرورة هذا القضاء تكذيب الابنة فيما أقرت به فسقط اعتبار اقرارها وهو بمنزلة ما لو مات عن ألف درهم وابنين وابنة وادعى رجل دينا ألف درهم على الميت وشهد له ابنا الميت وادعى آخر دينا

[ 104 ] ألف درهم وأقرت ابنة الميت بذلك فانه لا يلتفت إلى اقرارها ويجعل المال كله للذى أثبت دينه بالبينة ولو شهد للآخر ابن له وابنتان ولم يوقتوا وقتا كان الولاء بينهما نصفين للمساواة بين الحجتين فان شهادة النساء مع الرجال في الولاء مثل شهادة الرجال ولا ترجيح من حيث التاريخ في احدى البينتين فلهذا كان الولاء بينهما نصفين ولو جاء رجل من الموالى فادعى على عربي أنه مولاه وان أباه أعتق أباه وجاء باخويه لابيه يشهدان بذلك والعربي ينكره لم تقبل شهادتهما لان في الحقيقة هذا منهم دعوى فان المدعى مع اخويه في هذا الولاء سواء لانهما يشهدان لابيهما مالا فان الولاء كالنسب تتحقق الدعوى فيه من الجانبين فإذا كان العربي منكرا كان المدعى هو الابن الذى يدعى الولاء بطريق الخلافة عن أبيه فيجعل كان الاب حى يدعيه وشهادة الابنين لابيهما فيما يدعيه لا تكون مقبولة وان ادعى العربي ذلك وأنكره المولى جازت الشهادة لان انكار الابن كانكار أبيه لو كان حيا فانهما يشهدان على أبيهما بالولاء للعربي ولا تهمة في هذه الشهادة وان ادعى رجل ولاء رجل فجاء بشاهدين فشهد احدهما أن أباه أعتقه في مرضه ولا وارث له غيره وشهد الآخر ان أباه أعتقه عن دبر موته وهو يملكه فالشهادة باطلة لا ختلافهما في المشهود به لفظا ومعنى فان التدبير غير العتق المنجز في المرض ومثل هذا لو شهد أحدهما ان أباه قد علق عتقه بدخول الدار وقد دخل والآخر أنه قد علق عتقه بكلام فلان وقد فعل أو شهد أحدهما ان أباه كاتبه واستوفى البدل والآخر أنه أعتقه بمال فان الكتابة غير العتق بمال ألا ترى انه يملك الكتابة من لا يملك العتق فكان هذا اختلافا في المشهود به لفظا ومعنى بخلاف ما لو اختلفا في الزمان والمكان حيث تقبل شهادتهما لان العتق قول ولا يختلف باختلاف الزمان والمكان إذ القول يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الاول ولو مات رجل فأخذ رجل ماله وادعى أنه وارثه لم يؤخذ منه لانه لا منازع له في ذلك وخبر المخبر محمول على الصدق في حقه إذا لم يكن هناك من يعارضه ولان المال في يده في الحال وهو يزعم أنه ملكه فالقول قوله في ذلك فان خاصمه فيه انسان سألته البينة لانه يدعى استحقاق اليد عليه في هذا المال ولا يثبت الاستحقاق الا ببينة فما لم تقم البينة على سبب استحقاقه لا يؤخذ المال من يد ذى اليد فان ادعى رجل أنه أعتق الميت وهو يملكه وأنه لا وارث له غيره وأقام الذى في يديه المال البينة على مثل ذلك قضيت بالولاء والميراث بينهما نصفين لان المقصود بهذه البينه اثبات السبب وهو الولاء

[ 105 ] وانما قامت بينة كل واحد منهما على الميت وقد استوت البينتان في ذلك فيقضى بينهما بالولاء ثم استحقاق المال يترتب على ذلك (فان قيل) لا كذلك بل المقصود اثبات استحقاق المال واحدهما فيها صاحب اليد والآخر خارج فاما ان يجعل هذا كبينة ذى اليد والخارج على الملك المطلق فيقضى للخارج أو يجعل كما لو أدعيا تلقى الملك من واحد وأقاما البينة فتكون بينة ذى اليد أولى (قلنا) لا كذلك بل الولاء حق مقصود يستقيم اثباته بالبينة وان لم يكن هناك مال وانما ينظر إلى اقامتهما البينة على الولاء أولا وهما في ذلك سواء ثم استحقاق الميراث ينبنى على ذلك وليس هذا نظير ما لو ادعيا تلقي الملك من واحد بالشراء لان السبب هناك غير مقصود حتى لا يمكن اثباته بدون الحكم وهو الملك ولان السبب هناك يتأكد بالقبض فذو اليد يثبت شراء متأكدا بالقبض فلهذا كانت بينته أولى وهنا الولاء متأكد بنفسه ولا تأثير لليد على المال في تأكيد السبب فلهذا قضى بينهما فان أقام مسلم شاهدين مسلمين انه أعتقه وهو يملكه وانه مات وهو مسلم لا وارث له غيره وأقام ذو اليد الذمي شاهدين مسلمين أنه أعتقه وهو يملكه وانه مات كافرا لا وارث له غيره فللمسلم نصف الميراث ونصف الميراث لاقرب الناس إلى الذمي من المسلمين فان لم يكن له منهم قرابة جعلته لبيت المال لما بينا أن المقصود اثبات الولاء وقد استوت الحجتان في ذلك فان شهود الذمي مسلمون وهو حجة على المسلم كشهود المسلم فيثبت الولاء بينهما نصفين ثم احدى البينتين توجب كفره عند الموت والاخرى توجب اسلامه عند الموت والذى يثبت اسلامه أولى وإذا ثبت أنه مات مسلما فالمسلم يرثه المسلم دون الكافر ولكن الارث بحسب السبب وللمسلم نصف ولاية فلا يرث به الا نصف الميراث ونصف الولاء للذمي وهو ليس بأهل أن يرثه فيجعل كالميت ويكون هذا النصف لاقرب عصبة له من المسلمين فإذا لم يوجد ذلك فهو لبيت المال بمنزلة ما لو مات الذمي ولا وارث له فالولاء في هذا مخالف للنسب فان النسب لا يتجزي بحال فيتكامل السبب في حق كل واحد منهما فإذا لم يكن احدهما ممن يرثه فللآخر جميع المال لتكامل السبب في حقه فاما الولاء يحتمل التجزى حتى لو أعتق رجلان عبدا كان لكل واحد منهما نصف ولائه فلهذا لا يرث المسلم الا نصف الميراث فان كان شهود الذمي نصارى لم تجز شهادتهم على المسلم لان اسلام الميت يثبت بشهادة الشهود المسلمين والحجة في الولاء تقوم عليه وشهادة النق صارى ليست بحجة عليه ولان المسلم اثبت

[ 106 ] دعواه بما هو حجة على خصمه والذمى اثبت دعواه بما ليس بحجة على خصمه فلا تتحقق المعارضة بينهما ولكن يقضي بولائه للمسلم وبجميع الميراث له فان وقت كل واحدة من البينتين وقتا في العتق وهو حى والشهود كلهم مسلمون فصاحب الوقت الاول أحق لان صاحب الوقت الاول أثبت عتقه من حين أرخ شهوده فلا تصور للعتق من الآخر بعد ذلك ومتى كانت أحد البينتين طاعنة في الاخرى دافعة لها فالعمل بها أولى ذمى في يديه عبد أعتقه فأقام مسلم شاهدين مسلمين أنه عبده وأقام الذمي شاهدين مسلمين أنه أعتقه وهو يملكه أمضيت العتق والولاء للذمي لان في بينته اثبات العتق وفى بينة المسلم اثبات الملك وكل واحد منهما حجة على الخصم فيترجح بينة العتق كما لو كان كل واحد من المدعيين مسلما وإذا كان شهود الذمي كفارا قضيت به للمسلم لان بينته في اثبات الملك حجة على خصمه وبينة الذمي في اثبات العتق ليس بحجة على خصمه فكأنها لم تقم في حقه وان كان المسلم أقام شاهدين مسلمين انه عبده دبره أو كانت جارية وأقام البينة انه استولدها وأقام الذمي شاهدين مسلمين على الملك والعتق فبينة الذمي أولى لان المسلم يثبت ببينته حق العتق والذمى حقيقة العتق وحق العتق لا يعارض حقيقة العتق ولو قبلنا بينة المسلم وطأها بالملك بعد ما قامت البينة على حريتها وذلك قبيح ولهذا كانت بينة الذمي أولى ولو كانت أمة في يدعى ذمى قد ولدت له ولدا فادعى رجل أنها أمته غصبها هذا منه وأقام البينة على ذلك وأقام ذو اليد البينة أنها أمته ولدت هذا منه في ملكه قضيت بها وبولدها للمدعى لان بينته طاعنة في بينة ذى اليد دافعة لها فانهم انما شهدوا بالملك لذي اليد باعتبار يده إذ لا طريق لمعرفة الملك حقيقة سوى اليد وقد أثبتت بينة المدعى أن يده كانت يد غصب من جهته لا يد ملك فلهذا كانت بينة المدعى أولى وإذا قضى بالملك للمدعى قضى له بالولد أيضا لانه جزء منها وولادتها في يدى الآخر بعد ما ثبت أنه ليس بمالك لها لا يوجب أمية الولد لها وكذلك لو ادعى المدعى أنها أمته أجرها من ذى اليد أو أعارها منه أو وهبها منه وسلمها إليه لان بهذه الاسباب يثبت أن وصولها إلى يده كان من جهته وان يده فيها ليست يد ملك فهذا وفصل الغصب سواء ولو كان المدعى أقام البينة أنها أمته ولدت في ملكه قضيت بها لذى اليد لانه ليس في بينة المدعى هنا ما يدفع بينة ذى اليد لان ولادتها في ملكه لا ينفي ملك ذى اليد بعد ذلك فيبقي الترجيح لذى اليد من حيث أنه يثبت الحرية للولد وحق أمية

[ 107 ] الولد لها وكذلك لو ادعى ذو اليد أنها أمته أعتقها واقام المدعى البينة أنها أمته ولدت في ملكه فبينة المعتق أولى لان فيها اثبات حريتها ولا يجوز أن توطأ بالملك بعدما قامت البينة على حريتها ولو شهد شهود كل واحد منهما مع ذلك بالغصب على الآخر كان شهود العتق أيضا أولى لان البينتين تعارضتا في أن كل واحدة منهما دافعة للاخرى طاعنة فيها وللمعارضة لا تندفع واحدة منهما بالاخرى ثم في بينة ذى اليد زيادة اثبات الحرية لها واستحقاق الولاء عليها وهذا لان الولاء أقوى من الملك لانه لا يحتمل النقض بعد ثبوته وإذا كان في إحدى البينتين اثبات حق قوى ليس ذلك في الاخرى تترجح هذه البينة والله أعلم بالصواب (باب ولاء المكاتب والصبى) (قال) رضى الله تعالى عنه وإذا كاتب المسلم عبدا كافرا ثم ان المكاتب كاتب أمة مسلمة ثم ادى الاول فعتق فولاؤه لمولاه وان كان كافرا لان الولاء كالنسب ونسب الكافر قد يكون ثابتا من المسلم فكذلك يثبت الولاء للمسلم على الكافر إذا تقرر سببه ولان الولاء أثر من آثار الملك وأصل الملك يثبت للمسلم على الكافر فكذلك أثره ولكنه لا يرثه لكونه مخالفا له في الملة وشرط الارث الموافقة في الملة ولا يعقل عنه جنايته لان عقل الجناية باعتبار النصرة والمسلم لا ينصر الكافر فإذا أدت الامة فعتقت فولاؤها للمكاتب الكافر لانها عتقت من جهته على ملكه وهو من أهل أن يثبت الولاء له لكونه حرا وكما يثبت الملك للكافر على المسلم فكذلك الولاء أو يعتبر بالنسب ونسب المسلم قد يكون ثابتا من الكافر فان ماتت فميراثها للمولى المسلم وان جنت فعقل جنايتها على عاقلة المولى المسلم لان مولاها وهو المكاتب الكافر ليس من أهل أن يرثها ولا أن يعقل جنايتها فيجعل كالميت وعند الموت معتقه يقوم مقامه في ولاء معتقه في حكم الارث وعقل الجناية فهذا مثله (فان قيل) فأى فائدة في اثبات الولاء للمسلم على الكافر وللكافر على المسلم إذا كان لا يرثه ولا يعقل جنايته بعد ذلك (قلنا) أما فائدته النسبة إليها بالولاء كالنسب مع أن الكافر قد يسلم فيرثه ويعقل جنايته بعد ذلك وبعد الاسلام قد ظهرت من الوجه الذي قلنا أن المولى المسلم معتقه فيرثه ويعقل جنايتها عاقلته رجل باع مكاتبا فبيعه باطل لانه استحق نفسه بالكتابة وفي بيق عه ابطل هذا

[ 108 ] الحق الثابت له وقد صار بمنزلة الحر يدا فلا يقدر المولى على تسليمه بحكم البيع ومالية رقبته صار كالتاوى لان حق المولى في بدل الكتابة دون مالية الرقبة فان أعتقه المشترى بعد القبض فقبضه باطل وهو مكاتب على حاله لانه مع بقاء الكتابة ليس بمحل للبيع كالحر والبيع لا ينفذ بدون المحل والملك لا يثبت بالقبض إذا لم يكن العقد منعقدا فلهذا كان عتق المشترى باطلا وان قال المكاتب قد عجزت وكسر المكاتبة فباعه المولى فبيعه جائز لان المكاتب يملك فسخ الكتابة بأن يعجز نفسه فانما صادفه البيع من المولى وهو قن وكذلك لو باع المكاتب برضاه يجوز في ظاهر الرواية لما روينا من حديث بريرة ولانهما قصدا تصحيح البيع ولا وجه لذلك الا بتقديم فسخ الكتابة فيتقدم فسخ الكتابة ليصح البيع وقد بينا ما في هذا الفصل من اختلاف الروايات فيما أمليناه من شرح الجامع رجل كاتب عبده على ألف وهي حالة فكاتب العبد أمة على الفين ثم وكل العبد مولاه بقبض الالفين منها على ان الفا منها قضاء له من مكاتبته ففعل فان ولاء الامة للمولى لان المولى وكيل عبده في قبض الالفين منها فتعتق هي بالاداء إليه ثم المولى يقبض احدى الالفين لنفسه بعد ما يقبضه للمكاتب فتبين بهذا ان عتقها يسبق عتق المكاتب ولو أدت إلى المكاتب فعتقت قبل عتق المكاتب كان ولاؤها للمولى لان المكاتب ليس من أهل ان يثبت له الولاء فيخلفه مولاه في ذلك فهذا مثله ولانا نعلم ان المكاتب لم يعتق قبلها وما لم يعتق قبلها لا يكون هو أهلا لولائها وليس للعبد المأذون له أن يعتق وان أذن له مولاه فيه إذا كان عليه دين لان كسبه حق غرمائه وكما لا يكون للمولى أن يعتق كسبه إذا كان عليه دين فكذلك لا يكون له أن يأذن للعبد فيه أو ينيبه مناب نفسه وان فعل والدين على العبد يحبط (يحيط) بكسبه ورقبته ففى نفوذه اختلاف بين أبى حنيفة وصاحبيه رحمهم الله تعالى بناء على أن المولى هل يملك كسب العبد المديون وهي مسألة المأذون وان لم يكن عليه دين جاز ذلك منه باذن المولى لان المولى يملك مباشرته بنفسه فان كسبه خالص ما كه (ملكه) فيملك ان ينيب العبد مناب نفسه وكذلك الكتابة فان كاتب عبدا باذن المولى ثم أعتقه مولاه ثم أدى المكاتب المكاتبة عتق وولاؤه للمولى دون العبد المعتق لان العبد كان نائبا عن المولى في عقد الكتابة كالوكيل الا ترى ان المولى هو الذى يقبض بدل الكتابة منه فانما عتق عند الاداء على ملك المولى ولهذا كان الولاء له وهذا بخلاف مكاتب المكاتب إذا أدي بعد ما أعتق الاول لان الثاني مكاتب من جهة الاول باعتبار حق الملك

[ 109 ] الذى له في كسبه وقد انقلب ذلك بالعتق حقيقة ملك وكان حق قبض البدل له فانما عتق على ملك الاول فكان له ولاؤه وليس للعبد في كسبه ملك ولا حق وبعد عتقه يكون كسبه الذى اكتسبه في حالة الرق لمولاه وللصبي أن يكاتب عبده باذن أبيه أو وصيه وليس له أن يعتقه على مال لان وليه يملك مباشرة الكتابة في عبده دون العتق بمال فكذلك يصح اذنه في الكتابة دون العتق بمال وإذا أدى المكاتب إليه البدل فولاؤه للصبى لانه عتق على ملكه وإذا ثبت أن الصبى من أهل ولاء العتق فكذلك ولاء الموالاة المصبى ان يقبل ولاء من يواليه باذن وصيه أو أبيه ولهما أن يقبلا عليه هذا الولاء لما بينا أن عقد الولاء يتردد بين المنفعة والمضرة ومعنى المنفعة فيه أظهر ومثل هذا العقد يملكه الوصي على الصبى ويصح من الصبي باذن المولى لانه يتأيد رأيه بانضمام رأى الولى إليه كما في التجارات وان أسلم صبي على يدى رجل ووالاه لم يجز عقد الموالاة لان حق الاستبداد باعتبار ما ظهر له من العقل والتمييز يثبت فيما يتمحض منفعة له دون ما يتردد بين المنفعة والمضرة والاسلام يتمحض منفعة له فيصح منه وأما عقد الولاء متردد بين المنفعة والمضرة فلا يصح منه مباشرته ما لم ينضم رأى وليه إلى رأيه وكذلك ان فعله باذن وليه الكافر لانه لما حكم باسلامه فلا ولاية للاب الكافر عليه بل هو كاجنبي آخر منه في مباشره هذا العقد عليه فكذلك في الاذن له فيه وان أسلم رجل على يدى رجل على ان يكون ولاؤه لما في بطن امرأته أو على ان يكون لاول ولد تلده لم يجز له ذلك لانه لا ولاية لاحد على ما في البطن في ايجاب العقد ولا في قبوله وبدونه لا يثبت عقد الولاء فلهذا كان الحكم في الموجود في البطن هذا ففي المعدوم أصلا أولى رجل أعطى رجلا ألف درهم على ان يعتق عبده عن ابن المعطى وهو صغير ففعل فالعتق عن المولى الذى أعتق ولا يكون عن الصبى لان الصبي ليس له ولاية العتق في ملكه ولا لوليه ذلك عليه ولا يمكن اضمار التمليك من الصبى في هذا الالتماس لان الاضمار لتصحيح ما صرح به ان أعتقه فيكون العتق عنه ويرد الالف ان كان قبض فإذا لم يكن في الاضمار تصحيح ما صرح به فلا معنى للاشتغال به ولا يمكن اضمار التمليك من المعطى للمال في كلامه أيضا لانه ما التمس اعتاقه عن نفسه والتمليك في ضمن هذا الالتماس فظهر أن العبد باق على ملك مولاه إلى أن أعتقه فيكون العتق عنه ويرد الالف ان كان قبض وكذلك ان كان الآمر بذلك مكاتبا أو عبدا تاجرا بأن قال لحر أعتق عبدك عني على ألف درهم لانه ليس في اضمار التمليك هنا تصحيح

[ 110 ] ما صرح به فان المكاتب والعبد ليس لهما أهلية العتق في كسبهما وان كان العبد للصبى فقال رجل لابيه أو وصيه أعتقه عني على ألف درهم ففعله الاب جاز لانه يصير مملكا العبد من الملتمس بالالف ثم نائبا عنه في العتق وللولي حق هذا التصرف في مال الصبى كالبيع وكذلك لو قال هذا حر لمكاتب أو عبد مأذون له عبد فقال أعتقه عنى على ألف درهم لانه يصير مملكا العبد منه بألف وذلك صحيح من المكاتب والمأذون في كسبهما ثم ينوب عن الملتمس في العتق وذلك صحيح منهما أيضا وان قال ذلك مكاتب لمكاتب لم يجز ولم يعتق لان اضمار التمليك انما يجوز لتصحيح ما صرح به والمكاتب الملتمس ليس بأهل للعتق فلما ثبت التمليك منه بهذا الالتماس بقى المأمور معتقا ملك نفسه وهو مكاتب فيكون الاعتاق باطلا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب (باب الولاء الموقوف) (قال) رضى الله تعالى عنه رجل اشترى من رجل عبدا ثم شهد أن البائع كان أعتقه قبل أن يبيعه فهو حر وولاؤه موقوف إذا جحد ذلك البائع لان المشترى مالك له في الظاهر وقد أقر بحريته بعتق نفذ فيه ممن يملكه ولو أنشأ فيه عتقا نفذ منه فكذلك إذا أقر بحريته بسبب صحيح ثم كل واحد منهما ينفي الولاء عن نفسه فالبائع يقول المشترى كاذب وانما عتق عليه باقراره والمشترى يقول عتق على البائع وولاؤه له وليس لواحد منهما ولاية الزام صاحبه الولاء فبقي موقوفا فان صدقه البائع بعد ذلك لزمه الولاء ورد الثمن لانه أقر ببطلان البيع وانه كان حرا من جهته حين باعه وكذلك ان صدقه ورثته بعد موته اما في حق رد الثمن فلانه أوجب من التركة والتركة حقهم وأما في حق الولاء ففى القياس لا يعتبر تصديق الورثة لانهم يلزمون الميت ولاء قد أنكره وليس لهم عليه ولاية الزام الولاء ألا ترى أنهم لو أعتقوا عنه عبدا لم يلزمه ولاؤه فكذلك هذا ولكنه استحسن فقال ورثته يخلفونه بعد موته ويقومون مقامه في حقوقه فيكون تصديقهم كتصديقه في حياته ألا ترى أن في النسب يجعل اقرار جميع الورثة إذا كانوا عددا كاقرار المورث فكذلك في الولاء وان كان اقر بالتدبير فانكره البائع فهو موقوف لا يخدم واحدا منهما لان كل واحد منهما تبرأ عن خدمته ولكنه يكتسب فينفق على نفسه فإذا مات البائع عتق لان المشترى مقر أنه

[ 111 ] مدبر البائع قد عتق بموته والبائع كان مقرا أنه ملك المشترى وان اقراره فيه نافذ فيحكم بعتقه وولاؤه موقوف فان صدقه الورثة لزم الولاء البائع استحسانا لما قلنا أمة بين رجلين شهد كل واحد منهما أنها ولدت من صاحبه وصاحبه ينكر فانها تبقى موقوفة لا تخدم واحدا منهما لان كل واحد منهما يتبرأ عنها ويزعم انها أم ولد صاحبه وان حقه في ضمان نصف القيمة على صاحبه فتبقي موقوفة حتى يموت أحدهما فإذا مات أحدهما عتقت لان الحى منهما مقر بانها كانت أم ولد للميت وقد عتقت بموته والميت منهما كان مقرا بانها أم ولد الحى وان اقراره فيها نافذ فيعتق باتفاقهما وولاؤها موقوف لان كل واحد منهما ينفيه عن نفسه أمة لرجل معروفة انها له ولدت من آخر فقال رب الامة بعتكها بألف وقال الآخر بل زوجتنيها فالولد حر لان في زعم والده أنه ملك لمولى الامة فانه استولدها بالنكاح ومولى الامة يزعم أنه حر لانه باعها من أب الولد وانما استولد ملك نفسه فيثبت حرية الولد لاتفاقهما على ذلك عند اقرار مولى الامة به وولاؤه موقوف لان مولى الامة ينفي ولاءه عن نفسه ويقول هو حر الاصل علق في ملك أبيه والجارية موقوفة بمنزلة أم الولد لا يطأها واحد منهما ولا يستخدمها ولا يستغلها لان أب الولد يتبرأ عنها لانكاره الشراء ويزعم انها أمة لمولاها ومولاها يقول هي أم ولد لاب الولد لانى قد بعتها منه فتبقي موقوفة بمنزلة أم الولد لان مولاها أقر بذلك وأب الولد مقر بأن اقرار مولاها فيها نافذ فإذا مات أب الولد عتقت لان مولاها مقر بأنها عتقت بعد موت أب الولد لكونها أم ولد وأب الولد كان مقرا بأن اقرار مولاها فيها نافذ فلهذا عتقت وولاؤها موقوف لان كل واحد منهما ينفيه عن نفسه ويأخذ البائع العقر من أب الولد قصاصا من الثمن لتصادقهما على وجوب هذا القدر من المال له عليه فان أب الولد يزعم أنه دخل بها بالنكاح فعليه صداقها لمولاها ومولاها يزعم أنه باعها منه فعليه الثمن وبعد ما تصادقا على وجوب المال في ذمته لا يعتبر اختلافهما في السبب ولكن يؤمر من عليه بأن يؤدى ذلك من الوجه الذى يدعيه ويقبضه الآخر من الوجه الذى يدعى أنه واجب له رجل أقر أن أباه أعتق عبده في صحته أو في مرضه ولا وارث له سواه فولاؤه موقوف في القياس ولا يصدق على الاب لانه أقر بما لا يملك انشاءه فانه لا يملك أن يلزم ولاءه أباه بانشاء العتق فلا يصدق في الاقرار به لكونه متهما في حق أبيه ولان الولاء كالنسب وباقرار الوارث

[ 112 ] إذا كان واحدا لا يثبت النسب عن أبيه فكذلك لا يثبت الولاء له ولكنه استحسن وألزم ولاءه الاب إذا كان عصبتهما واحدا وقومهما من حى واحد لان الولاء أثر الملك واقراره في أصل الملك بعد موت الاب كاقرار الاب له في حياته فكذلك في أثره ثم الارث بحكم ذلك الولاء انما يثبت للابن المقر كما لو أعتقه بنفسه وعقد الجناية يكون على قومه فإذا كانا من حى واحد فهو غير متهم في حق قومه لانه لو أنشأ عتقه بنفسه يلزمهم عقل جنايته فكذلك إذا أقر به على أبيه وان كان الاب أعتقه قوم والابن أعتقه آخرون فالولاء موقوف لانه متهم في حق موالى الاب فانه لا يملك أن يلزمهم عقل جنايته بانشاء العتق فيكون متهما في الاقرار به وهذا الفصل نظير النسب لانه لا يملك اثبات حكمه في حق الاب وقومه بطريق الانشاء فلا يصدق في الاقرار به أيضا وان كان معه ابن آخر فكذبه كان له أن يستسعى العبد في حصته لان نصف العبد مملوك وهو يزعم أن صاحبه قد أفسده عليه باقراره كاذبا ولم يصر بذلك ضامنا كما لو شهد على شريكه بالعتق بل احتبس نصيبه عند العبد فله ان يستسعيه في نصف قيمته ثم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولاء هذا النصف للذى استسعاه لانه يدعيه ويزعم أنه عتق على ملكه بأداء السعاية وولاء النصف الآخر للميت لان الولد المقر يزعم ان ولاء الكل للميت واقراره صحيح فيما هو من حقه كما لو لم يكن معه غيره ولهذا جعلنا ولاء حصته للميت إذا كان قومهما واحدا وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ولاء النصف الذى هو نصيب المقر للميت لهذا المعنى أيضا وولاء النصف الذى استسعاه موقوف لان عندهما العتق لا يتجزى فالذي استسعاه يتبرأ من الولاء ويقول انما عتق هذا النصف باقرار شريكي لان اقراره كالعتق فالولاء في الكل له والمقر بزعم أنه ليس له بل هو للميت فيعارض قولهما في نصيب الذى استسعاه فيبقى موقوفا حتى يرجع أحدهما إلى تصديق صاحبه وكذلك ان كان في الورثة رجال ونساء فأقرت امرأة منهم بذلك (فان قيل) على قولهما لما أقر المستسعى بولاء نصيبه لصاحبه وصاحبه مقر به للميت فينبغي ان يثبت ولاء العبد كله من الميت (قلنا) نعم ولكن من ضرورة اثبات كل الولاء من الميت الحكم بأنه عتق من جهة الميت وذلك يسقط حق المستسعى في السعاية فلابقاء حقه في السعاية جعلنا ولاء هذا النصف موقوفا عبد بين رجلين قال أحدهما ان لم يكن دخل أمس المسجد فهو حر وقال الآخر ان كان دخل فهو حر قد بينا هذه المسألة في كتاب العتاق

[ 113 ] في الاسقاط نصف السعاية عن المملوك أعادها لبيان حكم الولاء وهو انهما إذا كانا معسرين يسعى العبد في نصف قيمته بينهما والولاء بينهما في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى لان نصيب كل واحد عتق على ملكه باعتبار ما أدى إليه من السعاية وما سقط باسقاطه لا باعتبار الاحوال فيكون لكل واحد منهما ولاء نصيبه وفى قول أبى يوسف رحمه الله تعالى الولاء موقوف لان كل واحد منهما ينفيه عن نفسه ويزعم أن صاحبه حانث وأن الكل عتق من جهته لان العتق عنده لا يتجزى فلهذا كان الولاء موقوفا وعلى قول محمد رحمه الله تعالى يسعي في قيمته كاملة لهما والولاء موقوف لان العتق عند محمد رحمه الله تعالى لا يتجزي فكل واحد منهما يزعم أن صاحبه حانث وان الولاء كله له فلهذا يتوقف الولاء وكل ولاء موقوف فميراثه يوقف في بيت المال لانه لصاحب الولاء وهو غير معلوم والمال الذى لا يعرف مستحقه يوقف في بيت المال حتى يظهر مستحقه وجنايته على نفسه لا يعقل عنه بيت المال لان بيت المال لا يرث ماله انما يوقف المال فيه ليظهر مستحقه فلا يعقل جنايته أيضا وهذا لان بيت المال انما يعقل جناية من يكون ولاؤه للمسلمين ومن عليه ولاء عتاقة لا يكون ولاؤه للمسلمين ونحن نتيقن أن على هذا الرجل ولاء عتاقة فلهذا لا يجعل عقل جنايته على بيت المال والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب (باب آخر من الولاء) (قال) رضى الله عنه واللقيط حر يرثه بيت المال ويعقل عنه هكذا نقل عن عمر وعلي رضى الله عنهما وهذا لان الحرية والاسلام تثبت له باعتبار الدار فيكون ولاؤه لاهل دار الاسلام يرثونه ويعقلونه جنايته ومال بيت المال مال المسلمين بخلاف مال من عليه ولاء موقوف لان ذلك منسوب إلى المعتق وهذا غير منسوب إلى أحد حتى لو والى اللقيط انسانا قبل أن يعقل عنه بيت المال جنايته فولاؤه له لانه صار منسوبا إليه بالولاء حين عاقده وولاؤه لبيت المال لم يتأكد بعقل الجناية حتى لو تأكد بعقل الجناية لم يملك أن يوالى أحدا (فان قيل) الولاء عليه للمسلمين ثبت شرعا فلا يملك ابطاله بعقده كولاء العتق (قلنا) نعم ولكن ثبوته لمعنى ذلك المعنى يزول بالعقد وهو أنه غير منسوب إلى أحد بخلاف مولى العتاقة فان ثبوت الولاء عليه لمعنى لا يزول ذلك بالعقد وحكم موالى اللقيط كحكم اللقيط

