مبسوط السرخسي - الجزء الثاني عشر

المبسوط السرخسي ج 12

[ 1 ] (الجزء الثاني عشر من) كتاب المبسوط لشمس الدين السرخسي وكتب ظاهر الرواية أتت * ستا وبالاصول أيظا سميت صنفها محمد الشيباني * حرر فيها المذهب النعماني الجامع الصغير والكبير * والسير الكبير والصغير ثم الزيادات مع المبسوط * تواترت بالسند المضبوط ويجمع الست كتاب الكافي * للحاكم الشهيد فهو الكافي أقوى شروحه الذى كالشمس * مبسوط شمس الامة السرخسى (تنبية) قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوى الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان دار المعرفة بيروت - لبنان

[ 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم (كتاب الذبائح) قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة وفخر الاسلام السرخسى رحمه الله تعالى (لا يحل ما ذبح بسن أو ظفر غير منزوع لانه قتل وتخنيق وليس بذبح) ففى الذبح الانقطاع بحدة الآلة وفي هذا الموضع الانقطاع بقوته لا بحدة الآلة ولان آلة الذبح غير الذابح وسنه وظفره منه ولا بأس باكله إذا كان منزوعا عندنا ولا يحل عند الشافعي رحمه الله لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام ما أنهر الدم وأفرى الاوداج فكل ما خلا السن والظفر فانها مدى الحبشة ولكنا نقول المراد غير المنزوع فان الحبشة يستعملون في ذلك سنهم وظفرهم قبل النزع وذكر في بعض الروايات ماخلا العض بالسن والقرض بالظفر والعض والقرض انما يتحقق في غير المنزوع عادة ثم المنزوع آلة محددة يحصل بها تسييل الدم النجس فكانت كلسكين الا أنه يكره الذبح بها لزيادة ايلام ومشقة على الحيوان ولا يعد هذا الفصل من الاحسان في الذبح قال عليه الصلاة والسلام إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح الحديث. قال (وما أنهر الدم وأفرى الاوداج فلا بأس بأن يذبح به حديدا كان أو قصبا أو حجرا محددا أو غير ذلك) لما روى أن عدى بن حاتم رضى الله عنه قال أرأيت يارسول الله ان صاد أحدنا صيدا وليس معه سكين فذبحه بشق العصا أو بالمروة أيحل ذلك فقال عليه الصلاة والسلام أنهر الدم بما شئت وكل. ولان المقصود تمييز الطاهر من النجس وذلك حاصل بكل آلة محددة ثم تمام الذكاة بقطع الحلقوم والمرئ والودجين فان قطع الاكثر من ذلك فذلك كقطع الجيمع في الجل لحصول المقصود في الاكثر من ذلك * واختلف الروايات في تفسير ذلك فروى الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله أنه إذا قطع ثلاثا منها أي ثلاث كان فقد قطع الاكثر. وعن محمد رحمه الله قال ان قطع الاكثر من كل

[ 3 ] واحدة منها فذلك يقوم مقام قطع الجميع فأما بدون ذلك بتوهم البقاء فلا تتم الذكاة وعن أبى يوسف رحمه الله قال وان قطع الحلقوم والمرئ وأحد الودجين حل وشرط ثلاثه فيها الحلقوم والمرئ وأحد الودجين لان الحلقوم مجرى العلف والمرئ مجرى النفس والودجان مجرى الدم فبقطعع أحد الودجين يحصل ما هو المقصود من تسييل الدم فأما قطع مجرى النفس لابد منه ولا يقوم غيره مقامه في ذلك والشافعي رحمه الله يقول وإذا قطعع الحلقوم والمرئ حل وان لم يقطع الودجين لانه لا بقاء بعد قطع الحلقوم والمرئ ولكن هذا فاسد لان المقصود تسييل الدم النجس وبدون حصول المقصود لا يثبت الحل. قال (وإذا ذبحت شاة من قبل القفا فقطع الاكثر من هذه الاشياء قبل ان تموت حلت) لتمام فعل الذكاة وان ماتت قبل قطع الاكثر لم تحل لانها ماتت بالجرح لا بالذبح في المذبح ولانه لا يثبت الحل عند القدرة على الذبح في المذبح ويكره هذا الفعل لما فيه من زيادة ايلام غير محتاج إليه قال (وكذلك ان ضربها بسيف فأبان رأسها حلت ويكره وكذلك ان ذبحها متوجهة لغير القبلة حلت ولكن يكره ذلك) لان السنة في الذبح استقبال القبلة هكذا روى ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي استقبل بأضحيته القبلة لما أراد ذبحها وهكذا نقل عن علي رضى الله تعالى عنه وهذا لان أهل الجاهلية ربما كانوا يستقبلون بذبائحهم الاصنام فأمرنا باستقبال القبلة لتعظيم جهة القبلة ولكن تركه لا يفسد الذبيحة بخلاف ترك التسمية لان في التسمية تعظيم الله تعالى وذلك فرض فأما استقبال القبلة لتعظيم الجهة وذلك مندوب إليه في غير الصلاة فلهذا كان تركه موجبا للكراهة غير مفسد للذبيحة. قال (وان نحر البقرة حلت ويكره ذلك) لما بينا أن السنة في البقرة الذبح قال الله تعالى ان يأمركم أن تذبحوا بقرة (بخلاف الابل فالسنة فيها النحر) وهذا لان موضع النحر من البعير لا لحم عليه وما سوى ذلك من حلقه عليه لحم غليظ فكان النحر في الابل أسهل فأما في البقر أسفل الحلق واعلاه فاللحم عليه سواء كما في الغنم فالذبح فيه أيسر والمقصود تسييل الدم والعروق من أسفل الحلق إلى أعلاه فالمقصود يحل بالقطع في أي موضع كان منه فلهذا حل وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام الذكاة ما بين اللبة واللحيين ولكن ترك الاسهل مكروه في كل جنس لما فيه من زيادة ايلام غير محتاج إليه. قال (وان ذبح الشاة فاضطربت فوقعت في ماء أو تردت في موضع لم يضرها شئ) لان فعل الذكاة قد استقر فيها فانما انزهق حياتها به ولا معتبر

[ 4 ] باضطرابها بعد استقرار الذكاء فهذا لحم وقع في ماء أو سقط من موضع. قال (وان أراد أن يذبح عددا من الذبائح لم تجز التسمية للاولى عاما بعدها) لما بينا أن الشرط أن يسمى على الذبح وذبحه للشاة الثانية غير ذبحه للشاة الاولى. قال (ولو أضجعها للذبح وسمى عليها ثم القى تلك السكين وأخذ أخرى فذبح بها تؤكل) لوجود التسميه منه على فعلى الذبح بخلاف الرمى لانه لو أخذ سهما وسمى عليه ووضعه وأخذ سهما آخر جدد عليه التسمية لما بينا ان المعتبر هناك التسمية على فعل الرمى وذلك يحل والسهم الثاني غير الاول وهنا الشرط التسمية علي الذبح دون السكين وفعل الذبح يختلف باختلاف المذبوح لا باختلاف السكين فوزان هذا من ذلك أن لو ترك تلك الشاة وذبح أخرى بتلك التسمية. قال (ولو كلم انسانا أو شرب ماء أو حد سكينا وما أشبه ذلك من عمل لم يكثر ثم ذبح جاز تلك التسمية) لوجود التسمية على الذبح فبالعمل اليسير لا يقع الفصل بين التمسية والذبح بخلاف ما إذا طال الحديث أو طال العمل ثم ذبح فانه مكروه لحصول الفصل بين التسمية والذبح ألا ترى أن بالعمل الكثير ينقطع المجلس وباليسير لا ينقطع وكذلك الكلام. قال (وان قال مكان التسمية الحمد لله أو سبحان الله أو الله أكبر يريد به التمسيه أجزأه) لان الشرط ذكر الله تعالى على التعظيم وقد حصل وأبو يوسف رحمه الله يفرق بين هذا وبين التكبير فيقول المأمور به هنا الذكر قال الله تعالى فاذكروا اسم الله عليها صواف وهناك المأمور به التكبير وبهذا الالفاظ لا يكون تكبيرا فلا يصير شارعا في الصلاة إذا كان يحسن التكبير وان أراد بذلك التحميد دون التسمية لا يحل لان الشرط تسمية الله تعالى على الذبح وانما يتميز الذكر على الذبح وغيره يقصد منه التسمية فإذا لم يقصد التسمية لا يحل حتى إذا عطس فقال الحمد لله يريد التحميد على العطاس لم يحل بخلاف ما قال أبو حنيفة رحمه الله في الخطيب إذا عطس على المنبر فقال الحمد لله يجوز أن يصلي الجمعة بذلك القدر على احدى الروايتين لان المأمور به هناك ذكر الله تعالى مطلقا لقوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله وهنا المأمور به ذكر الله علي الذبح وبمعرفة حدود كلام الشرع يحسن الفقه. قال (ويكره أن ينخع وقد نهى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ذلك) وبينا أن معناه أن يبلغ الحد النخاع وهو عرق أبيض في وسط عظم الرقبة ولكن مع هذا تؤكل لان النهى ليس النقصان فيما هو المطلوب للذبح وهو تسييل الدم بل لزيادة ايلام غير محتاج إليه. قال (ويكره أن يجر الشاة الي مذبحها) وقد

[ 5 ] بينا النهى عن ذلك عن رسول الله وعن عمر رضى الله تعالى عنه وكذلك يكره أن يحد الشفرة بعد ما أضجعها وقد روينا النهى عن رسول الله وعن عمر رضى الله تعالى عنه الا أن النهى ليس لنقصان فيما هو المطلوب للذبح فلا يوجب الحرمة. قال (ويكره أن يسمى مع اسم الله تعالى شيئا فيقول اللهم تقبل من فلان) لقول ابن مسعود رضى الله عنه جردوا التسمية ولان الشرط بتسمية الله تعالى على الخلوص عند الذبح قبل فما يكون منه من الدعاء فينبغي أن يكون قبل الذبح أو بعده كما روى عن النبي كان إذا أراد أن يذبح أضحيته قال اللهم هذا منك واليك صلاتي ونسكى ومحياى ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلين باسم الله والله أكبر ثم يذبح وهكذا روي عن علي رضي الله عنه. قال (ولا بأس بذبيحة المسلمة والكتابية) لان تسمية الله تعالى علي الخلوص يتحقق من النساء كما يتحقق من الرجال وكذلك الصبي الذى يعقل ويضبط فهو من أهل تسمية الله تعالى على الخلوص ولهذا صح اسلامه وان كان لا يعقل فلا يتحقق منه تسمية الله تعالى على الخلوص وهو شرط الحل فهذا لاخير في ذبيحته. قال (ولا بأس بذبيحة أهل الكتاب من أهل الحرب) هكذا روى عن علي رضى الله تعالي عنه وهذا لانهم يدعون التوحيد سواء كانوا أهل الذمة أو أهل الحرب وانما أباح الشارع ذبائحهم لانهم أهل الكتاب قال الله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم والحربي والذمى في ذلك سواء. قال (وذبيحة الاخرس حلال مسلما كان أو كتابيا) لان عذره أبين من عذر الناس فإذا كان في حق الناس تقام ملته مقام تسميه ففى حق الاخرس أولى. قال (وما أدركت من المتردية والنطيحة وما أكل السبع ونظائر هذا فذكيته حل لقوله تعالى الا ما ذكيتم) ثم عند أبى حنيفة رحمه الله إذا علم انها كانت حية حين ذبحت حلت سواء كانت الحياة فيها متوهمة البقاء أو غير متوهمة البقاء لان المقصود تسييل الدم النجس بفعل ذكاة وقد حصل وقال أبو يوسف رحمه الله ان كان يتوهم ان يعيش يوما أو أكثر تحل بالذكاة وفى رواية اعتبر توهم البقاء أكثر من نصف يوم لان ما دون ذلك اضطراب المذبوح فلا معتبر به وعن محمد رحمه الله تعالى قال إذا نقر الذئب بطن شاة وأخرج ما فيها ثم ذبحت لم تحل لانه ليس فيها حياة مستقرة فانه لا يتوهم ان تعيش بعدها فما بقى فيها الا اضطراب مذبوح وذلك غير معتبر. قال (ومن ذبح شاة أو غيرها فخرج من