[ 114 ] لانهم ينسبون إليه بولاء العتق أو الموالاة وولاؤه للمسلمين فكذلك ولاء مواليه كما في معتق المعتق وكذلك الكافر أسلم ولا يوالى أحدا لانه غير منسوب إلى أحد بالولاء وهو من أهل دار الاسلام فهو كاللقيط فان كان بينه وبين رجل من العرب عبد فاعتقاه فجنى جناية كان نصف الجناية على عاقله العربي لان نصف ولائه له ونصفها على بيت المال لان نصف ولائه لمن هو مولى المسلمين وكذلك إذا ادعيا ولدا وأقاما البينة فهو ولدهما ونصف جنايته على قبيلة العربي ونصفه على بيت المال باعتبار ثبوت نسبه من اللقيط والعربي جميعا (قال) ذمى أعتق مسلما أو كافرا فأسلم الكافر كان ميراثه لبيت المال لانه مولى الكافر ولكن الكافر لا يرث المسلم وعقله على نفسه لانه منسوب بالولاء إلى انسان ولا يمكن ايجاب عقل جنايته على بيت المال ولا وجه لايجابه على الكافر لان الكافر لا ينصر المسلم فكان عقل جنايته على نفسه ألا ترى انه لو مات مولاه ولا عشيرة له من الكافر كان ماله مصروفا إلى بيت المال (قال) ولو جني جناية كان عقل جنايته على نفسه فكذلك حال المعتق وهذا إذا لم يكن للذمي عشيرة من المسلمين فان كان له ذلك فميراثه له لانه أقرب عصبة من المعتق وان والى هذا المعتق رجلا لم يجز لان عليه ولاء عتاقه لكافر فلا يتمكن من ابطاله بعقد الموالاة وان أسلم مولاه المعتق ووالى رجلا صار هذا المعتق مولاه لانه كان منسوبا إليه بالولاء وقد صار مولى لمن عاقده نصراني أعتق عبدا له مسلما كان ولاؤه لقبيلة مولاه الذى أعتقه ان كان من بنى تغلب فهو تغلبى منسوب إليهم يعقلون عنه ويرث المسلمون منهم أقربهم إلى مولاه عصوبة لان الولاء يثبت للمعتق وان كان نصرانيا الا أنه لا يرث لكونه مخالفا له في الدين فيقوم أقرب عصبته مقامه في استحقاق ميراثه وعقل جنايته على قبيلة مولاه كعقل جناية مولاه لانه منسوب إليهم بالولاء وكل معتق جرى عليه الرق بعد العتق انتقض به الولاء الاول وكان حكم الولاء للعتق الذى يحدث من بعد عندنا وعند الشافعي رضى الله عنه لا ينتقض الاول بالاسترقاق فربما يقول لا يسترق من عليه ولاء لمسلم لان الولاء كالنسب ولا يبطل النسب بالاسترقاق أو لمراعاة حق المسلم في الولاء لا يجوز استرقاقه كالحرية المتأكدة بالاسلام لا يجوز ابطالها بالرق (ولكنا) نقول سبب الولاء الاول قد انعدم بالاسترقاق وهو العتق وقوة المالكية التى حدثت فيه ولا بقاء للحكم بعد بطلان السبب ولا يجوز أن يمتنع الاسترقاق لان سببه قد تقرر فلا يمتنع الا لمانع

[ 115 ] وهى العصمة ولا عصمة باعتبار الولاء كما لا عصمة له باعتبار نسب المسلم حتى يجوز استرقاق الحربى وان كان له والد مسلم وإذا صار رقيقا للثاني فاعتقه فقد اكتسب سبب الولاء عليه لنفسه فلهذا كان مولى له حربى أعتق عبدا في دار الحرب ثم خرجا مسلمين كان له ان يوالى من شاء لما بينا ان عتقه في دار الحرب باطل لانه ان لم يخل سبيله فلا ولاية له عليه وان خلى سبيله كان عتقه نافذا ولكن لا يثبت الولاء له لان ذلك من حكم الاسلام فلا يجرى على أهل الحرب ولئن ثبت الولاء فهو أثر من آثار الملك ولا حرمة لملكه فكذلك لا حرمة لاثر ملكه ولكن باحراز العبد نفسه في دار الاسلام يبطل ذلك كله فله أن يوالى من شاء حربى دخل دارنا بأمان فاشترى عبدا فأعتقه أو أعتق عبدا جاء به من دار الحرب معه ثم رجع إلى دار الحرب فأسر وجرى عليه الرق فمعتقه مولاه لا يتحول عنه أبدا لان سبب ثبوت الولاء له العتق واحداث القوة في المملوك وذلك باق بعدما صار رقيقا وضعف حاله بسبب الرق لا يكون فوق ضعف حاله بالموت والولاء الثابت للمعتق لا يبطل بالموت فكذلك برقه (فان قيل) الرق الذى حدث فيه ينافي ابتداء الولاء بالعتق وان تقرر سببه منه كما بينا في المكاتب فكذلك ينافى بقاءه (قلنا) لا كذلك ولكن الرق مناف حقيقة الملك وعليه يترتب العتق الذى يعقبه الولاء ولا حاجة إلى ذلك في ابقاء الولاء وهو نظير الموت في أنه ينافى الملك وابتداء الولاء للميت ولا ينافى بقاء ه فان مات معتقه كان ميراثه في بيت المال لان مولاه رقيق لا يرثه وليس له عشيرة من المسلمين فيوضع ماله في بيت المال نصيب كل مال ضائع وعقل جنايته على نفسه لانه منسوب بالولاء إلى انسان فان عتق هذا الحربى صار مولى لمعتقه وكذلك معتقه يكون مولى له بواسطة أم ولد لحربي خرجت الينا مسلمة فهى حرة توالى من شاءت لما بينا انها أحرزت نفسها بدار الاسلام ولو كانت قنة فأحرزت نفسها بالدار كانت تعتق لملكها نفسها ولا ولاء عليها لاحد فكذلك إذا كانت أم ولد ولهذا كان لها ان توالى من شاءت والاصل فيه ما روى ان ستة من عبيد أهل الطائف خرجوا مسلمين حين كان رسول الله محاصرا لهم ثم خرج مواليهم يطلبون ولاءهم فقال النبي أولئك عتقاء الله مسلم دخل دار الحرب بأمان أو أسلم حربى هناك ثم أعتق عبدا اشتراه في دار الحرب ثم أسلم عبده لم يكن مولاه في القياس وله أن يوالى من شاء في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى

[ 116 ] لان ثبوت الولاء عليه من حكم الاسلام وحكم الاسلام لا يجرى على الحربى في دار الحرب فإذا لم يثبت على هذا المعتق الحربى ولاء حين أسلم فله أن يوالى من شاء وقال أبو يوسف أجعله مولاه استحسانا لما ورد في الخبر من عتقن النبي عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة وعتق أبى بكر رضى الله عنه سبعة ممن كان يعذب في الله تعالى بمكة منهم صهيب وبلال وكان ولاؤهم له وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى كان هذا قبل أن يؤمر بالقتال وقبل أن تصير مكة دار الحرب وانما صارت دار حرب بعدما هاجر رسول الله منها وأمر بالقتال فجرى حكم الاسلام في دار الاسلام على ان أولئك المعتقين كانوا مسلمين وكانوا يعذبون بمكة والمسلم إذا أعتق عبدا مسلما في دار الحرب فولاؤه له حربى اشترى في دار الاسلام عبدا فاعتقه ثم رجع الحربى إلى دار الحرب فاسر واسترق فاشتراه معتقه وأعتقه فولاء الاول للآخر وولاء الآخر للاول لانه تقرر من كل واحد منهما اكتساب سبب الولاء في صاحبه ولا منافاة بين الولاءين لانه إذا كان يجوز نسبة كل واحد من الاخوين بالاخوة إلى صاحبه فكذلك نسبة كل واحد من المعتقين إلى صاحبه بالولاء حربى مستأمن اشترى عبدا مسلما فأدخله دار الحرب فهو حر عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى وقد بيناه في كتاب العتاق ولا يكون ولاؤه للذى أدخله في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى لانه انما عتق بعد وصوله إلى دار الحرب وزوال العصمة عن ملك الحربى وثبوت الولاء باعتبار عصمة الملك فإذا لم يبق لملكه عصمة لا يثبت له ولاؤه وعند أبى يوسف ومحمد ان أعتقه الذي أدخله فولاؤه له لان المسلم من أهل دار الاسلام وان كان في دار الحرب فهو ملتزم لحكم الاسلام فيثبت الولاء له بالعتق ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول انما عتق لملكه نفسه لانه لما دخل دار الحرب حل له قتل مولاه وأخذ ماله وهو قاهر لمولاه في حق نفسه فيعتق بملكه نفسه ولهذا لا يكون عليه ولاء وإذا أسلم عبد الحربى في دار الحرب لم يعتق بنفس الاسلام لانه لم يكن محرزا نفسه بدار الاسلام قبل هذا وملكه نفسه بالاحراز بخلاف الاول على قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى فانه كان محرزا نفسه بدار الاسلام ولم يبطل ذلك بادخال الحربي اياه دار الحرب فان باعه الحربى من مسلم أو حربى مثله فهو حر في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى لان ملك الحربى زال عنه بالبيع وملك الحربى متى زال عن العبد المسلم في دار الحرب يزول إلى العتق كما لو خرج مراغما وعندهما

[ 117 ] لا يعتق لان المشترى يخلف البائع في ملكه وهى مسألة السير فان غنمه المسلمون عتق بالاتفاق لان يده في نفسه أقرب من أيدى المسلمين إليه فيصير محرزا نفسه بمنعة الجيش حربى خرج مستأمنا في تجارة لمولاه فأسلم لم يعتق ولكن الامام يبيعه ويمسك ثمنه على مولاه لان مالية الحربى فيه صار معصوما بالامان فلا يعتق ولكن بعد الاسلام لا يجوز ابقاء المسلم في ملك الكافر ألا ترى ان مولاه لو كان معه يجبره الامام على بيعه ولم يتركه ليرجع به إلى دار الحرب فإذا لم يكن المولى معه ناب الامام عنه في البيع ويمسك ثمنه على مولاه حتى يجئ فيأخذه وكذلك لو كان أسلم في دار الحرب ثم خرج الينا في تجارة لمولاه لانه ما قصد بالخروج احراز نفسه على مولاه فهو كما لو خرج مع مولاه في تجارة بخلاف ما إذا خرج مراغما لانه قصد احراز نفسه عن مولاه فكان حرا يوالى من شاء ما لم يعقل عنه بيت المال فان عقل عنه بيت المال لم يكن له أن يوالى أحدا لان ولاءه للمسلمين قد تأكد بعقد جنايته رجل ارتد ولحق بدار الحرب فمات مولى له قد كان أعتقه قبل ردته فورثه الرجال من ورثته دون النساء ثم خرج ثانيا أخذ ما وجد من مال نفسه في يد ورثته ولم يأخذ ما وجد من مال مولاه في أيديهم لانه كان مرتدا حين مات مولاه والمرتد لا يرث وأنما يعاد إليه بعد الاسلام المال الذى كان له قبل الردة فأما ما لم يكن مملوكا قط لا يعاد إليه لانه لو أسلم كان هذا ملكا مبتدءا له وبسبب اسلامه لا يستحق تملك المال على أحد ابتداء وكذلك ان كان في دار الاسلام حين مات مولاه لانه مرتد فلا يرث المسلم ولكن يجعل هو كالميت في إرث مولاه فيكون ميراثه لاقرب عصبة منه من المسلمين امرأة من بنى أسد أعتقت عبدا لها في ردتها أو قبل ردتها ثم لحقت بدار الحرب فسبيت فاشتراها رجل من همدان فأعتقها فانه يعقل عن العبد بنو أسد في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى الاول وترثه المرأة ان لم يكن له وارث لان قبل ردتها كان عقل جناية هذا المعتق على بنى أسد باعتبار نسبة المعتقة إليهم وذلك باق بعد السبى فان النسب لا ينقطع بالسبي وبعد ما عتقت هي منسوبة إليهم بالنسب أيضا فكان عقل جنايته عليهم ألا ترى أنه بعد السبي قبل العتق كان الحكم هكذا فلا يزداد بالعتق الا وكادة ثم رجع يعقوب عن هذا وقال يعقل عنه همدان وهو قول محمد رحمه الله تعالى لان المعتقة لما سبيت فأعتقت صارت منسوبة بالولاء إلى قبيلة معتقها فكذلك معتقها يكون منسوبا إليهم بواسطتها وهذا لان ولاء العتق في

[ 118 ] الحكم أقوى من النسب ألا ترى ان عقل جنايتها يكون على قوم معتقها ولو أعتقت بعد هذا عبدا كان مولى لقوم معتقها فكذلك ما سبق وقبل الردة انما كان المعتبر النسبة لانعدام ولاء العتق عليها فإذا ظهر ولاء العتق كان الحكم له كما ينسب الولد بالولاء إلى قوم أمه ما لم يظهر له ولاء في جانب أبيه فإذا ظهر كان الحكم له وكذلك لو كانت معتقة للاولين لما بينا أن الولاء الثابت عليها للاولين قد بطل حين سبيت وأعتقت فكذلك ما يبتنى عليه من ولاء معتقها رجل ذمى أعتق عبدا فأسلم العبد ثم نقض الذمي العهد ولحق بدار الحرب فليس للعبد أن يوالى أحد الان الولاء ثابت عليه لمعتقه وان صار حربيا باعتبار أن صيرورته حربيا كموته وان جني جناية لم يعقل عنه بيت المال وكانت عليه في ماله لانه منسوب بالولاء للانسان وانما يعقل بيت المال عمن لا عشيرة له من المسلمين ولا ورثة وإذا أسلمت امرأة من أهل الذمة ثم أعتقت عبدا ثم ارتدت ولحقت بدار الحرب ثم سبى أبوها من دار الحرب كافرا فأعتقه رجل لم يجر ولاء مولاها لانها حرة حربية فلا تصير مولى لموالى أبيها لما بينا أن حكم الاسلام لا يجرى على الحربية في دار الحرب وانما ينجر ولاء معتقها إلى موالى الاب بواسطتها فإذا لم تثبت هذه الواسطة في حقهم لا ينجر إليهم الولاء فان كان مولاها الذى أعتقته مسلما فجنى جناية فعقله على بيت المال لانها حين أعتقت العبد كان ولاؤها لبيت المال ألا ترى أنها لو جنت كان عقل جنايتها على بيت المال فيثبت ذلك الحكم في حق مولاها ثم يبقى بعد ردتها كما يبقي بعد موتها لو ماتت لان من هو من أهل دار الحرب فهو في حق المسلمين كالميت امرأة من العجم أسلمت ثم أعتقت عبدا ثم سبى أبوها فاشتراه رجل فأعتقه فان ولاء المرأة وولاء مولاها إلى موالى الاب وينجر بواسطتها ولاء معتقها إلى موالى الاب أيضا وهذا لان ثبوت الولاء عليها للمسلمين لا يمنعها من أن توالى انسانا فلا يمنع جر ولائها إلى قوم الاب بعد ما عتق الاب حربى أو مرتد أسلم في دار الحرب ثم أعتق عبدا مسلما ثم رجع عن الاسلام فأسر فأسلم العبد وابى المولى ان يسلم فقتل فولاء العبد للمولى لا يتحول عنه لان قتله بعد الردة كموته والولاء الثابت لا يبطل بموته فان كان له عشيرة كان عقله عليهم وان لم يكن له عشيرة فميراثه لبيت المال وعقله على نفسه لما بينا أنه منسوب بالولاء إلى انسان بعينه فلا يعقل عنه بيت المال فإذا تعذر ايجاب عقل جنايته على غيره جعل على نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب

[ 119 ] (باب الاقرار بالولاء) (قال) رضى الله عنه رجل أقر أنه مولى فلان مولى عتاقة من فوق أو من تحت وصدقه الآخر فهو مولى له ويعقل عنه قومه لان الولاء كالنسب والاقرار بالنسب صحيح من الاب والابن جميعا فكذلك الاقرار بالولاء وهذا لان الاسفل يقر على نفسه بأنه منسوب إلى الاعلى بالولاء والاعلى يقر على نفسه بأنه منسوب إليه وأن عليه نصرته واقرار كل واحد منهما على نفسه نافذ وان كان له أولاد كبار وأنكروا ذلك وقالوا أبونا مولى عتاقة لفلان آخر فالاب يصدق على نفسه والاولاد مصدقون على أنفسهم لانه لا ولاية للاب عليهم بعد البلوغ في عقد الولاء فكذلك في الاقرار به وهم يملكون مباشرة عقد الولاء على أنفسهم بعد البلوغ فيملكون الاقرار به وإذا ثبت هذا في ولاء الموالاة فكذلك في ولاء العتاقة لانهما في النسبة والنصرة سواء وان كان الاولاد صغارا كان الاب مصدقا عليهم لانه يملك مباشرة عقد الولاء عليهم بولاية الابوة فينفذ اقراره عليهم أيضا ولان الصغار من الاولاد يتبعونه في الاسلام ولا يعتبر اعتقادهم بخلافه فان كانت لهم أم فقالت أنا مولاة فلان وصدقها مولاها بذلك فالولد مولى موالى الاب لان كل واحد من الابوين أصل في حق نفسه ولو كان ولاء كل واحد منهما معروفا كان الولد مولى لموالى الاب ولو قالت الام للاب أنت عبد فلان وقال كنت عبد فلان فاعتقني وصدقه فلان فالقول قول الاب لان بتصادقهما ظهر في جانب الاب ولاء فلا يلتفت إلى قولهما في حق الولد بعد ذلك وكذلك لو قالت هم ولدى من غيرك لان الولد للفراش وفراش الزوج عليها ظاهر فلا تصدق فيما تدعى من فراش آخر عليها غير معلوم ولو قالت ولدته بعد عتقي بخمسة أشهر فهو مولى لموالى وقال الزوج ولدتيه بعد عتقك بستة أشهر فالقول قول الزوج لان الولاء كالنسب وفى مثل هذا لو اختلفا في النسب بان قالت المرأة ولدته بعد النكاح لاقل من ستة أشهر وقال الزوج بل لستة أشهر كان القول قول الزوج لظهور فراشه عليها في الحال فكذلك في الولاء لظهور ولاء الاب في الحال وهو موجب جر ولاء الولد ما لم يعلم أنه كان مقصودا بالعتق امرأة في يدها ولد لا يعرف أبوه أقرت انها معتقة هذا الرجل وصدقها ذلك الرجل لم تصدق على الابن في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وهي مصدقة

[ 120 ] في قول أبي حنيفة لان عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى هي تملك مباشرة عقد الولاء على ولدها ويتبعها الولد في الاسلام فتصدق في الاقرار عليه بالولاء أيضا وكذلك ان قالت كان زوجي رجلا من أهل الارض أسلم أو كان عبدا صدقت على الولد في قول أبى حنيفة ولا تصدق في قولهما لان عندهما لا تملك مباشرة عقد الولاء عليه وان كان زوجها رجلا من العرب وهي لا تعرف فأقرت انها مولى عتاقة لرجل صدقت على نفسها ولا تصدق على الولد في قول أبي حنيفة لان الولد بغ‌اله من النسب مستغن عن الولاء واعتبار قولها عليه لمنفعة الولد فإذا لم توجد المنفعة هنا لا يعتبر قولها عليه بخلاف ما سبق والاقرار بولاء العتاقة والولاء سواء في الصحة والمرض كالاقرار بالنسب وهذا لان تصرفه في المرض انما يتعلق بالمحل الذى يتعلق به حق الغرماء والورثة وذلك غير موجود في الولاء وإذا قال فلان مولى لي قد أعتقته وقال فلان بل انا أعتقتك لم يصدق واحد منهما على صاحبه في قول أبى حنيفة اعتبارا للولاء بالسبب ولو قال انا مولى لفلان وفلان اعتقاني فأقر أحدهما بذلك وانكر الآخر وحلف ما أعتقته فهو بمنزلة عبد بين اثنين يعتقه أحدهما وان قال أنا مولى فلان أعتقني ثم قال لا بل أعتقني فلان فهو مولى للاول لانه رجع عن الاقرار بالولاء للاول وهو لا يملك ذلك وبعد ما ثبت عليه الولاء للاول لا يصح اقراره بالولاء للثاني ولو قال أعتقني فلان أو فلان وادعى كل واحد منهما فهذا الاقرار باطل لجهالة المقر له فان الاقرار للمجهول غير ملزم اياه شيئا فيقر بعد ذلك لايهما شاء أو لغيرهما انه مولاه فيجوز ذلك كما لو لم يوجد الاقرار الاول رجل اقرانه مولى لامرأة أعتقته فقالت لم أعتقك ولكنك أسلمت على يدى وواليتنى فهو مولاها لانهما تصادقا على ثبوت أصل الولاء واختلفا في سببه والاسباب غير مطلوبة لاعيانها بل لاحكامها وليس له ان يتحول عنها في قول أبي حنيفة رحمه الله وله ذلك في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لانه انما يثبت عليه بأقراره مقدار ما وجد فيه التصديق وذلك لا يمنعه من التحول وأبو حنيفة رحمه الله يقول المقر يعامل في اقراره كأن ما أقر به حق وفى زعمه ان عليه ولاء عتاقة لها وذلك يمنعه من التحول وأصل المسألة في النسب إذا أقر لانسان فكذبه ثم ادعاه لم يصح في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وهو صحيح في قولهما وقد بيناه في العتاق وان أقر انه أسلم على يدها ووالاها وقالت بل أعتقتك فهو مولاها وله ان يتحول عنها ما لم يعقل عنه قومها لان الثابت عند التصديق مقدار ما أقر به المقر وهو انما أقر بولاء

[ 121 ] الموالاة وذلك لا يمنعه من التحول ما لم يتأكد بعقل الجناية وان أقر ان فلانا أعتقه وقال فلان ما أعتقتك ولا أعرفك فأقر انه مولى لآخر لا يجوز ذلك في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى ويجوز في قولهما اعتبارا للولاء بالنسب وفي النسب في نظيره خلاف ظاهر منهم فكذلك في الولاء وإذا مات رجلا وادعى رجلان كل واحد منهما انه أعتقه وصدق بعض أولاده من الذكور والاناث أحدهما وصدق الباقون الآخر فكل مولى للذى صدقه لان الاولاد البالغين كل واحد منهم أصل في مباشرة الولاء على نفسه ذكرا كان أو انثى فكذلك اقرار كل واحد منهما بالولاء للذى صدقه صحيح في حق نفسه والله سبحانه أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب (باب عتق ما في البطن) (قال) رضى الله عنه رجل قال لامته ما في بطنك حر ثم قال ان حبلت فسالم حر فولدت بعد هذا القول لاقل من سنتين فالقول فيه قول المولى لجواز أن يكون هذا الولد موجودا في البطن وقت الايجاب فانما يعتق هذا أو كان من حبل حادث فانما يعتق سالم وقد بينا أن العلوق انما يستند إلى أقرب الاوقات إذا لم يكن فيه اثبات عتق بالشك فأما إذا كان فيه اثبات عتق بالشك فانما يعتبر اليقين لان بالشك لا يزول وهنا تيقنا بحرية أحدهما فالبيان فيه الي المولى كما لو قال لعبدين له أحدكما حر فان أقر انها كانت حاملا يومئذ فهذا منه اقرار بعتق الولد وان أقر أنه حبل مستقبل عتق سالم لاقراره به وان جاءت به لاكثر من سنتين عتق سالم لانا تيقنا أنه من علوق حادث رجل أوصى بما في بطن أمته لرجل فاعتقه الموصى له بعد موته فان عتقه جائز وهو مولاه لان الوصية أخت الميراث فكما ان الجنين يملك بالارث فكذلك بالوصية وعتق الموصي له في ملكه نافذ فان ضرب انسان بطنها فالقته ميتا ففيه ما في جنين الحرة وهو ميراث لمولاه الذى أعتقه لان بدل نفس الجنين موروث عنه وأبواه مملوكان فكان ميراثا لمولاه ولو أوصى بما في بطن أمته لفلان فاعتقه الموصى له به وأعتق الوارث الامة وأعتق مولى الزوج زوج الامة فولاء الولد للموصى لانه مقصود بالعتق من جهته فان ضرب انسان بطنها فألقته ميتا ففيه ما في جنين الحرة ميراثا لابويه لانهما حران عند وجوب بدل نفس الجنين فان كانا اعتقا بعد الضربة

[ 122 ] قبل أن يسقط أو بعد الاسقاط فالغرة للذى أعتق الولد لانه يحكم بموت الجنين عند الضربة ولهذا وجب البدل به وعند ذلك كانا مملوكين فلا يرثانه وان عتقا بعد ذلك بل الميراث للمعتق وانما يستقيم هذا الجواب وهو ان ولاء الجنين للمعتق إذ كان عتق ما في البطن أولا أو كانا سواء فأما إذا أعتق الوارث الام أولا فان الجنين يعتق بعتق الام ويكون الوارث ضامنا للموصى له قيمة الجنين يوم تلد ولا يتصور الاعتاق من جهته في الجنين بعد ذلك ولا يثبت له ولاؤه وإذا أعتق الرجل ما في بطن أمته فولدت لستة أشهر فقالت للمولى قد أقررت أنى حامل بقولك ما في بطنك حر وقال المولى هذا حبل حادث فالقول قول المولى لانكاره العتق وما تقدم لا يكون اقرارا منه بوجود الولد في البطن يومئذ بل معناه ما في بطنك حر ان كان في بطنك ولد ولو أعتق أمته وهى معتدة فجاءت بولد لتمام سنتين من وقت وجوب العدة عليها فهو مولى لموالى الام لانا حكمنا بأن العلوق كان سابقا على اعتاقه اياها حين أثبتنا نسب الولد من الزوج فان ولدت ولدين أحدهما لتمام سنتين والآخر بعد ذلك بيوم فكذلك ايضا هكذا ذكره في الاصل وهو قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى فأما عند محمد رحمه الله تعالى يكون الولد لموالى الاب هنا وكانها ولدتهما لاكثر من سنتين قال اتبع الشك اليقين وهما يتبعان الثاني الاول وقد بينا هذا فيما أمليناه من شرح الزيادات ولا يمين في الولاء في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى ان ادعى الاعلى أو الاسفل وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فيه اليمين وقد بينا هذا مع نظائره في كتاب النكاح والدعوى ولا خلاف ان المولى إذا جحد العتق فانه يستحلف لان العتق مما يعمل فيه البدل فيجرى فيه الاستحلاف وعند نكوله يقضى بالعتق ثم الولاء ينبنى عليه وهو نظير المرأة تستحلف في انقضاء العدة ثم إذا نكلت ينبني عليه صحة رجعة الزوج وكذلك لو ادعى رجل عربي على ورثة ميت قد ترك ابنة ومالا أنه مولاه الذى أعتقه وله نصف ميراثه فلا يمين على الابنة في الولاء ولكن تحلف أنها ما تعلم له في ميراث أبيها حقا ولا ارثا لان هذا استحلاف في المال والمال مما يعمل فيه البدل وهو كمن ادعى ميراثا بنسب لا يستحلف المنكر على النسب عنده ويستحلف على الميراث وان ادعى عربي على نبطى أنه والاه وجحده النبطي فلا يمين عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وولاء الموالاة في هذا كولاء العتاقة فان أقر به بعد انكاره فهو مولاه ولا يكون جحوده نقضا للولاء

[ 123 ] وكذلك لو كان العربي هو الجاحد لان النقض تصرف في العقد بالرفع بعد الثبوت وانكار أصل الشئ لا يكون تصرفا فيه بالرفع كانكار الزوج لاصل النكاح وان ادعى نبطى على عربي أنه مولاه الذى أعتقه والعربي غائب ثم ادعى النبطي ذلك على آخر وأراد استحلافه فانه لا حلف لوجهين (أحدهما) أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لا يرى الاستحلاف في الولاء (والثاني) أنه قد ادعي ذلك على غيره ولو أقر الثاني له بذلك لم يكن مولاه في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى فكيف يستحلف على ذلك وعندهما ان قدم الغائب فادعى الولاء فهو أحق به وان أنكر فهو مولى للثاني رجل من الموالى قتل رجلا خطأ فادعى ورثته على رجل من قبيلة أنه أعتقه وأرادوا استحلافه فليس لهم ذلك لانه لا يمين في الولاء ولانه ليس بخصم لهم وان أقر الرجل به لم يصدق على العاقلة لانه متهم في حق العاقلة وانما يريد أن يلزمهم مالا باقراره وهو لا يملك أن يلزمهم ذلك بانشاء التصرف في هذه الحالة فكذلك بالاقرار وتكون الدية على القاتل في ماله لان أصل وجوب الدية عليه في ماله وان كان المقتول من الموالى فادعى رجل أنه أعتقه قبل القتل وأنه لا وارث له غيره وأراد استحلاف القاتل على الولاء وهو مقر بالقتل لم يستحلف عليه ولكن يحلف ما يعلم لهذا في دية فلان المسمى عليك حقا لانه لو أقر بما ادعاه المدعى أمر بتسليم الدية إليه فإذا أنكر يستحلف على ذلك لرجاء نكوله فأما أصل الولاء فلا يمين فيه على من يدعيه فكيف على غيره وولد الملاعنة من قوم أمه وعقل جنايته عليهم لانه لا نسب له ولا ولاء من جانب الاب فيكون منسوبا إلى قوم الام بالنسب ان كانت من العرب وبالولاء ان كانت من الموالى فان أعتق ابن الملاعنة عبدا فعقل جنايته على عاقلة الام أيضا لان المعتق منسوب بالولاء إلى من ينسب إليه المعتق بواسطة وقد بينا ان المعتق منسوب إلى قوم أمه عليهم عقل جنايته فكذلك معتقه وان مات العبد بعد موت الابن وأمه ولا وارث له غير ورثه أقرب الناس من الام من العصبات لان الولد لما كان منسوبا إليها كانت هي في حقه كالاب ولو كان له أب كان ميراث معتقه لاقرب عصبة الاب بعد موته فكذلك هنا ولو كان لها ابن ثم مات المولى ولا وارث له غير ابن الام وهو أخ المعتق لامه فانه يرث المولى كأنه أخ المعتق لابيه وأمه ولان هذا الابن أقرب عصبة الام في نسبة المعتق إليها كالاب فكذلك ابنها في استحقاق ميراث المعتق كابن الاب ولو كان للمعتق أخ وأخت كان ميراث المولى للاخ دون الاخت لهذين

[ 124 ] المعنيين ولو لم يكن له وارث غير أمه لم يكن لها من الميراث شئ لما بينا أنه لا يرث من النساء بالولاء الا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن وكان الميراث لاقرب الناس منها من العصبات لانها لما لم ترث شيئا كانت كالميتة فان ادعاه الاب وهو حى ثبت نسبه منه لان النسب قد استتر باللعان بعدما كان ثابتا منه بالفراش وبقي موقوفا على حقه فإذا ادعاه في حال قيام حاجته ثبت نسبه منه ورجع ولاء مواليه العتاقة والموالاة إليه ويرجع عاقلة الام بما عقلوا عنهم على عاقلة الاب وما كانوا متبرعين في هذا الاداء بل كانوا مجبرين عليه في الحكم فيرجعون عليهم وقد بينا الفرق بين هذا وبين ما إذا جر الاب ولاء الولد بعدما عقل عنه موالى الام وانما يرجعون على عاقلة الاب لما بينا أن النسب انما يثبت من وقت العلوق فتبين أن عاقلة الام أدوا ما كان مستحقا على عاقلة الاب وان كان الابن ميتا لم تجز دعوة الاب الا أن يكون بقى له ولد لانه بالموت استغنى عن النسب فدعوى الاب لا تكون اقرارا بالنسب بل تكون دعوى للميراث وهو في ذلك متناقض فان خلف الولد ابنا فحاجة ابن الابن كحاجة الابن في تصحيح دعوى الاب ولو كان ولد الملاعنة بنتا فماتت وتركت ولدا ثم ادعاه الاب جازت دعوته في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لان موتها عن ولد كموت ابن الملاعنة عن ولد وهذا لان ولدها محتاج إلى اثبات نسب أمه ليصير كريم الطرفين وفى قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى لم تجز دعوته لان نسبة هذا الولد إلى أبيه دون أمه فان الولد من قوم أبيه ألا ترى أن إبراهيم بن رسول الله ورضي عنه كان من قريش وأن أولاد الخلفاء من الاماء يصلحون للخلافة فلا معتبر بوجود هذا الولد لما لم يكن منسوبا إليها فلهذا لا تصح دعوة الاب وان كان ولد الملاعنة أعتق عبدا ثم مات لاعن ولد فادعى الاب نسبه لم يصدق باعتبار بقاء مولاه لان الولاء أثر الملك ولو بقى له أصل الملك على العبد لم يصدق هو في الدعوة باعتباره فبقاء الولاء أولى وهذا لانه انما يعتبر بقاء من يصير منسوبا إليه بالنسب إذا صحت دعوته والمولى لا يصير منسوبا إليه بالنسب وإذا لاعن بولدى توأم ثم أعتق أحدهما عبدا ومات فادعى الاب الحى منهما ثبت نسبهما لانهما خلقا من ماء واحد فبقاء أحدهما محتاجا إلى النسبة كبقائهما