[ 6 ] بطنها جنين ميت لم يؤكل الجنين) في قول أبى حنيفة وزفر وهو قول إبراهيم وحكم ابن عبينة رحمهم الله وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله يؤكل الا أنه روى عن محمد رحمه الله انه قال انما يؤكل الجنين إذا أشعر وتمت خلقته فأما قبل ذلك فهو بمنزلة المضغة فلا يؤكل واحتجوا بقول الله تعالي ومن الانعام حمولة وفرشا قيل الفرش الصغار من الاجنة والحمولة الكبار فقد من الله تعالى على عباده بأكل ذلك لهم وفى المشهور أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ذكاة الجنين ذكاة أمه معناه ذكاة الام نائبة عن ذكاة الجنين كما يقال لسان الوزير لسان الامير وبيع الوصي بيع اليتيم * وروى ذكاة أمه بالنصب ومعناه بذكاة أمه الا أنه صار منصوبا بنزع حرف الخفض عنه كقوله تعالى ما هذا بشرا أي ببشر وعن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه أن قوما سألوا رسول الله وقالوا انا لننحر الجزور فيخرج من بطنها جنين ميت أفنلقية أم نأكله فقال صلوات الله وسلامه عليه كلوه فان ذكاة الجنين ذكاة أمه والمعنى فيه ان الذكاة تنبنى على التوسع حتى يكون في الاهل بالذبح في المذبح فإذا ند فبالجرح في أي موضع أصابه لان ذلك وسع مثله والذى في وسعه في الجنين ذبح الام لانه مادام مخبيا في البطن لا يتأتى فيه فعل الذبح مقصودا وبعد الاخراج لا يبقى حيا فتجعل ذكاة الام ذكاة له لان تأثير الذبح في الام في زهوق الحياة عن الجنين فوق تأثير الجرح بحل رجل الصيد فالغالب هناك السلامة وهنا الهلاك ثم اكتفى بذلك الفعل لانه وسع مثله فهنا أولي ولان الجنين في حكم جزء من اجزاء الام حتى يتغذى بغذائها وينمو بنمائها ويقطع عنها بالمقراض كما في بيان الجزء من الجملة ويتبعها في الاحكام تبعية الاجزاء حتى لا يجوز استثناء في عنقها وبيعها كاستثناء يدها ورجلها ثبوت الحل في البيع لوجود فعل الذكاة في الاصل والدليل عليه انه يحل ذبح الشاة الحامل ولو لم يحل الجنين بذبح الام لما حل ذبحها حاملا لما فيه من اتلاف للحيوان لا للمأكلة ونهى رسول الله عن ذلك. وأبو حنيفة رحمه الله استدل بقوله تعالي والمنخنقة فان أحسن أحواله أن يكون حيا عند ذبح الام فيموت باحتباس نفسه وهذا هو المنخنقة وقال عليه الصلاة والسلام لعدى بن حاتم رضى الله عنه إذا وقعت رميتك في الماء فلا تأكل فانك لا تدرى أن الماء قتله أم سهمك. فقد حرم الاكل عند وقوع الشك في سبب زهوق الحياة وذلك موجود في الجنين فانه لا يدرى أنه مات بذبح الام أو باحتباس نفسه وقد

[ 7 ] يتأتى الاحتراز عنه في الجملة لانه قد يتوهم انفصالة حيا ليذبح * وعلل إبراهيم فقال ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين ومعنى هذا ان الجنين في حكم الحياة نفس على حدة مودعة في الام حتى ينفصل حيا فيبقى ولا يتوهم بقاء الجزء حيا بعد الانفصال وكذلك بعد موت الام يتوهم انفصال الجنين حيا ولا يتوهم بقاء حياة الجزء بعد موت الاصل والذكاة تصرف في الحياة فإذا كان في حكم الحياة نفسا على حدة فيشترط فيه ذكاة على حدة ولا نقول يتغذى بغذاء الام بل يبقية الله تعالى في بطن الام من غير غذاء أو يوصل الله إليه الغذاء كيف شاء ثم بعد الانفصال قد يتغذى أيضا بغذاء الام بواسطة اللبن ولم يكن في حكم الجزء ولما جعل في سائر الاحكام تبعا لم يتصور تقرر ذلك الحكم في الام دونه حتى لا يتصور انفصاله حيا بعد موت الام ولو انفصل حيا ثم مات لم يحل عندهم فعرفنا انه ليس يتبع في هذا الحكم وحقيقة المعنى فيه ما بينا ان المطلوب بالذكاة تسييل الدم لتمييز الطاهر من النجس وبذبح الام لا يحصل هذا المقصود في الجنين أو المقصود تطييب اللحم بالنضج الذى يحصل بالتوقد والتلهيب ولا يحصل ذلك في الجنين بذبح. وهذا الجواب عما قالوا ان الذكاة تنبنى علي التوسع. قلنا نعم ولكن لا يسقط بالعذر وكما لو قتل الكلب الصيد غما أو اختفاء وهذا لان المقصود لا يحصل بدون الجرح واباحة ذبح الحامل لانه يتوهم ان ينفصل الجنين حيا فيذبح ولان المقصود لحم الام وذبح الحيوان لغرض صحيح حلال كما لو ذبح ما ليس بمأكول لمقصود الجلد والمراد بالحديث التنبيه لا النيابة أي ذكاة الجنين كذكاة أمه ألا ترى أنه ذكر الجنين أولا ولو كان المراد النيابة لذكر النائب أولا دون المنوب عنه كما قيل في الالفاظ التى استشهد بها ومثل هذا يذكر للتشبيه يقال فلان شبه أبيه وحظ فلان حظ أبيه وقال القائل وعيناك عيناها وجيدك جيدها * سوى أن عظم الساق منك دقيق والمراد التشبيه ويصح هذا التأويل في الرواية بالنصب فان المنزوع حرف الكاف قال الله تعالى وهى تمر مر السحاب أي كمر السحاب ويحتمل الباء أيضا ولكن ان جعلنا المنزوع حرف الكاف لم يحل الجنين وان جعلناه حرف الباء يحل ومتى اجتمع الموجب للحل والموجب للحرمة يغلب الموجب للحرمة والحديث مع القصة لا يكاد يصح ولو ثبت فالمراد من قولهم فيخرج من بطنها جنين ميت أي مشرف على الموت قال الله تعالي انك ميت وانهم

[ 8 ] ميتون ومعنى قوله كلوه أي اذبحوه وكلوه والمراد بالفرش الصغار فلا يتناول الجنين ولئن كان المراد به الجنس ففيه بيان أن الجنين مأكول وبه نقول ولكن عند وجود الشرط فيه وهو ان ينفصل حيا فيذبح فيحل به والله سبحانه وتعالى أعلم (باب الاضيحة) قال رحمه الله تعالى اعلم بأن القرب المالية نوعان نوع بطريق التمليك كالصدقات ونوع بطريق الاتلاف كالعتق ويجتمع في الاضحية معنيان فانه تقرب باراقه الدم وهو اتلاف ثم بالتصدق باللحم وهو تمليك. قال (وهى واجبة على المياسير والمقيمين عندنا) وذكر في الجامع عن أبى يوسف أنها سنة وهو قول الشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام كتبت علي الاضحية ولم تكتب عليكم وقال عليه الصلاة والسلام خصصت بثلاث وهى لكم سنة الاضحية وصلاة الضحى والوتر. وقال ضحوا فانها سنة أبيكم إبراهيم عليه السلام وعن أبى بكر وعمر رضي الله عنهما انهما كانا لا يضحيان السنة والسنتين مخافة أن يراها الناس واجبة وقال أبو مسعود الانصاري رضى الله عنه انه ليغدو على الف شاة ويراح فلا أضحي مخافة أن يراها الناس واجبة ولانها لا تجب على المسافر وكل دم لا يجب على المسافر لا يجب على المقيم كالعنبرة وهذا لانه لا يفرق بين المسافر والمقيم في العبادات المالية كالزكاة وصدقة الفطر لانهما لا يستويان في ملك المال وانما الفرق بينهما في البدن لان المسافر يلحقه المشقة بالاداء بالبدن والدليل عليه ان يحل له التناول منه واطعام الغنى ولو كان واجبا لم يحل له التناول كما في جزاء الصيد ونحوه ولان التقرب بالاتلاف لا يجب ابتداء بل بسبب من العبد كالعتق في الكفارات ولهذا أوجبنا الاضحية بالنذر. وحجتنا في ذلك قوله تعالى فصل لربك وانحر أي وانحر الاضحية والامر يقتضي الوجوب وقال عليه الصلاة والسلام من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا والحاق الوعيد لا يكون الا بترك الواجب وقال عليه الصلاة والسلام من ضحى قبل الصلاة فليعد ومن لم يضح فليذبح على اسم الله تعالى والامر يفيد الوجوب وفى قوله عليه الصلاة والسلام ضحوا أمر وقوله فانها سنة أبيكم إبراهيم أي طريقته فالسنة الطريقة في الدين وذلك لا ينفى الوجوب ولا حجة في قوله عليه الصلاة والسلام ولم تكتب عليكم فانا نقول بأنها غير مكتوبة بل هي واجبة فالمكتوب ما يكون فرضا يكفر جاحده فقد كان رسول الله

[ 9 ] مخصوصا بكون الاضيحة مكتوبة عليه كما قال وتأويل حديث أبى بكر وعمر رضى الله عنهما انهما لا يضحيان في حال الاعسار مخافة أن يراها الناس واجبة على المعسرين أو في حال السفر وهو تأويل حديث أبى مسعود رضى الله عنه ولا كلام في المسألة على سبيل المقايسة والعبادات لا تثبت قياسا ولكن على سبيل الاستدلال نقول هذه قربة يضاف إليها وفيها فتكون واجبة كالجمعة وبيان الوصف انه يقال يوم الاضحى وتأثيره أن اضافة الوقت إليه لا تتحقق الاوان يكون موجودا فيه ولا يكون موجودا فيه لا محالة الاوان تكون واجبة لجواز ان يجتمع الناس على ترك ما ليس بواجب ولا يجتمعون علي ترك الواجب وان اجتمعوا على ذلك لم يخرج من أن يكون موجودا فيه استحقاقا ولجواز الاداء فيه لا يصير الوقت مضافا إليه كسائر الايام يجوز فيها الصوم ثم لا يسمى شهر الصوم الا رمضان فعرفنا ان اضافة الوقت الي القربة تدل على وجوبها فيه وانما لا تجب على المسافر لمعنى المشقة فان الاداء يختص بأسباب يشق على المسافر استصحاب ذلك في السفر ويفوت بمضي الوقت فلدفع المشقة لا تلزمه كالجمعة بخلاف سائر العبادات المالية وإباحة التناول باذن من له الحق فانه بالتضحية يجعلها الله تعالى وقد قال الله تعالي فكلوا منها ولما كان من جنس التقرب بالتمليك ما هو واجب ابتداء فكذلك من جنس التقرب بالاتلاف ما هو واجب ابتداء وليس ذلك الا في الاضحية وفى الوجوب بالنذر دليل على ان من جنسه واجبا شرعا فان ما ليس من جنسه واجبا شرعا لا يصح التزامه بالنذر كعبادة المريض * ثم يختص جواز الاداء بأيام النحر وهى ثلاثة أيام عندنا قال عليه الصلاة والسلام أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها فإذا غربت الشمس من اليوم الثالث لم تجز التضحية بعد ذلك. وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه تجوز في اليوم الرابع وهو آخر أيام التشريق وهذا ضعيف فان هذه القربة تختص بأيام النحر دون أيام التشريق ألا ترى ان الافضل أداؤها في اليوم الاول وهو العاشر من ذى الحجة وهو يوم النحر لا أيام التشريق علي ما قيل الايام المعدودات ثلاثة وهى أيام النحر والمعلومات ثلاثة وهى أيام التشريق وتمضي هذه السنة في أربعة أيام فاليوم الاول من المعدودات خاصة واليوم الآخر من المعلومات خاصة وقيل المعلومات عشر ذى الحجة والمعدودات أيام التشريق * ثم يختص جواز الاضحية بالابل والبقر والغنم ولا يجزئه الا الثنئ من ذلك في الابل والبقر والمعز ويجزى الجذع من الضأن إذا كان

[ 10 ] عظيما سمينا لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ضحوا بالثنيات ولا تضحوا بالجذعان ولان الجذع ناقص وقد أمرنا في الضحايا بالاستعظام والاستشراف قال عليه الصلاة والسلام عظموا ضحاياكم فانها على الصراط مطاياكم. فأما الجذع من الضأن يجزئ لحديث أبى هريرة رضي الله تعالى عنه ان رجلا ساق جذعا الي منى فبادت عليه فروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي قال نعمت الاضحية الجذع من الضأن فانتهبوها ثم الثنى من الغنم وهو الذى تم له سنتان عند أهل الادب وعند أهل الفقه الذى تمت له سنة والثنى من البقر الذى تم له حولان وطعن في الثالث عند جمهور الفقهاء رحمهم الله ومن الابل الذى تم له خمس سنين والجذع من الابل ماتم له خمس سنين ومن البقر ما تم له حولان وهكذا من الغنم عند أهل الادب وعند أهل الفقه إذا تم له سبعة أشهر فهو جذع بعد ذلك ولا خلاف ان الجذع من المعز لا يجوز وانما ذلك من الضأن خاصة * ثم أول وقت الاضحية عند طلوع الفجر الثاني من يوم النحر الا أن في حق أهل الامصار يشترط تقديم الصلاة على الاضحية فمن ضحى قبل الصلاة في المصر لاتجزئه لعدم الشرط لا لعدم الوقت ولهذا جازت التضحية في القرى بعد انشقاق الفجر * ودخول الوقت لا يختلف في حق أهل الامصار والقرى انما يختلفون في وجوب الصلاة فليس على أهل القرى صلاة العيد وانما عرفنا هذا في حق أهل الامصار بحديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه ان النبي قال في خطبته من ضحي قبل الصلاة فليعد فقام خالي أبو بردة بن بشار رضى الله عنه قال انى عجلت نسيكتى لاطعم أهلى وجيراني فقال عليه الصلاة والسلام تلك شاة لحم فأعد نسيكتك فقال عندي عتود خير من شاتين فقال صلوات الله وسلامه عليه تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك وقال عليه الصلاة والسلام ان أول نسكنا في هذا اليوم أن نصلى ثم نذبح ومن يذبح من أهل الامصار أضحيته قبل أن يصلي الامام لم تجزه عندنا وقال الشافعي رحمه الله إذا مضى من الوقت مقدار ما يصلى فيه صلاة العيد عادة جازت الاضحية بعد ذلك لانهم لو صلوا جازت التضحية فلا يتغير ذلك بتأخير الامام الصلاة كما لو زالت الشمس ولكن نقول الواجب مراعاة الترتيب المنصوص وما بقى وقت الصلاة فمراعاة الترتيب ممكن بخلاف ما بعد الزوال فقد خرج وقت صلاة العيد بزوال الشمس في هذا اليوم ولهذا تجوز التضحية بعد ذلك. قال (وإذا ذبحها بعد ما انصرف أهل المسجد قبل أن يصلى أهل الجبانة أجزأه

[ 11 ] استحسانا) ومعنى هذا ان للامام أن يخرج بالناس إلى الجبانة ويستخلف من يصلى بالضعفة في الجامع هكذا فعله على رضى الله تعالي عنه حين قدم الكوفة. قال (وإذا ذبح بعد ما فرغ أهل المسجد قبل أن يصلي أهل الجبانة ففى القياس لاتجزئه) لان اعتبار جانب أهل الجبانة يمنع الجواز واعتبار جانب أهل المسجد يجوز ذلك وفى العبادات يؤخذ بالاحتياط ولكنا استحسنا وقلنا قد أديت صلاة العيد في المصر حتى لواكتفوا بذلك أجزأهم فتجوز التضحية بعد ذلك لان الترتيب المشروط قد وجد حين ضحى بعد صلاة العيد في هذا المصر ولم يذكر ما لو سبق أهل الجبانة بالصلاة فضحى رجل قبل أن يصلى أهل المسجد. وقيل في هذا الموضع يجوز قياسا واستحسانا لان المسنون في العيد الخروج إلى الجبانة فأهل الجبانة هم الاصل وقد صلوا وقيل للقياس والاستحسان فيهما لان أداء الصلاة في المسجد أفضل منه بالجبانة وإذا كان في الموضع الذى صلى فيه أهل المسجد قياسا واستحسانا لما ذكرنا فهنا أولى. قال (ولا بأس بأن يضحي بالجماء وبمكسور القرن) أما الجماء فلان ما فات منها غير مقصود لان الاضحية من الابل أفضل ولا قرن له وإذا ثبت جواز الجماء فمكسور القرن أولى وقد روى في ذلك عن عمار بن ياسر رضى الله تعالى عنه. وكذلك الخصى لما روى ان النبي ضحى بكبشين املحين اقرنين موجوين أو موحوين احدهما عن نفسه والآخر عن أمته. والمراد خصيان وكان إبراهيم يقول ما يزاد في لحمه بالخصاء أنفع للمساكين مما يفوت بالانثيين إذ لا منفعة للفقراء في ذلك. قال (ولا بأس أن يضحى بالجرباء والتولاء إذا كانت سمينة) والجرباء التى بها جرب وإذا كانت سمينة فالجرب في جلدها لافي لحمها ونهى رسول الله أن يضحى بالعجفاء التى لا تبقى. والتولاء هي المجنونة والجنون عيب في القضاة لا في الشاة فإذا كانت سمينة فما هو المقصود منها باق واشتراط السمن في الحديث الذى روينا ان النبي صلي الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين يرعيان في سواد وينظران في سواد ويأكلان في سواد ومقصود الراوى من هذه المبالغة بيان السمن. قال (ولا بأس أن يشترك سبعة نفر في بقرة أو بدنة) وقال مالك رحمه الله يجوز عن أهل بيت واحد بقرة واحدة وان كانوا أكثر من سبعة ولا تجوز عن أهل بيتين وان كانوا أقل من سبعة لقوله عليه الصلاة والسلام على أهل كل بيت في كل عام أضحاة وعنبرة ومذهبنا مروى عن ابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهما والاستدلال بحديث جابر رضي الله عنه قال اشتركنا يوم الحديبية في

[ 12 ] البقرة والبدنة فأجاز النبي عليه الصلاة والسلام البقره عن سبعة والبدنة عن سبعة والمراد بذكر أهل البيت قيم البيت لان اليسار له عادة. وقد ذكر في بعض الروايات على كل مسلم في كل عام اضحاة وعنبرة ويستوى ان كان قصدهم جميعا التضحية أو قصد بعضهم قربة أخرى عندنا وعند زفر لا يجوز الا إذا قصدوا جميعا التضحية وقال الشافعي يجوز وان كان قصد بعضهم للحم وقد بينا هذا في المناسك. فان كان الشركاء في البدنة ثمانية لم تجزهم لان نصيب كل واحد منهم دون السبع وكذلك ان كان نصيب أحدهم دون السبع حتى لو سئل عن رجل مات وترك ابنا وامرأة وبقرة وضحى بها يوم العيد هل يجوز * والجواب انه لا يجوز لان نصيب المرأة الثمن فإذا لم يجز ثمنها في نصيبها لا يجوز في نصيب الابن أيضا. فان مات أحد الشركاء في البدنة ورضى ورثته بالتضحية بها عن الميت مع الشركاء في القياس لا يجوز وهو رواية عن أبى يوسف رحمه الله لان نصيب الميت صار ميراثا والتضحية تقرب بطريق الاتلاف فلا يصح التبرع به من الوارث عن الميت كالعتق وإذا لم يجز في نصيبه لم يجز في نصيب الشركاء وفى الاستحسان يجوز لان معنى القربة حصل في اراقة الدم فان التبرع من الوارث عن مورثه بالقرب المالية صحيح كالتصدق وانما لا يجوز العتق لما فيه من الزام الولاء وذلك غير موجود في الاضحية وعلى هذا إذا كان أحد الشركاء أم ولد ضحى عنها مولاه أو صغير ضحى عنه أبوه ولا خلف انه ليس علي المولى ان يضحى عن أحد من مماليكة فان تبرع بذلك جاز وإذا جعله شريكا في البدنة ففيه قياس واستحسان لما بينا وأما الاب ليس عليه أن يضحى عن ولده الصغار في ظاهر الرواية وورى الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله أن ذلك عليه كصدقة الفطر لانه جزء منه فكما يلزمه أن يضحى عن نفسه عند يساره فكذلك عن جزئه. وجه ظاهر الرواية ان مالا يلزمه عن مملوكه لا يلزمه عن ولده كسائر القرب بخلاف صدقة الفطر وهذا لان كل واحد منهما كسبه ولو كانت التضحية عن أولاده واجبة لامر بها رسول الله ونقل ذلك كما أمر بصدقة الفطر وان كان للصبي مال فقال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى على الاب والوصي أن يضحى من ماله عند أبى حنيفة رضى الله عنه على قياس صدقة الفطر الاصح أنه لا يجب ذلك وليس له أن يفعله من ماله لانه ان كان المقصود الاتلاف فالاب لا يملكه في مال الولد كالعتق وان كان المقصود التصدق باللحم بعد اراقه الدم فذاك تطوع غير واجب ومال الصبى

[ 13 ] لا يحتمل صدقة التطوع. قال (وإذا اشترى اضحية ثم باعها فاشترى مثلها فلا بأس بذلك) لان بنفس الشراء لاتتعين الاضحية قبل أن يوجبها وبعد الايجاب يجوز بيعها في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله ويكره وفى قول أبى يوسف رحمه الله لا يجوز لتعلق حق الله تعالى بعينها ولكنهما يقولان تعلق حق الله تعالى بها لا يزيل ملكه عنها ولا يعجزه عن تسليمها وجواز البيع باعتبار الملك والقدرة على التسليم ألا ترى انا نجوز بيع مال الزكاة لهذا والاصل فيه ماروى أن النى عليه الصلاة والسلام دفع دينارا إلى حكيم بن حزام رضى الله عنه ليشترى له شاة للاضحية فاشترى شاة ثم باعها بدينارين ثم اشترى شاة بدينار وجاء بالشاة والدينار إلى رسول الله فأخبره بذلك فقال بارك الله في صفقتك أما الشاة فضح بها وأما الدينار فتصدق به فقد جوز رسول الله بيعه بعد ما اشتراها للاضحية وان كانت الثانية شرا من الاولى وقد كان أوجب الاولى فتصدق بالفضل فيما بين القيمتين أما جواز الثانية عن الاضحية فلاستجماع شرائط الجواز وأما التصدق فانه لما أوجب الاولي فقد جعل ذلك القدر من ماله لله تعالى فلا يكون له ان يستفضل شيئا منه لنفسه فيتصدق بفضل القيمة كما أمر رسول الله حكيم بن حزام رضي الله عنه بالتصدق بالدينار ومن أصحابنا رحمهم الله من قال هذا إذا كان فقيرا أما إذا كان غنيا ممن يجب عليه الاضحية فليس عليه ان يتصدق بفضل بالقيمة لان في حق الغنى الوجوب عليه بايجاب الشرع فلا يتعين بتعيينه في هذا المحل ألا ترى أنها لو هلكت بقيت الاضحية عليه فإذا كان ما يضحى به محلا صالحا لم يلزمه شئ آخر وأما الفقير فليس عليه أضحية شرعا وانما لزمه بالتزامه في هذا المحل بعينه ولهذا لو هلكت لم يلزمه شئ آخر فإذا استفضل لنفسه شيئا مما التزمه كان عليه أن يتصدق به. قال الشيخ الامام والاصح عندي أن الجواب فيهما سواء لان الاضحية وان كانت واجبة على الغنى في ذمته فهو متمكن من تعيين الواجب في محل فيتعين بتعيينه في هذا المحل من حيث قدر المالية لانه تعيين مقيد وان كان لا يتعين ممن حيث فراغ الذمة. قال (والاضحية أحب إلى من التصدق بمثل ثمنها) والمراد في أيام النحر لان الواجب التقرب باراقة الدم ولا يحصل ذلك بالتصدق بالقيمة ففى حق الموسر الذى لزمه ذلك لااشكال أنه لا يلزمه التصدق بقيمته وهذا لانه لاقيمة لاراقة الدم واقامة المتقوم مقام ما ليس بمتقوم لا تجوز وارقة الدم خالص حق الله تعالي ولاوجه للتعليل فيما هو خالص حق الله تعالى وأشرنا