[ 125 ] وإذا ثبت نسبهما جر الاب ولاء معتق الميت منهما إلى نفسه كما لو كان ثابت النسب منه حين أعتقه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب واليه المرجع والمآب قال الشيخ الامام الاجل الزاهد انتهى شرح كتاب الولاء بطريق الاملاء من الممتحن بأنواع البلاء يسأل من الله تعالى تبديل البلاء والجلاء بالعز والعلاء فان ذلك عليه يسير وهو على ما يشاء قدير وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطاهرين

[ 126 ] بسم الله الرحمن الرحيم (كتاب الايمان) (قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسى رضى الله تعالى عنه اليمين في اللغة القوة ومنه قوله تعالى لاخذنا منه باليمين وقال القائل رأيت عرابة الاوسي يسمو إلى الخيرات منقطع القرين إذا ماراية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين * فما يستعمل بالعهود والتوثيق والقوة يسمى يمينا وقيل اليمين الجارحة فلما كانت يستعمل بذلها في العهود سمى ما يؤكد به العقد باسمها وهى نوعان نوع يعرفه أهل اللغة وهو ما يقصد به تعظيم المقسم به ويسمون ذلك قسما الا أنهم لا يخصون ذلك بالله تعالى وفي الشرع هذا النوع من اليمين لا يكون الا بالله تعالى فهو المستحق للتعظيم بذاته على وجه لا يجوز هتك حرمة اسمه بحال والنوع الآخر الشرط والجزاء وهو يمين عند الفقهاء لما فيها من معنى اليمين وهو المنع أو الايجاب ولكن أهل اللغة لا يعرفون ذلك لانه ليس فيه معنى التعظيم ثم بدأ الكتاب ببيان النوع الاول فقال الايمان ثلاثة وهذا اللفظ على النحو الذى ذكره محمد رحمه الله تعالى يروى عن رجلين من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أبى مالك الغفاري وكعب بن مالك رحمهما الله ولم يرد عدد الايمان فان ذلك أكثر من أن يحصى وانما أراد أن اليمين بالله تعالى تنقسم في أحكامها ثلاثة أقسام يمين يكفر ويمين لا يكفر ويمين يرجو أن لا يؤاخذ الله تعالى بها صاحبها فأما الذى يكفر فهو اليمين على أمر في المستقبل لاق يجاد فعل أو نفى فعل وهذا عقد مشروع أمر الله تعالى به في بيعة نصرة الحق وفى المظالم والخصومات وهى في وجوب الحفظ أربعة أنواع نوع منها يجب اتمام البر فيها وهو أن يعقد على أمر طاعة أمر به أو الامتناع عن معصية وذلك فرض عليه قبل اليمين وباليمين يزداد وكادة

[ 127 ] ونوع لا يجوز حفظها وهو أن يحلف على ترك طاعة أو فعل معصية لقوله من حلف أن يطيع الله فليطعه ومن حلف أن يعصى الله فلا يعصه ونوع يتخير فيه بين البر والحنث والحنث خير من البر فيندب فيه إلى الحنث لقوله من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذى هو خير وليكفر وأدنى درجات الامر الندب ونوع يستوي فيه البر والحنث في الاباحة فيتخير بينهما وحفظ اليمين أولى بظاهر قوله تعالى واحفظوا أيمانكم وحفظ اليمين يكون بالبر بعد وجودها فعرفنا أن المراد حفظ البر ومن حنث في هذا اليمين فعليه الكفارة كما قال الله تعالى فكفارته اطعام عشرة مساكين ويتخير بين الطعام والكسوة والاعتاق للتنصيص على حرف أو ولان البداية بالاخف والختم بالاغلظ إشارة إلى ذلك لانها لو كانت مرتبة كانت البداية بالاغلظ والتى لا تكفر اليمين الغموس وهى المعقودة على أمر في الماضي أو الحال كاذبة يتعمد صاحبها ذلك وهذه لبست بيمين حقيقة لان اليمين عقد مشروع وهذه كبيرة محضة والكبيرة ضد المشروع ولكن سماه يمينا مجازا لان ارتكاب هذه الكبيرة لاستعمال صورة اليمين كما سمى رسول الله بيع الحر بيعا مجازا لان ارتكاب تلك الكبيرة لاستعمال صورة البيع ثم لا ينعقد هذا اليمين فيما هو حكمه في الدنيا عندنا ولكنها توجب التوبة والاستغفار وعند الشافعي رحمه الله تعالى تنعقد موجبة للكفارة فمن أصله محل اليمين نفس الخبر وشرط انعقادها القصد الصحيح وعندنا محل اليمين خبر فيه رجاء الصدق لانها تنعقد موجبة للبر ثم الكفارة خلف عنه عند فوت البر فالخبر الذى لا يتصور فيه الصدق لا يكون محلا لليمين والعقد لا ينعقد بدون محله وحجته قوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم فالله اثبت المؤاخذة في اليمين المكسوبة واليمين الغموس بهذه الصفة لانها بالقلب مقصودة ثم فسر هذه المؤاخذة بالكفارة في قوله بما عقدتم الايمان معناه بما قصدتم والعقد هو القصد ومنه سميت النية عقيدة وأوجب الكفارة موصولة باليمين بقوله فكفارته لان الفاء للوصل وقال في آخر الآية ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم والكفارة بنفس الحلف انما تجب بالغموس والمراد بقوله واحفظوا أيمانكم الامتناع من الحلف فان بعد الحلف انما يتصور حفظ البر وحفظ اليمين يذكر لمعنى الامتناع قال القائل

[ 128 ] قليل الالايا حافظ ليمينه وان بدرت منه الالية برت ولان قوله خالف فعله في يمين بالله تعالى مقصود فيلزمه الكفارة كما في المعقودة على أمر في المستقبل وأقرب ما يقيسون عليه إذا حلف ليمسن السماء أو ليحولن هذا الحجر ذهبا وهذا لان وجوب الكفارة في المعقودة على أمر في المستقبل لمعنى الحظر ولهذا سميت كفارة أي ساترة وهذا الحظر من حيث الاستشهاد بالله تعالى كاذبا وذلك بعينه موجود في الغموس ولان الغموس انما يخالف المعقودة على أمر في المستقبل في توهم البر والبر مانع من الكفارة وانعدام ما يمنع الكفارة يحقق معنى الكفارة فيها ولان في أحد نوعي اليمين وهو الشرط والجزاء يسوى بين الماضي والمستقبل في موجبه فكذلك في النوع الآخر (وحجتنا) في ذلك قوله تعالى ان الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية فقد بين جزاء اليمين الغموس بالوعيد في الآخرة فلو كانت الكفارة فيها واجبة لكان الاولى بيانها ولان الكفارة لو وجبت انما تجب لرفع هذا الوعيد المنصوص وذلك لا يقول به أحد قال عليه الصلاة والسلام خمس من الكبائر لا كفارة فيهن وذكر منها اليمين الفاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم وقال اليمين الغموس تدع الديار بلاقع أي خالية من أهلها وقال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه كنا نعد اليمين الغموس من الايمان التى لا كفارة فيها والمعنى فيه انها غير معقودة لان عقد اليمين للحظر أو الايجاب وذلك لا يتحقق في الماضي والخبر الذى ليس فيه توهم الصدق والعقد لا ينعقد بدون محله كالبيع لا ينعقد على ما ليس بمال لخلوه عن موجب البيع وهو تمليك المال ولانه قارنها ما يحلها ولو طرأ عليها يرفعها فإذا قارنها منع انعقادها كالردة والرضاع في النكاح بخلاف مس السماء ونحوه فانه لم يقارنها ما يحلها لانها عقدت على فعل في المستقبل فما يحلها انعدام الفعل في المستقبل ولهذا تتوقت تلك اليمين بالتوقيت ولان الغموس محظور محض فلا يصلح سببا لوجوب الكفارة كالزنا والردة وهذا لان المشروعات تنقسم ثلاث أقسام عباده محضة وسببها مباح محض وعقوبة محضة كالحدود وسببها محظور محض وكفارات وهى تتردد بين العبادة والعقوبة فمن حيث أنها لا تجب الاجزاء تشبه العقوبة ومن حيث أنه يفتى بها فلا تتأدى الا بنية العبادة وتتأدى بما هو محض العبادة كالصوم تشبه العبادات فينبغي أن يكون سببها مترددا بين الحظر والاباحة وذلك المعقودة على أمر في المستقبل لانه باعتبار تعظيم حرمة اسم الله تعالى باليمين مباح وباعتبار هتك هذه الحرمة

[ 129 ] بالحنث محظور فيصلح سببا للكفارة فأما الغموس محظور محض لان الكذب بدون الاستشهاد بالله تعالى محظور محض فمع الاستشهاد بالله تعالى أولى فلا يصلح سببا للكفارة ثم الكفارة تجب خلفا عن البر الواجب باليمين ولهذا يجب في المعقودة على أمر في المستقبل بعد الحنث لان قبل الحنث ما هو الاصل قائم فإذا حنث فقد فات الاصل فتجب الكفارة ليكون خلفا ويصير باعتبارها كانه على بره وهذا انما يتصور في خبر فيه توهم الصدق انه ينعقد موجبا للاصل ثم الكفارة خلف عنه وفي مس السماء هكذا لان السماء عين ممسوسة فلتصور البر انعقدت اليمين ثم لفواته بالعجز من حيث العادة تلزمه الكفارة في الحال خلفا عن البر فأما فيما نحن فيه لا تصور للبر فلا ينعقد موجبا لما هو الاصل فلا يمكن أن يجعل موجبا للخلف ولانه حينئذ لا يكون خلفا بل يكون واجبا ابتداء ولا يمكن جعل الكفارة واجبة باليمين ابتداء لانها حينئذ لا تكون كبيرة بل تكون سبب التزام القربة ومعنى قوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم ومن أسباب الوجوب ما هو مضمر في الكتاب كقوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر ثم ان الله تعالى أوجب الكفارة بعد عقد اليمين بقوله بما عقدتم الايمان والقراءة بالتشديد لا تتناول الان المعقودة وكذلك بالتخفيف لانه يقال عقدته فانعقد كما يقال كسرته فانكسر وانما يتصور الانعقاد فيما يتصور فيه الحل لانه ضده قال القائل * ولقلب المحب حل وعقد * ولا يتصور ذلك في الماضي أو المراد بقوله بما كسبت قلوبكم المؤاخذة بالوعيد في الآخرة لان دار الجزاء في الحقيقة الآخره فأما في الدنيا قد يؤاخذ المطيع ابتداء وينعم على العاصي استدراجا والمؤاخذة المطلقة محمولة على المؤاخذة في الآخرة وبفصل الشرط والجزاء يستدل على ما قلنا فانه إذا أضيف إلى الماضي يكون تحقيقا للكذب ولا يكون يمينا واليه يشير في الكتاب ويقول أمر الغموس أمر عظيم والبأس فيه شديد معناه أن ما يلحقه من المأثم فيه أعظم من أن يرتفع بالكفارة والنوع الثالث يمين اللغو فنفي المؤاخذة بها منصوص في القرآن قال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم واختلف العلماء في صورتها فعندنا صورتها أن يحلف على أمر في الماضي أو في الحال وهو يرى أنه حق ثم ظهر خلافه وهو مروي عن زرارة بن أبى أوفى وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما في احدى الروايتين وعن محمد رحمه الله قال هو قول الرجل في كلامه لا والله بلي والله وهو قريب من قول الشافعي رضى الله تعالى عنه فان عنده اللغو

[ 130 ] ما يجرى على اللسان من غير قصد في الماضي كان أو في المستقبل وهو احدى الروايتين عن ابن عباس قال اليمين اللغو يمين الغضب وروى عن عائشة رضى الله تعالى عنها ان النبي قال في تفسير اللغو قول الرجل لا والله بلى ولله وهو قول عائشة رضى الله تعالى عنها وتأويله عندنا فيما يكون خبرا عن الماضي فان اللغو ما يكون خاليا عن الفائدة والخبر الماضي خال عن فائدة اليمين على ما قررنا فكان لغوا فأما الخبر في المستقبل عدم القصد لا يعدم فائدة اليمين وقد ورد الشرع بأن الهزل والجد في اليمين سواء ولما أخذ المشركون حذيفة بن اليمان رضى الله عنه واستحلفوه أن لا ينصر محمدا أخبر بذلك رسول الله فقال أوف لهم بعهودهم ونحن نستعين بالله عليهم والمكره غير قاصد ومع ذلك أمره بالوفاء به فدل أن عدم القصد لا يمنع انعقاد اليمين ممن هو من أهله وتأويل قوله رفع عن أمتى الخطأ والنسيان رفع الاثم ومن السلف من قال اللغو هو اليمين المكفرة وهذا باطل فان الله تعالى عطف اليمين التى فيها الكفارة على اللغو والشئ لا يعطف على نفسه ومنهم من يقول يمين اللغو اليمين على المعصية وقال بعضهم لا كفارة فيها وقال بعضهم في محبطة بالكفارة أي لا مؤاخذة فيها بعد الكفارة وهذا أيضا فاسد فان كون الفعل معصية لا يمنع عقد اليمين عليه ولا يخرجه عن كونه سببا للكفارة كالظهار فانه منكر من القول وزور ثم كان موجبا للكفارة عند العود وهذا النوع لا يتحقق الا في اليمين بالله تعالى فأما في الشرط والجزاء لا يتحقق اللغو هكذا ذكره ابن رستم عن محمد رحمهما الله تعالى لان عدم القصد لا يمنع وقوع الطلاق والعتاق (فان قيل) فما معنى تعليق محمد رحمه الله تعالى نفى المؤاخذة في هذا النوع من الرجاء بقوله نرجو أن لا يؤاخذ الله تعالى بها صاحبها وعدم المؤاخذة في اليمين اللغو منصوص عليه وما عرف بالنص فهو مقطوع به (قلنا) نعم ولكن صورة تلك اليمين مختلف فيها فانما علق بالرجاء نفي المؤاخذة في اللغو بالصورة التى ذكرها وذلك غير معلوم بالنص مع أنه لم يرد بهذا اللفظ التعليق بالرجاء انما أراد به التعظيم والتبرك بذكر اسم الله تعالى كما روى أن النبي كان إذا مر بالمقابر قال السلام عليكم ديار قوم مؤمنين وانا ان شاء الله بكم لاحقون وما ذكر الاستثناء بمعنى الشك فانه كان متيقنا بالموت وقد قال الله تعالى انك ميت وانهم ميتون ولكن معنى ذكر الاستثناء

[ 131 ] ما ذكرنا وإذا حلف ليفعلن كذا ولم يوقت لذلك وقتا فهو على يمينه حتى يهلك ذلك الشئ الذى حلف عليه فيلزمه الكفارة حينئذ وأعلم ان اليمين ثلاثة أنواع مؤبدة لفظا ومعنى بأن يقول والله لا أفعل كذا أبدا أو يقول لا أفعل مطلقا والمطلق فيما يتأبد يقتضى التأبيد كالبيع ومؤقته لفظا ومعنى بأن يقول لا أفعل كذا اليوم فيتوقت اليمين بذلك الوقت لان موجبه الحظر أو الايجاب وذلك يحتمل التوقيت فيتوقت بتوقيته ومؤبد لفظا مؤقت معنى كيمين الفور إذا قال تعال تغد معى فقال والله لا أتغدى يتوقت يمينه بذلك الغداء المدعو إليه وهذا النوع من اليمين سبق به أبو حنيفة رحمه الله تعالى ولم يسبق به وأخذه من حديث جابر بن عبد الله وابنه حين دعيا إلى نصرة انسان فحلفا أن لا ينصراه ثم نصراه بعد ذلك ولم يحنثا وبناه على ما عرف من مقصود الحالف وهو الاصل في الشرع أن يبتني الكلام على ما هو معلوم من مقصود المتكلم قال الله تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك والمراد الامكان والاقدار لاستحالة الامر بالشرك والمعصية من الله تعالى ثم الكفارة لا تجب الا بعد فوت البر في اليمين المطلقة وانما يفوت البر بهلاك ذلك الشئ الذى حلف عليه أو بموت الحالف وأما في اليمين المؤقتة ففوت البر بمضي الوقت مع بقاء ذلك الشئ الذى حلف عليه ومع بقاء الحالف وأما إذا كان الحالف قد مات قبل مضى ذلك الوقت لا تجب الكفارة وإذا هلك ذلك الشئ ففيه اختلاف بين أبي حنيفة وأبى يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى نبينه في موضعه ان شاء الله تعالى وإذا قال ورحمة الله لا أفعل كذا أو غضب الله وسخط الله وعذاب الله وثوابه ورضاه وعلمه فانه لا يكون يمينا والحاصل أن نقول اليمين اما أن يكون باسم من أسماء الله تعالى أو بصفة من صفاته وذلك يبتنى على حروف القسم فلابد من معرفتها أولا فنقول حروف القسم الباء والواو والتاء أما الباء فهى للالصاق في الاصل وهي بدل عن فعل محذوف فمعنى قوله بالله أي احلف بالله قال الله تعالى ويحلفون بالله أو أقسم بالله قال تعالى وأقسموا بالله ولهذا يصح اقترانها بالكناية فيقول القائل به وبك ثم الواو تستعار للقسم بمعنى الباء لما بينهما من المشابهة صورة ومعنى أما صورة فلان مخرج كل واحد منهما بضم الشفتين وأما المعنى فلان الواو للعطف وفى العطف معنى الالصاق الا أنه لا يستقيم اظهار الفعل مع حرف الواو بأن يقول احلف والله لان الاستعارة لتوسعة صلات الاسم لا لمعنى الالصاق فإذا استعمل مع اظهار الفعل يكون بمعنى الالصاق ولهذا لا يستقيم حرف الواو مع الكناية وانما يستقيم مع التصريح

[ 132 ] بالاسم سواء ذكر اسم الله تعالى أو اسم غير الله فيقول وأبيك وأبى ثم التاء تستعار لمعنى الواو لما بينهما من المشابهة فانهما من حروف الزوائد تستعمل العرب احداهما بمعنى الاخرى كقولهم تراث ووارث ولكن هذه الاستعارة لتوسعة صلة القسم بالله خاصة ولهذا لا يستقيم ذكر التاء الا مع التصريح بالله حتى لا يقال بالرحمن وانما يقال بالله خاصة قال الله تعالى تالله لقد اثرك الله علينا تالله لاكيدن أصنامكم ثم الحلف بأسماء الله تعالى يمين في الصحيح من الجواب ومن أصحابنا من يقول كل اسم لا يسمى به غير الله تعالى كقوله والله والرحمن فهو يمين وما يسمى به غير الله تعالى كالحكيم والعالم فان أراد به اليمين فهو يمين وان لم يرد به اليمين لا يكون يمينا وكان بشر المريسى يقول في قوله والرحمن ان أراد به اسم الله تعالى فهو يمين وان أراد به سورة الرحمن لا يكون يمينا لانه حلف بالقرآن وقد بينا في كتاب الطلاق أن قوله والقرآن لا يكون يمينا ولكن الاول أصح لان تصحيح كلام المتكلم واجب ما أمكن ومطلق الكلام محمول على ما يفيد دون مالا يفيد وذلك في أن يجعل يمنا ويستوى ان قال والله أو بالله أو تالله وكذلك ان قال ألله لان من عادة العرب حذف بعض الحروف للايجاز قال القائل قلت لها قفى فقالت قاف * لا تحسبن انى نسيت الالحاف أي وقفت الا ان عند نحويى البصرة عند حذف حرف القسم يذكر منصوبا بانتزاع حرف الخافض منه وعند نحويي الكوفة يذكر مخفوضا لتكون كسرة الهاء دليلا على محذوفه وكذلك لو قال لله لان معناه بالله فان الباء واللام يتقاربان قال الله تعالى آمنتم له أي آمنتم به وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج وذكر القفال في تفسيره إذا قال له وعنى به اليمين بكون يمينا واستدل بقول القائل لهنك من عبسية لوسيمة * على هنوات كاذب من يقولها معناه لله انك ولو قال وايم الله فهو يمين قال محمد رحمه الله تعالى ومعناه أيمن فهو جمع اليمين وهذا مذهب نحويى الكوفة وأما البصريون يقولون معناه والله وايم صلته كقولهم صه ومه وما شاكله وكذلك لو قال لعمرو الله فهو يمين باعتبار النص قال الله تعالى لعمرك والعمرو هو البقاء والبقاء من صفات الذات فكأنه قال والله الباقي وأما الحلف بالصفات فالعرافيون من مشايخنا رحمهم الله تعالى يقولون الحلف بصفات الذات كالقدرة والعظمة والعزة

[ 133 ] والجلال والكبرياء يمين والحلف بصفات الفعل كالرحمة والغضب لا يكون يمينا وقالوا صفات الذات مالا يجوز أن يوصف بضده كالقدرة وصفات الفعل ما يجوز أن يوصف بضده يقال رحم فلان ولم يرحم فلان وغضب على فلان ورضى عن فلان قالوا وعلى هذا ينبغي في القياس في قوله وعلم الله أن يكون يمينا لانه من صفات الذات فانه لا يوصف بضد العلم ولكنهم تركوا هذا القياس لان العلم يذكر بمعنى المعلوم كقول الرجل في دعائه اللهم اغفر لنا علمك فينا أي معلومك ويقال علم أبى حنيفة رحمه الله أي معلومه والمعلوم غير الله (فان قيل) وقد يقال أيضا انظر إلى قدرة الله والمراد المقدور ثم قوله وقدرة الله يمين (قلنا) معنى قوله انظر إلى قدرة الله أي إلى أثر قدرة الله تعالى ولكن بحذف المضاف واقامة المضاف إليه مقامه فان القدرة لا تعاين ولكن هذا الطريق غير مرضى عندنا فانهم يقصدون بهذا الفرق الاشارة إلى مذهبهم أن صفات الفعل غير الله تعالى والمذهب عندنا أن صفات الله لا هو ولا غيره فلا يستقيم الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل في حكم اليمين ومنهم من يعلل فيقول رحمة الله تعالى الجنة قال الله تعالى ففي رحمة الله هم فيها خالدون وإذا كانت الرحمة بمعنى الجنة فالسخط والغضب بمعنى النار فيكون حلفا بغير الله تعالى وهذا غير مرضى أيضا لان الرحمة والغصب عندنا من صفة الله تعالى والاصح أن يقول الايمان مبنية على العرف والعادة فما تعارف الناس الحلف به يكون يمينا وما لم يتعارف الحلف به لا يكون يمينا والحلف بقدرة الله تعالى وكبريائه وعظمته متعارف فيما بين الناس وبرحمته غضبه غير متعارف فلهذا لم يجعل قوله وعلم الله يمينا ولهذا قال محمد رحمه الله في قوله وأمانة الله انه يمين ثم سئل عن معناه فقال لا أدرى فكأنه قال وجد العرب يحلفون بأمانة الله عادة فجعله يمينا وذكر الطحاوي أن قوله وأمانة الله لا يكون يمينا لانه عبادة من العبادات والطاعات ولكن أمر الله تعالى بها وهي غير الله تعالى وجه رواية الاصل أنه يتعذر الاشارة إلى شئ بعينه على الخصوص انه أمانة الله والحلف به متعارف وعلمنا انهم يريدون به الصفة فكأنه قال والله الامين فان قال ووجه الله روى عن أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى انه يمين لان الوجه يذكر بمعنى الذات قال الله تعالى ويبقي وجه ربك قال الحسن هو هو وعلى قول أبى حنيفة رحمه الله لا يكون يمينا قال أبو شجاع رحمه الله تعالى في حكايته عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو من ايمان السفلة يعنى الجهلة الذين يذكرونه بمعنى الجارحة وهذا دليل على انه لم يجعله يمينا وان قال وحق الله فهو يمين

[ 134 ] في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى واحدى الروايتين عن أبى يوسف رحمه الله تعالى وفى الرواية الاخرى لا يكون يمينا لان حق الله على عباده الطاعات كما فسر رسول الله في قوله لمعاذ أتدرى ما حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا والحلف بالطاعات لا يكون يمينا وجه قوله أن معنى وحق الله والله الحق والحق من صفات الله تعالى قال الله تعالى ذلك بأن الله هو الحق ولا خلاف أنه لو قال والحق لا أفعل كذا انه يمين كقوله والله قال الله تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم ولو قال حقا لا يكون يمينا لان التنكير في لفظه دليل على أنه لم يرد به اسم الله وانما أراد به تحقيق الوعد معناه أفعل هذا لا محالة فلا يكون يمينا قال الشيخ الامام رحمه الله تعالى وقد بينا في باب الايلاء من كتاب الطلاق ألفاظ القسم ما اتفقوا عليه وما فيه اختلاف كقولم هو يهودى أو نصراني أو مجوسي وقد روى عن محمد رحمه الله تعالى أنه قال إذا قال هو يهودي إن فعل كذا وهو نصراني ان فعل كذا فهما يمينان وان قال هو يهودى هو نصراني ان فعل كذا فهى يمين واحدة لان في الاول كل واحد من الكلامين تام بذكر الشرط والجزاء وفي الثاني الكلام واحد حين ذكر الشرط مرة واحدة ولو حلف على أمر في الماضي بهذا اللفظ فان كان عنده أنه صادق فلا شئ عليه وان كان يعلم أنه كاذب كان محمد بن مقاتل رحمه الله تعالى يقول يكفر لانه علق الكفر بما هو موجود والتعليق بالموجود تنجبز (تنجيز) فكأنه قال هو كافر وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يكفر اعتبارا للماضي بالمستقبل ففي المستقبل هذا اللفظ يمين يكفرها كاليمين بالله تعالى ففى الماضي هو بمنزلة الغموس أيضا والاصح انه ان كان عالما يعرف انه يمين فانه لا يكفر به في الماضي والمستقبل وان كان جاهلا وعنده انه يكفر بالحلف يصير كافرا في الماضي والمستقبل لانه لما أقدم على ذلك الفعل وعنده انه يكفر به فقد صار راضيا بالكفر ومن هذا الجنس تحريم الحلال فانه يمين يوجب الكفارة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون يمينا الا في النساء والجوارى لان تحريم الحلال قلب الشريعة واليمين عقد شرعى فكيف ينعقد بلفظ هو قلب الشريعة ولانه ليس في هذا المعنى تعظيم المقسم به ولا معنى الشرط والجزاء من حيث أنه بوجود الشرط لا يثبت عين ما علق به من الجزاء أو اليمين يتنوع بهذين النوعين (وحجتنا) في ذلك قوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم قيل ان النبي حرم العسل على نفسه وقيل حرم مارية على

[ 135 ] نفسه فيعمل بهما أو لما ثبت بهذه الآيه أن التحريم المضاف إلى الجوارى يكون يمينا فكذلك التحريم المضاف إلى سائر المباحات كقوله والله فكما أن هاك عند وجود الشرط لا يثبت ما علق به من التحريم فكذلك في الجوارى ثم معنى اليمين في هذا اللفظ يتحقق بالقصد إلى المنع أو إلى الايجاب لان المؤمن يكون ممتنعا من تحريم الحلال وإذا جعل ذلك يمينه علامة فعله عرفنا أنه قصد منع نفسه عن ذلك الفعل كما في قوله والله لانه ثبت أن الانسان يكون ممتنعا من هتك حرمة اسم الله تعالى فكان يمينا وعلى هذا القول في قوله هو كافر ان فعل كذا كان يمينا لان حرمة الكفر حرمة تامة مصمتة كهتك حرمة اسم الله تعالى فإذا جعل فعله علامة لذلك كان يمينا فأما إذا قال هو يأكل الميتة أو يستحلها أو الدم أو لحكم الخنزير ان فعل كذا فهذا لا يكون يمينا لان هذه الحرمة ليست بحرمة تامة مصمتة حتى أنه ينكشف عند الضرورة وكذلك قوله هو يترك الصلاة والزكاه ان فعل كذا لان ذلك يجوز عند تحقق الضرورة والعجز فلم يكن في معنى اليمين من كل وجه ولو ألحق به باعتبار بعض الاوصاف لكان قياسا ولا مدخل للقياس في هذا الباب وكذلك لو حلف بحد من حدود الله تعالى أو بشئ من شرائع الاسلام لم يكن يمينا لانه حلف بغير الله تعالى ولان الحلف بهذه الاشياء غير متعارف وقد بينا أن العرف معتبر في اليمين ولو قال عليه لعنة الله أو غضب الله أو أماتة الله أو عذبه الله بالنار أو حرم عليه الجنة ان فعل كذا فشئ من هذا لا يكون يمينا انما هو دعاء على نفسه قال الله تعالى ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير ولان الحلف بهذه الالفاظ غير متعارف وسئل محمد رحمه الله تعالى عمن يقول وسلطان الله لا يفعل كذا فقال لا أدرى ما هذا من حلف بهذا فقد أشار إلى عدم العرف والصحيح من الجواب في هذا الفصل انه إذا أراد بالسلطان القدرة فهو يمين كقوله وقدرة الله ولو جعل عليه حجة أو عمرة أو صوما أو صلاة أو صدقة أو ما أشبه ذلك مما هو طاعة ان ففعل كذا فعل لزمه ذلك الذى جعله على نفسه ولم يجب كفارة اليمين فيه في ظاهر الرواية عندنا وقد روى عن محمد رحمه الله تعالى قال ان علق النذر بشرط يريد كونه كقوله ان شفى الله مريضى أو رد غائبي لا يخرج عنه بالكفارة وان علق بشرط لا يريد كونه كدخول الدار ونحوه يتخير بين الكفارة وبين عين ما التزمه وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى في الجديد وقد كان يقول في القديم يتعين عليه