[ 14 ] بهذا إلى الفرق بين هذا والزكاة وصدقة الفطر وأما في حق الفقير التضحية أفضل لما فيه من الجمع بين التقرب باراقة الدم والتصدق ولانه متمكن من التقرب بالتصدق في سائر الاوقاب ولا يتمكن من التقرب باراقة الدم الا في هذا الايام فكان أفضل وأما بعد مضى أيام النحر فقد سقط معنى التقرب باراقة الدم لانها لا تكون قربة الا في مكان مخصوص وهو الحرم وفى زمان مخصوص وهو أيام النحر ولكن يلزمه التصدق بقيمة الا ضحية إذا كان ممن تجب عليه الاضحية لان تقربه في أيام النحر كان باعتبار المالية فيبقى بعد مضيها والتقرب بالمال في غير أيام النحر يكون بالتصدق ولانه كان يتقرب بسببين اراقة الدم والتصدق باللحم وقد عجز عن احدهما وهو قادر على الآخر فيأتى بما يقدر عليه. قال (وليس على الرجل أن يضحى عن أولاده الكبار ولا عن امرأته كما ليس عليه صدقة الفطر عنهم في يوم الفطر) وهذا لان عليهم أن يضحوا عن انفسهم فلا يجب عليه أن يضحى عنهم. قال (وإذا ولدت الاضحية قبل ان يذبحها ذبح ولدها معها) لان حكم التقرب باراقة الدم ثبت في عينها فيسرى إلى ولدها لانه متولد من عينها والولد وان لم يكن محلا للتقرب باراقة الدم مقصودا يثبت الحكم فيه تبعا للام ولان الشرائط تعتبر فيما هو أصل ووجودها في الاصل يغنى عن اعتبارها في البيع فان باعه تصدق بثمنه لان معنى القربة يثبت فيه فلا يكون له ان يصرف ماليته الي نفسه كما في حق الام وكذلك ان أمسك ولدها حتى مضت أيام النحر تصدق به قال الامام ويكره ان يجز صوف أضحيته وينتفع به قبل أن يذبحها لانه أعدها للقربة بجميع أجزائها فلا ينبغى له أن يصرف شيئا منها إلى حاجة نفسه لان ذلك في معنى الرجوع في الصدقة وقال عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه فيما دون هذا لا تعد في صدقتك. قال (ويكره ان يبيع جلد الاضحية بعد الذبح) لقوله عليه الصلاه والسلام من باع جلد أضحيته فلا أضحية له وقال لعلي رضى الله عنه تصدق بجلالها وخطمها ولا تعط الجزار منها شيئا فكما يكره له ان يعطى جلدها الجزار فكذلك يكره له ان يبيع الجلد فان فعل ذلك تصدق بثمنه كما لو باع شيئا من لحمها. قال (ولا بأس بأن يشترى بجلد الاضحية متاعا للبيت) لانه لو دبغه وانتفع به في بيته جاز وكذلك إذا اشترى به ما ينتفع به في بيته لان للبدل حكم المبدل وهذا استحسان وقد ذكر في نوادر هشام قال يشترى به الغربال والجراب وما أشبه ذلك ولا يشترى به الخل والمرى والملح وما أشبه ذلك والقياس في الكل واحد

[ 15 ] ولكنه استحسن فقال ما يكون طريق الانتفاع به تناول العين فهو من باب التصرف على قصد التمول فليس له أن يفعل ذلك في جلد الاضحية وما ينتفع به في البيت مع بقاء العين فهو نظير عين بالجلد وكان له أن يفعل ذلك. قال (ويكره له أن يحلب الاضحية إذا كان لها لبن فينتفع بلبنها كما يكره له الانتفاع بصوفها) لان اللبن يتولد من عينها وقد جعلها للقربة فلا يصرف شيئا منها إلى منفعة نفسه قبل أن يبلغ محله ولكنه ينضح ضرعها بالماء البارد حتى يتقلص منه اللبن ولا يتأدي به الا أن هذا انما ينفع إذا كان يقرب من أيام النحر فأما إذا كان بالبعد فلا يفيد هذا لانه ينزل ثانيا وثالثا بعد ما يتقلص ولكنه ينبغى له أن يحلبها ويتصدق باللبن كالهدي إذا عطبت قبل أن يبلغ محله فان عليه أن يذبحها ويتصدق بلحمها وقد بيناه في المناسك. قال (وان اشترى بقرة يريد أن يضحى بها عن نفسه ثم اشترك معه ستة أجزأه استحسانا) وفي القياس لا يجزئه وهو قول زفر رحمه الله لانه أعدها للقربة فلا يكون له أن يبيع شيئا منها بعد ذلك على قصد التمول والاشتراك بهذه الصفة يوضحه أن هذا رجوع منه عن بعض ما تقرب به وذلك حرام شرعا. وجه الاستحسان انه لو أشر كهم معه في الابتداء بأن اشتروا جملة جاز فكذلك إذا أشركهم بعد الشراء قبل إتمام المقصود وهذا لان الانسان قد يبتلى بهذا فانه قد يجد بقرة سمينة فيشتريها ثم يطلب شركاءه فيها فلو لم يجز ذلك أدى إلى الحرج. قال (ولو فعل ذلك قبل أن يشترى كان أحسن) لانه أبعد عن الاختلاف وليس فيه معنى الرجوع في القربة لا صورة ولا معنى فكان ذلك أفضل. قال (ولا تجوز العوراء في الاضحية) لقوله عليه الصلاة استشرفوا العين والاذن وفي حديث البراء بن عازب رضى الله عنه قال نهي رسول الله أن يضحى بأربعة العوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها والمريضة البين مرضها والعجفاء التى لا تبقى ثم الاصل أن العيب الفاحش مانع لقوله تعالى ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون واليسير من العيب غير مانع لان الحيوان قلما ينجو من العيب اليسير فاليسير مالا أثر له في لحمها وللعور أثر في ذلك لانه لا يبصر بعين واحدة من العلف ما يبصر بالعينين وعند قلة العلف يتبين العجف ثم العين والاذن منصوص على اعتبارها فإذا كانت مقطوعة الاذن لم تجز لانعدام شرط منصوص وإذا كانت مقطوعة الطرف فكذلك بطريق الاولى. قال وان كان المقطوع بعض ذلك ففى ظاهر الرواية عن أبى حنيفة رضى الله تعالى عنه ان كان المقطوع (2 ثانى عشر مبسوط)

[ 16 ] أكثر من الثلث لا يجزئه وان كان الثلث أو أقل يجزئه وهكذا روى هشام عن محمد رحمهما الله اعتبار بالوصية فان الثلث في الوصية كما دونه ولا يجوز الوصية بأكثر من الثلث وفى رواية بشر عن أبى حنيفة رحمه الله إذا كان الذاهب أقل من الثلث يجوز وان كان أكثر من الثلث لا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام الثلث والثلث كثير وفي رواية ابن شجاع إذا كان الذاهب الربع لا يجزئ لان للربع حكم الكمال كما في مسح الرأس وقال أبو يوسف رحمه الله إذا بقى الاكثر من العين والاذن اجزأه قال وذكرت قولى لابي حنيفة فقال قولى قولك. قيل هذا رجوع من أبى حنيفة إلى قوله وقيل معناه قولى قريب من ذلك. وجه القول أبى يوسف ان القلة والكثرة من الاسماء المقابلة فإذا كان الذاهب أقل من النصف قلنا إذا قابلت الذاهب بالباقي كان الباقي أكثر وإذا كان الذاهب أكثر من النصف فإذا قابلته بالباقي كان الذاهب أكثر فإذا كان الذاهب النصف قال لا يجوز لانه لما استوى المانع والمجوز يترجح المانع احتياطا. فأما الشق في الاذن فهو عيب يسير ألا ترى انه يفعل ذلك للعلامة بمنزلة السمة فلا يمنع الجواز ومن العلماء رحمهم الله من لا يجوز لما روى أن النبي نهى أن يضحي بالشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة. فالشرقاء ان يكون الخرق في أذنها طولا والخرقاء ان يكون عرضا والمقابلة قطع في مقدم أذنها والمدابرة في مؤخر أذنها وتأويل ذلك عندنا إذا كانت بعض الاذن مقطوعة وكان الذاهب أكثر من الثلث لما بينا فأما العرجاء إذا كانت تمشى فلا بأس به لانه عليه الصلاة والسلام سئل عن العرجاء فقال إذا كانت تبلغ فلا بأس به فإذا كانت لا تقوم ولا تمشي لا يجوز لان ذلك يؤثر في لحمها فانها لا تعلف الا ما حولها وإذا كانت تمشى فهى تذهب إلى العلف فلا يؤثر في لحمها. ولا تجزئ العجفاء التى لا تبقى للنهى الذى روينا ولان هذا عيب فاحش أثر في لحمها ويستوى ان اشتراها كذلك أو صارت عنده كذلك وهو موسر لان الواجب في ذمته بصفة الكمال فلا يتأدى بالناقص فأما إذا كان معسرا أجزأه لانه لا واجب في ذمته بل يثبت الحق في العين فيتأدى بالعين على أي صفة كانت وذلك مروى عن علي رضى الله عنه وكذلك لو ماتت عنده أو سرقت فعليه بدلها ان كان موسرا ولا شئ عليه ان كان معسرا وعلى هذا قالوا الموسر إذا ضلت أضحيته فاشترى أخرى ثم وجد الاولى فله ان يضحى بأيهما شاء وان كان معسرا فاشتراه وأوجبها فضلت ثم اشترى أخرى فأوجبها ثم وجد الاولى فعليه ان يصحى بهما لان الوجوب في العين

[ 17 ] بايجابه وقد وجد ذلك في الثانية كالاولى وان أصابها شئ من هذه العيوب في اضطرابها حين أضجعها للذبح وذبحها على مكانها ففى القياس لا تجزئه لانه تأدى الواجب بالاضحية لا بالاضجاع وهى معيبة عند التضحية بها وفي الاستحسان تجزئه لان هذا لا يستطاع الامتناع منه فقد ينقلب السكين من يده فتصيب عينها فيجعل ذلك عفوا لدفع الحرج ولانه أضجعها ليتقرب باتلافها فتلف جزء منها في هذه الحالة من عمل التقرب فلا يمنع الجواز بخلاف ما قبل الاضجاع وعن أبى يوسف قال إذا أصابها ذلك في يوم النحر ثم ضحى بها بعد ذلك بيوم أو يومين جاز لانه جاء وقت اتلافها تقربا فتلف جزء منها في هذه الحالة لايمنع الجواز قال (ولا يجوز أن يضحى بشاة ليس لها أذنان خلقت كذلك وهى السكاء) لان قطع الاذن لما كان مانعا من الجوز فعدم الاذن أصلا أولى بعض فأما صغيرة الاذن تجزى لان الاذن منها صحيحة وان كانت صغيره وأما الهتماء فكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا لا يجوز أن يضحى بها وان كانت تعتلف ثم رجع وقال يجوز إذا كانت تعتلف لانه وقع عنده في أن يضحى بها لان الهتماء ليس لها اسنان ثم علم بعد ذلك أن الهتماء مكسورة بعض الاسنان فإذا كانت تعتلف فالباقي من الاسنان أكثر من الذاهب وذلك لايمنع الجواز عنده ثم قال والتى لا اسنان لها بمنزلة التى لا اذن لها فكل واحد منهما مقصود في البدن بل السن في الانعام أقرب إلى المقصود من الاذن لانها تعتلف بالاسنان. قال (ولا يجوز في الضحايا والواجبات بقر الوحش وحمر الوحش والظبي) لان الاضحية عرفت قربة بالشرع وانما ورد الشرع بها من الانعام ولان إراقة الدم من الوحشى ليس بقربة أصلا والقربة لا تتأدى بما ليس بقربة وإذا كان الولد بين وحشى وأهلي فان كانت الام أهلية جازت التضحية بالولد وان كانت وحشية لا تجوز لان الولد جزء من الام فان ماء الفحل يصير مستهلكا بحضانتها وانما ينفصل الولد منها ولهذا يتبعها في الرق والملك فكذلك في التضحية وهذا لانه ينفصل من الفحل وهو ماء غير محل لهذا الحكم وينفصل من الام وهو حيوان محل لهذا الحكم فلهذا جعلناه معتبرا بالام. قال (رجل ذبح أضحية غيره بغير اذنه ففى القياس هو ضامن لقيمتها ولا يجزيه من الاضحية) وهو قول زفر لانه متعد في ذبح شاة الغير فكان ضامنا كمن ذبح شاة القصاب ثم الاضحية لاتتأدى الا بعمل المضحي وبيته ولم يوجد ذلك حين فعله الغير بغير اذنه ففى القياس هو ضامن لقيمتها ولا يجزيه من الاضحية. ولكنا نستحسن ونقول يجزئه ولا ضمان علي الذابح لانه لما عينها للاضحية فقد صار مستغنيا بكل واحد