[ 136 ] كفارة اليمين وروى أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى رجع إلى التخيير أيضا فان عبد العزيز ابن خالد الترمذي رضى الله تعالى عنه قال خرجت حاجا فلما دخلت الكوفة قرأت كتاب النذور والكفارات على أبى حنيفة رحمه الله تعالى فلما انتهيت إلى هذه المسألة فقال قف فان من رأيى أن أرجع فلما رجعت من الحج إذا أبو حنيفة رحمه الله تعالى قد توفى فأخبرني الوليد بن أبان رحمه الله أنه رجع عنه قبل موته بسبعة أيام وقال يتخير وبهذا كان يفتى إسماعيل الزاهد رحمه الله قال رضى الله عنه وهو اختياري أيضا لكثرة البلوى في زماننا وكان من مذهب عمر وعائشة رضى الله عنهما أنه يخرج عنه بالكفارة ومن مذهب عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم انه لا يخرج عنه بالكفارة حتى كان ابن عمر يقول لا أعرف في النذر الا الوفاء وأما وجه قوله الاول قوله من نذر نذرا وسمى فعليه الوفاء بما سمى ومن نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين والمعنى فيه أنه علق بالشرط ما يصح التزامه في الذمة فعند وجود الشرط يصير كالمنجز ولو نجز النذر لم يخرج عنه بالكفارة ألا ترى أن الطلاق المعلق بالشرط يجعل عند وجود الشرط كالمنجز فهذا مثله وتحقيق هذا وهو أن معنى اليمين لا يوجود هنا لانه ليس فيه تعظيم المقسم به لانه جعل دخول الدار علامة التزام الصوم والصلاة وفى الالتزام معنى القربة والمسلم لا يكون ممتنعا من التزام القربة توضيحه أن الكفارة تجب لمعنى ق الحظر لانها ستاره للذنب ومعنى الحظر لا يوجد هنا وفى القول بالخيار له تخيير بين القليل والكثير في جنس واحد حتى إذا قال ان دخلت الدار فعلى طعام ألف مسكين فمن يقول بالخيار يخيره بين اطعام عشرة مساكين وبين اطعام ألف مسكين وكذا العتق والكسوة وان قال المعسر ان دخلت الدار فعلى صوم سنة يخيره بين صوم سنة وبين صوم ثلاثة أيام والتخيير بين القليل والكثير في جنس واحد غير مفيد شرعا فلا يجوز أن يكون حكما شرعيا ووجه قوله الآخر قوله النذر يمين وكفارته اليمين فيحمل هذا على النذر المعلق بالشرط وما رووه على النذر المرسل أو المعلق بما يريد كونه ليكون جمعا بين الاخبار والمعنى فيه أن كلامه يشتمل على معنى النذر واليمين جميعا أما معنى النذر فظاهر وأما معنى اليمين فلانه قصد بيمينه هذا منع نفسه عن ايجاد الشرط لان الانسان يمتنع من التزام هذه الطاعات بالنذر مخافة أن لا يفي بها فيلحقه الوعيد الذي ذكره الله تعالى في قوله ورهبانية ابتدعوها

[ 137 ] ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله إلى قوله وكثير منهم فاسقون فإذا جعل دخول الدار علامة التزام ما يكون ممتنعا من التزامه يكون يمينا وكذلك من حيث العرف يسمى يمينا يقال حلف بالنذر فلوجود اسم اليمين ومعناها قلنا يخرج بالكفارة ولوجود معنى النذر قلنا يخرج عنه بعين ما التزمه بخلاف النذر المرسل فاسم اليمين ومعناها غير موجود فيه وكذلك المعلق بشرط يريد كونه لان معنى اليمين غير موجود فيه وهو الفصد إلى المنع بل قصده اظهار الرغبة فيما جعله شرطا يقرر هذا ان معنى الحظر يتحقق هنا لان الالتزام بالنذر قربة بشرط أن يفي بما وعد فأما بدون الوفاء يكون معصية قال الله تعالى لم تقولون ما لا تفعلون وقال الله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن الآية ولا يدرى أنه هل يفي بهذا أو لا يفي فيكون مترددا دائرا بين الحظر والاباحة بمنزلة اليمين بالله تعالى فيصلح سببا لوجوب الكفارة (فان قيل) هذا في النذر المرسل موجود (قلنا) نعم ولكن لابد من اعتبار اسم اليمين لايجاب الكفارة لانها تسمى كفارة اليمين واسم اليمين لا يوجد في النذر المرسل ومنهم من يقول هو يمين يتوقف موجبها على تنفيذ من جهته فيخرج عنها بالكفارة كاليمين بالله تعالى بخلاف اليمين بالطلاق والعتاق فانه لا يتوقف موجبها على تنفيذ من جهته بل بوجود الشرط يقع الطلاق والعتاق ولو شرعت الكفارة فيها كانت لرفع ما وقع من الطلاق والعتاق وذلك غير مشروع هنا ولو شرعت الكفارة كانت مشروعة خلفا عن البر ليصير كانه تم على بره وذلك مشروع فانه لو تم على بره لا يلزمه شئ والتخيير بين القليل والكثير في الجنس الواحد باعتبار معنيين مختلفين جائز كالعبد إذا أذن له مولاه بأداء الجمعة يتخير بين أداء الجمعة ركعتين وبين الظهر أربعا فهذا مثله وكذلك إذا حلف بالمشى إلى بيت الله ان فعل كذا ففعل ذلك الفعل لم يلزمه شئ في القياس لانه انما يجب بالنذر ما يكون من جنسه واجب شرعا والمشي إلى بيت الله ليس بواجب شرعا ولانه لا يلزمه عين ما التزمه وهو المشى فلان لا يلزمه شئ آخر أولى وهو الحج أو العمرة وفى الاستحسان يلزمه حجة أو عمرة وهكذا روى عن علي رضى الله عنه ولان في عرف الناس يذكر هذا اللفظ بمعنى التزام الحج والعمرة وفى النذور والايمان يعتبر العرف فجعلنا هذا عبارة عن التزام حج أو عمرة مجازا لان المقصود بالكلام استعمال الناس لاظهار ما في باطنهم فإذا صار اللفظ في شئ مستعملا مجازا يجعل كالحقيقة في ذلك الشئ ثم يتخير بين الحج

[ 138 ] والعمرة لانهما النسكان المتعلقان بالبيت لا يتوصل إلى أدائهما الا بالاحرام والا بالذهاب إلى ذلك الموضع ثم يتخير ان شاء مشى وان شاء ركب واراق دما لحديث عقبة بن عامر أنه قال يا رسول الله ان أختى نذرت أن تحج ماشية فقال ان الله غني عن تعذيب أختك مرها فلتركب ولترق دما ولان النسك بصفة المشى يكون أتم على ما روى أن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما بعدما كف بصره كان يقول لا أتأسف على شئ كتأسفي على ان لا أحج ماشيا فان الله تعالى قدم المشاة فقال يأتوك رجالا وعلى كل ضامر فإذا ركب فقد أدخل فيه نقصا ونقائص النسك تجبر بالدم وان اختار المشى فالصحيح من الجواب أنه يمشى من بيته إلى أن يفرغ من أفعال الحج وما سواه فيه من الكلام قد بيناه في المناسك وقد ذكرنا أنه ثمان فصول في ثلاث يلزم بلا خلاف في المشي إلى بيت الله تعالى أو الكعبة أو مكة وفي ثلاث لا يلزمه شئ بالاتفاق وهو إذا نذر الذهاب إلى مكة أو السفر إلى مكة أو الركوب وفى فصلين خلاف وهو ما إذا نذر المشى إلى الحرم أو المسجد الحرام كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يأخذ فيهما بالقياس وهما بالاستحسان ولو حلف بالمشى إلى بيت الله وهو ينوى مسجدا من المساجد سوى المسجد الحرام لم يلزمه شئ لان المنوي من محتملات لفظه فالمساجد كلها بيوت الله تعالى على معنى أنها تجردت عن حقوق العباد فصارت معدة لاقامة الطاعة فيها لله تعالى فإذا عملت نيته صار المنوي كالملفوظ به وسائر المساجد يتوصل إليها بغير احرام فلا يلزمه بالتزام المشى إليها شئ ومسجد بيت المقدس ومسجد المدينة في ذلك سواء عندنا بخلاف المسجد الحرام فانه لا يتوصل إليه الا بالاحرام والملتزم بالاحرام يلزمه أحد النكسين المختص أداؤهما بالاحرام وهو الحج أو العمرة وإذا قال أنا أحرم ان فعلت كذا أو أنا محرم أو أهدي أو أمشى إلى البيت وهو يريد ان يعد من نفسه عدة ولا يوجب شيئا فليس عليه شئ لان ظاهر كلامه وعد فانه يخبر عن فعل يفعله في المستقبل والوعد فيه غير ملزم وانما يندب إلى الوفاء بما هو قربة منه من غير أن يكون ذلك دينا عليه وان أراد الايجاب لزمه ما قال لان المنوي من محتملات لفظه فان الفعل الذى يفعله في المستقبل قد يكون واجبا وقد يكون غير واجب فإذا أراد الايجاب فقد خص أحد النوعين بنيته وتعليقه بالشرط دليل على الايجاب أيضا لانه يدل على انه يثبت عند وجود الشرط ما لم يكن ثابتا من قبل وهو الوجوب دون التمكن من الفعل فانه لا يختلف بوجود الشرط

[ 139 ] وعدمه وان لم يكن له نية ففي القياس لا يلزمه شئ لان ظاهر لفظه عدة ولان الوجوب بالشك لا يثبت وفي الاستحسان يلزمه ما قال لان العرف بين الناس انهم يريدون بها اللفظ الايجاب ومطلق الكلام محمول على المتعارف والتعليق بالشرط دليل الايجاب أيضا وانما ذكر محمد رحمه الله تعالى القياس والاستحسان في المناسك وإذا حلف ان يهدى ما لا يملكه لا يلزمه شئ لقوله عليه الصلاة والسلام لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم ومراده من هذا اللفظ ان يقول ان فعلت كذا فلله على ان أهدى هذه الشاة وهي مملوكة لغيره فاما إذا قال والله لاهدين هذه الشاة ينعقد يمينه لان محل اليمين خبر فيه رجاء الصدق وذلك بكون الفعل ممكنا ومحل النذر فعل هو قربة واهداء شاة الغير ليس بقربة الا ان يريد اليمين فحينئذ ينعقد لان في النذر معنى اليمين حتى ذكر الطحاوي انه لو أضاف النذر إلى ما هو معصية وعني به اليمين بأن قال لله تعالى على ان أقتل فلانا كان يمينا ويلزمه الكفارة بالحنث لقوله عليه الصلاة والسلام النذر يمين وكفارته كفارة اليمين وإذا قال لله علي ان أنحر ولدي أو اذبح ولدي لم يلزمه شئ في القياس وهو قول أبى يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى وفى الاستحسان يلزمه ذبح شاة وهو قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لكنه ان ذكر بلفظ الهدى فذلك يختص بالحرم وفي سائر الالفاظ اما أن يذبحها في الحرم أو في أيام النحر وجه القياس انه نذر باراقة دم محقون فلا يلزمه شئ كما لو قال أبى أو أمي وهذا لان الفعل الذى سماه معصية ولا نذر في معصية الله تعالى ولانه لو نذر ذبح ما يملك ذبحه ولكن لا يحل ذبحه كالحمار والبغل لا يلزمه شئ ولو نذر ذبح ما يحل ذبحه ولكن لا يملك ذبحه كشاة الغير لا يلزمه شئ فإذا نذر ذبح ما لا يحل ذبحه ولا يملك ذبحه أولى أن لا يلزمه شئ وجه الاستحسان ما روى أن رجلا سأل ابن عباس رضى الله عنهما عن هذه المسألة فقال أرى عليك مائة بدنة ثم قال ائت ذلك الشيخ فاسأله وأشار إلى مسروق فسأله فقال أرى عليك شاة فأخبر بذلك ابن عباس رضى الله عنهما فقال وأنا أرى عليك ذلك وفى رواية عن ابن عباس انه أوجب فيه كفارة اليمين وعن علي بن أبى طالب رضى الله عنه انه أوجب فيه بدنة أو مائة بدنة وسألت امرأة عبد الله ابن عمر فقالت انى جعلت ولدى نحيرا فقال أمر الله بالوفاء بالنذر فقالت أتأمرني بقتل ولدى فقال نهى الله عن قتل الولد وان عبد المطلب نذر ان تم له عشرة بنين أن يذبح عاشرهم فتم له ذلك بعبد الله أبى رسول الله فأفرع بينه وبين عشر من

[ 140 ] الابل فخرجت القرعة عليه فما زال يزيد عشرا عشرا والقرعة تخرج عليه حتى بلغت الابل مائه فخرجت القرعة عليها ثلاث مرات فنحر مائة من الابل وأرى عليك مائة من الابل والصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على صحة النذر واختلفوا فيما يخرج به فاستدللنا باجماعهم على صحة النذر لان من الاجماع أن يشتهر قول بعض الكبار منهم ولا يظهر خلاف ذلك ولا شك أن رجوع ابن عباس إلى قول مسروق قد اشتهر ولم يظهر من أحد خلاف ذلك والذى روى عن مروان أخطأ الفتيا لا نذر في معصية الله شاذ لا يلتفت إليه فان قول مروان لا يعارض قول الصحابة مع أن الاجماع لا يعتبر فيما يكون مخالفا للقياس ولكن قول الواحد من فقهائهم فيما يخالف القياس حجة يترك به القياس لانه لا وجه لحمل قوله الا على السماع ممن ينزل عليه الوحى ثم أخذنا بفتوى ابن عباس ومسروق في ايجاب الشاة لها لان هذا القدر متفق عليه فان من أوجب بدنة أو أكثر فقد أوجب الزيادة أو لان من أوجب الشاة فانما أوجبها استدلالا بقصة الخليل صلوات الله عليه ومن أوجب مائة من الابل فانما أوجبها استدلالا بفعل عبد المطلب والاخذ بفعل الخليل صلوات الله عليه أولى من الاخذ بفعل عبد المطلب وهو الاستدلال الفقهى في المسألة فان الشاة محل لوجوب ذبحها بايجاب ذبح مضاف إلى الولد فكان اضافة النذر بالذبح إلى الولد بهذا الطريق كالاضافة إلى الشاة فيكون ملزمة وبيانه أن الخليل صلوات الله وسلامه عليه أمر بذبح الولد كما أخبر به ولده فقال الله تعالى مخبرا عنه انى أرى في المنام أنى أذبحك أي أمرت بذبحك بدليل أن ابنه قال في الجواب يا أبت افعل ما تؤمر ولانهما اعتقدا الامر بذبح الولد حيث اشتغلا به فأقر عليه وتقرير الرسل على الخطأ لا يجوز خصوصا فيما لا يحل العمل فيه بغالب الرأى من اراقة دم نبى ثم وجب عليه بذلك الامر ذبح الشاة لان الله تعالى قال وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا أي حققت وانما حقق ذبح الشاة فلا يجوز أن يقال انما سماه مصدقا رؤياه قبل ذبح الشاة لان في الآية تقديما وتأخيرا معناه وفديناه بذبح عظيم وناديناه أن يا إبراهيم وهذا لان قبل ذبح الشاة انما أتى بمقدمات ذبح الولد من تله للجبين وامراره السكين على حلقه وبه لم يحصل الامتثال لانه ليس بذبح ولانه لو حصل الامتثال به لم تكن الشاة فداء ولا يجوز أن يقول وجوب الشاة بأمر آخر لان اثبات أمر آخر بالرأى غير ممكن ولانه حينئذ لا يكون فداء والله تعالى سمى الشاة فداء

[ 141 ] على أنه دفع مكروه الذبح عن الولد بالشاة وهذا إذا كان وجوب الشاة بذلك الامر ولا يجوز أن يقال وجوب عليه ذبح الولد بدليل أنه اشتغل بمقدماته وانما كانت الشاة فداء عن ولد وجوب ذبحه وهذا لا يوجد في النذر وهذا لانه ما وجب عليه ذبح الولد حتى جعلت الشاة فداء إذا لو كان واجبا لما تأدى بالفداء مع وجود الاصل في يده ولان الولد كان معصوما عن الذبح وقذ ظهرت العصمة حسا على ما روى أن الشفرة كانت تنبو وتنفل ولا تقطع وبين كونه معصوما عن الذبح وبين كونه واجب الذبح منافاة فعرفنا أنه ما وجب ذبح الولد بل أضيف الايجاب إليه على أن ينحل الوجوب بالشاة وفائدة هذه الاضافة الابتلاء في حق الخليل عليه السلام بالاستسلام واظهار الطاعة فيما لا يضطلع فيه أحد من المخلوقين وللولد بالانقياد والصبر على مجاهدة بذل الروح إلى مكاشفة الحال وليكون له ثواب أن يكون قربانا لله تعالى كما قال النبي أنا ابن الذبيحين وما ذبحا بل أضيف اليهما ثم فديا بالقرابين ولا يقال قد وجب ذبح الولد ثم تحول وجوب ذبح الولد إلى الشاة بانتساخ المحلية فتكون الشاة واجبة بذلك الامر كالدين يحال من ذمة إلى ذمة فيفرغ المحل الاول منه بعد الوجوب فيه فيكون واجبا في المحل الثاني بذلك السبب وهذا لان الوجوب في المحل لا يكون الا بعد صلاحية المحل له وبعد ذلك وان تحول إلى محل آخر يبقى المحل الاول صالحا لمثله كالدين إذا حول من ذمة إلى ذمة ولم يبق الولد محلا صالحا لذبح هو قربان فعرفنا أنه لم يكن محلا وان الوجوب بحكم ذلك الايجاب حل بالشاة من حيث أنه يقدم على الولد في قبول حكم الوجوب ولهذا سمى فداء نظيره من الحياة أن يرمي إلى انسان فيفديه غيره بنفسه من حيث أنه يتقدم عليه لينفذ السهم فيه لا ان يتحول إليه بعدما وصل إلى المحل ويقول لغيره فدتك نفس عن المكاره والمراد هذا ومن الشرعيات الخف مقدم على الرجل في قبول حكم الحدث لا ان يتحول إلى الخف ما حل بالرجل من الحدث ولو سلمنا انه وجب ذبح الولد فانما كان ذلك لغيره وهو الفداء لا لعينه ولهذا صار محققا رؤياه بالفداء وفي مثل هذا ايجاب الاصل في حال العجز عنه يكون ايجابا للفداء كالشيخ الفاني إذا نذر الصوم يلزمه الفداء لان وجوب الصوم عليه شرعا لغيره وهو الفداء لا لعينه فانه عاجز عنه وذكر الطبري في تفسيره ان الخليل عليه السلام كان نذر الذبح لاول ولد يولد له ثم نسى ذلك فذكر في المنام فان ثبت هذا فهو نص لان شريعة من قبلنا تلزمنا ما لم يظهر ناسخه

[ 142 ] خصوصا شريعة الخليل صلوات الله عليه قال الله تعالى فاتبع ملة إبراهيم حنيفا فأما إذا نذر بذح عبده فمحمد رحمه الله تعالى أخذ فيه بالاستحسان أيضا وقال أيضا يلزمه ذبح الشاة لان العبد كسبه وملكه فإذا صح اضافة النذر إلى الولد لكونه كسبا له وان لم يكن ملكا له فلان يصح اضافته إلى كسبه وهو ملكه أولى وأبو حنيفة رحمه الله تعالى أخذ بالقياس فقال لا يلزمه شئ لان جعل الشاة فداء عن الولد لكرامة الولد والعبد في استحقاق الكرامة ليس بنظير الولد ولا مدخل للقياس في هذا الباب وان نذر ذبح ابن ابنه ففيه روايتان عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى في احدى الروايتين لا يلزمه شئ وهو الاظهر لان ابن الابن ليس نظير الابن من كل وجه ولا مدخل للقياس في هذا الباب وفى الرواية الاخرى قال يلزمه لانه مضاف إليه بالبنوة كالابن وهو في معنى الكرامة كالابن في حقه وان أضاف النذر إلى أبيه أو أمه لا يلزمه شئ في الصحيح من الجواب لانه لا ولاية له عليهما وهما كالاجانب في حقه في حكم النذر بالذبح وفى الهارونيات يشير إلى أنه يلزمه ذبح الشاة وكأنه اعتبر أحد الطرفين بالطرف الآخر ثم قد بينا الفرق في المناسك بين النذر بالهدى والبدنة والجزور وإذا حلف بالنذر فان نوى شيئا من حج أو عمرة فعليه ما نوى لان المنوي من محتملات لفظه فيكون كالملفوظ به وان لم يكن له نية فعليه كفارة يمين لقوله النذر يمين وكفارته كفارة يمين ولانه التزام بحق الله والحلف في مثله يوجب الكفارة ساترة للذنب وان حلف على معصية بالنذر فعليه كفارة يمين وقال الشعبى رحمه الله تعالى لا شئ عليه لان المعاصي لا تلتزم بالنذر والكفارة خلف عن البر الواجب باليمين أو الوفاء الواجب بالنذر وذلك لا يوجد في المعصية وحكى أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى دخل على الشعبى رضى الله عنه وسأله عن هذه المسألة فقال لا شئ عليه لان المنذور معصية فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى أليس أن الظهار معصية وقد أمر الله بالكفارة فيه فتحير الشعبى وقال أنت من الارائيين وفى الكتاب استدل بهذا وبقوله فليأت الذى هو خير وليكفر عن يمينه وإذا حلف بالنذر وهو ينوى صياما ولم ينو عددا فعليه صيام ثلاثة أيام إذا حنث لان ما أوجبه على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه وأدني ما أوجب الله من الصيام ثلاثة أيام وكذلك إذا نوى صدقة ولم ينو عددا فعليه اطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من الحنطة اعتبارا لما يوجبه على نفسه بما أوجب الله تعالى عليه من

[ 143 ] اطعام عشرة مساكين في كفارة اليمين وقد بينا هذه الفصول في المناسك ولا ينبغي أن يحلف فيقول وأبيك وأبى فانه بلغنا أن بلغنا أن النبي نهى عن ذلك ونهى عن الحلف بجد من جدوده ومن الحلف بالطواغيت وفى الباب حديثان (أحدهما) حديث عمر رضى الله عنه قال تبعني رسول الله في بعض الاسفار وأنا أحلف بأبى فقال لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت فمن كان منكم حالفا فليحلف بالله أو ليذر فما حلفت بعد ذلك لا ذاكرا ولا آثرا وفى حديث آخر أن النبي قال من حلف بغير الله فقد أشرك ومن قال لغيره تعالى أفاخرك فليقل لا اله الا الله وإذا حلف على يمين أو نذر وقال ان شاء الله موصولا فليس عليه شئ عندنا وقال مالك يلزمه حكم اليمين والنذر لان الامور كلها بمشيئة الله تعالى ولا يتغير بذكره حكم الكلام ولكنا نستدل بقوله تعالى ستجدني ان شاء الله صابرا ولم يصبر ولم يعاتبه على ذلك والوعد من الانبياء عليهم السلام كالعهد من غيرهم وقال النبي من استثنى فله ثنياه وعن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس رضى الله عنهم موقوفا عليهم ومرفوعا من حلف على يمين وقال ان شاء الله فقد استثنى ولا حنث عليه ولا كفارة الا أن ابن عباس كان يجوز الاستثناء وان كان مفصولا لقوله تعالى واذكر ربك إذا نسيت يعنى إذا نسيت الاستثناء موصولا فاستثن مفصولا ولسنا نأخذ بهذا فان الله تعالى بين حكم الزوج الثاني بعد التطليقات الثلاث ولو كان الاستثناء المفصول صحيحا لكان المطلق يستثنى إذا ندم ولا حاجة إلى المحلل وفي تصحيح الاستثناء مفصولا اخراج العقود كلها من البيوع والانكحة من أن تكون ملزمة (قال) والى هذا أشار أبو حنيفة رحمه الله تعالى حين عاتبه الخليفة فقال أبلغ من قدرك أن تخالف جدى قال ففيم يا أمير المؤمنين قال في الاستثناء المفصول قال انما خالفته مراعاة لعهودك فإذا جاز الاستثناء المفصول فبارك الله في عهودك اذن فانهم يبايعونك ويحلفون ثم يخرجون فيستثنون فلا يبقى عليهم لزوم طاعتك فندم الخليفة وقال استر هذا علي وتأويل قوله تعالى واذكر ربك إذا نسيت أي إذا لم تذكر ان شاء الله في أول كلامك فاذكره في آخر كلامك موصولا بكلامك ثم الاستثناء مبطل للكلام ومخرج له من أن يكون عزيمة في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وفى قول أبى يوسف رحمه الله تعالى هو بمعنى الشرط وقد بينا هذا فيما أمليناه من

[ 144 ] ايمان الجامع وإذا حلف على يمين فحنث فيها فعليه أي الكفارات شاء ان شاء أعتق ق ق رقبة وان شاء أطعم عشرة مساكين وان شاء كسا عشرة مساكين لقول إبراهيم النخعي كل شئ في القرآن بأو فهو بالخيار وان لم يجد شيئا من ذلك فعليه صيام ثلاثة أيام متتابعة عندنا وهو بالخيار عند الشافعي رحمه الله تعالى ان شاء تابع وان شاء فرق لان الصوم مطلق في قوله تعالى فصيام ثلاثة أيام ولكنا نشترط صفة التتابع بقراءة ابن مسعود رضى الله عنه ثلاثة أيام متتابعة وقد بينا هذا في كتاب الصوم فيحتاج إلى الفرق بين هذا وبين صدقة الفطر فقد ورد هناك حديثان أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام أدوا عن كل حر وعبد والثانى قوله أدوا من كل حر وعبد من المسلمين ثم لم يحمل المطلق على المقيد حتى أوجبنا صدقة الفطر عن العبد الكافر وهذا لان المطلق والمقيد هناك في السبب ولا منافاة بين السببين فالتقييد في أحد الحديثين لا يمنع بقاء حكم الاطلاق في الحديث الآخر بناء على أصلنا ان التعليق بالشرط لا يقتضي نفى الحكم عند عدم الشرط وهنا المطلق والمقيد في الحكم وهو الصوم الواجب في الكفارة وبين التتابع والتفريق منافاة في حكم واحد ومن ضرورة ثبوت صفة التتابع بقراءة ابن مسعود رضى الله عنه لا يبقي مطلقا (قال) ويجوز في كفارة اليمين من الرقاب ما يجزى في كفارة الظهار والحكم في هذه الرقبة مثل الحكم في تلك الرقبة سواء على ما ذكرنا في باب الظهار رجل أعتق نصف عبده عن يمينه وأطعم خمسة مساكين فذلك لا يجزى عنه وهذا عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى فأما عندهما العتق لا يتجزى ويتأدي الواجب بالعتق عندهما وعند أبى حنيفة العتق يتجزى والواجب هو اعتاق رقبة أو اطعام عشرة مساكين أو كسوتهم ولم يوجد ذلك لان نصف الرقبة ليس برقبة ولو جوزنا هذا كان نوعا رابعا فيما يتأدى به الكفارة واثبات مثله بالرأى لا يجوز وهذا بخلاف مالو أطعم كل مسكين مدا من بر ونصف صاع من شعير لان التقدير في الطعام غير منصوص عليه في القرآن واثبات ذلك لمعنى حصول كفاية المسكين به في يومه وفى ذلك لا يفترق الحال بين الاداء من نوع واحد ومن نوعين وهنا الرقبة في التحرير وعشرة مساكين في الاطعام منصوص عليه ولو جوزنا النصف من كل واحد منهما كان اخلالا بالمنصوص عليه وذلك لا يجوز وان حنث وهو معسر وأخر الصوم حتى أيسر لم يجزه الصوم هكذا نقل عن ابن عباس وابراهيم النخعي رضى الله عنهما إذا صام المكفر يومين ثم وجد في اليوم

[ 145 ] الثالث ما يطعم أو يكسو لم يجزه الصوم وعليه الكفارة بالاطعام أو الكسوة لانه قدر على الاصل قبل حصول المقصود بالبدل فيسقط به حكم البدل كالمعتدة بالاشهر إذا حاضت والمتيمم إذا أبصر الماء قبل اداء الصلاة وهذا لان الله تعالى شرط عدم الوجود بقوله فمن لم يجد وهذا الشرط ليس لتصحيح الصوم فان أصل الصوم صحيح من الواجد للمال ولكنه شرط ليكون الصوم كفارة يسقط به الواجب وذلك عند الاداء والفراغ منه فإذا انعدم هذا الشرط لم يكن الصوم كفارة له وللشافعي رحمه الله تعالى في هذه المسألة ثلاثة أقاويل في قول مثل قولنا وقول آخر أن المعتبر حالة الوجوب في اليسار والعسرة وما وجب عند ذلك صار دينا في ذمته لا يتغير بتغير حاله بعد ذلك كالزكاة وصدقة الفطر واعتبره بالحدود أن المعتبر عند الوجوب بالتنصف بالرق وهذا ضعيف لان الواجب باليمين الكفارة لا ما يكفر به كالواجب بالحدث الطهارة دون ما يتطهر به من الماء والتراب بل ذلك يختلف باختلاف حاله في القدرة والعجز عند الاداء ووجوب الحد باعتبار هتك حرمة المنعم بالجناية والنعمة تختلف بالرق والحرية وذلك عند ارتكاب الجناية لا بعده مع ان الحدود تندرئ بالشبهات فإذا وجب بصفة النقصان لا يتكامل بالحرية الطارئة من بعدوله قول آخر أنه لا يجوز الصوم ما لم يكن معسرا من وقت الوجوب إلى وقت الاداء لان التكفير بالصوم عن ضرورة محضة وذلك لا يتحقق إذا كان موسرا في احدى الحالتين ولانه إذا كان موسرا عند الحنث فقد وجب عليه التكفير بالمال فهو بالتأخير إلى أن يعسر مفرط فلا يستحق التخفيف باعتبار تفريطه ولكنا نقول كما ان هذه كفارة ضرورة فالتيمم طهارة ضرورة ثم كان المعتبر فيه وقت الاداء لا وقت الوجوب وهذا لان الضرورة باعتبار حاجته إلى اسقاط الواجب عن ذمته وذلك للاداء وان اشترى عبدا شراء فاسدا فقبضه وأعتقه عن يمينه اجزأه لانه ملك العبد بالقبض واعتاقه في ملك نفسه نافذ ونية التكفير به صحيح لكونه متصرفا فيما يملك وان وجبت عليه كفارات ايمان متفرقة فأعتق رقابا بعددهن ولا ينوي لكل يمين رقبة بعينها أو نوى في كل رقبة عنهن اجزته استحسانا لان نية التعيين في الجنس الواحد لغو وقد بيناه في باب الظهار وكذلك لو أعتق عن احداهن وأطعم عن الاخرى وكسا عن الثالثة كان كل نوع من هذه الانواع يتأدى به الكفارة مطلقا فيكون الحكم في كلها سواء وقد بينا في الظهار ان اعتاق الجنين لا يجزي عن الكفارة وان