[ 18 ] بالتضحية بها في أيام النحر لان ذلك يفوته بمضي الوقت وربما يعرض له عارض في أيام النحر والاذن دلالة كالاذن إفصاحا كما في شرب ماء في السقاية ونظائرها. وقال الشافعي رحمه الله يجزئه من الاضحية ولكن الذابح ضامن لقيمتها وهذا بعيد فالجواز لا يكون الا بعد وجود الاذن دلالة ولو وجد الاذن افصاحا لم يضمن فكذلك إذا وجد الاذن دلالة وعلى هذا لو أن رجلين غلطا فذبح كل واحد منهما أضحية صاحبه على نفسه أجزأ كل واحد منهما استحسانا ويأخذ كل واحد منهما مسلوخه من صاحبه فان كانا قد أكلا ثم علما فليحلل كل واحد منهما صاحبه ويجزئهما لانه لو أطعم كل واحد منهما صاحبه لحم أضحيته جاز ذلك غنيا كان أو فقيرا. قال أبو يوسف رحمه الله ان تشاحا فلكل واحد منهما تضمين صاحبه قيمة لحمه ثم يتصدق بتلك القيمة كما لو باع لحم أضحيته فعليه أن يتصدق بالثمن. قال (ولو أمر مجوسيا فذبح أضحيته لم تجزه) لان هذا افساد لا تقرب فان ذبيحة المجوسى لاتؤكل ولو أمر يهوديا أو نصرانيا بذلك أجزأه لانهما من أهل الذبح ولكنه مكروه لان هذا من عمل القربة وفعله ليس بقربة. قال (فان ذبح أضحيته بنفسه فهو أفضل) لان النبي عليه الصلاة والسلام لما ساق مائة بدنة نحر منها ثلاثا وستين بنفسه ثم ولى الباقي عليا رضى الله عنه وحين ضحى بالشاتين ذبحهما بنفسه ولكن هذا إذا كان يحسن ذلك فان كان يخاف أن يعجز عن ذلك فالافضل أن يستعين بغيره ولكنه ينبغى له أن يشهدها بنفسه لما روي ان النبي عليه الصلاة والسلام قال لفاطمة رضي الله تعالى عنها قومي فاشهدي أضحيتك فانه يغفر لك بأول قطرة من دمها كل ذنب اما أنه يجاء بلحمها ودمها يوم القيامة فيوضع في ميزانك سبعين ضعفا قال أبو سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه أهذا لآل محمد عليه الصلاة والسلام فهم أهل لما خصوا به من الخير أم للمسلمين عامة قال عليه الصلاة والسلام لآل محمد خاصة وللمسلمين عامة. قال (والاضحية تجب على أهل السواد كما تجب على أهل الامصار) لانهم مقيمون مياسير وانما لم تجب على المسافرين لما يلحقهم من المشقة في تحصيلها وذلك غير موجود في حق أهل القرى وفى الاصل ذكر عن إبراهيم قال هي واجبة على أهل الامصار ماخلا الحاج وأراد بأهل الامصار المقيمين وبالحاج المسافرين فاما أهل مكة فعليهم الا ضحية وان حجوا. قال (ولا بأس لاهل القرى أن يذبحوا الا ضاحى بعد انشقاق الفجر) لما بينا أن دخول الوقت بانشقاق الفجر من يوم النحر الا ان أهل الامصار عليهم الصلاة فيلزمهم مراعاة الترتيب ولا صلاة على

[ 19 ] أهل القرى لقوله عليه الصلاة والسلام لا جمعة ولا تشريق الا في مصر جامع * ثم المعتبر المكان الذى فيه الاضحية حتى إذا كان الرجل بالمصر وأضحيته بالسواد يجوز أن يضحى بها بعد انشقاق الفجر فأما إذا كان هو بالسواد وأضحيته بالمصر لا يجوز أن يضحى بها الا بعد فراغ الامام من الصلاة وقد بينا أن أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها وذلك مروى عن عمر وعلى وابن عباس رضى الله تعالى عنهم. قال (ويجزيه الذبح في لباليها الا انهم كرهوا الذبح في الليالى) لانه لا يأمن أن يغلط فتفسد الظلمة الليل ولكن هذا لايمنع الجواز. قال (وليس على أهل منى يوم النحر صلاة العيد) لانهم في وقت صلاة العيد مشغولون باداء المناسك فلا يلزمهم صلاة العيد ويجوز لهم التضحية بعد انشقاق الفجر كما لا يجوز لاهل القرى والله سبحانه وتعالى أعلم باب من الصيد أيضا قال رحمه الله تعالى ومن انفلت من يده صيد بعد ما أحرزه فأخذه غيره فهو للاول) لانه مال مملوك له فلا يزول مكله بالانفلات من يده ولا يملكه الثاني بالاخذ لانه بالاخذ يملك الصيد المباح لا المال المملوك كمن أبق عبده فأخذه انسان آخر لا يملكه ومن نصب شبكة فوقع فيها صيد وصار بحيث لا يقدر علي الذهاب فأخذه رجل فصاحب الشبكة أحق به لانه صار آخذا له بالوقوع في شبكته وهذا بخلاف مالو ضرب فسطاطا فتعلق به صيد فأخذه انسان فهو للآخذ لان ناصب الشبكة يقصد الاصطياد فيصير هذا آخذا للصيد بالوقوع في شبكته ولهذا لو فعله محرم كان ضامنا وضارب الفسطاط ما قصد الاصطياد فلا يكون آخذا له وان تعلق بفسطاطه ولهذا لو فعله مخرم لم يضمن. قال (ومن أخذ بازيا أو شبهه في مصر أو سواد وفى رجليه سيرا أو جلاجل وهو يعرف انه أهلى فعليه ان يعرفه ليرده على صاحبه) لانه تيقن بثبوت يد الغير عليه قبله فانه لا يخرج من البيضة مع الجلاجل فاما أن يكون انفلت من يد صاحبه أو أرسله فلا يزول ملكه في الوجهين كمن سيب دابته فعرفنا انه ملك الغير في يده بمنزلة اللقطة فعليه أن يعرفه ليرده على صاحبه وكذلك ان أخذ ظبيا وفى عنقه قلادة وكذلك لو أخذ حمامة في المصر يعرف ان مثلها لا يكون وحشية فعليه أن يعرفها لانها بمنزلة اللقطة. وبهذا تبين ان من اتخذ برج حمام فأوكرت فيه حمام الناس فما يأخذ من فراخها لا

[ 20 ] يحل له لان الفرخ يملك بملك الاصل فهو بمنزلة اللقطة في يده الا انه ان كان فقيرا يحل له التناول لحاجته وان كان غنيا ينبغي له أن يتصدق بها علي فقير ثم يشترى منه بشئ فيتناول وهكذا كان يفعله شيخنا الامام شمس الائمة رحمه الله تعالى وكان مولعا بأكل الحمام. قال (ومن كان عنده صيد فارسله عند احرامه فأخذه حلال ثم حل الاول فله أن يسترده منه) لان الواجب عليه رفع يده عن الصيد لا ازالة ملكه ألا ترى أن الرجل يحرم وله صيود في بيته فلا يلزمه شئ وإذا كان بعد الارسال باقيا على ملكه لم يملكه الآخذ فله أن يسترده قال (ومن قتل بازيا معلما أو كلبا معلما لرجل فعليه قيمته) وقد بينا في هذه المسألة ان الكلب المعلم مال متقوم يجوز بيعه عندنا ويضمن متلفه وانما تعتبر قيمته كذلك بخلاف المحرم إذا قتل بازيا معلما فلا يعتبر في ايجاب القيمة عليه كونه معلما لان الجزاء على المحرم يجب حقا لله تعالى لمعنى الصيد في يد المقتول وبكونه معلما ينتقص ذلك لانه يخرج به من أن يكون متوحشا فلا يزاد به قيمته في حق الله تعالى فأما وجوب الضمان للآدمي لكونه مالا منتفعا به ويزداد ذلك بكونه معلما فلهذا اعتبر قيمته كذلك فان كان الكلب ليس بكلب صيد ولا ماشية فقتله رجل غرم قيمته ايضا ومراده إذا كان بحيث يقبل التعليم حتى يكون مالا منتفعا به وان كان عقورا لا يقبل التعليم فمتلفه لا يضمن شيئا لانه غير مؤدى وليس بمال منتفع به وقد بينا جواز بيع كل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير لانه يقبل التعليم ويتأتى الانتفاع به ولا يجوز بيع لحم شئ من ذلك لانه لا منفعة في اللحم سوى الاكل فإذا لم يكن مالا مأكولا لا يكون مالا متقوما وجواز البيع يختص بمال متقوم حتى إذا كان له ثمن بأن كان يرغب فيه لاطعام الكلاب والسنانير جاز بيعه إذا كان مذكى الا أن يكون ميتة وما كان من جلودها إذا دبغها رجل وباعها جاز بيعها لانه مال منتفع به وان كانت غير مدبوغة لم يجز ومراده إذا كانت ميتة فأما إذا كانت مذكاة يجوز وقد بينا أن عمل الذكاة في الحل والطهارة في مأكول اللحم وفى طهارة الجلد في غير مأكول اللحم كالدباغ. قال (وان وجد في الماء سمكة مقطوعة لا يدرى من قطعها فلا بأس بأكلها) لانه ليس فيها ما يدل علي سبق يد إليها لتوهم أن يكون فعله بها سمكة أخرى وان أصاب في وسطها أو في موضع منها خيطا مربوطا لم يأكلها ويعرفها لانه علم أن يدا أخرى سبقت إليها فكانت بمنزلة اللقطة فيعرفها. قال (ومن سمع حسا ظن انه حس صيد فرماه أو

[ 21 ] أرسل كلبه فأصاب صيدا فان كان ذلك الحس حس صيد فلا بأس بما أصاب ذلك وان كان حس انسان أو غيره من الاهليات لم يحل له ذلك الصيد) لانه رمى إلى الحس والرمى إلى الاهلي لا يكون اصطيادا وحل الصيد بوجود فعل الاصطياد فاما إذا كان الحس حس صيد فرميه وارساله الكلب كان اصطيادا فيحل تناوله إذا أصاب صيدا مأكولا سواء كان الحس حس صيد مأكول أو غير مأكول وعن زفر رحمه الله قال ان كان الحس حس صيد مأكول لم يحل تناوله وان أصاب صيدا مأكولا لان فعله لم يكن مبيحا ألا ترى أنه لو أصاب ما قصده لم يفد الحل وعن أبى يوسف رحمه الله قال إذا كان الحس حس خنزير لم يحل وان أصاب رميه الصيد بخلاف السباع لان الخنزير من المحترم العين فأما في سائر السباع فان فعله مؤثر في طهارة الجلد فإذا أصاب ما يحل تناوله كان مؤثرا في اباحة اللحم أيضا والصحيح مابينا ان فعل الانسان في كل متوحش اصطياد فأما حل التناول باعتبار صفة في المحل فإذا أصاب فعله في الاصطياد محلا مأكولا قلنا يباح تناوله وان لم يتبين ما كان ذلك الحس لم يحل له أكله لاجتماع المعنى الموجب للحل والمعنى الموجب للحرمة وفي النوادر إذا رمى طيرا فاصاب صيدا وذهب الطير فلم يعرف ان كان أهليا أو وحشيا حل له أن يتناول الصيد لان الطير في الاصل وحشى بخلاف مالو رمى بعيرا فأصاب صيدا وذهب البعير فلم يعرف ان كان أهليا أو متوحشا فأنه لا يحل تناول الصيد لانه مألوف في الاصل والتوحس منه نادر فتمسك بالاصل حتى يظهر خلافه وان سمع حسا فظن أنه إنسان فرماه فأصاب ما رماه وتبين انه كان صيدا يحل تناوله لان حقيقة فعله اصطياد وظنه بخلاف حقيقة فعله لغو. قال (ولو رمى خنزيرا أهليا فأصاب صيدا لم يؤكل) لان الخنزير الاهلي ليس بصيد فهو ومالورمي شاة سواء وكذلك لورمى حربيا مختفيا موثقا فأصاب صيدا لم يأكله لان رميه إلى الحربى ليس باصطياد ولا هو مؤثر في الحل فلهذا لا يحل تناول ما أصابه من الصيد والله سبحانه وتعالى أعلم باب الصيد في الحرم قال رحمه الله تعالى (وإذا خرج الصيد من الحرم إلى الحل فلا بأس باصطياده) لانه صيد الحل كما كان قبل دخوله الحرم وهذا لان المانع من اصطياده كان حرمة الحرم وقد زال بخروجه إلى الحل فهو نظير محرم حل من احرامه وفيه نص وهو قوله تعالى وإذا حللتم

[ 22 ] فاصطادوا. قال (وان رمى رجل صيدا في الحل فأصابه ثم دخل الصيد الحرم فمات منه لم يكن عليه جزاء) لان وجوب الجزاء باعتبار فعل المحظور وفعله كان مباحا وهو الرمى إلى صيد في الحل أو باعتبار حرمة المحل ولم يكن محترما حين ما أصاب السهم الصيد فهو كما لو رمى إلى حربى أو مرتد فأصابه ثم أسلم وفى القياس لا بأس بأكله لان فعله كان مذكيا له ألا ترى أنه لو مات في الحل حل تناوله فكذلك إذا مات بعدما دخل الحرم لانه دخله وهو مذكى وحرمة الحرم انما تظهر في حق الصيد لا في حق المذكى ولكنه استحسن فقال يكره أكله لان حل التناول عند زهوق الروح وهو عند ذلك في الحرم والحكم يضاف إلى الشرط وجودا عنده كما يضاف إلى السبب ثبوتا به فاعتبار هذه الحالة يوجب الحرمة واعتبار حالة الاصابة يبيح فيغلب الموجب للحرمة وبه فارق الجزاء لان الجزاء بالشك لا يجب ولان الجزاء باعتبار الفعل فان الحل صفة في المحل والمحل في الحرم عند ثبوت صفة الحل فيه. قال (وان أصابه في الحرم فمات في الحل فلا خير في أكله) لان الحل باعتبار الاصابة وقد أصابه وهو صيد الحرم وهذه هي المسألة المستثناة من أصلنا ان المعتبر لحالة الرمى فيما يبنى عليه الاحكام دون حالة الاصابة فان في حل التناول يعتبر حالة الاصابة أيضا لان الحل صفة للمحل وانما يثبت في المحل عند الاصابة فلابد من اعتبار تلك الحالة فيه وكذلك ان أصابه في الحل وقد رماه من الحرم لان الرمى من الحرم قيل محظور قال الله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم قيل معناه وأنتم في الحرم لانه يقال أحرم إذا دخل في الحرم كما يقال أشأم إذا دخل الشام والموجب للحل الذكاة لا القتل المحظور والدليل عليه وجوب الجزاء على الرامى فهو من هذا الوجه بمنزلة محرم يقتل صيدا وكذلك ان رماه من الحل في الحرم لان الصيد إذا كان في الحرم فهو ممنوع من الرمى إليه وان كان في الحل فيكون فعله فعلا محظورا ألا ترى ان عليه قيمة الجزاء ولو كان الرامى في الحل والصيد في الحل فمر السهم في الحرم حتى أصاب الصيد فلا بأس بأكله وان تعمد ذلك لان الرمى مباح له فكان فعله ذكاة شرعا وهذا لان الحرمة باعتبار معنى في الحل وفى الرامى ولم يوجد ذلك لان اصل السبب فعل الرامى وثبوت الحكم عند الاصابة وما بين ذلك غير معتبر أصلا في اضافة الحكم إليه. قال (فان رمى نصراني من الحرم صيدا في الحل فمات فلا خير في أكله) لان النصراني في حكم الذكاة لا يكون أعلى من المسلم فإذا كان هذا الفعل من المسلم لا يبيح الصيد فكذلك من النصراني

[ 23 ] كما لو ترك التسمية عمدا (فان قيل) المنع من الرمى صوب الحرم حق الشرع والنصراني لا يخاطب بذلك ولهذا لا يلزمه الجزاء (قلنا) حرمة الحرم تظهر في حق الكافر كما تظهر في حق المسلم ولهذا لا يقتل الحربى والمرتد في الحرم ثم النصراني في حكم الذكاة تبع للمسلم والتبع يلحق بالاصل في حكمه وان لم يشاركه في علته * وكذلك لو ذبح نصراني أو صبي صيدا في الحرم لم يؤكل لانهما في حكم الذكاة تبع للمسلم البالغ فإذا لم يكن هذا الفعل من المسلم البالغ واجبا للحل فكذلك من النصراني والصبي. قال (ولو ان رجلا أخرج صيدا من الحرم فذبحه في الحل فعليه جزاؤه) لانه كان في الحرم آمنا صيدا وقد زال ذلك بأخذه واخراجه وكان مطالبا شرعا باعادته إلى مأمنه وإرساله فيه وقد فوت ذلك بذبحه فعليه الجزاء والتنزه عن أكله أفضل بخلاف ما إذا ذبحه في الحرم فان ذلك حرام تناوله لانه حين ذبحه كان صيد الحرم ففعله فيه يكون قتلا ولا يكون ذكاة وهنا حين ذبحه كان صيد الحل فيكون فعله فيه ذكاة وباعتبار هذا الفعل لا يلزمه الجزاء وإنما يلزمه بالاخذ السابق فلهذا لا يحرم تناوله إلا أن التنزه عنه أفضل لان تقرر الجزاء عليه بفعل الذبح وان كان الوجوب سبب الاخذ فباعتبار هذا المعنى يمكن شبهة فيه ولانا لو أطلقنا له حق التناول تطرق الناس إلى ذلك فيخرجون الصيد من الحرم ويذبحونه في الحل وفي ذلك تعليل صيد الحرم فللمنع من هذا قلنا التنزه عن أكله أفضل. وكذلك ان كان صاده أولا في الحل ثم أدخله الحرم ثم أخرجه إلى الحل لانه حين أدخله الحرم فقد صار صيد الحرم فهو والمأخوذ في الحرم سواء بدليل وجوب الجزاء عليه وهذا عندنا فأما عند الشافعي رحمه الله تعالي حرمة الحرم لا تظهر في حق صيد مملوك فإذا ملكه بالاخذ في الحل ثم أدخله الحرم لم يثبت له حرمة الحرم وعندنا حرمة الحرم في حق الصيد كحرمة الاحرام فكما يحرم عليه بالاحرام امساك الصيد المملوك ويلزمه إرساله فكذلك يحرم بسبب الحرم إمساكه وقد بينا هذا في المناسك * وكذلك حلال أحرم وفى يده صيد ثم حل ثم ذبحه فهذا والاول سواء لانه لما أحرم فقد وجب عليه إرساله وحين ذبحه تقرر عليه جزاؤه وان كان بعد الحل فلهذا كره أكله. قال (محرم صاد صيدا فدفعه الي حلال فذبحه فهو والاول سواء) لانه بما صنع مفوت ما لزمه من الارسال ومقرر للجزاء على نفسه فهو كما لوذبحه بنفسه بعد ماحل من إحرامه ولو ذبحه بنفسه بعد ماحل من احرامه وهو محرم أو في الحرم كان ذلك أشد من هذا حالا فان ذلك بمنزلة الميتة وهذا مكروه

[ 24 ] التناول لان الحل باعتبار فعل الذكاة وفعل المحرم أو الذى في الحرم محظور فلا يكون ذكاة شرعا فاما المدفوع إليه حلال فعل في حق نفسه ذكاة ولكن باعتبار أنه مفوت للارسال و مقرر للجزاء على الآخذ يلحقه نوع خطر وذلك ليس لمعنى في نفس الفعل فلا يثبت به الحرمة مطلقا وانما تثبت الكراهة. قال (وان أرسله المحرم فذبحه حلال فلا بأس به) لان المحرم أتى بما هو المستحق عليه فيخرج به من عهدة أخذه وذبح الحلال إياه كذبح صيد آخر في الحكم. قال (ولو أن حلالا أخرج صيدا من الحرم إلى الحل فأرسله فصاده حلال فذبحه فلا باس بأكله) لانه صيد الحل فانه بالارسال قد خرج من يد الذى أخرجه من الحرم فهو والذى خرج بنفسه من الحرم سواء في حل التناول ولكن علي الذى أخرجه الجزاء لان المستحق عليه شرعا اعادته إلى مأمنه فانه بالاخراج من الحرم ازال الا من عنه فإذا تلف قبل العود إلى مأمنه تقرر الجزاء عليه لانعدام ما ينسخ فعله بخلاف الاول فان على المحرم رفع اليد عنه بالارسال فينفسخ حكم فعله بمجرد إرساله ووزان هذا من ذاك مالو عاد الصيد إلى الحرم بعد ما أرسله ثم أصابه وكذلك لو كان الذى أخرجه من الحرم هو الذى صاده بعد ما أرسله فذبحه لم يكن بأكله بأس لانه حلال ذبح صيد في الحل فهو وغيره في الحالين سواء قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله هو وغيره سواء في ذلك الا أن عليه الجزاء وأبو حنيفة رحمه الله في هذا لا يخالفهما والمعنى فيه ان الحل باعتبار الفعل الثاني ووجوب الجزاء عليه باعتبار فعله الاول وهو اخراجه من الحرم ولم يبق ذلك الاخراج بعد ما أرسله فلهذا لا تثبت الحرمة ولكن بقاء الفعل غير معتبر في بقاء ما وجب به من الجزاء بخلاف مااذا ذبحه في الحل قبل ان يرسله ودفعه إلى غيره فذبحه لان تلك اليد باقية حقيقة وحكما وانما تمكن من الذبح باعتبارها فلهذا كره أكلها. قال (محرم أصاب صيدا فادخله منزله في الحل فجاء بعض أهله فذبحه فلا بأس بأكله) وأضاف الجواب إلى أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لانه لم يحفظ جواب أبى حنيفة رحمه الله لان جوابه يخالف جوابهما وهذا لان الذابح حلال وقد ذبحه في الحل ولو أرسله المحرم في غير منزله فذبحه حلال حل تناوله فكذلك إذا أرسله في منزله الا أن على المحرم الجزاء لانه ما نسخ حكم فعله بارساله اياه من منزله فان معنى الصيدية من حيث التنفير والاستيحاش لمن بعد إليه كما كان قبل أخذه فلهذا كان عليه الجزاء بخلاف مالو أرسل جارحا من منزله. قال ولا يعجبنا هذا الفعل لان فعل بعض أهله في الذبح كفعله من وجه فانه ينفق

[ 25 ] عليهم ليفعلوا له مثل هذه الافعال فمن هذا الوجه الذابح كالمأمور من جهته فلهذا قال لا يعجبنا هذا الفعل وكذلك ان أرسله في منزله فخرج من منزله فتبعه بعض أهله وذبحه ولم يأمره بذلك فهذا والاول سواء ولا أكره أكله وفى رواية أبى حفص قال وأكره أكله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لا بأس بأكله * والحاصل أنه لم يتم ارساله بعد في حق نسخ الفعل لان الذى تبعه انما يتمكن من أخذه باعتبار الفعل الموجود من المحرم فكان عليه الجزاء لذلك الا ان في اباحة التناول هما يقولان لو أرسله خارجا من منزله حل تناوله إذا ذبحه انسان بعد ذلك فكذلك إذا أرسله في منزله فخرج هكذا وجه رواية ابى سليمان حيث قال ولا أكره أكله ووجه رواية أبى حفص وهو انه لما أرسله بمرأى العين من بعض أهله فقد طلب منه دلالة أن يتبعه فيأخذه ولو أمره بذلك نصا كان تناوله مكروها فكذلك إذا كان طالبا لذلك الفعل دلالة. قال (وان انفلت من المحرم في جوف المصر أو أرسله فأخذه إنسان فذبحه فهذا كانه في يده حتى يرسله) لان بالارسال في جوف المصر لم يعد إليه التنفير والاستيحاش علي الوجه الذى كان قبل أخذه فلا ينسخ به حكم فعله وهذا لان مافى جوف المصر يمكن أخذه بغير اصطياده عادة ولهذا قلنا لو ندت شاة في المصر لم تحل بالرمي. قال (وإذا انفلت منه في الصحراء لا يقدر على أخذه الا بصيد فرماه حلال فلا بأس به كما لو أرسله في الصحراء) وهذا لان حكم فعله قد انتسخ حين عاد صيدا متوحشا كما كان فكأنه لم يأخذه قط. قال (حلال ارسل كلبه على صيد في الحل فتبعه الكلب حتى أدخله الحرم فقتله فيه كرهت له أكله) لما بينا ان الحل يثبت عند الاصابة وعند ذلك هو صيد الحرم وان كان أصل الارسال في الحل فكذلك إذا أدركه صاحبه حيا فأخذه وأخرجه إلى الحل وذبحه لانه حين أخذه من فم الكلب فهو صيد الحرم وقد بطل حكم ذلك الارسال حين وقع في يده حيا (فجواب) هذا الفصل كجواب مالو أخرج صيدا من الحرم وذبحه في الحل. وان أرسل كلبه من الحرم على صيد في الحل كرهت له أكله وعليه الجزاء لان ارساله الكلب على الصيد اصطياد ومن هو داخل الحرم ممنوع من الاصطياد فارسال الكلب عليه والرمى إليه سواء كما بينا. قال (وان أرسله في الحل على صيد في الحرم فتبعه حتى أخرجه إلى الحل ثم أخذه وقتله كرهته أيضا) لانه أرسله عليه صيد الحرم وذلك فعل محظور فهو كما لو رمى الصيد في الحرم فخرج من الحرم قبل الاصابة. قال (وان أخذه من الكلب حيا في الحل فذبحه كرهت له هذا الصنع ولا