[ 146 ] كان موجودا لكونه في حكم الاجزاء فكذلك في اليمين وكفارة المملوك بالصوم ما لم يعتق لانه اعسر من الحر المعسر لانه لا يملك وان ملك ولا يجزى أن يعتق عنه مولاه أو يطعم ويكسو الا على قول مالك رحمه الله تعالى فانه يقول للمولى أن يملكه حتى يتسرى باذن مولاه وقد بينا هذا في كتاب الطلاق والنكاح وهذا بخلاف الحر إذا أمر انسانا ان يطعم عنه لان الحر من أهل ان يملك فيجوز أن يجعل هو متملكا بأن يكون المسكين قابضا له أولا ثم لنفسه والعبد ليس من أهل الملك لان الرق المنافى فيه موجود وبين صفة المالكية مالا والمملوكية مالا مغايرة على سبيل المنافاة والمكاتب والمدبر وأم الولد في هذا بمنزلة القن والمستسعى في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى كذلك لانه بمنزلة المكاتب وان صام المعسر يومين ثم وجد في اليوم الثالث ما يعتق فعليه التكفير بالمال لانعدام شرط جواز البدل قبل حصول المقصود به والاولى أن يتم صوم يومه وان أفطر فلا قضاء الا على قول زفر رحمه الله تعالى وهذا والصوم المظنون سواء ذمى حلف على يمين ثم أسلم ثم حنث في يمينه لم يكن عليه كفارة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يلزمه الكفارة لانه من أهل اليمين فان المقصود من اليمين الحظر أو الايجاب والذمى من أهله قال الله تعالى ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم فقد جعل للكافرين يمينا والدليل عليه أنه يستحلف في المظالم والخصومات بالله وانه من أهل الطلاق والعتاق ومن أهل اليمين بالطلاق والعتاق فيكون من أهل اليمين بالله تعالى وإذا انعقدت يمينه يلزمه الكفارة عند الحنث ان حنث قبل الاسلام كفر بالمال لانه ليس من أهل التكفير بالصوم ونظيره العبد يلزمه الكفارة بالتكفير بالصوم لانه ليس بأهل للتكفير بالمال وان حنث بعد الاسلام كفر بالصوم إذا لم يجد المال والدليل على أن الكافر أهل للكفارة ان في الكفارة معنى العقوبة ومعنى العبادة فيجب على الكافر بطريق العقوبة وعلى المسلم بطريق الطهرة كالحدود فانها كفارات كما قال الحدود كفارات لاهلها ثم تقام على المسلم التائب تطهرا وعلى الكافر عقوبة (وحجتنا) في ذلك حديث قيس بن عاصم المنقرى حيث سأل رسول الله فقال اني حلفت في الجاهلية أو قال نذرت فقال هدم الاسلام ما كان في الشرك ولان وجوب الكفارة باعتبار هتك حرمة اسم الله تعالى بالحنث وما فيه من الشرك أعظم من ذلك فقد هتك حرمة اسم الله تعالى باصراره على الشرك بأبلغ الجهات

[ 147 ] وعقد اليمين لما فيه من الحظر والايجاب تعظيما لحرمة اسم الله تعالى والكافر ليس بأهل له قال الله تعالى فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا ايمان لهم والاستحلاف في المظالم والخصومات لانه من أهل مقصودها وهو النكول أو الاقرار وانعقاد يمينه بالطلاق والعتاق لانه من أهلها (تنجيزا) فأما هذه اليمين موجبها البر لتعظيم اسم الله والكافر ليس من أهله وبعد الحنث موجبها الكفارة والكافر ليس بأهل لها لان الكفارة كاسمها ستارة للذنب قال الله تعالى ان الحسنات يذهبن السيئات ومعنى العقوبة في الكفارة صورة فأما من حيث المعنى والحكم المقصود منها العبادة ألا ترى أنه يأتي بها من غير أن تقام عليه كرها وانها تتأدى بالصوم الذى هو محض العبادة ولا تأدى الا بنية العبادة والمقصود بها التطهر كما بينا بخلاف الحدود فانها تقام خزيا وعذابا ونكالا ومعنى التكفير بها إذا جاء تائبا مستسلما مؤثرا عقوبة الدنيا على عقوبة الآخرة كما فعله ماعز رضى الله عنه فلهذا يستقيم اقامتها على الكافر بطريق الخزى والنكال رجل أعتق رقبة عن كفارة يمينه ينوى ذلك بقلبه ولم يتكلم بلسانه وقد تكلم بالعتق أجزأه لان النية عمل القلب ويتأدي به سائر العبادات فكذلك الكفارات لان اشتراط النية فيها لمعنى العبادة وهو معنى قوله ان الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وانما ينظر إلى قلوبكم (قال) ولا يجوز التكفير بعد اليمين قبل الحنث عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يجوز بالمال دون الصوم وان كان يمينه على معصية فله في جواز التكفير قبل الحنث وجهان احتج بقوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته وحرف الفاء للتعقيب مع الوصل فيقتضى جواز أداء الكفارة موصولا بعقد اليمين وقال من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر يمينه وليأت الذى هو خير وفي رواية فليكفر ثم ليأت بالذى هو خير وهذا تنصيص على الامر بالتكفير قبل الحنث وأقل أحواله أن يفيد الجواز ولان السبب للكفارة اليمين فانها تضاف إلى اليمين والواجبات تضاف إلى أسبابها حقيقة ومن قال على يمين تلزمه الكفارة باعتبار أن التزام السبب يكون كناية عن الواجب به والدليل عليه اليمين بالطلاق فالسبب هناك اليمين دون الشرط حتى يكون الضمان على شهود اليمين دون شهود الشرط فكذلك اليمين بالله تعالى وإذا ثبت هذا فنقول أداء الحق المالى بعد وجود سبب الوجوب قبل الوجوب جائز كأداء الزكاة بعد كمال النصاب قبل الحول وأما البدني لا يجوز الا بعد تقرر

[ 148 ] الوجوب لان التكفير بالصوم للضرورة ولا ضرورة قبل تقرر الوجوب ولان هذه كفارة مالية توقف وجوبها على معنى فيجوز أداؤها قبله ككفارة القتل في الآدمى والصيد إذا جرح مسلما ثم كفر بالمال قبل زهوق الروح أو جرح المحرم صيدا ثم كفر قبل موته يجوز بالمال بالاتفاق (وحجتنا) في ذلك قوله لا تسأل الامارة فانك ان أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وان أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين ورأيت غيرها خيرا منها فأت الذى هو خير وكفر عن يمينك وما رواه الشافعي رحمه الله تعالى محمول على التقديم والتأخير بدليل ما روينا وهذا لمعنيين أحدهما أن الامر يفيد الوجوب حقيقة ولا وجوب قبل الحنث بالاتفاق والثاني ان قوله فليكفر أمر بمطلق التكفير ولا يجوز مطلق التكفير الا بعد الحنث اما قبل الحنث يجوز عنده بالمال دون الصوم وليس من باب التخصيص لان ما يكفر به ليس في لفظه والتخصيص في الملفوظ الذى له عموم دون ما يثبت بطريق الاقتضاء والمعنى فيه أن مجرد اليمين ليس بسبب لوجوب الكفارة لان أدنى حد السبب أن يكون مؤديا إلى الشئ طريقا له واليمين مانعة من الحنث محرمة له فكيف تكون موجبة لما يجب بعد الحنث ألا ترى أن الصوم والاحرام لما كان مانعا مما يجب به الكفارة وهو ارتكاب المحظور لم يكن بنفسه سببا لوجوب الكفارة بخلاف الجرح فانه طريق يفضى إلى زهوق الروح وبخلاف كمال النصاب فانه تحقق الغني المؤدي إلى النماء الذى به يكون المال سببا لوجوب الزكاة ولان الكفارة لا تجب الا بعد ارتفاع اليمين فان بالحنث اليمين يرتفع وما يكون سببا للشئ فالوجوب يترتب على تقرره لا على ارتفاعه والدليل عليه أن اليمين ليست بسبب التكفير بالصوم حتى لا يجوز أداؤه قبل الحنث وبعد وجود السبب الاداء جائز ماليا كان أو بدنيا الا ترى أن صوم المسافر في رمضان يجوز لوجود السبب وان كان الاداء متأخرا إلى أن يدرك عدة من أيام أخر واضافة الكفارة إلى اليمين لانها تجب بحنث بعد اليمين كما تضاف الكفارة إلى الصوم والاحرام بهذا الطريق ولئن سلمنا أن اليمين سبب فالكفارة انما تجب خلفا عن البر الواجب ليصير عند أدائها كانه تم على بره ولا معتبر بالخلف في حال بقاء الواجب وقبل الحنث ما هو الاصل باق وهو البر فلا تكون الكفارة خلفا كما لا يكون التيمم طهارة مع القدرة على الماء يقرره أن الكفارة توبة كما قال الله تعالى في كفارة القتل توبة من الله والتوبة قبل الذنب لا تكون وهو في عقد اليمين معظم حرمة

[ 149 ] اسم الله تعالى فأما الذنب في هتك حرمة اسم الله تعالى فالتكفير قبل الحنث بمنزلة الطهارة قبل الحدث بخلاف كفارة القتل فانه جزاء جنايته وجنايته في الجرح إذ لا صنع له في زهوق الروح وبخلاف الزكاة لانه شكر النعمة والنعمة المال دون مضى الحول فكان حولان الحول تأجيلا فيه والتأجيل لا ينفي الوجوب فكيف ينفي تقرر السبب (قال) وإذا أعتق عبدا عند الموت عن كفارة يمينه وليس له مال غيره عتق من ثلثه ويسعى في ثلثي قيمته لان ما يباشره المريض من العتق كالمضاف إلى ما بعد الموت ولو أوصى به بعد الموت كان معتبرا من ثلثه على ما بيناه في الزكاة وسائر الحقوق الواجبة لله تعالى وإذا لم يكن له مال سواه فقد لزمه السعاية في ثلثى قيمته وكان هذا عتقا بعوض فلا يجزيه عن الكفارة وكذلك ان أعتقه في صحته على مال قليل أو كثير لان العتق بمال لا تمحض قربة والكفارة لا تتأدى الا بما هو قربة فان أبرأه من المال بعد ذلك لم يجز عن كفارته لان أصل العتق وقع غير مجزئ عن الكفارة والابراء عن المال بعد ذلك اسقاط للدين ولا مدخل له في الكفارت فلهذا لا يجزيه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (باب الاطعام في كفارة اليمين) (قال) رضى الله تعالى عنه بلغنا عن عمر رضى الله عنه انه قال لمولى له أرقا وفى رواية (1) برقا انى أحلف على قوم ان لا أعطيهم ثم يبدو لى فاعطيهم فإذا أنا فعلت ذلك فاطعم عنى عشرة مساكين كل مسكين نصف صاع من حنطة أو صاعا من تمر وفى هذا دليل انه لا بأس للانسان ان يحلف مختارا بخلاف ما يقوله المتشفعة ان ذلك مكروه بظاهر قوله ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ولكنا نقول قد حلف رسول الله غير مرة من غير ضرورة كانت له في ذلك وتأويل تلك الآية انه يجازف في الحلف من غير مراعاة البر والحنث وفيه دليل على ان الحالف إذا رأى الحنث خيرا يجوز له ان يحنث نفسه وقد روينا فيه حديث عبد الرحمن بن سمرة وفى حديث أبى مالك الاشعري رحمه الله تعالى قال اتيت رسول الله في نفر من الاشعريين نستحمله فحلف أن لا يحملنا ثم رجع قوم من عنده بخمس ذود وقالوا حملنا عليها فقلت لعله نسى يمينه فاتيته فاخبرته بذلك فقال انى أحلف ثم أرى غيره خيرا منه فاتحلل يمينى وفيه دليل ان أوان التكفير ما بعد الحنث كما هو مذهبنا وأن

[ 150 ] ما روى فليكفر يمينه وليأت الذى هو خير محمول على التقديم والتأخير وكذلك قوله ثم يات بالذى هو خير لان ثم قد تكون بمعنى الواو قال الله تعالى ثم كان من الذين آمنوا أي وكان ثم الله شهيد أي والله شهيد وفيه دليل أن التوكيل بالتكفير جائز بخلاف ما يقوله بعض الناس أنه لا توكيل في العبادة أصلا لظاهر قوله تعالى وان ليس للانسان لا ما سعى ولكنا نقول المقصود فيما هو مالى الابتداء باخراج جزء من المال عن ملكه وذلك يتحقق بالنائب وفيه دليل أن الوظيفة لكل مسكين نصف صاع من حنطة أو صاع من تمر أو صاع من شعير وهكذا روى عن عائشة وابن عباس رضى الله عنهم وذكر بعده عن علي رضى الله عنه نصف صاع من حنطة وقد بينا هذه المسألة في كتاب الظهار وكفارة ليمين مثله وقد بينا ان دقيق الحنطة وسويقها بمنزلة الحنطة لان ما هو المقصود يحصل للفقير بهما مع سقوط مؤنة الطحن عنه وقد بينا ان طعام الاباحة تتأدى به الكفارة عندنا والمعتبر فيه اكلتان مشبعتان سواء كان خبز البر مع الطعام أو بغير ادام وان أعطى قيمة الطعام يجوز فكذلك في كفارة اليمين وكذلك ان غداهم وأعطاهم قيمة العشاء اعتبارا للبعض بالكل وهذا لان المقصود واحد وقد أتى من كل وظيفة بنصفه وان غداهم وعشاهم وفيهم صبى فطم أو فوق ذلك شيئا لم يجز لانه لا يستوفى كمال الوظيفة كما يستوفيه البالغ وعليه طعام مسكين واحد مكانه فان أعطى عشرة مساكين كل مسكين مدا من حنطة فعليه ان يعيد عليهم مدا مدا وان لم يقدر عليهم استقبل الطعام لان الواجب لا يتأدى الا بايصال وظيفة كاملة إلى كل مسكين وذلك نصف صاع من حنطة وذكر هشام عن محمد رحمهما الله أنه لو أوصى بأن يطعم عنه عشرة مساكين في كفارة يمينه فغدى الوصي عشرة مساكين ثم ماتوا قبل ان يعشيهم فعليه الاستقبال لان الوظيفة في طعام الاباحة الغداء والعشاء فلا يتأدى الواجب الا باتصال وظيفة كاملة إلى كل مسكين ولا يكون الوصي ضامنا لما أطعم لانه فيما صنع كان ممتثلا لامره وكان بقاؤهم إلى أن يعشيهم ليس في وسعه ولو كان أوصى بأن يطعم عنه عشرة مساكين غداء وعشاء ولم يذكر الكفارة فغدى الوصي عشرة فماتوا فانه يعشى عشرة أخرى ويكفي ذلك لان الموصى به أكلتان فقط دون اسقاط الكفارة بهما وقد وجد بخلاف الاول ثم قد بينا في باب الظهار أن المسكين الواحد في الايام المتفرقة كالمساكين عندنا وعند تفريق الدفعات في يوم واحد فيه اختلاف بين المشايخ فكذلك في اليمين وبينا هناك أن اطعام فقراء أهل

[ 151 ] الذمة في الكفارة يجوز في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى خلافا لابي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى وقد روى أبو يوسف عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى الفرق بين المنذور والكفارة فقال إذا نذر اطعام عشرة مساكين فله أن يطعم فقراء أهل الذمة انما ليس له أن يطعم في الكفارة فقراء أهل الذمة اعتبارا لما أوجب الله عليه من الكفارة بالزكاة وقد بينا أنه يجوز صرف الكفارة إلى من يجوز صرف الزكاة إليه ولو أطعم خمسة مساكين وكسا خمسة مساكين أجزأه ذلك من الطعام ان كان الطعام أرخص من الكسوة وان كانت الكسوة أرخص من الطعام لم يجزأ مالا يجزئ كل واحد منهما عن نفسه لان المنصوص عليه ثلاثة أنواع فلو جوزتا اطعام خمسة مساكين وكسوة خمسة مساكين كان نوعا رابعا فيكون زيادة على المنصوص وهذا بخلاف ما إذا أدى إلى كل مسكين مدا من حنطة ونصف صاع من شعير لان المقصود واحد وهو سد الجوعة فلا يصير نوعا رابعا فأما المقصود من الكسوة غير المقصود من الطعام ألا يرى أن الاباحة تجزى في احدهما دون الآخر ولو جوزنا النصف من كل واحد منهما كان نوعا رابعا ثم مراده من هذه المسألة إذا أطعم خمسة مساكين بطريق الاباحة والتمكين دون التمليك فان التمليك فوق التمكين وإذا كان الطعام أرخص من الكسوة أمكن اكمال التمكين بالتمليك فتجوز الكسوة مكان الطعام وان كانت الكسوة أرخص لا يمكن اقامة الطعام مقام الكسوة لان التمكين دون التمليك وفى الكسوه التمليك معتبر فلا يمكن اقامة الكسوة مقام الطعام لانه ليس فيهما وفاء بقيمة الطعام فأما إذا ملك الطعام خمسة مساكين وكسا خمسة مساكين فانه يجوز على اعتبار انه ان كان الطعام ارخص تقام الكسوة مقام الطعام وان كانت الكسوة أرخص يقام الطعام مقام الكسوة لوجود التمليك فيها إليه أشار في باب الكسوة بعد هذا ولو أطعم خمسة مساكين ثم افتقر كان عليه أن يستقبل الصيام لان اكمال الاصل بالبدل غير ممكن فانهما لا يجتمعان وليس له أن يسترد من المساكين الخمسة ما أعطاهم لانها صدقة قد تمت بالوصول إلى يد المساكين ومن كانت له دار يسكنها أو ثوب يلبسه ولا يجد شيئا سوى ذلك اجزأه الصوم في الكفارة لان المسكن والثياب من أصول حوائجه وما لابد منه فلا يصير به واجدا لما يكفر به بخلاف مالو كان له عبد يخدمه فان ذلك ليس من أصول الحوائج ألا ترى ان كثيرا من الناس يتعيش من

[ 152 ] غير خادم له ولان الرقبة منصوص عليها فمع وجود المنصوص عليه في ملكه لا يجزيه الصوم وفي الكتاب علل فقال لان الصدقة تحل له وهذا يؤيد مذهب أبى يوسف رحمه الله الذى ذكره في الامالى أنه إذا كان الفاضل من حاجته دون ما يساوي مائتين يجوز له التكفير بالصوم لان الصدقة تحل له فلا يكون موسرا ولا غنيا فاما ظاهر المذهب أنه إذا كان يملك فضلا عن حاجته مقدار ما يكفر به لا يجوز له التكفير بالصوم لان المنصوص عليه الوجود دون الغنى واليسار قال الله تعالى فمن لم يجد وهذا واجد وقد بينا في كتاب الاعتاق أن المعتبر في وجوب الضمان ملكه مقدار ما يؤدى به الضمان وان كان اليسار منصوصا عليه هناك فهنا أولى وبينا في الظهار أنه لو أعطى كل مسكين صاعا عن ظهارين لا يجزيه الا عن احدهما في قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى بخلاف ما إذا اختلف جنس الكفارة فكذلك في كفارة اليمين وان أعطى عشرة مساكين ثوبا عن كفارة يمين لم يجزه عن الكسوة لان الواجب عليه لكل مسكين كسوته وهو ما يصير به مكتسيا وبعشر الثوب لا يكون مكتسيا ويجزى من الطعام إذا كان الثوب يساويه وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا يجزيه الا بالنية لانه يجعل الكسوة بدلا عن الطعام وهو انما نواه بدلا عن نفسه فلا يمكن جعله بدلا عن غيره الا بنية وجه ظاهر الرواية أنه ناو للتكفير به وذلك يكفيه كما لو أدى الدراهم بنية الكفارة يجزيه وان لم ينو أن يكون بدلا عن الطعام الا أن أبا يوسف يقول الدراهم ليست بأصل فأداؤها بنية الكفارة يكون قصدا إلى البدل فاما الكسوة أصل فأداؤها بنية الكفارة لا يكون قصدا إلى جعلها بدلا عن الطعام ولكنا نقول عشر الثوب ليس بأصل في الكسوة لكل مسكين فهو وأداء الدراهم سواء مسلم حلف على يمين ثم ارتد ثم أسلم فحنث فيها لم يلزمه شئ لانه بالردة التحق بالكافر الاصلى ولهذا حبط عمله قال الله تعالى ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وكما ان الكفر الاصلى ينافى الاهلية لليمين الموجبة للكفارة فكذلك الردة تنافى بقاء اليمين الموجبة للكفارة وإذا جعل الرجل لله على نفسه اطعام مسكين فهو على ما نوى من عدد المساكين وكيل الطعام لان المنوي من محتملات لفظه وهو شئ بينه وبين ربه وان لم يكن له نية فعليه طعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة اعتبارا لما يوجبه على نفسه بما أوجب الله عليه من اطعام المساكين وأدنى ذلك عشرة مساكين في كفارة اليمين الا انه ان قال في نذره اطعام المساكين فليس له ان

[ 153 ] يصرف الكل إلى مسكين واحد جملة وان قال طعام المساكين فله ذلك لان بهذا اللفظ يلتزم مقدارا من الطعام وباللفظ الاول يلتزم الفعل لان الاطعام فعل فلا يتأدى الا بأفعال عشرة ويعطى من الكفارة من له الدار والخادم لانهما يزيدان في حاجته فالدار تسترم والخادم يستنفق وقد بينا انه يجوز صرف الزكاة إلى مثله فكذلك الكفارة وان أوصى بأن يكفر عنه يمينه بعد موته فهو من ثلثه لانه لا يجب أداؤه بعد الموت الا بوصية ومحل الوصية الثلث ثم ذكر الاختلاف في مقدار الصاع وقد بيناه في صدقة الفطر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (باب الكسوة) (قال) رضى الله تعالى والكسوة ثوب لكل مسكين إزار أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء هكذا نقل عن الزهري في قوله تعالى أو كسوتهم أنه الازار فصاعدا من ثوب تام لكل مسكين وعن ابن عباس رضى الله عنه قال لكل مسكين ثوب ويعطى في الكسوة القباء والذى روى عن أبى موسى الاشعري أنه كان يعطى في كفارة اليمين لكل مسكين ثوبين فانما يقصد التبرع باحدهما فأما الواحد يتأدى به الواجب هكذا نقل عن مجاهد رحمه الله تعالى قال أدناه ثوب لكل مسكين وأعلاه ما شئت وهذا لان الكسوة ما يكون المرء به مكتسيا وبالثوب الواحد يكون مكتسيا حتى يجوز له أن يصلى في ثوب واحد وإذا كان في ثوب واحد فالناس يسمونه مكتسيا لا عاريا والمراد بالازار الكبير الذى هو كالرداء فأما الصغير الذى لا يتم به ستر العورة لا يجزى ولو كسا كل مسكين سراويل ذكر في النوادر عن محمد رحمه الله تعالى أنه يجزئه لانه يكون به مكتسيا شرعا حتى تجوز صلاته فيه وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يجزئه من الكسوة لان لابس السراويل وحده يسمى عريانا لا مكتسيا الا أن تبلغ قيمته قيمة الطعام فحينئذ يجزئه من الطعام إذا نواه ولو أعطى كل مسكين نصف ثوب لم يجزه من الكسوة لان الاكتساء به لا يحصل ولكنه يجزى من الطعام إذا كان نصف ثوب يساوى نصف صاع من حنطة ولو كسا كل مسكين قلنسوة أو أعطاه نعلين أو خفين لا يجزيه من الكسوة لان الاكتساء به لا يحصل وان أعطى كل واحد منهم عمامة فان كان ذلك يبلغ قميصا أو رداء أجزأه والا لم يجزه من الكسوة لان العمامة كسوة

[ 154 ] الرأس كالقلنسوة ولكن يجزيه من الطعام إذا كانت قيمته تساوي قيمة الطعام ولو أعطى عشرة مساكين ثوبا بينهم وهو ثوب كثير القيمة يصيب كل مسكين أكثر من قيمة ثوب لم يجزه من الكسوة لانه لا يكتسى به كل واحد منهم ولكن يجزيه من الطعام قال ألا ترى انه لو أعطى كل مسكين ربع صاع حنطة وذلك يساوى صاعا من تمر لم يجز عنه من الطعام ولو كان هذا المد من الحنطة يساوى ثوبا كان يجزئ من الكسوة دون الطعام وهذا تفسير لما أبهمه قبل هذا من انه لا يجوز اقامة الطعام مقام الكسوة وتبين بهذا ان المراد هناك التمكين دون التمليك ولو أعطى مسكينا واحدا عشرة أثواب في مرة واحدة لم يجزه كما في الطعام وان أعطاه في كل يوم ثوبا حتى استكمل عشرة أثواب في عشرة أيام أجزأه كما في الطعام (فان قيل) الحاجة إلى الطعام تتجدد بتجدد الايام والحاجة إلى الكسوة لا تتجدد بتجدد الايام وانما تتجدد في كل ستة أشهر أو نحو ذلك (قلنا) نعم الحاجة إلى الملبوس كذلك ولكنا أقمنا التمليك مقامه في باب الكسوة والتمليك يتحقق في كل يوم وإذا قام الشئ مقام غيره يسقط اعتبار حقيقة نفسه وهذا لان الحاجة إلى الملك لا نهاية لها الا أنا لا نجوز أداء الكل دفعة واحدة للتنصيص على تفريق الافعال وذلك بتفرق الايام في حق الواحد وقد يحصل أيضا بتفرق الدفعات في يوم واحد الا أنه ليس لذلك حد معلوم فقدرنا بالايام وجعلنا تجدد الايام في حق الواحد كتجدد الحاجة تيسيرا وان أعطى عشرة مساكين عبدا أو دابة قيمته تبلغ عشرة أثواب أجزأه من الكسوة باعتبار القيمة كما لو أدى الدراهم وان لم تبلغ قيمته عشرة أثواب وبلغت قيمة الطعام أجزأه من الطعام لان مقصوده معلوم وهو سقوط الواجب به عنه فيحصل مقصوده بالطريق الممكن ولو أقام رجل البينة عليه أنه ملكه واخذه فعليه استقبال التكفير لان المؤدى استحق من يد المسكين فكأنه لم يصل إليه ولو كسا عن رجل بأمره عشرة مساكين أجزأ عنه وان لم يعط عنه ثمنا لان فعل الغير يتنقل إليه بأمره كفعله بنفسه والمسكين يصير قابضا له أولا ثم لنفسه وقد بينا في الطعام مثله في الظهار ولو كساهم بغير أمره ورضى به لم يجز عنه لان الصدقة قد تمت من جهة المؤدي فلا يتصور وقوعها عن غيره بعد ذلك وان رضى به ولو أعطى عن كفارة ايمانه في أكفان الموتى أو في بناء مسجد أو في قضاء دين ميت أو في عتق رقبة لم يجز عنه لان الواجب انما يتأدى بالتمليك إلى الفقير والتمليك لا يحصل بهذا وقد بينا مثله في الزكاة أنه

[ 155 ] لا يجزئه (فان قيل) في باب الكفارة التمليك غير محتاج إليه عندكم حتى يتأدى بالتمكين من الطعام بخلاف الزكاة (قلنا) لا يعتبر التمليك عند وجود ما هو المنصوص عليه وهو فعل الاطعام وهذا لا يوجد في هذه المواضع فلابد من اعتبار التمليك وذلك لا يحصل بتكفين الميت وبناء المسجد وان أعطى منها ابن سبيل منقطعا به أجزأه لانه محل لصرف الزكاة إليه وقد بينا أن مصرف الكفارة من هو مصرف الزكاة ولو كانت عليه يمينان فكسا عشرة مساكين كل مسكين ثوبين عنهما أجزأه عن يمين واحدة في قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى كما في الطعام وإذا كسا مسكينا عن كفارة يمينه ثم مات المسكين فورثه هذا منه أو اشتراه في حياته أو وهبه له لم يفسد ذلك عليه لان الواجب قد تأدى بوصول الثوب إلى يد المسكين ولم يبطل ذلك بما اعترض له من الاسباب وقد بينا في الزكاة نظيره والاصل فيه ما روى أن بريرة كان يتصدق عليها وتهديه إلى رسول الله ويقول هي لها صدقة ولنا هدية فهذا دليل على ان اختلاف أسباب الملك ينزل منزلة اختلاف الاعيان وفي حديث أبى طلحة أنه تصدق على ابنته بحديقة له ثم ماتت فورثها منها فسأل رسول الله عن ذلك فقال عليه الصلاة والسلام ان الله قبل منك صدقتك ورد عليك حديقتك والله أعلم بالصواب (باب الصيام) (قال) وإذا حنث الرجل وهو معسر فعليه ثلاثة أيام متتابعة فان أصبح في يوم مفطرا ثم عزم على الصوم عن كفارة يمينه لم يجزه لانه دين في ذمته وما كان دينا في الذمه لا يتأدى الا بنية من الليل وهذا لانه انما يتأدى بالنية من النهار صوم يوم توقف الامساك في أول النهار عليه باعتبار ان النية تستند إليه وهذا فيما يكون عينا في الوقت دون ما يكون دينا في الذمة وإذا أفطرت المرأة في هذا الصوم لمرض أو حيض فعليها ان تستقبل لانها تجد ثلاثة أيام خالية عن الحيض والمرض فلا تعذر فيها بالافطار بعذر الحيض بخلاف الشهرين المتتابعين وقد بينا هذا في الصوم ولا يجزى الصوم عن هذا في أيام التشريق لانه واجب في ذمته بصفة الكمال والصوم في هذه الايام ناقص لانه منهى عنه فلا يتأدى به ما وجب في ذمته بصفة الكمال فان كان لهذا المعسر مال غائب عنه أو دين وهو لا يجد ما يطعم أو يكسو

[ 156 ] ولا ما يعتق أجزأه أن يصوم لان المانع قدرته على المال وذلك لا يحصل بالملك دون اليد فما يكون دينا على مفلس أو غائبا عنه فهو غير قادر على التكفير به الا أن يكون في ماله الغائب عبد فحينئذ لا يجزيه التكفير بالصوم لانه متمكن من التكفير بالعتق فان نفوذ العتق باعتبار الملك دون اليد وكذلك ان كان العبد أبق وهو يعلم حياته فانه لا يجزيه التكفير بالصوم لقدرته على التكفير بالعتق ولو كان له مال وعليه دين مثله أجزأه الصوم بعد ما يقضى دينه عن ذلك المال وهذا غير مشكل لانه بعد قضاء الدين بالمال غير واجد لمال يكفر به وانما الشبهة فيما إذا كفر بالصوم قبل أن يقضى دينه بالمال فمن مشايخنا من يقول بانه لا يجوز ويستدل بالتقييد الذى ذكره بقوله بعد ما يقضى دينه وهذا لان المعتبر هنا الوجود دون الغنى وما لم يقض الدين بالمال فهو واجد والاصح انه يجزيه التكفير بالصوم لما أشار إليه في الكتاب من قول الا ترى ان الصدقة تحل لهذا وفى هذا التعليل لا فرق بينما (بينها) قبل قضاء الدين وبعده وهذا لان المال الذي في يده مستحق بدينه فيجعل كالمعدوم في حق التكفير بالصوم كالمسافر إذا كان معه ماء وهو يخاف العطش يجوز له التيمم لان الماء مستحق لعطشه فيجعل كالمعدوم في حق التيمم وان صام العبد عن كفارة يمينه فعتق قبل ان يفرغ منه واصاب مالا لم يجزه الصوم لانه قدر على الاصل قبل حصول المقصود بالبدل وقد بينا مثله في الحر المعسر إذا أيسر فكذلك في غيره لان السبب الموجب للكفارة بالمال متحقق في حقه ولكن لانعدام الملك كان يكفر بالصوم وقد زال ذلك بالعتق فكان هو والحر سواء ولو صام رجل ستة أيام عن يمينين اجزأه وان لم ينو ثلاثة أيام لكل واحدة لان الواجب عليه نية الكفارة دون نية التمييز فان التمييز في الجنس الواحد غير مفيد وانما يستحق شرعا ما يكون مفيدا والصوم في نفسه أنواع فلا يتعين نوع من الكفارات الا بالنية فأما كفارات الايمان نوع واحد فلا يعتبر نية التمييز فيما بينها كقضاء رمضان فان عليه ان ينوى القضاء وليس عليه نية تعيين يوم الخميس والجمعة ثم فرق أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى بين هذا وبين الاطعام والكسوة من حيث أن هناك لو أعطى كل مسكين صاعا أو ثوبين عن يمينين لم يجز الا عن واحدة لان الاداء يكون دفعة واحدة وهنا صوم ستة أيام عن يمينين لا يتصور دفعة واحدة بل ما لم يفرغ عن صوم ثلاثة أيام لا يتصور صوم ثلاثة أخرى فلهذا جاز كل ثلاثة عن كفارة ووزان هذا من الطعام والكسوة مالو فرق فعل الدفع وان كان عنده طعام احدى

[ 157 ] الكفارتين فصام لاحداهما ثم أطعم للاخرى لم يجزه الصوم لانه كفر بالصوم في حال وجود ما يكفر به من المال وعليه أن يعيد الصوم بعد التكفير بالاطعام لانه لما كفر بالاطعام عن يمين فقد صار غير واجد في حق اليمين الاخرى وهو نظير محدثين في سفر وجدا من الماء مقدار ما يكفى لوضوء أحدهما فتيمم أحدهما أولا ثم توضأ الآخر به فعلى من تيمم اعادة التيمم بعدما توضأ به الآخر لهذا المعنى ولا يجوز صوم أحد عن أحد حي أو ميت في كفارة أو غيرها لحديث ابن عمر رضي الله عنهما موقوفا عليه ومرفوعا لا يصوم أحد عن أحد ولان معنى العبادة في الصوم في الابتداء بما هو شاق على بدنه وهو الكف عن اقتضاء الشهوات وهذا لا يحصل في حق زيد بأداء عمرو والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب (باب من الايمان) (قال) رضى الله عنه وإذا حلف الرجل على أمر لا يفعله أبدا ثم حلف في ذلك المجلس أو في مجلس آخر لا يفعله أبدا ثم فعله كانت عليه كفارة يمينين لان اليمين عقد يباشره بمبتدأ وخبر وهو شرط وجزاء والثانى في ذلك مثل الاول فهما عقدان فبوجود الشرط مرة واحدة يحنث فيهما وهذا إذا نوى يمينا أخرى أو نوى التغليظ لان معنى التغليظ بهذا يتحقق أو لم يكن له نية لان المعتبر صيغة الكلام عند ذلك ثم الكفارات لا تندرئ بالشبهات خصوصا في كفارة اليمين فلا تتداخل وأما إذا نوى بالكلام الثاني اليمين الاول فعليه كفارة واحدة لانه قصد التكرار والكلام الواحد قد يكرر فكان المنوي من محتملات لفظه وهو أمر بينه وبين ربه وروى أبو يوسف عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى قال هذا إذا كانت يمينه بحجة أو عمرة أو صوم أو صدقة فأما إذا كانت يمينه بالله تعالى فلا تصح نيته وعليه كفارتان قال أبو يوسف رحمه الله تعالى هذا أحسن ما سمعنا منه ووجهه أن قول فعليه حجة مذكور بصيغة الخبر فيحتمل أن يكون الثاني هو الاول فأما قوله والله هذا ايجاب تعظيم المقسم به نفسه من غير أن يكون بصيغة الخبر فكان الثاني ايجابا كالاول فلا يحتمل معنى التكرار لان ذلك في الاخبار دون الايقاع والايجاب وإذا كانت احدى اليمينين بحجة والاخرى بالله فعليه كفارة وحجة لان معنى تكرار الاول غير محتمل هنا فانعقدت يمينان

[ 158 ] وقد حنث فيهما بايحاد الفعل مرة فيلزمه موجب كل واحد منهما فان حلف ليفعلن كذا إلى وقت كذا وذلك الشئ معصية يحق عليه أن لا يفعله لانه منهى عن الاقدام على المعصية ولا يرتفع النهي بيمينه ولكن اليمين منعقدة فإذا ذهب الوقت قبل أن يفعله فقد تحقق الحنث فيها بفوت شرط البر فيلزمه الكفارة فان لم يؤقت فيه وقتا وذلك الفعل مما يقدر على أن يأتي به كشرب الخمر والزنا ونحوه لم يحنث إلى أن يموت لان الحنث بفوت شرط البر وشرط البر بوجود ذلك الشئ منه في عمره فإذا مات قبل أن يفعله فقد تحقق الحنث بفوت شرط البر حين أشرف على الموت ووجبت عليه الكفارة فينبغي له أن يوصى بها لتقضى بعد موته كما ينبغى أن يوصي بسائر ما عليه من حقوق الله تعالى كالزكاة ونحوها وإذا حلف بايمان متصلة معطوفة بعضها على بعض واستثنى في آخرها كان ذلك استثناء جميعها لان الكلمات المعطوفة بعضها على بعض ككلام واحد فيؤثر الاستثناء في ابطالها كلها اعتبارا للايمان بالايقاعات وقيل هذا قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لان الاستثناء عندهما لابطال الكلام وحاجة اليمين الاولى كحاجة اليمين الثانية فأما عند أبى يوسف رحمه الله تعالى الاستثناء بمنزلة الشرط فانما يتصرف إلى ما يليه خاصة كما لو ذكر شرطا آخر لان اليمين الاولى تامه بما ذكر لها من الشرط والجزاء فلا ينصرف الشرط المذكور آخرا إليها وقد بينا هذا في الجامع وكذلك لو قال الا أن يبدو لي أو أرى غير ذلك أو الا أن أرى خيرا من ذلك فهذا كله من ألفاظ الاستثناء وبه يخرج الكلام من أن يكون عزيمة وايجابا وان قال الا أن لا أستطيع فهذا على ثلاثة أوجه فان كان يعني ما سبق به من القضاء فهو موسع عليه ولا يلزمه الكفارة لان المنوي من محتملات لفظه فالمذهب عند أهل السنة ان كل شئ بقضاء وقدر وان الاستطاعة مع الفعل فإذا لم يفعل علمنا أن الاستطاعة التى قد استثنى بها لم توجد ولكن هذا في اليمين بالله فان موجبه الكفارة وذلك بينه وبين ربه فان كانت اليمين بالطلاق أو العتاق فهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى ولكن لا يدين في الحكم لان العادة الظاهره أن الناس يريدون بهذه الاستطاعة ارتفاع الموانع فان الرجل يقول أنا مستطيع لكذا ولا أستطيع أن أفعل كذا على معنى أنه يمنعنى مانع من ذلك قال الله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وفسر رسول الله الاستطاعة بالزاد والراحلة فإذا كان الظاهر هذا والقاضى مأمور باتباع الظاهر لا يدينه في الحكم فان كان يعني شيئا يعرض

[ 159 ] من البلايا لم يسقط عنه يمينه ما لم يعرض ذلك الشئ وكذلك ان لم يكن له نية في الاستطاعة فهو على أمر يعرض له فلا يكون على القضاء والقدر ما لم ينوه لما بينا أن الكلام المطلق محمول على ما هو الظاهر والمتعارف ولو قال والله لاأكلم فلانا ووالله لا أكلم فلانا رجلا آخر ان شاء الله تعالى يعنى بالاستثناء اليمينين جميعا كان الاستثناء عليهما لكون أحد اليمينين معطوفة على الاخرى وفى بعض النسخ لم يذكر حرف العطف ولكن قال والله لا أكلم فلانا وهذا صحيح أيضا لان موجب هذه اليمين الكفارة وذلك أمر بينه وبين ربه فإذا لم يسكت بين اليمينين كان المنوي من محتملات لفظه أو يجعل الواو في الكلام الثاني للعطف دون القسم فكأنه قال والله والله وكذلك لو قال على حجة ان كلمت فلانا وعلى عمرة ان كلمت فلانا ان شاء الله فكلمه لم يحنث لان الكلام الثاني معطوف على الاول فأما إذا قال عبدى حر ان كلمت فلانا عبدى الآخر حر ان كلمت فلانا ان شاء الله ثم كلمه فان عبده الاول حر في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله لانه لم يذكر بين الكلامين حرف العطف فانعدم الاتصال بينهما حكما ووجد الاتصال صورة حين لم يسكت بينهما فان نوى صرف الاستثناء اليهما كان مدينا فيما بينه وبين الله تعالى للاحتمال ولا يدين في الحكم لانه خلاف الظاهر فان الكلام الثاني غير معطوف على الاول فيصير فاصلا بين الاستثناء والكلام الاول وان قال لامرأته ان حلفت بطلانك فعبدي حر فهذه يمين بالعتق لان اليمين تعرف بالجزاء والجزاء عتق العبد لان الجزاء ما يتعقب حرف الجزاء وهو الفاء والشرط أن يحلف بطلان امرأته فإذا قال بعد ذلك لعبده ان حلفت بعتقك فامرأته طالق فان عبده يعتق لان بالكلام الثاني حلف بطلاق امرأته يذكر (بذكر) الشرط والجزاء طلاقها فوجد به الشرط في اليمين الاول فلهذا يعتق عبده ولا تطلق امرأته لان الحلف بعتق البعد كان سابقا على الحلف بطلاقها وما يكون سابقا على اليمين لا يكون شرطا لان الحالف انما يقصد منع نفسه عن ايجاد الشرط وذلك لا يتحقق فيما كان سابقا على يمينه ولو قال لامرأته ثلاث مرات ان حلفت بطلاقك فأنت طالق طلقت اثنتين ان كان دخل بها لانه باليمين الثانية يحنث في اليمين الاولى فتطلق واحدة ثم باليمين الثالثة يحنث في اليمين الثانية فتطلق أخرى لانها في عدته وان لم يكن دخل بها لا تطلق الا واحدة لانها بانت بالاولى لا إلى عدة ولان شرط الحنث في اليمين الثانية لا يوجد باليمين

[ 160 ] الثالثة لان الشرط هو الحلف بطلافها وذلك لا يتحقق في غير الملك بدون الاضافة إلى الملك فلهذا لا تطلق الا واحدة ولو قال عبده حر ان حلف بطلاق امرأته ثم قال لامرأته أنت طالق ان شئت لا يعتق عبده وليس هذا بيمين وان وجد الشرط والجزاء صورة بل هو مخير بمنزلة قوله أمرك بيدك أو اختاري فقد خير رسول الله نساءه رضى الله تعالى عنهن مع نهيه عن اليمين بالطلاق والدليل عليه انه يشترط وجود المشيئة منها في المجلس ولو كان يمينا لم يتوقت بالمجلس كقوله انت طالق ان كلمت وكذلك إذا قال إذا حضت حيضة لم يعتق عبده لان هذا تفسير لطلاق السنة بمنزلة قوله انت طالق للسنة وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يعتق لان هذا ليس بايقاع لطلاق السنة بدليل انه لو جامعها في الحيض ثم طهرت وقع الطلاق عليها ولو كان هذا كقوله للسنة لم يقع قلنا هو سنى من وجه فلا يحنث بالحيض وتطليق لوجود الشرط حقيقة واما إذا قال لها إذا حضت فأنت طالق أو إذا جاء غد فأنت طالق عتق عبده عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتق قال لان الحالف يكون مانعا نفسه من ايجاد الشرط وانما يكون الكلام يمينا بذكر شرط يتصور المنع عنه فأما بذكر شرط لا يتصور المنع عنه لا يصير حالفا بطلاقها فلا يعتق عبده كما لو قال انت طالق غدا ولكنا نقول الكلام يعرف بصيغته وقد وجد صيغة اليمين بذكر الشرط والجزاء ولم يغلب عليه غيره فكان يمينا بخلاف قوله أنت طالق غدا لانه ما ذكر الشرط والجزاء انما أضاف الطلاق إلى وقت وبخلاف قوله أنت طالق ان شئت أو إذا حضت حيضة لانه غلب عليه معنى آخر كما بينا وبأن لم يكن في وسعه منع هذا الشرط لا يخرج من أن يكون يمينا كما لو جعل الشرط فعل انسان آخر لا يقدر على منعه من ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب (باب المساكنة) (قال) رضي الله عنه وإذا حلف الرجل لا يساكن فلانا ولا نية له فساكنه في دار كل واحد منهما في مقصورة على حدة لم يحنث لان المساكنة على ميزان المفاعلة فشرط حنثه وجود السكنى مع فلان والسكنى المكث في مكان على سبيل الاستقرار والدوام فتكون المساكنة بوجود هذا الفعل منهما على سبيل المخالطة والمقارنة وذلك إذا سكنا بيتا واحدا

[ 161 ] أو سكنا في دار وكل واحد منهما في بيت منها لان جميع الدار مسكن واحد فأما إذا كان في الدار مقاصير وحجر فكل مقصورة مسكن على حدة فلا يكون هو مساكنا فلانا فلا يحنث في يمينه بمنزلة ما لو سكنا في محلة كل واحد منهما على حدة والدليل على الفرق أن الدار التى تشتمل على المقاصير كل مقصورة منها حرز على حدة حتى لو أخرج السارق المتاع من مقصورة فاخذ في صحن الدار يقطع ولو سرق من يسكن احدى المقصورتين من المقصورة الاخرى يقطع والدار التى تشتمل على بيوت حرز واحد حتى لو أخرج السارق المتاع من بيت واخذ في صحن الدار لا يقطع ومن كان مأذونا في الدخول في أحد البيوت من الدار إذا سرق من البيت الاخر لا يقطع وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى قال هذا إذا كانت الدار كبيرة نحو دار الوليد بالكوفة ونظيره دار نوح ببخارى لان ذلك بمنزلة المحلة فأما إذا لم يكن بهذه الصفة فانه يحنث سواء كانت دارا تشتمل على مقاصير أو على بيوت لان في عرف الناس هذا مسكن واحد ويعد الحالف مساكنا لصاحبه وان كان كل واحد منهما في مقصورة وان كان نوى حين حلف أن لا يساكنه في بيت واحد أو في حجرة أو في منزل واحد بأن يكونا فيه جميعا لم يحنث حتى يساكنه فيما نوى لان المنوي من محتملات لفظه (فان قيل) المسكن ليس في لفظه فكيف تعمل نيته في تخصيص المسكن ونية التخصيص فيما لا لفظ له باطل (قلنا) نحن لا نعتبر تخصيص المسكن حتى لو نوى شيئا بعينه لا تعمل نيته ولكن الفعل يقتضى المصدر لا محالة فبذكر الفعل يصير المصدر كالمذكور لغة وهو انما نوى أكمل ما يكون من السكنى لان أكمل ذلك أن يجمعهما بيت واحد وما دون هذا عند المقابلة بهذا يكون قاصرا فيكون هذا منه نية نوع من السكنى وذلك صحيح نظيره ما قال في الجامع ان خرجت ونوى السفر تعمل نيته لانه نوى نوعا من الخروج والخروج الذى هو مصدر كالمذكور بذكر الفعل فتصح نيته في نوع منه بخلاف ما إذا نوى الخروج إلى بغداد لان المكان ليس في لفظه فلا تعمل نيته في ذلك وان كان نوى أن لا يساكنه في مدينة أو قرية وسمى ذلك فان ساكنه في شئ من ذلك حنث ولا تكون المساكنة في ذلك الا أن يسكنا بيتا واحدا أو دارا واحدة من دار البلدة أو القرية على ما بينا أن المساكنة فعل على سبيل المخالطة والمقارنة وذلك لا يكون الا في مسكن واحد وفائدة تخصيصه البلدة أو القرية اخراج سائر المواضع عن يمينه وعن أبى يوسف رحمه الله أنه

[ 162 ] في هذا الفصل يحنث إذا جمعهما المكان الذى سمى في السكنى وان كان كل واحد منهما في دار على حدة لاجل العرف فانه يقال فلان يساكن فلانا قرية كذا وبلدة كذا وان كان كل واحد منهما في دار على حدة فأما في ظاهر الرواية لا يحنث في ذلك الا أن ينويه فحينئذ تعمل نيته لما فيه من التشديد عليه وان حلف لا يساكنه في بيت فدخل عليه فيه زائرا أو ضيفا وأقام فيه يوما أو يومين لم يحنث لان هذا ليس بمساكنة انما المساكنة بالاستقرار والدوام وذلك بمتاعه وثقله ألا ترى أن الانسان يدخل في المسجد كل يوم مرارا ولا يسمى ساكنا فيه ويدخل على الامير ويكون في داره يوما ولا يسمى مساكنا له في داره فكذلك هذا الذى دخل على فلان زائرا أو ضيفا لا يكون ساكنا معه فيه فلا يحنث الا أن ينويه فحينئذ في نيته تشديد عليه فيكون عاملا ألا ترى ان الرجل قد يمر بالقرية فيبيت فيها ويقول ما سكنتها قط فيكون صادقا في ذلك ولو كان ساكنا في دار فحلف أن لا يسكنها ولا نية له ثم أقام فيها يوما أو أكثر لزمه الحنث لان السكنى فعل مستدام حتى يضرب له المدة ويقال سكن يوما أو شهرا والاستدامة على ما يستدام كالانشاء قال الله تعالى وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى أي لا تمكث قاعدا فيجعل استدامة السكنى بعد يمينه كانشائه وكذلك اللبس والركوب لانه يستدام كالسكنى فأما إذا أخذ في النقلة من ساعته أو في نزع الثوب أو في النزول عن الدابة لم يحنث عندنا استحسانا وفي القياس يحنث وهو قول زفر رحمه الله تعالى لوجود جزء من الفعل المحلوف عليه بعد يمينه إلى أن يفرغ عنه ووجه الاستحسان أن هذا القدر لا يستطاع الامتناع عنه فيصير مستثنى لما عرف من مقصود الحالف وهو البر دون الحنث ولا يتأتى البر الا بهذا ولان السكنى هو الاستقرار والدوام في المكان والخروج ضده فالموجود منه بعد اليمين ما هو ضد السكنى حين أخذ في النقلة في الحال ولو خرج منها بنفسه ولم يشتغل بنقل الامتعة يحنث عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يحنث لانه عقد يمينه على سكناه وحقيقة ذلك بنفسه فينعدم بخروجه عقيب اليمين وحكى عنه في تعليل هذه المسألة قال خرجت من مكة وخلفت فيها دفيترات أفأكون ساكنا بمكة (وحجتنا) في ذلك أنه ساكن فيها بثقله وعياله فما لم ينقلهم فهو ساكن فيها لما بينا أن السكنى فعل على سبيل الاستقرار والدوام وذلك لا يتأتى الا بالثقل والمتاع والعرف شاهد لذلك فانك تسأل السوقى أين تسكن فيقول في محلة كذا وهو في تجارته يكون

[ 163 ] في السوق ثم يشير إلى موضع ثقله وعياله ومتاعه فعرفنا أن السكنى بذلك بخلاف الدفيترات فان السكنى لا تتأتى بها مع أن من مشايخنا من يقول إذا كان يمينه على أن لا يسكن بلدة كذا فخرج منها بنفسه لم يحنث وان خلف ثقله بها وقد روى بعض ذلك عن محمد رحمه الله بخلاف السكنى في الدار فان من يكون في المصر في السوق يسمى ساكنا في الدار التى فيها ثقله ومتاعه وعياله فأما المقيم بأوزجند لا يسمى ساكنا ببخارى وان كان بها عياله وثقله قال رضى الله عنه وهذه المسألة تنبنى على أصل في مسائل الايمان بيننا وبين الشافعي رحمه الله تعالى أن عنده العبرة بحقيقة اللفظ والعادة بخلافها لا تعتبر لان المجاز لا يعارض الحقيقة وعندنا العادة الظاهرة اصطلاح طارئ على حقيقة اللغة والحالف يريد ذلك ظاهرا فيحمل كلامه عليه ألا ترى أن المديون يقول لصاحب الدين والله لاجرينك على الشوك فيحمل على شدة المطل دون حقيقة اللفظ وكان مالك يقول ألفاظ اليمين محمولة على ألفاظ القرآن وهذا بعيد أيضا فان من حلف لا يستضئ بالسراج فاستضاء بالشمس لا يحنث والله تعالى سمى الشمس سراجا ومن حلف لا يجلس على البساط فجلس على الارض لم يحنث والله تعالى سمى الارض بساطا ولو حلف لا يمس وتدا فمس جبلا لا يحنث وقد سمى الله تعالى الجبال أوتادا فعرفنا أن الصحيح ما قلنا فان نقل بعض الامتعة فالمروى عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى أنه يحنث إذا ترك بعض أمتعته فيها لانه كان ساكنا فيها بجميع الامتعة فيبقي ذلك ببقاء بعض الامتعة فيها وهو أصل لابي حنيفة حتى جعل بقاء صفة السكون في العصير مانعا من أن يكون خمرا وبقاء مسلم واحد منا في بلدة ارتد أهلها مانعا من أن تصير دار حرب الا أن مشايخنا رحمهم الله قالوا هذا إذا كان الباقي يتأنى بها السكنى اما ببقاء مكنسة أو وتد أو قطعة حصير فيها لا يبقى ساكنا فيها فلا يحنث وعن أبى يوسف رحمه الله تعالى قريب من هذا قال ان بقي فيها ما يتأتى لمثله السكنى به يحنث والا فلا وعن محمد رحمه الله تعالى قال ان نقل إلى المسكن الثاني ما يتأتى له السكنى به لم يحنث لان بهذا صار ساكنا في المسكن الثاني فلا يبقى ساكنا في المسكن الاول ولو كان في طلب مسكن آخر فبقى في ذلك يوما أو أكثر لم يحنث في الصحيح من الجواب لانه لا يمكنه طرح الامتعة في السكة فيصير ذلك القدر مستثني (مستثنى) لما عرف من مقصوده إذا لم يفرط في الطلب وكذلك ان بقى في نقل الامتعه أياما لكثرة أمتعته ولبعد المسافة ولم يستأجر لذلك جمالا بل جعل

[ 164 ] ينقل بنفسه شيئا فشيئا لم يحنث وان بقى في ذلك شهرا إذا لم يفرط لان نقل الامتعة ضد الاستقرار في ذلك المكان فاشتغاله به يمنعه من أن يكون ساكنا فيه فلا يحنث لهذا ولو حلف لا يساكن فلانا في دار قد سماها بعينها واقتسما وضربا بينهما حائطا وفتح كل واحد منهما بابا لنفسه ثم سكن الحالف طائفة والآخر طائفة لزمه الحنث لانه قد ساكنه فيها بعينها والمعني فيه ان شرط حنثه حين عقد اليمين ان يجمعهما فعل السكنى في الموضع الذى عينه وقد وجد ذلك بعد القسمة وضرب الحائط كما قبله وهذا بخلاف ما لو كانت يمينه على ان لا يساكنه في منزل ولم يسم دارا بعينها ولم ينوها لان هناك بالقسمة وضرب الحائط صار كل جانب منزلا على حدة ولان في غير العين يعتبر الوصف وفى العين يعتبر العين دون الوصف كما لو حلف أن لا يكلم شابا فكلم شيخا كان شابا وقت يمينه لم يحنث بخلاف مالو حلف أن لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما شاخ يحنث وهذا لانه في الدار المعينة أظهر بيمينه التبرم منها لا من فلان وفى غير المعين انما أظهر التبرم من مساكنة فلان ولا يكون مساكنا له إذا لم يجمعهما منزل واحد ولو حلف ان لا يساكنه وهو ينوى في بيت واحد فساكنه في منزل كل واحد منهما في بيت لم يحنث لانه نوى أكمل ما يكون من المساكنة فتصح نيته ويصير المنوي كالملفوظ به وان حلف أن لا يسكن دارا بعينها فهدمت وبنيت بناء آخر فسكنها يحنث لانها تلك الدار بعينها ومعنى هذا ان البناء وصف ورفع البناء الاول واحداث بناء آخر يغير الوصف وفى العين لا معتبر بالوصف واسم الدار يبقي (يبقى) بعد هدم البناء حتى لو سكنها كذلك صار حانثا وهذا لان الدار اسم لما أدير عليه الحائط فلا يزول ذلك برفع البناء أما ترى أن العرب تطلق اسم الدار على الخرابات التى لم يبق منها الا الآثار قال القائل * عفت بالديار محلها فمقامها * وقال آخر * يادار مية بالعلياء فالسند * وهذا بخلاف مالو حلف لا يسكن بيتا عينه فهدم حتى ترك صحراء ثم بني بيت آخر في ذلك الموضع فسكنه لم يحنث لان اسم البيت يزول بهدم البناء ألا ترى أنه لو سكنه حين كان صحراء لم يحنث وهذا لان البيت اسم لما يكون صالحا للبيتوتة فيه والصحراء غير صالح لذلك واليمين المعقودة باسم لا يبقى بعد زوال الاسم ثم انما حدث اسم البيت لذلك الموضع بالبناء الذى أحدث فكان هذا اسما غير ما عقد به اليمين ووزانه من الدار ان لو جعلها بستانا أو حماما ثم بنى دارا فسكنها لم يحنث لان الاسم زال جعلها بستانا أو حماما ثم حدث اسم الدار

[ 165 ] بصفة حادثة فلم يكن ذلك الاسم الذى انعقد به اليمين وإذا حلف لا يسكن دار فلان هذه فباعها فسكن الحالف ولم يكن له نية لم يحنث في قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله تعالى وقال محمد وزفر رحمهما الله تعالى يحنث وكذلك العبد والثوب وكل ما يضاف إلى انسان بالملك وجه قول محمد وزفر رحمهما الله تعالى أنه جمع في كلامه بين الاشارة والاضافة فيتعلق الحكم بالاشارة لانها أبلغ في التعريف من الاضافة فانها تقطع الشركة والاضافة لا تقطع الشركة فكان هذا بمنزلة قوله لا أسكن هذه الدار والدليل عليه مالو قال والله لا أكلم زوجة فلان هذه صديق فلان هذا فكلم بعد ما عاداه وفارقها يحنث لما قلنا وكذلك لو قال لا أكلم صاحب هذا الطيلسان فكلم بعد ما باع الطيلسان يحنث وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول عقد يمينه على ملك يضاف إلى مالك فلا يبقى بعد زوال الملك كما لو كان أطلق دار فلان وتحقيقه من وجهين (أحدهما) أن الدار لا يقصد هجرانها لعينها بل لاذى حصل من مالكها واليمين تتقيد بمقصود الحالف فصار بمعرفة مقصوده كانه قال ما دامت لفلان بخلاف الزوجة والصديق فانه يقصد هجرانهما لعينهما وكذلك قوله صاحب الطيلسان لانه يقصد هجرانه لعينه لا لطيلسانه فكان ذكر هذه الاشياء للتعريف لا لتقييد اليمين (فان قيل) في العبد هو آدمى فيقصد هجرانه لعينه ومع ذلك قلتم إذا حلف لا يكلم عبد فلان هذا فكلمه بعد ما باعه لا يحنث (قلنا) ذكر ابن سماعة في نوادره أن عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى يحنث بهذا في العبد ووجه ظاهر الرواية أن العبد مملوك ساقط المنزلة عند الاحرار فالظاهر أنه إذا كان الاذى منه لا يقصد هجرانه باليمين فلا يجعل له هذه المنزلة ولكن انما يحلف إذا كان الاذى من مالكه ولان اضافة المملوك إلى المالك حقيقة كالاسم ثم لو جمع في يمينه بين ذكر الاسم والعين وزال الاسم لم يبق اليمين كما لو حلف لا يدخل هذه الدار بعينها فجعلت بستانا فدخل لم يحنث لزوال الاسم فكذلك إذا جمع بين الاضافة والتعيين فزالت الاضافة لا يبقى اليمين بخلاف الزوجة والصديق فالاضافة هناك ليست بحقيقية ولكنه تعريف كالنسبة وكما أنه يتعلق اليمين بالعين دون النسبة فكذلك هنا يتعلق بالعين دون الاضافة فان نوى ان لا يسكنها وان زالت الاضافة فله ما نوى لانه شدد الامر على نفسه بنيته وكذلك عند محمد رحمه الله تعالى لو نوى أن لا يسكنها ما دامت لفلان فله ما نوي لان المنوي من محتملات لفظه وإذا حلف ان لا يسكن دار فلان أو دارا الفلان ولم يسم دارا بعينها ولم ينوها فسكن دارا له قد باعها بعد

[ 166 ] يمينه لم يحنث لانه جعل شرط الحنث وجود السكنى في دار مضافة إلى فلان ولم يوجد بخلاف قوله زوجة فلان أو صديق فلان لان هناك انما يقصد هجرانهما لعينهما فيتعين ما كان موجودا وقت يمينه بناء على مقصوده كما لو عينه وذكر ابن سماعة عن ابي يوسف رحمهما الله تعالى التسوية بينهما ووجهه أنه عقد اليمين بالاضافة وحقيقة ذلك فيما كان موجودا وقت يمينه ولكن على هذه الرواية لابد من ان يقال إذا جمع بين الاضافة والتعيين يبقى اليمين بعد زوال الاضافة عند أبى يوسف رحمه الله تعالى كما هو قول محمد رحمه الله تعالى واما إذا سكن دارا كانت مملوكة لفلان من وقت اليمين إلى وقت السكنى فهو حانث بالاتفاق وان سكن دارا اشتراها فلان بعد يمينه حنث في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولم يحنث في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى وكذلك العبد والدابة والثوب ولو حلف لا يأكل طعام فلان أولا يشرب شراب فلان فتناول شيئا مما استحدثه فلان لنفسه فهو حانث بالاتفاق وقد أشار ابن سماعة إلى التسوية بين الكل عند أبى يوسف رحمه الله تعالى لما بينا أنه عقد اليمين على الاضافة فما لم يوجد حقيقة وقت اليمين لا يتناوله اليمين فاما وجه قوله في الفرق على ظاهر الرواية أن الطعام والشراب يستحدث الملك فيهما في كل وقت فعرفنا أن مقصود الحالف وجود الاضافة إلى فلان وقت التناول فأما الدار والعبد والدابة فلا يستحدث الملك فيها في كل وقت فعرفنا ان مقصوده ما كان موجودا في الحال دون ما يستحدث فيه فكان هذا بمنزلة الزوجة والصديق وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله انه عقد يمينه على ملك مضاف إلى المالك فإذا وجدت الاضافة إلى وقت الفعل كان حانثا كما في الطعام والشراب وتحقيقه ان شرط حنثه وجود السكنى في دار مضافة إلى فلان بالملك وانما حمله على اليمين أذى دخله من فلان وفى هذا لا فرق بين الموجود في ملكه وقت اليمين وما استحدث الملك فيه بخلاف الزوجة والصديق وقد روى محمد عن أبى يوسف رحمهما الله تعالى في قوله دارا لفلان انه لا يحنث إذا سكن دار اشتراها فلان بعد يمينه بخلاف قوله دار فلان لان اللام دليل على الملك فصار تقدير كلامه كأنه قال لا أسكن دارا هي مملوكة لفلان فيتعين الموجود في ملكه دون ما يستحدثه ولا يوجد ذلك في قوله دار فلان وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله على عكس هذا قال إذا قال دار فلان لا يتناول ما يستحدث الملك فيه بخلاف قوله دار الفلان لان في قوله دار فلان تمام الكلام بذكر الاضافة ألا ترى أنه لو لم يذكر فلانا كان كلاما