[ 26 ] بأس بأكله في القياس) لانه حين أخذه حيا فقد بطل حكم إرسال الكلب حتى لا يحل الا بذكاة الاختيار فانما بقى المعتبر أخذه وذبحه وقد حصل في صيد الحل فلا بأس بأكله وانما كره له هذا الصنع لتمكنه من أخذه بذلك الارسال السابق وقد كان حراما بكون الصيد في الحرم عند ذلك. قال (ظبي بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم رماه حلال في الحرم فقتله فانه يكره أكله لوجوب الجزاء عليه) وهذا لان قوام الصيد بقوائمه واعتبار مافى الحرم من قوائمه يجعله صيد الحرم وهذا الجانب يترجح لانه جانب الحظر وجانب الحرمة لحق الشرع وان كانت قوائمه في الحل ورأسه في الحرم فلا بأس بأكله لانه صيد الحل فان قوام الصيد بقوائمه. وقيل هذا إذا كان قائما فان كان نائما فهذا والاول سواء لان استمساكه على الارض في حال نومه باعتبار جميع بدنه فإذا كان جانب منه في الحرم فهو صيد الحرم وقد بينا في المناسك في الشجرة ان المعتبر موضع أصلها لا موضع أغصانها وفي الصيد الواقع على بعض اغصانها يعتبر موضع ذلك الغصن لان قوام الصيد ليس بغصن الشجرة قال الله تعالى ما يمسكهن الا الله فأما قوام عصن الشجرة فبأصلها ففى حق ضمان المحصن يعتبر موضع أصل الشجرة وفى حتى ضمان الصيد يعتبر الموضع الذى فيه الصيد فان كان في هواء الحرم فهذا الصيد صيد الحرم. قال (وان اشترك الحلال والمحرم في رمى الصيد لم يحل أكله) لان اعتبار فعل المحرم محرم والموجب للحرمة يغلب على الموجب للحل كما لو اشترك مسلم ومجوسى في قتل الصيد. قال (رجل أرسل بازيا على صيد في الحرم فتبعه حتى أخرجه إلى الحل فقتله كرهت أكله) لان أصل السبب إرسال البازى وقد كان محظورا فان أرسله على صيد في الحرم فاعتباره يثبت الكراهة. قال (حلال أخرج ظبية من الحرم فولدت أولادا ثم ذبحها وأولادها فليس أكلها وأكل أولادها بحرام) لان الحل بالذبح وقد حصل من حلال في صيد في الحل. ولكن لا يعجبني هذا الفعل لانه لو أذن في ذلك تطرق الناس إليه ولانه تمكن من الذبح بالاخذ السابق وقد كان ذلك الاخذ حراما عليه وعليه الجزاء فيها وفى أولادها لان الارسال والاعادة إلى الماء من مستحق عليه فيها وفى أولادها فإذا فوت ذلك بالذبح كان عليه الجزاء ولانه انما يضمن جزاء الام لاتلاقه معنى الصيدية فيها باثبات اليد عليها وهذا المعنى موجود في ولدها وكذلك ان أدى عنها ثم ذبحها فهذا والاول سواء لانه مطالب بارسالها واعادتها

[ 27 ] إلى الماء من بعد أداء الجزاء فان البدل انما يظهر حكمه عند فوات الاصل فأما مع القدرة على الاصل فلا معتبر بالبدل وما ولدت في يده بعد اداء الجزاء فليس عليه في ذلك الولد جزاء لانه لو ماتت هي في يده بعد أداء الجزاء لم يلزمه شئ آخر فعرفنا انه ليس في عينها حق مستحق بعد أداء الجزاء ليسرى إلى الولد بخلاف ما قبل أداء الجزاء (فان قيل) فأين ذهب قولكم انه لا معتبر بالبدل حال قيام الاصل وانه مطالب باعادتها إلى الماء من بعد أداء الجزاء (قلنا) نعم لا معتبر بالبدل حال قيام البدل ولكن لا يجمع الاصل والبدل فيبقى بعد أداء الجزاء الحق مترددا بين الارسال الذى هو الاصل وبين المؤدى من الجزاء ولهذا لو باعه بعد بيعه يظهر ذلك عند فوات الاصل وباعتبار جانب المؤدى من الجزاء لا يظهر في الولد الحادث بعد ذلك استحقاق شئ فلهذا لا يلزمه الجزاء فيه ولانه يتملك ذلك الصيد بما أدى من الجزاء ولهذا لو باعه نفذ بيعه فالولد انما يتولد بعد ذلك من ملكه فلهذا لا يلزمه الجزاء فيه * وكذلك لو كان محرما صاد ظبية ثم حل من احرامه وهى في يده فحالها وحال أولادها كما بينا في الفصل الاول من الفرق بين ما قبل أداء الجزاء أو بعد أداء الجزاء فان ما قررناه من المعنى يشتمل على الفصلين جميعا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (كتاب الوقف) قال الشيخ الامام الزاهد الاجل شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسي رحمه الله املاء: اعلم بان الوقف لغة الحبس والمنع وفيه لغتان أوقف يوقف ايقافا ووقف يقف وقفا قال الله تعالي وقفوهم انهم مسؤلون. وفى الشريعة عبارة عن حبس المملوك عن التمليك من الغير وظن بعض أصحابنا رحمهم الله انه غير جائز علي قول أبى حنيفة واليه يشير في ظاهر الرواية. فنقول أما أبو حنيفة رضى الله تعالى عنه فكان لا يجيز ذلك ومراده أن لا يجعله لازما فأما أصل الجواز ثابت عنده لانه يجعل الواقف حابسا للعين على ملكه صارفا للمنفعة إلى الجهة التى سماها فيكون بمنزلة العارية والعارية جائزة غير لازمة ولهذا قال لو أوصي به بعد موته يكون لازما بمنزلة الوصية بالمنفعة بعد الموت وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى ان عنده لو نفذه في مرضه فهو كالمضاف بالمنفعة إلى ما بعد الموت لان تصرف المريض مرض الموت في الحكم كالمضاف إلى ما بعد الموت حتى يعتبر من ثلثه وخصوصا فيما لا

[ 28 ] يكون تمليكا كالعتق كانه يجعله موقوفا على ما يظهر عند موته والصحيح أن ما باشره في المرض بمنزلة مالو باشره في الصحة في انه لا يتعلق به اللزوم ولا يمتنع الارث بمنزلة العارية الا أن يقول في حياتي وبعد موتى فحينئذ يلزم إذا كان مؤبدا وصار الابد فيه كعمر الموصى له بالخدمة في لزوم الوصية بعد الموت فأما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله قالا الوقف يزيل ملكه وانما يحبس العين عن الدخول في ملك غيره وليس من ضرورة ذلك امتناع زوال ملكه فلزوال الملك في حقه يلزم حتى لا يورث عنه بعد وفاته لان الوارث يخلف المورث في ملكه وكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا يقول بقول أبى حنيفة رحمه الله ولكنه لما حج مع الرشيد رحمه الله فرأى وقوف الصحابة رضوان الله عليهم بالمدينة ونواحيها رجع فافتى بلزوم الوقف فقد رجع عند ذلك عن ثلاث مسائل (احداها) هذه (والثانية) تقدير الصاع بثمانية أرطال (والثالثة) أذان الفجر قبل طلوع الفجر. وحجتهم في ذلك الآثار المشهورة عن رسول الله وعن الصحابة رضوان الله عليهم أجميعن منهم عمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وعائشة وحفصة رضى الله تعالى عنهم فانهم باشروا الوقف وهو باق إلى يومنا هذا وكذلك وقف إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه باق إلى يومنا هذا وقد أمرنا باتباعه قال الله تعالى واتبعوا ملة إبراهيم حنيفا والناس تعاملوا به من لدن رسول الله إلى يومنا هذا يعنى اتخاذ الرباطات والخانات وتعامل الناس من غير نكير حجة وقد استبعد محمد رحمه الله قول أبى حنيفة في الكتاب لهذا وسماه تحكما علي الناس من غير حجة فقال ما أخذ الناس بقول أبى حنيفة وأصحابه الا بتركهم التحكم على الناس فإذا كانوا هم الذين يتحكمون على الناس بغير أثر ولا قياس لم يقلدوا هذه الاشياء ولو جاز التقليد كان من مضي من قبل أبى حنيفة مثل الحسن البصري وابراهيم النخعي رحمهما الله أحرى أن يقلدوا ولم يحمد على ما قال. وقيل بسبب ذلك انقطع خاطره فلم يتمكن من تفريغ مسائل الوقف حتى خاض في الصكوك واستكثر أصحابه من بعده من تفريغ مسائل الوقف كالخصاف وهلال رحمهما الله ولو كان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه في الاحياء حين قال ما قال لدمر عليه فانه كما قال مالك رضى الله تعالى عنه رأيت رجلا لو قال هذه الاسطوانة من ذهب لدل عليه ولكن كل مجرى بالجلاء يسر * ثم استدل بالمسجد فقال اتخاذ المسجد يلزم بالاتفاق وهو اخراج لتلك البقعة عن ملكه من غير أن يدخل في ملك أحد ولكنها تصير محبوسة بنوع قربة قصدها فكذلك

[ 29 ] في الوقف وبهذا تبين أنه ليس من ضرورة الحبس عن الدخول في ملك الغير امتناع خروجه عن ملكه * ثم للناس حاجة إلى ما يرجع الي مصالح معاشهم ومعادهم فإذا جاز هذا النوع من الاخراج والحبس لمصلحة المعاد فكذلك لمصلحة المعاش كبناء الخانات والرباطات واتخاذ المقابر ولو جاز الفرق بين هذا الاشياء لكان الاولي أن يقال لا يلزم المسجد وتلزم المقبرة حتى لا يورث لما في النبش من الاضرار والاستبعاد عند الناس أو كان ينبغى أن يلتزم الوقف دون المسجد لان في الوقف وان انعدم التمليك في عينه فلذلك يوجد فيما هو المقصود به وهو التصدق بالغلة وذلك لا يوجد في المسجد فكان هذا الفرق أبعد عن التحكم مما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله هذا معنى ما احتج به محمد رحمه الله وقد طوله في الكتاب * ويستدلون بالعتق أيضا ففيه ازالة الملك الثابت في العبد من غير تمليك وصح ذلك على قصد التقرب فكذلك في الوقف وحجة أبى حنيفة قول رسول الله يقول ابن ادم مالى مالى وهل لك من مالك الا أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فامضيت وما سوى ذلك فهو مال الوارث فبين النبي عليه الصلاة والسلام ان الارث انما ينعدم في الصدقة التى أمضاها وذلك لا يكون الا بعد التمليك من غيره (وسئل) الشعبى عن الحبس فقال جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيع الحبس فهذا بيان أن لزوم الوقف كان في شريعة من قبلنا وان شريعتنا ناسخة لذلك وقال ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم لاحبس عن فرائض الله تعالى ولكنهم يحملون هذا الاثر علي ماكان أهل الجاهلية يصنعونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ويقولون الشرع أبطل ذلك كله ولكنا نقول النكرة في موضع النفى تعم فيتناول كل طريق يكون فيه حبس عن الميراث الا ما قام عليه دليل (واستدل) بعض مشايخنا رحمهم الله بقوله عليه الصلاة والسلام إنا معاشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة فقالوا معناه ما تركنا صدقة لا يورث ذلك عنا وليس المراد أن أموال الانبياء عليهم الصلاة والسلام لا تورث وقد قال الله تعالى وورث سليمان داود وقال تعالى فهب لى من لدنك وليا يرثنى ويرث من آل يعقوب فحاشا ان يتكلم رسول الله بخلاف المنزل فعلى هذا التأويل في الحديث بيان أن لزوم القوف من الانبياء عليهم الصلاة والسلام خاصة بناء على أن الوعد منهم كالعهد من غيرهم. ولكن في هذا الكلام نظر فقد استدل أبو بكر رضى الله عنه على فاطمة رضى الله عنها حين ادعت فدك بهذا الحديث على ماروى انها ادعت ان رسول الله