[ 167 ] مختلا فلابد من قيام الملك لفلان وقت اليمين ليتناوله اليمين وفى قوله دارا لفلان الكلام تام بدون ذكر فلان فانه لو قال لا أسكن دارا كان مستقيما فذكر فلان لتقييد اليمين بما يكون مضافا إلى فلان وقت السكنى وان حلف لا يسكن دارا لفلان فسكن دارا بينه وبين آخر لم يحنث قل نصيب الآخر أو كثر لانه جعل شرط الحنث وجود السكنى في دار يملكها فلان والمملوك لفلان بعض هذه الدار وبعض الدار لا يسمى دارا وان حلف لا يسكن دارا اشتراها فلان فسكن دارا اشتراها لغيره حنث لان المشترى لغيره كالمشترى لنفسه فيما ينبنى على الشراء ألا ترى ان حقوق العقد تتعلق به وانه يستغني عن اضافة العقد إلى غيره وانما رتب الحالف يمينه على الشراء دون الملك فان قال أردت ما اشتراه لنفسه دين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء إذا كان يمينه بالطلاق لانه نوى التخصيص في اللفظ العام وان حلف لا يسكن بيتا ولا نية له فسكن بيتا من شعر أو فسطاطا أو خيمة لم يحنث إذا كان من أهل الامصار وحنث إذا كان من أهل البادية لان البيت اسم لموضع يبات فيه واليمين يتقيد بما عرف من مقصود الحالف فأهل الامصار انما يسكنون البيوت المبنية عادة وأهل البادية يسكنون البيوت المتخذة من الشعر فإذا كان الحالف بدويا فقد علمنا ان هذا مقصوده بيمينه فيحنث بخلاف ما إذا كان من أهل الامصار واسم البيت للمبني حقيقة فلا يختلف فيه حكم أهل الامصار وأهل البادية لان أهل البادية يسمون البيت للمبني حقيقة والاصل في هذا ان سائلا سأل ابن مسعود رضى الله عنه فقال ان صاحبا لنا أوجب بدنة أفتجزى البقرة فقال ممن صاحبكم فقال من بين رياح قال ومتى أقتنت بنو رياح البقر انما وهم صاحبكم الابل فدل ان عند اطلاق الكلام يعتبر عرف المتكلم فيما يتقيد به كلامه وإذا حلف لا يسكن بيتا لفلان فسكن صفة له حنث لان الصفة بيت الا أن يكون نوى البيوت دون الصفاف فيدين فيما بينه وبين الله ولا يدين في القضاء لانه نوى تخصيص اللفظ العام من أصحابنا من يقول هذا الجواب بناء على عرف أهل الكوفه لان الصفة عندهم اسم لبيت يسكنونه يسمي (يسمى) صفا ومثله في ديارنا يسمى كاشانه فأما الصفة في عرف ديارنا غير البيت فلا يطلق عليه اسم البيت بل ينفي عنه فيقال هذا صفة وليس ببيت فلا يحنث قال والاصح عندي أن مراده حقيقة ما نسميه الصفة ووجهه أن البيت اسم لمبنى مسقف مدخله من جانب واحد وهو مبنى للبيتوتة فيه وهذا موجود في الصفة الا أن مدخله أوسع من مدخل البيوت المعروفة

[ 168 ] فكان اسم البيت متناولا له فيحنث بسكناه الا أن يكون نوى البيوت دون الصفاف فحينئذ يصدق فيما بينه وبين الله تعالى لانه خص العام بنيته ولو حلف لا يسكن دار فلان هذه فسكن منزلا منها حنث لان السكنى في الدار هكذا تكون فان الانسان يقول أنا ساكن في دار فلان وانما يسكن في بعضها فانه لا يسكن تحت السور وعلى الغرف والحجر الا أن يكون نوى أن يسكنها كلها فلا يحنث حينئذ حتى يسكنها كلها لانه نوى حقيقة كلامه ومطلق الكلام وان كان محمولا على المتعارف فنية الحقيقة تصح فيه كما لو قال يوم يقدم فلان فأمرأته طالق حمل على الوقت للعرف فان نوى حقيقة بياض النهار عملت نيته في ذلك فهذا مثله حتى لو كان حلف بعتق أو طلاق يدين في القضاء لان هذه حقيقة غير مهجورة ولو حلف لا يسكن دارا لفلان وهو ينوى بأجر أو عارية وسكنها على غير ما عنى ولم يجر قبل ذلك كلام فانه يحنث وما نوي لا يغني عنه شيئا لانه نوى التخصيص فيما ليس من لفظه فان في لفظه فعل السكنى وهو نوى التخصيص في السبب الذى يتمكن به من السكنى الا ان يكون قبل هذا كلام يدل عليه بان استعاره فأبى فحلف وهو ينوى العارية ثم سكن بأجر فحينئذ لا يحنث لان مطلق الكلام يتقيد بدلالة الحال ويصير ذلك كالمنصوص عليه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (باب الدخول) (قال) رضى الله عنه وإذا حلف لا يدخل بيتا لفلان ولم يسم بيتا بعينه ولم يكن له نية فدخل بيتا هو فيه ساكن بأجر أو عارية فهو حانث عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا يحنث لان الاضافة إلى فلان بالملك حقيقة وبالسكنى مجاز فلا تجتمع الحقيقة والمجاز في لفظ واحد والحقيقة مرادة بالاتفاق فيتنحى المجاز واللام في قوله لفلان دليل الملك أيضا (وحجتنا) في ذلك أنه عقد يمينه على الاضافة إلى فلان وما يسكنه فلان عارية أو اجارة مضاف إليه بمنزلة ما يسكنه بالملك ألا ترى انك تقول بيت فلان ومنزل فلان وان كان نازلا فيه باجر أو عارية فكذلك مع حرف اللام فان النبي عليه الصلاة والسلام حين قال لرافع بن خديج لمن هذا الحائط فقال لى استأجرته لم ينكر عليه اضافته إلى نفسه بحرف اللام ولا يقول أنه إذا دخل بيتا هو ملك فلان أنه يحنث بحقيقة الاضافة بالملك لوجود الاضافة بالسكنى

[ 169 ] وحاصل هذا الكلام أنه يحنث باعتبار عموم المجاز وفى ذلك الملك والمستعار سواء كمن حلف لا يضع قدمه في دار فلان فدخلها حافيا أو متنعلا أو راكبا يحنث باعتبار عموم المجاز وهو الدخول دون حقيقة وضع القدم (فان قيل) كيف يكون للمجاز عموم والمصير إليه بطريق الضرورة (قلنا) العموم للحقيقة ليس باعتبار أنه حقيقة بل بدليل ذلك الدليل بعينه موجود في المجاز وهذا لان المجاز كالمستعار ويحصل بلبس الثوب المستعار دفع الحر والبرد كما يحصل بلبس الثوب المملوك ولا يقال بأن المجاز يصار إليه للضرورة بل هو أحد قسمي الكلام ألا ترى أن في كتاب الله تعالى مجازا وحقيقة والله تعالى يتعالى أن تلحقه الضرورة فعرفنا ان العموم يعتبر في المجاز كما في الحقيقة وعلى هذا روى عن محمد رحمه الله تعالى أنه إذا حلف لا يدخل بيتا لفلان فدخل بيتا أجره فلان من غيره لم يحنث لانه مضاف إلى المستأجر بالسكنى دون الآجر ولو حلف لا يسكن حانوتا لفلان فسكن حانوتا أجره فان كان فلان ممن يسكن حانوتا لا يحنث بهذا أيضا وان كان لا يسكن حانوتا فحينئذ يحنث لما عرف من مقصود الحالف فان من حلف لا يسكن حانوت الامير يعلم كل أحد ان مراده حانوت يملكه الامير وإذا حلف لا يدخل على فلان ولم يسم شيئا ولم يكن له نية فدخل عليه في بيته أو في بيت غيره أو في صفة حنث لانه وجد الدخول على فلان فان الدخول عليه في موضع يبيت هو فيه أو يجلس لدخول الزائرين عليه وذلك يكون في بيته تارة وفى بيت غيره أخرى والصفة في هذه كالبيت فيحنث لهذا وان دخل عليه في مسجد لم يحنث لانه معد للعبادة فيه لا للبيتوتة والجلوس لدخول الزائرين عليه وكذلك ان دخل عليه في ظلة أو سقيفة أو دهليز باب دار لم يحنث لان العرف الظاهر ان جلوسه لدخول الزائرين عليه لا يكون في مثل هذه المواضع عادة وانما يكون نادرا عند الضرورة فاما الجلوس عادة يكون في الصفة والبيت فهو وان أتاه في هذه المواضع لا يكون داخلا عليه ولا يحنث وكذلك لو دخل عليه في فسطاط أو خيمة أو بيت شعر لم يحنث الا أن يكون الحالف من أهل البادية والحاصل أنه جعل قوله لا أدخل على فلان وقوله لا ادخل عليه بيتا سواء لاعتبار العرف كما بينا وإذا حلف لا يدخل عليه بيتا فدخل عليه في المسجد أو الكعبة لم يحنث لانه مصلى والبيت اسم للموضع المعد للبيتوتة فيه (فان قيل) أليس إن الله تعالى سمى الكعبة بيتا بقوله ان أول بيت وضع للناس وسمى المساجد بيوتا في قوله في بيوت أذن الله (قلنا) قد بينا أن

[ 170 ] الايمان لا تنبني على لفظ القرآن وقد سمي بيت العنكبوت بيتا فقال وان أوهن البيوت لبيت العنكبوت ثم هذا لا يدل على أن مطلق اسم البيت في اليمين يتناوله (قال) وكل شئ من المساكن يقع عليه اسم بيت حنث فيه ان دخل ومراده ما يطلق عليه الاسم عادة في الاستعمال وان دخل بيتا هو فيه ولم ينو الدخول عليه لم يحنث لان شرط حنثه الدخول عليه وذلك بأن يقصد زيارته أو الاستخفاف به بأن يقصد ضربه وهذا لم يوجد إذا لم ينو الدخول عليه أو لم يعلم أنه فيه ألا ترى أن السقاء يدخل دار الامير في كل يوم ولا يقال دخل على الامير وقد روى عن محمد رحمه الله تعالى أنه يحنث وان لم يعلم كونه فيه ولم ينو الدخول عليه بأن دخل على قوم هو فيهم والحالف لا يعلم بمكانه لان حقيقة الدخول عليه قد وجد ولا يسقط حكمه باعتبار جهله وإذا حلف لا يدخل على فلان ولم يسم بيتا ولم ينوه فدخل دارا هو فيها لم يحنث ألا ترى أنه لو كان في بيت منها لا يراه الداخل فانه لا يكون داخلا عليه أرأيت أنه لو كانت الدار عظيمة فيها منازل فدخل منزلا منها وفلان في منزل آخر كان يحنث انما يقع اليمين في هذا إذا دخل عليه بيتا أو صفة لانه حينئذ يكون داخلا عليه حقيقة الا أن يكون حلف أن لا يدخل عليه دارا فحينئذ يحنث إذا دخل داره لان اعتبار العرف عند عدم التصريح بخلافه وكذلك ان نوى دارا لانه يشدد الامر على نفسه بهذه النية ولو حلف لا يدخل بيتا وهو فيه داخل فمكث فيه أياما لم يحنث لان الدخول هو الانفصال من الخارج إلى الداخل ولم يوجد ذلك بعد يمينه انما وجد المكث فيه وذلك غير الدخول وهذا بخلاف السكنى لانه فعل مستدام يضرب له مدة فتكون للاستدامة فيه حكم الانشاء فأما الدخول ليس بمستدام ألا ترى أنه لا يضرب له المدة فانه لا يقال دخل يوما أو شهرا انما يقال دخل ومكث فيه يوما ولو قال والله لادخلنه غدا فأقام فيه حتى مضى الغد حنث لان شرط بره وجود فعل الدخول في غد ولم يوجد انما وجد المكث فيه فإذا نوى بالدخول الاقامه فيه لم يحنث لان المنوي من محتملات لفظه فان الدخول لمقصود الاقامة وكانه جعل ذكر الدخول كناية عما هو المقصود فلهذا لم يحنث وان قال والله لا أدخلها الا عابر سبيل فدخلها ليقعد فيها أو يعود مريضا أو يطعم حنث لانه عقد يمينه على الدخول واستثنى دخولا بصفة وهو أن يكون عابر سبيل أي مجتازا ومار طريق قال الله تعالى ولا جنبا الا عابرى سبيل وقد وجد الدخول لا على الوجه المستثني فيحنث وان

[ 171 ] دخلها مجتازا ثم بدا له أن يقعد فيها لم يحنث لان دخوله على الوجه المستثنى فلم يحنث به وبقى ما وراء ذلك مكث في الدار وذلك غير الدخول فلا يحنث به أيضا وان نوى بكلامه أن لا يدخلها يريد النزول فيها صحت نيته لانه عابر سبيل يكون مجتازا في موضع ولا يكون نازلا فيه فجعل هذا مستثنى دليل على ان مراده منع نفسه مما هو ضده وهو الدخول للنزول فإذا صحت نيته صار المنوي كالملفوظ وإذا دخلها يريد أن يطعم أو يقعد لحاجة ولا يريد المقام فيها لم يحنث لان شرط حنثه دخول بصفة وهو أن يكون للسكنى والقرار ولم يوجد وإذا حلف لا يدخل دار فلا ن فجعلها بستانا أو مسجدا ودخلها لم يحنث قال لانها قد تغيرت عن حالها ولم يرد تغير الوصف لان ذلك لا يرفع اليمين إذا لم يكن وصفا داعيا إلى اليمين وانما أراد تغير الاسم لانه عقد اليمين باسم الدار والبستان والمسجد والحمام غير الدار فإذا لم يبق ذلك الاسم لا يبقي اليمين وكذلك لو كانت دارا صغيرة فجعلها بيتا واحدا وأشرع بابه إلى الطريق أو إلى دار فدخله لم يحنث لانها قد تغيرت وصارت بيتا وهذه إشارة إلى ما قلنا أن اسم البيت غير اسم الدار فمن ضرورة حدوث اسم البيت لهذه البقعة زوال اسم الدار وان حلف لا يدخل بيتا بعينه فهدم سقفه وبقيت حيطانه فدخله يحنث لانه بيت وان انهدم سقفه قال الله تعالى فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا أي ساقطة سقفها ولان البيت اسم لما هو صالح للبيتوتة فيه وما بقيت الحيطان فهو صالح لذلك وان لم يكن مسقفا بخلاف ما لو انهدمت الحيطان لانه صار صحراء غير صالح للبيتوتة فلا يتناوله اسم البيت وان حلف لا يدخل دار فلان فاحتمله انسان فأدخله وهو كاره لم يحنث لانه مدخل لا داخل ألا ترى أن الميت قد يدخل الدار وفعل الدخول منه لا يتحقق وان أدخله بأمره حنث لان فعل الغير بأمره كفعله بنفسه فأما إذا لم يأمره ولكنه غير ممتنع راض بقلبه حتى أدخله فقد قال بعض مشايخنا يحنث لانه لما كان متمكنا من الامتناع فلم يفعل صار كالآمر به وادخاله مكرها انما يكون مستثنى لانه لا يستطيع الامتناع عنه والاصح أنه لا يحنث لانه عقد يمينه على فعل نفسه وقد انعدم فعله حقيقة وحكما لان فعل الغير بغير أمره واستعماله اياه لا يصير مضافا إليه حكما الا بأمره ولم يوجد اما بترك المنع والرضا بالقلب فلا وان دخلها على دابة حنث لان سير الدابة يضاف إلى راكبها ألا ترى أن الراكب ضامن لما تطأ دابته وأنه يتمكن من ايقافه متى شاء فكان هذا والدخول ماشيا سواء وان حلف لا يضع قدمه فيها فدخلها

[ 172 ] راكبا أو ماشيا عليه حذاء أو لم يكن حنث لان وضع القدم عبارة عن الدخول عرفا فإذا نوى حين حلف أن لا يضع قدمه ماشيا فدخلها راكبا لم يحنث لانه نوى حقيقة كلامه وهذه حقيقة مستعملة غير مهجورة وان حلف لا يدخلها فقام على حائط من حيطانها حنث لانه قد دخلها فان القائم على حائط من حيطانها ليس بخارج منها فعرفنا أنه داخل فيها ألا ترى ان السارق لو أخذ في ذلك الموضع ومعه المال لم يقطع كما لو أخذ في صحن الدار توضيحه أن الدار اسم لما أدير عليه الحائط فيكون الحائط داخلا فيه ألا ترى أنه يدخل في بيع الدار من غير ذكر وان حلف لا يدخل في الدار فقام على السطح يحنث لان السطح من الدار ألا ترى أن من نام على سطح الدار يستجيز من نفسه أن يقول بت الليلة في دارى ولو قام في طاق باب الدار والباب بينه وبين الدار لم يحنث لان الباب لاحراز الدار وما فيها فكل موضع إذا رد الباب بقى خارجا فليس ذلك من الدار فلا يحنث لانه لم يدخلها وان كان بحيث لو رد الباب بقي داخلا فهذا قد دخلها فيحنث ولو كان داخلا فيها فحلف ان لا يخرج فقام في مقام يكون الباب بينه وبين الدار إذا أغلقت حنث لان الخروج انفصال من الداخل إلى الخارج وقد وجد ذلك حين وصل إلى هذا الموضع وان أخرج احدى رجليه لم يحنث وكذلك ان حلف ان لا يدخلها فأدخل احدى رجليه لم يحنث لان قيامه بالرجلين فلا يكون باحداهما خارجا ولا داخلا ألا ترى أن النبي لما وعد أبي بن كعب رضى الله تعالى عنه أن يعلمه سورة ليس في التوراة ولا في الانجيل مثلها قبل أن يخرج من المسجد فعلمه بعد ما أخرج احدى رجليه ولم يكن مخالفا لوعده من أصحابنا من يقول هذا إذا كان الداخل والخارج مستويان فان كان الداخل أسفل من الخارج فبادخال احدى الرجلين يصير داخلا لان عامة بدنه تمايل إلى الداخل وان كان الخارج أسفل من الداخل فباخراج احدى الرجلين يصير خارجا لهذا المعنى والاول أصح لانه لم يوجد شرط الحنث حقيقة فلا يحنث واعتبار احدى الرجلين يوجب أن يكون حانثا والرجل الاخرى تمنع من ذلك فلا يحنث بالشك وان دخل من حائط لها حتى قام على سطح من سطوحها فقد دخلها لما بينا أن السطح مما أدير عليه الحائط فالداخل إليه يكون داخلا فيها ولو دخل بيتا من تلك الدار قد أشرع إلى السكة حنث لانه مما أدير عليه الحائط وهذا إذا كان لذلك البيت باب في الدار وباب في السكة وان دخل في علوها على الطريق الاعظم أو دخل

[ 173 ] كنيفا منها شارعا إلى الطريق حنث وهذا إذا كانت مفتحه في الدار لانه من حجر الدار ومرافقه فالداخل إليه لا يكون خارجا من الدار وإذا لم يكن خارجا كان داخلا في الدار والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب (باب الخروج) (قال) رضى الله عنه وإذا حلف على امرأته بالطلاق ان لا تخرج حتى يأذن لها فأذن لها مره سقطت اليمين لان حتى للغاية قال الله تعالى حتى مطلع الفجر واليمين يتوقت بالتوقيت ومن حكم الغاية أن يكون ما بعدها بخلاف ما قبلها فإذا انتهت اليمين بالاذن مرة لم يحنث بعد ذلك وان خرجت بغير اذنه الا أن ينوى الاذن في كل مرة فيحنئذ يكون مشددا الامر على نفسه بلفظ يحتمله ولو قال الا باذنى فلابد من الاذن لكل مرة حتى إذا خرجت مرة بغير اذنه حنث لانه استثنى خروجا بصفة وهو أن يكون باذنه فان الباء للالصاق فكل خروج لا يكون بتلك الصفة كان شرط الحنث ومعنى كلامه الا مستاذنة قال الله تعالى وما نتنزل الا بأمر ربك أي مأمورين بذلك ونظيره ان خرجت الا بقناع أو الا بملاءة فإذا خرجت مرة بغير قناع أو بغير ملاءة حنث فأما إذا قال الا ان آذن لها فهذا بمنزلته حتى إذا وجد الاذن مرة لا يبقى اليمين فيه لان الا أن بمعنى حتى فيما يتوقت قال الله تعالى الا أن يحاط بكم أي حتى يحاط بكم ألا ترى أنه لا يستقيم اظهار المصدر هنا بخلاف قوله الا باذنى فانه يستقيم أن يقول الا خروجا باذنى فعرفنا أنه صفة للمستثنى وهنا لو قال الا خروجا ان آذن لك كان كلاما مختلا فعرفنا أنه بمعنى التوقيت وفيه طعن الفراء وقد بيناه وان حلف عليها ان لا تخرج من بيته فخرجت إلى الدار حنث لانه جعل شرط الحنث الخروج من البيت نصا والبيت غير الدار فبالوصول إلى صحن الدار صارت خارجة من البيت بخلاف ما لو حلف ان لا تخرج لان مقصوده هنا الخروج إلى السكة والوصول إلى موضع يراها الناس فيه ولا يوجد ذلك بخروجها إلى صحن الدار وان حلف لا يدخل فلان بيته فدخل داره لم يحنث لما بينا أنه سمى البيت نصا والدار غير البيت فالداخل في الدار لا يكون داخلا في البيت ألا ترى أن الانسان قد يأذن لغيره في دخول داره ولا يأذن في دخول بيته ولو حلف على امرأته أن لا تخرج من باب هذه الدار فخرجت من غير الباب لم يحنث لانه حلف بتسمية الباب

[ 174 ] (فان قيل) مقصوده منعها من الخروج لكيلا لا يراها الاجانب وذلك لا يختلف بالباب وغير الباب (قلنا) اعتبار مقصوده يكون مع مراعاة لفظه ولا يجوز الغاء اللفظ لاعتبار المقصود ثم قد يمنعها من الخروج إلى الباب لكيلا يراها الجار المحاذي وربما يتهمها بانسان إذا خرجت من الباب رآها وإذا خرجت من غير الباب لم يرها وربما يكون على الباب كلب عقور فكان تقييد الباب مفيدا فيجب اعتباره وكذلك لو حلف على باب بعينه فخرجت من باب آخر لم يحنث مراعاة للفظه ألا ترى أن يعقوب عليه السلام قال لاولاده عليهم السلام لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وكان ذلك منه أمرا بما هو مفيد وان حلف أن لا تخرج الا باذنه فاذن لها من حيث لا تسمع لم يكن اذنا في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى هو اذن لان الاذن فعل الآذن يتم به كالرضا ولو حلف أن لا تخرج الا برضاه فرضى بذلك ولم تسمع فخرجت لم يحنث فهذا مثله وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قال الاذن اما أن يكون مشتقا من الوقوع في الاذن وذلك لا يحصل الا بالسماع أو يكون مشتقا من الاذان وهو الاعلام قال الله تعالى وأذان من الله ورسوله وذلك لا يحصل الا بالسماع بخلاف الرضا فانه بالقلب يكون توضيحه ان مقصوده من هذا أن لا تتجاسر بالخروج قبل أن تستأذنه وهذا المقصود لا يحصل إذا لم تسمع باذنه فكان وجوده كعدمه ولو حلف عليها لا تخرج من المنزل الا في كذا فخرجت لذلك مرة ثم خرجت في غيره حنث لوجود الخروج لا على الوجه المستثني (المستثنى) فان كان عنى لا تخرج هذه المرة الا في كذا فخرجت فيه ثم خرجت في غيره لم يحنث لانه خص اللفظ العام بنيته وان خرجت لذلك ثم بدا لها فانطلقت في حاجة أخرى ولم تنطلق في ذلك الشئ لم يحنث لان خروجها بالصفة المستثني (المستثنى) ثم بعد ذلك وجد منها الذهاب في حاجة أخرى لا الخروج وشرط حنثه الخروج وان حلف عليها ان لا تخرج مع فلان من المنزل فخرجت مع غيره أو خرجت وحدها ثم لحقها فلان لم يحنث لان الخروج الانفصال من الداخل إلى الخارج ولم تكن مع فلان وذلك شرط حنثه فلهذا لا يحنث وان لحقها فلان بعد ذلك وكذلك لو حلف لا يدخل فلان عليها بيتا فدخل فلان أولا ثم دخلت هي فاجتمعا فيه لم يحنث لانها دخلت على فلان وشرط حنثه دخول فلان عليها وان حلف عليها أن لا تخرج من الدار فدخلت بيتا أو كنيفا في علوها شارعا إلى الطريق الاعظم لم يكن خروجها إلى هذا

[ 175 ] الموضع خروجا من الدار على ما بينا ان الواصل إلى هذا الموضع يكون داخلا في الدار فلا تصير هي خارجة من الدار بالوصول إليه والله أعلم بالصواب (باب الاكل) (قال) وإذا حلف لا يأكل طعاما أو لا يشرب شرابا فذاق شرابا من ذلك ولم يدخله حلقه لم يحنث لانه عقد يمينه على فعل الاكل والشرب والذوق ليس باكل ولا شرب فان الاكل ايصال الشئ إلى جوفه بفيه مهشوما أو غير مهشوم ممضوغا أو غير ممضوغ مما يتأتى فيه الهشم والمضغ والشرب أيضا ايصال الشئ إلى جوفه بفيه مما لا يتأتى فيه الهشم والمضغ في حال اتصاله والذوق معرفة طعم الشئ بفيه من غير ادخال عينه في حلقه ألا ترى أن الصائم إذا ذاق شيئا لم يفطره والاكل والشرب مفطر له ومتى عقد يمينه على فعل فاتى بما هو دونه لم يحنث وان أتي (أتى) بما هو فوقه حنث لانه أتى بالمحلوف عليه وزيادة وان كان قال لا أذوق حنث لوجود الذوق حقيقة وان لم يدخله حلقه الا إذا تمضمض بماء فحينئذ لا يحنث لان قصده التطهير لا معرفة طعم الماء فلم يكن ذلك ذوقا وان عني بالذوق الاكل في المأكول والشرب في المشروب لم يحنث ما لم يدخله في حلقه لان المنوي من محتملات لفظه وفيه عرف ظاهر فان الرجل يقول ما ذقت اليوم شيئا أي ما أكلت وجاء في الحديث أنهم كانوا لا يتفرقون إلا عن ذوق فان نوى ذلك عملت نيته وان لم تكن له نية فيمينه على حقيقة ذلك لان ذلك متعارف أيضا الا أنه روى هشام عن محمد ق رحمه الله تعالى أنه إذا تقدم ما يدل على ان مراده الاكل لا يحنث ما لم يأكل بأن قال تغد معى فحلف ان لا يذوق طعامه فيمينه على الاكل لان ما تقدم دليل عليه وذلك فوق نيته وان قال لا أذوق طعاما ولا شرابا فذاق احدهما حنث لانه كرر حرف النفى فتبين ان مراده نفى كل واحد منهما على الانفراد كما قال تعالى لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما وكذلك لو قال لا آكل كذا ولا كذا أو لا أكلم فلانا ولا فلانا وكذلك ان أدخل حرف أو بينهما لان في موضع النفي حرف أو بمعنى ولا قال الله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا يعنى ولا كفورا فصار كل واحد منهما كانه عقد عليه اليمين بانفراده بخلاف ما إذا ذكر حرف الواو بينهما ولم يعد حرف النفي لان الواو للعطف فيصير في المعنى جامعا بينهما ولا يتم الحنث الا بوجودهما وان حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا

[ 176 ] طريا أو مالحا لم يحنث الا على قول مالك رحمه الله تعالى فانه يحمل الايمان على ألفاظ القرأن وقد قال الله تعالى لتأكلوا منه لحما طريا وقد بينا بعد هذا والدليل عليه أن من حلف لا يركب دابة ركب كافرا لا يحنث وقد قال ان شر الدواب عند الله الذين كفروا ثم معنى اللحمية ناقص في السمك لان اللحم ما يتولد من الدم وليس في السمك دم ومطلق الاسم يتناول الكامل وكذلك من حيث العرف لا يستعمل السمك استعمال اللحم في اتخاذ الباحات منه وبائع السمك لا يسمى لحاما والعرف في اليمين معتبر الا أن يكون نوى السمك فحينئذ تعمل نيته لانه لحم من وجه وفيه تشديد عليه وهو نظير قوله كل امرأة له طالق لا تدخل المختلعة فيه الا بالنية وكل مملوك له لا يدخل فيه المكاتب قال ألا ترى أنه أكل رئة أو كبدا لم يحنث وفي رواية أبى حفص رضى الله تعالى عنه أو طحالا وان أكل لحم غنم أو طير مشوى أو مطبوخ أو قديد حنث لان المأكول لحم مطلق ألا ترى أن معنى الغذاء تام فيه ويستوى في ذلك الحرام والحلال حتى لو أكل لحم خنزير أو انسان حنث لانه لا نقصان في معنى اللحمية فيه فان كمال معنى اللحمية بتولده من الدم وما يحل وما يحرم من الحيوانات والطيور فيها دم (قال) وكذلك لو أكل شيئا من الرؤس فانما على الرأس لحم لا يقصد بأكله سوى أكل اللحم بخلاف ما لو حلف لا يشترى لحما فاشترى رأسا لم يحنث لان فعل الشراء لا يتم به بدون البائع وبائع الرأس يسمى رآسا لا لحاما فكذلك هو لا يسمى مشتريا للحم بشراء الرأس فأما الاكل يتم به وحده فيعتبر فيه حقيقة المأكول وكذلك ان أكل شيئا من البطون كالكرش والكبد والطحال قيل هذا بناء على عادة أهل الكوفة فانهم يبيعون ذلك مع اللحم فأما في البلاد التى لا يباع مع اللحم عادة لا يحنث بكل حال وقيل بل يحنث بكل حال لانه يستعمل استعمال اللحم لاتخاذ المرقة واللحم ما يتولد من الدم والكبد والطحال عينه دم فمعنى اللحمية فيها أظهر وكذلك ان أكل شحم الظهر فانه لحم الا أنه سمين ألا ترى أنه يباع مع اللحم وانه يسمى سمين اللحم ولا يحنث في شحم البطن والالية لانه ينفي عنه اسم اللحم ويقال انه شحم وليس بلحم ولا يستعمل استعمال اللحم في اتخاذ الباحات والالية كذلك فانه ليس بلحم ولا شحم بل له اسم خاص وفيه مقصود لا يحصل بغيره الا أن ينوى ذلك فحينئذ تعمل نيته لانه من محتملات لفظه وفيه تشديد عليه ولو حلف لا يأكل اداما ولا نية له فالادام الخل والزيت واللبن والزبد وأشباه ذلك مما يصطبغ الخبز به ويختلط

[ 177 ] به فأما الجبن والسمك والبيض واللحم فانه ليس بادام في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو الظاهر من قول أبى يوسف رحمه الله تعالى وعلى قول محمد رحمه الله تعالى وهو رواية عن أبى يوسف رحمه الله تعالى في الامالى وروى هشام عنه أن الجوز اليابس إدام كالجبن وجه قول محمد رحمه الله تعالى أن الادام ما يؤكل مع الخبز غالبا فانه مشتق من المؤادمة وهو الموافقة قال للمغيرة بن شعبة لو نظرت إليها فانه أحرى أن يؤدم بينكما أي يوفق فما يؤكل مع الخبز غالبا فهو موافق له فيكون اداما وقال سيد ادام أهل الجنة اللحم وأخذ لقمة بيمينه وتمرة بشماله وقال هذه ادام هذه فعرفنا أن ما يوافق الخبز في الاكل فهو ادام الا أنا خصصنا ما يؤكل غالبا وحده كالبطيخ والتمر والعنب لان الادام تبع فما يؤكل وحده غالبا لا يكون تبعا فأما الجبن والبيض واللحم لا يؤكل وحده غالبا فكان اداما ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى قال الادام تبع ولكن حقيقة التبعية فيما يختلط بالخبز ولا يحتاج إلى أن يحمل معه كالخل فان النبي قال نعم الادام الخل فما يصطبغ به فهو بهذه الصفة فأما اللحم والجبن والبيض يحمل مع الخبز فلا يكون إداما وان كان قد يؤكل معه كالعنب توضيحه أن الادام ما لا يتأتى أكله وحده كالملح فانه ادام والخل واللبن لا يتأتى فيه الاكل وحده لان ذلك يكون شربا لا أكلا فعرفنا أنه ادام فأما اللحم والجبن والبيض يتأتي (يتأتى) الاكل فيها وحدها فلم تكن اداما الا ان ينوى ذلك فتعمل نيته لما فيه من التشديد عليه ولو حلف لا يأكل طعاما ينوى طعاما بعينه أو حلف لا يأكل لحما ينوى لحما بعينه فأكل غير ذلك لم يحنث الا انه إذا كانت يمينه بالطلاق يدين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء لانه نوى التخصيص في اللفظ العام لانه ذكر الطعام منكرا في موضع النفى والنكرة في موضع النفي تعم وان قال لا آكل وعني طعاما دون طعام لم يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى هذا والاول سواء لان الاكل يقتضى مأكولا فكأنه صرح بذكر الطعام وهو بناء على أصله ان الثابت بمقتضى اللفظ كالملفوظ فأما عندنا لا عموم للمقتضى ونية التخصيص انما تصح فيما له عموم دون ما لا عموم له فالاصل عندنا أنه متى ذكر الفعل ونوى التخصيص في المفعول أو الحال أو الصفة كانت نيته لغوا لانه تخصيص ما لا لفظ له أما نية التخصيص في المفعول كما بينا ونية التخصيص في الحال بأن يقول لا أكلم هذا الرجل وهو قائم بين يديه ونوي (ونوى)

[ 178 ] حال قيامه فنيته لغو بخلاف مالو قال هذا الرجل القائم وهو ينوي حال قيامه فان نيته تعمل فيما بينه وبين الله تعالى وتخصيص الصفة ان يقول لا أتزوج امرأة وهو ينوى كوفية أو بصرية فان نيته لغو ولو نوى عربية أو حبشية عملت نيته فيما بينه وبين الله تعالى لانه نوى التخصيص في الجنس وذلك في لفظه ولو حلف لا يأكل شواء ولا نية له فهو على اللحم خاصة ما لم ينو غيره لان الناس يطلقون هذه اللفظة على اللحم عادة دون الفجل والجزر المشوى ألا ترى أن الشوا اسم لمن يبيع اللحم المشوى فمطلق لفظه ينصرف إليه للعرف الا أن ينوى كل ما يشوى من بيض أو غيره فتعمل نيته لما فيه من التشديد عليه ولو حلف لا يأكل رأسا قال فهذا على رؤس البقر والغنم وهذا لانا نعلم أنه لم يرد رأس كل شئ وان رأس الجراد والعصفور لا يدخل في هذا وهو رأس حقيقة فإذا علمنا أنه لم يرد الحقيقة وجب اعتبار العرف وهو الرأس الذى يشوى في التنانير ويباع مشويا فكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أو لا يدخل فيه رأس الابل والبقر والغنم لانه رأس عادة أهل الكوفة فانهم يفعلون ذلك في هذه الرؤس الثلاثة ثم تركوا هذه العادة فرجع وقال يحنث في رأس البقر والغنم خاصة ثم ان أبا يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى شاهدا عادة أهل بغداد وسائر البلدان أنهم لا يفعلون ذلك الا في رأس الغنم خاصة فقالا لا يحنث الا في رؤس الغنم فعلم أن الاختلاف اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حكم وبيان والعرف الظاهر أصل في مسائل الايمان وان حلف لا يأكل بيضا فهو على بيض الطير من الدجاجة والاوز وغيرهما ولا يدخل بيض السمك ونحوه فيه الا ان ينويه لانا نعلم أنه لا يراد بهذا بيض كل شئ فان بيض الدود لا يدخل فيه فانما يحمل على ما يطلق عليه اسم البيض ويؤكل عادة وهو كل بيض له قشر كبيض الدجاجة ونحوها وان حلف لا يأكل طبيخا فهو على اللحم خاصة ما لم ينو غير استحسانا وفى القياس يحنث في اللحم وغيره مما هو مطبوخ ولكن الاخذ بالقياس يفحش فان المسهل من الدواء مطبوخ ونحن نعلم أنه لم يرد ذلك فحملناه على أخص الخصوص وهو اللحم لانه هو الذى يطبخ في العادات الظاهرة فان الطبيخ في العادة ما يتخذ من الالوان والباحات وهو الذى يسمى متخذ ذلك طباخا فأما من يطبخ الآجر لا يسمى طباخا قالوا وانما يحنث إذا أذا أكل اللحم المطبوخ فأما المقلية اليابسة فلا وما طبخ بالماء إذا أكل المرقة مع الخبز يحنث وان لم يأكل عين اللحم لان أجزاء اللحم فيه ولان تلك المرقة تسمى طبيخا وإذا حلف لا يأكل

[ 179 ] فاكهة فأكل عنبا أو رطبا أو رمانا لم يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويحنث في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لان الفاكهة ما يؤكل على سبيل التفكه وهو التنعم وهذه الاشياء أكمل ما يكون من ذلك ومطلق الاسم يتناول الكامل وكذلك الفاكهة ما يقدم بين يدى الضيفان للتفكه به لا للشبع والرمان والرطب من أنفس ذلك كالتين وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذه الاشياء غير الفاكهة قال الله تعالى فيهما فاكهة ونخل ورمان وقال الله تعالى وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا فتارة عطف الفاكهة على هذه الاشياء وتارة عطف هذه الاشياء على الفاكهة والشئ لا يعطف على نفسه مع أنه مذكور في موضع المنة ولا يليق بالحكمة ذكر الشئ الواحد في موضع المنة بلفظين ثم الاسم مشتق من التفكه وهو التنعم قال الله تعالى انقلبوا فكهين أي متنعمين وذلك معنى زائد على ما به القوام والبقاء والعنب والرطب يتعلق بهما القوام وقد يجتزى بهما في بعض المواضع والرمان كذلك في الادوية فلا يتناولها مطلق اسم الفاكهة ألا ترى أن يابس هذه الاشياء ليس من الفواكه فان الزبيب والتمر قوت وحب الرمان من التوابل دون الفواكه وما يكون رطبه من الفواكه فيابسه من الفواكه أيضا كالتين والمشمش والخوخ ومالا يكون يابسه من الفواكه فرطبه لا يكون من الفواكه كالبطيخ فانه يقدم مع الفواكه بين يدى الضيفان ولا يتناوله اسم الفاكهة وأما القثاء والفول والجزر ليس من الفواكه انما هي من البقول والتوابل بعضها يوضع على المائدة مع البقل وبعضها يجعل في القدر مع التوابل قال ويدخل في الفاكهة اليابسة اللوز والجوز وأشباه ذلك وقد بينا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يجعل الجوز اليابس من الادام دون الفاكهة لانه لا يتفكه به عادة انما يأكل مع الخبز كالجبن أو يجعل مع التوابل في القدر ولكن في ظاهر الرواية يقول رطب الجوز من الفواكه فكذلك يابسه للاصل الذى بينا وان حلف لا يأكل طعاما فأكل خبزا أو فاكهة أو غير ذلك حنث ومراده أو غير ذلك مما يسمى طعاما عادة دون ماله طعم حقيقة فان كل أحد يعلم أنه لا يريد السقمونيا بهذا اللفظ وله طعم عرفنا أن مراده ما يسمى في العادة طعاما ويؤكل على سبيل التطعم ولو حلف ليأكلن هذا الطعام اليوم فأكله غيره في اليوم لم يحنث في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف رضي الله تعالى عنه يحنث إذا غابت الشمس والاصل فيه أن اليمين إذا كانت مؤقتة بوقت فانعقادها موجبا للبر في آخر

[ 180 ] ذلك اليوم الا ان عند أبى يوسف رحمه الله تعالى وجود ما حلف عليه ليس بشرط لانعقاد اليمين حتى إذا قال لاشربن الماء الذى في هذا الكوز ولا ماء فيه تنعقد اليمين فكذلك هنا انعدام الطعام في آخر اليوم عنده لا يمنع انعقاد اليمين فإذا انعقدت وتحقق فوت شرط البر حنث فيها وعند أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى انعدام ما حلف عليه يمنع انعقاد اليمين كما في مسألة الشرب فلا ينعقد اليمين هنا لما انعدم الطعام في آخر الوقت وهذا لان شرط حنثه ترك أكل الطعام في آخر جزء من أجزاء اليوم ولا يتصور ذلك إذا لم يبق الطعام وقد بينا ان بدون توهم البر لا ينعقد اليمين وان لم يكن وقت فيه وقتا حنث لان اليمين انعقدت في الحال لتوهم البر فيها لكون الطعام قائما في الحال ثم فات شرط البر بأكل الغير اياه فيحنث (قال) وكذلك ان مات الحالف قبل أن يأكله والطعام قائم بعينه لان شرط البر قد فات بموته وكذلك ان مضت المدة وهو حى والطعام قائم لان شرط البر فعل الاكل في الوقت وقد تحقق فوته بمضي الوقت فحنث في يمينه وعلى هذا لو حلف ليقضين حق فلان غدا فقضاه اليوم لم يحنث في قوم أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ويحنث عند أبى يوسف رحمه الله تعالى كما جاء الغد لان عنده كما جاء الغد انعقدت اليمين فان عدم المحلوف عليه لا يمنع انعقاد اليمين عنده وان حلف لا يأكل من طعام اشتراه فلان فأكل من طعام اشتراه فلان مع آخر حنث لان ما اشتراه فلان من ذلك طعام وقد أكله فان كل جزء من الطعام يسمى طعاما بخلاف ما لو حلف لا يسكن دارا اشتراها فلان فسكن دارا اشتراها فلان وآخر معه لان نصف الدار لا يسمى دارا الا أن يكون نوى في الطعام أن يشترى هو وحده فتعمل نيته لانه نوى التخصيص في اللفظ العام فان شراء الطعام قد يكون وحده وقد يكون مع غيره وكذلك لو حلف لا يأكل من طعام يملكه فلان بخلاف مالو حلف لا يلبس ثوبا لفلان أو ثوبا اشتراه فلان لان اسم الثوب للكل وبعض الثوب ليس بثوب ألا ترى أنه لو قال هذا الثوب لفلان وهو بينه وبين آخر كان كذبا ولو قال هذا الطعام لفلان وهو يعنى نصفه كان صدقا ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق شيئا فأكل خبزه حنث لان عين الدقيق لا يؤكل عادة فتنصرف يمينه إلى ما يتخذ منه كما لو حلف لا يأكل من هذه النخلة واختلف مشايخنا فيما لو أكل عين الدقيق فمنهم من يقول يحنث لانه أكل الدقيق حقيقة والعرف وان اعتبر فالحقيقة لا تسقط به وهذا لان عين الدقيق مأكول والاصح أنه

[ 181 ] لا يحنث لان هذه حقيقة مهجورة ولما انصرفت اليمين إلى ما يتخذ منه للعرف يسقط اعتبار الحقيقة كمن قال للاجنبية ان نكحتك فعبدي حر فزنى بها لم يحنث لانه لما انصرف إلى العقد لم يتناول حقيقة الوطئ وان كان عنى أكل الدقيق بعينه لم يحنث بأكل الخبز لانه نوى حقيقة كلامه ولو حلف لا يأكل من هذه الحنطة شيئا فان نوى يأكلها حبا كما هو فأكل من خبزها أو سويقها لم يحنث لان المنوي حقيقة كلامه فهو كالملفوظ وان لم يكن له نية فأكل من خبزها لم يحنث في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى ويحنث في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قال في الكتاب يمينه على ما يصنع منها وهذا إشارة إلى أن عندهما لو أكل من عينها لم يحنث ولكن ذكر في الجامع الصغير وان أكل من خبزها يحنث عندهما أيضا فهذا يدل على أنه يحنث بتناول عين الحنطة عندهما وهو الصحيح وجه قولهما ان أكل الحنطة في العادة هكذا يكون فانك تقول أكلنا أجود حنطة في الارض تريد الخبز ويقال أهل بلدة كذا يأكلون الحنطة وأهل بلده كذا يأكلون الشعير والمراد الخبز الا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يقول عين الحنطة مأكول عادة فانها تقلى فتؤكل وتغلى فتؤكل ويتخذ منها الهريسة ومن انعقدت يمينه على أكل عين مأكولة ينصرف يمينه إلى اكل عينه دون ما يتخذ منه كالعنب والرطب وهذا لان لكلامه حقيقة مستعملة ومجازا متعارفا ولا يراد باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز لان المجاز مستعار والثوب الواحد في حالة واحدة لا يتصور ان يكون ملكا وعارية فإذا كانت الحقيقة مرادة هنا يتنحى المجاز وهما لا ينكران هذا الاصل ولكنهما يقولان إذا أكل الحنطة انما يحنث باعتبار عموم المجاز لا باعتبار الحقيقة وقد بينا نظائره في وضع القدم وغيره (قال) وإذا أكل من سويقها لم يحنث في قول أبى حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وكذلك قول محمد أيضا لان الموجود في الحنطة لبها وهو ما يصير بالطحن دقيقا ومن أصل أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ان السويق جنس آخر غير الدقيق ولهذا جوزا بيع السويق بالدقيق متفاضلا فما تناول ليس من جنس ما كان موجودا في الحنطة التى عينها فلا يحنث وعند أبى حنيفة رحمه الله تعالى يمينه تناولت الحقيقة فلا يحنث بأكل السويق وان حلف لا يأكل من هذا الطلع شيئا فأكل منه بعد ما صار بسرا لم يحنث لان الطلع عينه ماكول ومتى عقد يمينه على أكل ما تؤكل عينه لا ينصرف يمينه إلى ما يكون منه ثم البسر ليس من جنس الطلع ألا ترى أن بيع البسر

[ 182 ] بالطلع يجوز كيف ما كان وكذلك لو حلف لا يأكل من هذا البسر فأكل منه بعد ما صار رطبا لان البسر عينه مأكول ولان الرطب وان كان من جنس البسر الا أن الانسان قد يمتنع من تناول البسر ولا يمتنع من تناول الرطب والاصل أنه متى عقد يمينه على عين بوصف يدعو ذلك الوصف إلى اليمين يتقيد اليمين ببقاء ذلك الوصف وينزل منزلة الاسم ولهذا لو حلف لا يأكل من هذا الرطب فأكله بعد ما صار تمرا لم يحنث لان صفة الرطوبة داعية إلى اليمين فقد يمتنع الانسان من تناول الرطب دون التمر وهذا بخلاف مالو حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما شاخ يحنث لان صفة الشباب ليست بداعية إلى اليمين وكذلك لو حلف لا يأكل من هذا الحمل فأكله بعد ما كبر يحنث لان الصفة المذكورة ليست بداعية إلى اليمين ولو حلف لا يأكل من هذا السويق فشربه لم يحنث لان الشرب غير الاكل فان الله تعالى قال كلوا واشربوا والشئ لا يعطف على نفسه وقد بينا حد كل واحد من الفعلين وكذلك لو حلف لا يأكل من هذا اللبن فشربه أو حلف لا يشربه فأكله لم يحنث وأكل اللبن بأن يثرد فيه الخبز وشربه أن يشربه كما هو ولو تناول شيئا مما يصنع منه كالجبن والاقط لم يحنث لان عينه مأكول وقد عقد اليمين عليه ألا ترى أنه لو حلف لا يذوق من هذا الخمر فذاقه بعد ما صار خلا لم يحنث ولو حلف ليأكلن هذا السويق فأكله كله الا حبة منه لم يحنث لانه يسمى في العادة أكل ولانه لا يتصور أكل كله على وجه لا يبقي حبة في الاناء وبين لهواته وأسنانه فتحمل يمينه على ما يتأتى فيه البر إذا كان ذلك متعارفا بين الناس وعلى هذا لو حلف ليأكلن هذه الرمانة فأكلها كلها الا حبة واحدة كان قد بر في يمينه لان أكل الرمانة هكذا يكون فانه لا يمكنه أن يأكلها على وجه لا يسقط منه حبة الا أن ينوى ذلك فحينئذ قد شدد على نفسه بنية حقيقة كلامه ولو مص ماءها ورمى بالحب لم يحنث سواء حلف على أكلها أو شربها لان هذا ليس بأكل ولا شرب ولكنه مص وان قال لامرأتيه أيتكما أكلت هذه الرمانة فهى طالق فأكلتا جميعا لم تطلقا لان كلمة أي تتناول كل واحد من المخاطبين على الانفراد وشرط الطلاق أكل الواحدة جميع الرمانة ولم يوجد ذلك فلهذا لم تطلق واحدة منهم وان حلف لا يأكلن سمنا فأكل سويقا قدلت بسمن وأوسع حتى يستبين فيه طعمه ويرى مكانه حنث وكذلك كل شئ فيه سمن يوجد طعمه ويستبين فيه وان كان لا يوجد طعمه ولا يرى مكانه لم يحنث لانه عقد يمينه

[ 183 ] على أكل عين السمن فلابد من قيام عينه عند الاكل ليحنث وقيام عنى المأكول بذاته أو طعمه فإذا كان يرى مكانه ويستبين فيه طعمه فقد علمنا وجود شرط حنثه زاد هشام في نوادره أن يكون بحال يمكن عصر السمن فأما إذا كان لا يرى مكانه ولا يستبين طعمه فيه فقد صار مستهلكا فيه ولم يذكر في الكتاب ما إذا عقد اليمين على مائع فاختلط بمائع آخر من جنسه أو من غير جنسه وذكر في النوادر عن أبي يوسف رحمه الله تعالى إذا حلف لا يشرب لبنا فصب الماء في اللبن وشربه فان كان اللون فيما شرب لون اللبن ويوجد طعمه وهو الغالب فيحنث به وان كان اللون لون الماء فيه علمنا أن اللبن مغلوب مستهلك فلا يحنث به ألا ترى أنه يقال للاول لبن مغشوش وللثاني ماء خالطه لبن وهكذا ذكر في نسخ الاصل وعن محمد رحمه الله تعالى أنه يعتبر الغلبة من حيث القلة والكثرة لان القليل لا يظهر في مقابلة الكثير وان كانا سواء لم يحنث في القياس للشك والتردد وفى الاستحسان هو هو حانث لان ما حلف عليه لم يصر مغلوبا بما سواه وان حلف لا يشرب لبن هذه البقرة فخلطه بلبن بقرة أخرى فعند أبى يوسف رحمه الله تعالى هذا والاول سواء لان المغلوب في حكم المستهلك سواء كان الغالب من جنسه أو من خلاف جنسه وعند محمد رحمه الله تعالى يحنث هنا على كل حال لان الشئ يكثر بجنسه ولا يصير مستهلكا به ولو حلف لا يأكل هذه التمرة فاختلطت بتمر فأكل ذلك التمر كله حنث لانه قد أكل تلك التمرة حقيقة فانه يأكل تمرة تمرة وجهله بما حلف عليه لا يمنع حنثه وان حلف لا يأكل شعيرا فأكل حنطة فيها شعير حبة حبة حنث لانه قد أكل المحلوف عليه بيقين وهذا بخلاف ما سبق من السمن إذا كان لا يرى مكانه في السويق لان هناك يأكل الكل جملة فما يأكله من السمن مستهلك إذا كان لا يري (يرى) مكانه وهنا انما يأكل حبة حبة فإذا أكل حبة الشعير وحدها فقد وجد شرط الحنث حتى إذا كانت يمينه على الشراء لم يحنث لانه يشترى الكل جملة ومشترى الحنطة لا يسمى مشتريا للشعير وان كان فيها حبات الشعير لان بائعها لا يسمى بائع الشعير وان حلف لا يأكل شحما فان أكل شحم البطن فهو حانث وان أكل لحما يخالطه شحم البطن فهو حانث وان أكل لحما يخالطه شحم يعني شحم الظهر لم يحنث في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وهو حانث في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وذكر الطحاوي قول محمد مع قول أبى حنيفه وجه قول أبى يوسف رضوان الله عليهم

[ 184 ] أجمعين ان شحم الظهر شحم بذاته ويصلح لما يصلح له الشحم فكان كشحم البطن قال الله تعالى ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما الا ما حملت ظهورهما والمستثني (والمستثنى) من جنس المستثنى منه هو الحقيقة وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذا لحم عند الناس ألا ترى أنه لو حلف لا يأكل لحما يحنث بهذا وكذلك في العادة يقال في العربية سمين اللحم وبالفارسية فربهن والدليل عليه أن يمينه لو كان على الشراء لم يحنث بهذا الا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يفرق بما ذكرنا ان الشراء لا يتم به وحده بخلاف الاكل ثم سمين اللحم يستعمل استعمال اللحوم في اتخاذ القلايا والباحات كاستعمال الشحوم وقد بينا ان الايمان لا تنبني على ألفاظ القرآن وفي الآية استثناء الحوايا أيضا وما اختلط بعظم وأحد لا يقول ان مخ العظم يكون شحما وإذا حلف لا يأكل بسرا فأكل بسرا مذنبا حنث وكذلك لو حلف لا يأكل رطبا فأكل رطبا فيه بعض البسر فهو حانث لانه أكل المحلوف عليه حقيقة وعرفا ولو حلف لا يأ كل رطبا فأكل بسرا مذنبا حنث في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولم يحنث في قول أبى يوسف رحمه الله تعالى وكذلك لو حلف لا يأكل بسرا فأكل رطبا وفيه شئ من البسر فهو على الخلاف أبو يوسف رحمه الله يقول المذنب لا يسمى رطبا وانما يسمى بسرا حتى يحنث بأكله لو كانت يمينه على البسر فكيف يكون رطبا وبسرا في حالة واحدة وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الجانب الذى ارطب منه رطب ألا ترى أنه لو ميز ذلك وأكله وحده حنث في يمينه فكذلك إذا أكله مع غيره ولهذا يحنث لو كانت يمينه على أكل البسر لان أحد الجانبين منه بسر وهذا ينبنى على الاصل الذى بينا فان الرطب والبسر جنس واحد ومن أصل أبى يوسف رحمه الله تعالى أن المغلوب مستهلك بالغالب وان كان الجنس واحدا فاما عند أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى في الجنس الواحد لا يكون الاقل مستهلكا بالاكثر فيعتبر كل واحد منهما على حدة وان حلف لا يأكل من هذا العنب شيئا فأكل منه بعد ما صار زبيبا لم يحنث لان الوصف المذكور داع إلى اليمين فقد يمتنع المرء من تناول العنب دون الزبيب وقد بينا نظيره في الرطب مع التمر ولان الزبيب غير العنب ألا ترى ان من غصب عنبا فجعله زبيبا انقطع حق صاحبه عنه ويمينه على عين مأكول فلا يتناول ما يتخذ منه ولو حلف لا يأكل جوزا فأكل منه رطبا أو يابسا حنث وكذلك اللوز والفستق والتين واشباه ذلك لان الاسم الذي عقد به اليمين حقيقة في الرطب واليابس منه فانه بعد

[ 185 ] اليبس لا يتجدد للعين اسم آخر بخلاف الزبيب وان حلف لا يأكل شيئا من الحلو فأي شئ من الحلو أكله من خبيص أو عسل أو سكر أو ناطف حنث والحلو اسم لكل شئ حلو لا يكون من جنسه غير حلو وذلك موجود في هذه الاشياء وان أكل عنبا أو بطيخا لم يحنث وان كان حلوا لان من جنسه حامض غير حلو خصوصا باوزجند وان حلف لا يأكل خبيصا فأكل منه يابسا أو رطبا حنث لان الرطب واليابس خبيص حقيقة وعرفا وان حلف طائعا أو مكرها أن لا يأكل شيئا سماه فأكره حتى أكله حنث وهذا لان الاكراه لا يعدم القصد ولا يمنع عقد اليمين عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى وقد بيناه في الطلاق وبعد انعقاد اليمين شرط حنثه الاكل وذلك فعل محسوس ولا ينعدم بالاكراه ألا ترى أنه لا يمنع حصول الشيع والرى به وكذلك ان أكله وهو مغمي عليه أو مجنون لان شرط حنثه الاكل والجنون والاغماء لا يعدم فعل الاكل ووجوب الكفارة باليمين لا بالحنث وهو كان صحيحا عند اليمين فيحنث عند وجود الشرط وان أوجر أو صب في حلقه مكرها وقد حلف لا يشربه لا يحنث لانه عقد يمينه على فعل نفسه وهو ليس بفاعل بل هو مفعول به فلا يحنث ولكن لو شرب منه بعد هذا حنث لان ما سبق غير معتبر في ايجاد شرط الحنث ولكن لا يرتفع اليمين به لان ارتفاعها بوجود شرط الحنث وان حلف لا يأكل طعاما سماه فمضغه حتى دخل جوفه من مائه ثم ألقاه لم يحنث لانه ما وصل إلى جوفه عين الطعام ولا ما يتأتي (يتأتى) فيه المضغ والهشم وقد بينا ان الاكل لا يتم الا بهذا وان حلف لا يأكل تمرا فأكل قسبا لم يحنث لان القسب يابس البسر ولو أكله رطبا لم يحنث فكذلك إذا أكله يابسا وكذلك ان أكل بسرا مطبوخا وان حلف لا يأكل حبا فأى حب أكل من سمسم أو غيره حنث لان كل شئ يقع عليه اسم الحب مما يأكله الناس فهو داخل في يمينه باعتبار العادة الا أن ينوى شيئا بعينه فيكون على ما نوى بينه وبين الله تعالى وكل شئ يؤكل ويشرب كالسويق والعسل واللبن فان عقد اليمين على أكله لم يحنث بشربه وان عقد على شربه لم يحنث بأكله لانهما فعلان مختلفان وان كان المحل واحدا وشرط حنثه الفعل دون المحل وان حلف لا يأكل خبزا فأكل خبز حنطة أو شعير حنث لانه خبز حقيقة وعرفا وان أكل من خبز غيرهما لم يحنث الا أن ينويه لانه لا يسمى خبزا

[ 186 ] مطلقا ولا يؤكل ذلك عادة في عامة الامصار وان أكل خبز قطايف لم يحنث الا أن يكون نواه لانه لا يسمى خبزا مطلقا وانما يسمى قطايف وان نواه فالمنوى من محتملات لفظه لانه نوى خبزا مقيدا وان أكل خبز الارز فان كان من أهل بلد ذلك طعامهم كأهل طبرستان فهو حانث فأما في ديارنا لا يحنث لان لان أكل خبز الارز غير معتاد في ديارنا ولا يسمى خبزا مطلقا وان حلف لا يأكل تمرا فأكل حيسا حنث لان هذا هو التمر بعينه لم يغلب عليه غيره فان الحيس تمر ينقع في اللبن حتى ينتفخ فيؤكل دخل رجل على رجل فدعاه إلى الغداء فحلف أن لا يتغدى ثم رجع إلى أهله فتغدى لم يحنث لان يمينه انما وقعت جوابا لكلامه ومعنى هذا أن مطلق الكلام يتقيد بما سبق فعلا أو قولا حتى لو قامت امرأته لتخرج فقال لها ان خرجت فأنت طالق كانت يمينه على تلك الخرجة فكذلك إذا دعاه إلى الغداء فقال ان تغديت معناه الغداء الذى دعوتني إليه ولو صرح بذلك لم يحنث إذا رجع إلى أهله وتغدى ولا إذا تغدى عنده في يوم آخر فكذلك هنا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب (باب اليمين في الشراب) (قال) رضى الله عنه رجل حلف لا يشرب شرابا فأى شراب شربه من ماء أو غيره حنث في يمينه لان الشراب ما يتأتى فيه فعل الشرب وقد بينا حده والماء في ذلك كغيره فانه شراب طهور قال الله تعالى وسقاهم ربهم شرابا طهورا فيدخل في ذلك كل شراب تشتهيه الانفس وان عين شرابا بعينه دين فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء لانه نوي (نوى) التخصيص في اللفظ العام وان حلف لا يشرب نبيذا فأى نبيذ شربه حنث والنبيذ الزبيب أو التمر ينقع في الماء فتستخرج حلاوتها ثم يجعل شرابا مأخوذ من النبذ وهو الطرح قال الله تعالى فنبذوه وراء ظهورهم فان شرب سكرا أو فضيخا أو عصيرا لم يحنث لانه ليس بنبيذ ولا يطلق عليه اسم النبيذ عادة ولكن هذا إذا كانت يمينه بالعربية اما بالفارسية اسم النبيذ يطلق على كل مسكر والايمان تنبني على العرف في كل موضع ولو حلف لا يشرب ماء فشرب نبيذا لم يحنث لانه غير الماء فانه قد تغير بما غلب عليه من حلاوة الزبيب والتمر وان

[ 187 ] طبخ فلا اشكال فيه انه غير الماء وان حلف لا يشرب مع فلان شرابا فشربا في مجلس واحد من شراب واحد حنث وان كان الاناء الذى يشربان منه مختلفا فان شرب الحالف من شراب والآخر من شراب غيره وقد ضمهما مجلس واحد حنث لان مراده الامتناع من منادمته وقد وجد ذلك إذا جمعهما مجلس واحد سواء كان الشراب واحدا أو مختلفا والاناء الذى يشربان فيه واحدا أو مختلفا لان الشرب مع الغير هكذا يكون ألا ترى ان الامير مع ندمائه يشرب ثم اناؤه الذى يشرب منه غير انائهم وربما يشرب الصرف ويمزج لهم الا ان يكون نوي (نوى) شرابا واحدا حين حلف فحينئذ قد نوى أكمل ما يكون من الشرب مع فلان ونيته لذلك صحيح ولو حلف لا يأكل الطعام فأكل منه شيئا يسيرا حنث وكذلك لو حلف لا يشرب الماء لان الاسم حقيقة للقليل والكثير والفعل يتحقق في القليل والكثير فإذا عني الماء كله والطعام كله لم يحنث بهذا لان الماء والطعام اسم جنس فإذا عني الكل فانما نوى حقيقة كلامه فتعمل نيته فلا يحنث بهذا لانه لا يستطيع ان يشرب الماء كله ولا ان يأكل الطعام كله ولو حلف لا يذوق شرابا وهو يعني لا يشرب النبيذ خاصة فأكله أكلا لم يحنث لانه ذكر الشراب والشراب يشرب فنية الشرب فيما ذكر من الذوق صحيح وقد بينا انه متى عقد يمينه على فعل الشرب لم يحنث بالاكل وان حلف لا يذوق لبنا ولا نية له فأكله أو شربه حنث لانه قد ذاقه وزاد عليه ولو حلف لا يشرب من دجلة فغرف منها بقدح وشربه لم يحنث في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى الا ان يضع فاه على دجلة بعينها فيشرب وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يحنث لان الشرب من دجلة هكذا يكون في بقدح وشربه لم يحنث في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى الا ان يضع فاه على دجلة بعينها فيشرب وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يحنث لان الشرب من دجلة هكذا يكون في العادة فانه يقال أهل بلدة كذا يشربون من دجلة وانما يراد بطريق الاغتراف في الاواني ولكن أبو حنيفة يقول حقيقة الشرب من دجلة يكون بالكرع وهذه حقيقة مستعملة جاء في الحديث ان النبي قال لقوم نزل عندهم هل عندكم ماء بات في شن والا كرعنا وقد بينا ان الحقيقة إذا كانت مستعملة فاللفظ يحمل عليه دون المجاز والحقيقة مرادة فانه لو كرع يحنث وهو حقيقة الشرب من دجلة لان من للتبعيض فالحقيقة ان يضع فاه على بعض دجلة والحقيقة استعمال اللفظ في موضعه والمجاز استعماله في غير موضعه ولا يتصور أن يكون اللفظ الواحد مستعملا في موضعه معدولا به عن موضعه فهذا وما تقدم


[ 188 ]

عدل

من مسألة الحنطة سواء وأن عندهما في الفصلين انما يحنث لعموم المجاز (قال) ألا ترى أنه لو حلف لا يشرب من هذا الحب فغرف منه بقدح فشرب فانه يحنث وهذا عندهما فأما عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى إذا كان ملآنا فيمينه على الكرع خاصة وان لم يكن ملآنا فحينئذ الجواب كما قالا لان الكرع لا يتأتى هنا كما لو حلف لا يشرب من هذا البئر وان تكلف للكرع من البئر ففيه اختلاف المشايخ كما بيناه في مسألة الدقيق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب واليه المرجع والمآب (تم الجزء الثامن من كتاب المبسوط ويليه الجزء التاسع) (وأوله باب الكسوة)