[ 30 ] وهب فدك لها وأقامت رجلا وامرأة فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه ضمى إلى الرجل رجلا أوالي المرأة امرأة فلما لم تجد ذلك جعلت تقول من يرثك فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه أولادي فقالت فاطمة رضي الله تعالى عنها أيرثك أولادك ولا أرث أنا من رسول الله فقال أبو بكر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول انا معشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة فعرفنا أن المراد بيان ان ما تركه يكون صدقة ولا يكون ميراثا عنه. وقد وقعت الفتنة بين الناس بسبب ذلك فترك الاشتغال به أسلم والمعنى فيه ان العين الموقوفة فيه كانت مملوكة قبل الوقف وبقيت بعده مملوكة والمملوك بغير مالك لا يكون فمن ضرروة بقلئها مملوكة أن يكون هو المالك أو غيره ولم تصر مملوكة لغيره فكانت باقية على ملكه والوارث يخلف المورث في ملكه. وبيان قولنا انها بقيت مملوكة انه ينتفع بها على وجه الانتفاع بالمملوكات من حيث السكنى والزراعة وسائر وجوه الانتفاعات ولانها خلقت مملوكة في الاصل وقد تقرر ذلك بتمام الاحراز فلا يتصور اخراجها عن ان تكون مملوكة الا أن يجعلها لله تعالي خالصا وبالوقف لا يتحقق ذلك. وفى هذه التسمية ما يدل علي انها مملوكة محبوسة وبه فارق العتق فالآدمي خلق في الاصل ليكون مالكا فصفة المملوكية فيه عارض محتمل للرفع وإذا رفع كان مالكا كما كان. ومن ضرورة اثبات قوة المالكية انعدام المملوكية وبخلاف المسجد فان تلك البقعة تخرج من ان تكون مملوكة وتصير لله تعالى ألا ترى انه لا ينتفع بها بشئ من منافع الملك وان كانت تصلح لذلك وقد وجدنا لهذا الطريق أصلا في الشرع وهو الكعبة فتلك البقعة لله تعالى خالصة متحرزة عن ملك العباد فألحقنا سائر المساجد بها ولم نجد مثل ذلك في الوقف بل الوقف بمنزلة تسبيب أهل الجاهلية من حيث انه لا تخرج به العين من أن تكون مملوكة منتفعا بها ولو سبب دابته لم تخرج من ملكه فكذلك إذا وقف أرضه أو داره وإذا بقيت مملوكة له لا يمتنع الارث فيها الا باعتبار حق يستثنيه لنفسه بعد وفاته وذلك فيما إذا أضاف الوقف إلى ما بعد الموت فانه تبقى العين على حكم ملكه لشغله إياه بحاجته والناس لم يأخذوا قول أبى حنيفة في المسألة الا باشتهار الآثار فأما من حيث المعنى كلامه قوى وهو يحمل الآثار على الوقف المضاف إلى ما بعد الموت أو المنفعة في الحياة وبعد الموت، قال رحمه الله تعالى قد تم الكتاب على قول أبى حنيفة رضى الله تعالى عنه وانما البيان بعد هذا على قولهما * ثم بدأ الكتاب بحديث رواه

[ 31 ] عن صخر بن جويرة عن نافع أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كانت له أرض تدعى ثمغا وكان نخلا نفيسا فقال عمر رضى الله تعالى عنه يارسول الله انى استفدت مالا وهو عندي نفيس أفأتصدق به فقال صلوات الله وسلامه عليه تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن لينفق من ثمره. فتصدق به عمر رضى الله عنه في سبيل الله تعالي وفى الرقاب والضيف والمساكين واين السبيل ولذي القربى منه ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف أو يؤكل صديقا له غير متمول منه. وهذه الارض سهم عمر رضى الله عنه بخيبر حين قسم رسول الله خيبر بين أصحابه رضى الله عنهم وثمغ لقب لها. وقد كانت لاملاكهم ألقاب حتى كان لرسول الله ناقة يقال لها العضباء وبغلة يقال لها دلدل وفرس يقال له السكب وحمار يقال له يعفور وعمامة تسمى السحابة * ثم في هذا دليل أن من قصد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فينبغي أن يختار لذلك أنفس أمواله واطيبها قال الله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وقال الله سبحانه وتعالى ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون فلهذا اختار عمر رضى الله عنه أنفس أمواله وأطيبها لما أراد التصدق. وفيه دليل على ان من أراد التقرب إلى الله تعالى فالاولي ان يقدم السؤال عن ذلك وان الربا لايدخل في هذا السؤال بخلاف ما يقوله جهال المتقشفة. ثم أمر رسول الله بالوقف بقوله تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث فهو من حجة من يقول بلزوم الوقف وقد روى عن علي رضي الله عنه انه وقف كما فعله عمر رضى الله عنه ولكن لم يسثن للوالى شيئا وفيه دليل على ان كل ذلك واسع ان استثنى للوالى ان يأكل بالمعروف كما فعله عمر رضى الله عنه وهو صواب وان لم يستثن ذلك كما فعله علي رضي الله عنه فهو صواب أيضا وللوالي ان يأكل منه بالمعروف مقدار حاجته كما ان للامام فعل ذلك في بيت المال ولوصى اليتيم ذلك في مال اليتيم إذا عمل له قال الله تعالي ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ولكن لا يكون له أن يؤكل غيره ممن ليس في عياله الا إذا شرط الواقف ذلك كما فعله عمر رضى الله عنه أو يؤكل صديقا له (وقوله) غير متمول منه يعنى يكتفى بما يأكل ولا يكتسب به المال بالبيع لنفسه وهو نظير الغازى في طعام الغنيمة يباح له أن يتناول بقدر حاجته ولا يتمول ذلك بالبيع والاقراض من غيره وفيه دليل محمد رحمه الله ان الوقف لايتم الا بالتسليم إلى المتولي. وفى قوله لا جناح على من وليه إشارة إلى ذلك وقد روى انه جعل وقفه في يد ابنته حفصة رضى الله تعالى عنهما قال محمد رحمه الله ولهذا يأخذ إذا (3 ثانى عشر مبسوط)

[ 32 ] تصدق بها في حياته في صحته كان ذلك من جيمع ماله وإذا تصدق به في مرضه كان ذلك من ثلثة لانه ازالة الملك بطريق التبرع. ثم لا خلاف أنه لو قال تصدقت بأرضى هذه على الفقراء والمساكين انه لا يكون وقفا بل يكون ذلك نذرا بالصدقة إذا قصد به الالزام فان عين انسانا فهو تصدق عليه بطريق التمليك ولا يتم الا بالتسليم ولو قال وقفت أرضى هذه أو حبستها أو حرمتها أو هي موقوفة أو محبوسة أو محرمة فهذا باطل بالاتفاق لان كلامه يحتمل فعل مراده وقفتها على ملكى لتكون مصروفة في حاجتى أو على قضاء ديونى فان قال لانسان بعينه وقفتها لك أو حبستها لك أو قال هي لك وقف أو حبس فهو باطل أيضا الا على قول أبى يوسف فانه يقول يكون تمليكا منه يتم بالتسليم إليه بقوله لك. وقول وقف أو حبس باطل. ووجه ظاهر الرواية أن قوله وقف أو حبس تفسير لقوله لك فيمنع ذلك تمليك الغير منه والكلام المبهم إذا اقترن به تفسير كان الحكم لذلك التفسير كقوله دارى لك سكنى تكون عارية فان قال هي صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين أخرجها من يده إلى يد قيم يقوم بها وينفق عليها في مرمتها واصلاح مجاريها ويزرعها ويرفع من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها ويقسم الباقي بعد ذلك في كل سنة على الفقراء والمساكين فهذه صدقة جائزة وليس له أن يرجع فيها لاستجماع شرائط الوقف على قول من يقول بلزوم الوقف من القسمة والتسليم واخراج الاصل عن ملكه والتأييد في جهة صرف الغلة ما بقيت الدنيا وانما يبدأ من غلتها بمرمتها واصلاح مجاريها لانها لا تبقى منتفعا بها الا بعد ذلك ومقصود الواقف أن تكون الصدقة جارية له إلى يوم القيامة كما قال عليه الصلاة والسلام كل عمل ابن آدم ينقطع بموته الا ثلاثة علم علمه الناس فهم يعملون به بعد موته وولد صالح يدعو له وصدقة جارية له الي يوم القيامة وفى بعض الروايات قال الا سبعا وذكر من جملة ذلك نهرا أكراه وخانا بناه ومصحفا سبله وانما يرفع من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها لانه لا يتمكن من الزراعة الا بذلك ولان الغلة لا تطيب من الاراضي الخراجية الا بأداء الخراج وانما قصد الواقف أن يكون التصدق عنه باطيب المال وذلك عند أداء النوائب فلهذا يرفع الوالى من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها ويقسم الباقي بعد ذلك في كل سنة وليس هذا بتوقيت لازم ولكن يقسم عند حصول الغلة ومن الاراضي ما يغل في السنة مرتين ومنها ما يغل في السنه مرة فكما حصلت الغلة ينبغى له أن يقسم ما يحصل من النوائب في الفقراء والمساكين ولا يؤخر لما في التأخير من الآفات وفى

[ 33 ] التعجيل من القربة تحصيل مقصود الواقف ولذلك إذا جعل أرضا له مقبرة للمسلمين ويأذن لهم أن يقبروا فيها فيفعلون فليس له بعد ما يخلي بين المسلمين وبينها ويقبروا فيها إنسانا واحدا أو أكثر يرجع فيها لان التسليم على قول من يشترط التسليم يتم بهذا فان ما هو المقصود قد حصل إذا قبروا فيها انسانا واحدا وكذلك إذا جعلها خانا للمسلمين وخلى بينهم وبينها فدخلها باذنه رجل واحد أو أكثر فلا سبيل له بعد ذلك عليها لان التسليم يتم بهذا وهذا لانه لا يتحقق القبض من جميع المسلمين ففعل الواحد منهم كفعل الجماعة للمساواة بين الكل فيما يثبت به من الحق وهو نظير ما جعل الشرع أمان الواحد من المسلمين كأمان الجماعة * ثم النزول في الخان والدفن في المقبرة من مصالح الناس قال الله تعالى ألم نجعل الارض كفاتا أحياء وأمواتا وجواز الوقف لمعنى المصلحة فيه للناس من حيث المعاش والمعاد وكذلك الرجل يكون له الدار بمكة فيجعلها سكنى للحاج والمعتمرين ويدفعها إلى ولى يقوم عليها ويسكن فيها من زار فليس له بعد ذلك أن يرجع فيها وان مات لم تكن ميراثا وان لم يسكنها أحد لانه حين سلمها إلى ولى يقوم عليها فقد أخرجها من ملكه ويده * والتسليم على قول من يشترط يكون بأحد الطريقين إما باثبات يد القيم عليها أو بأن يحصل المقصود بسكنى بعض الناس فيها باذنه. وكذلك ان جعل دارا له في غير مكة سكنى للمساكين ودفعها إلى ولى يقوم بذلك. وكذلك ان جعلها سكنى للغزاة والمرابطين في ثغر من الثغور أو جعل غلة أرضه للغزاة في سبيل الله تعالى ودفع ذلك إلى ولى يقوم به فهو جائز ولا سبيل له إلى رده لانه قصد التقرب بما صنع فأما السكنى فلا بأس بأن يسكنها الغنى والفقير من الغزاة والمرابطين والحاج. وكذلك نزول الخان والدفن في المقبرة فأما الغلة التى جعلت للغزاة فلا يعجبنى أن يأخذ منها إلا محتاج إليها لان الغلة مال يملك والتقرب إلى الله تعالى بتمليك المال يكون من المحتاج خاصة دون الغنى بخلاف السكنى * وحقيقة المعنى في الفرق أن الغنى مستغن عن مال الصدقة بمال نفسه وهو لا يستغنى بماله عن الخان لينزل فيه وعن الدفن في المقبرة فلا يمكنه أن يتخذ ذلك في كل منزل وربما لا يجد ما يستأجره فلهذا يستوي فيه الغنى والفقير وهو نظير ماء السقاية والحوض والبئر فانه يستوى فيه الغنى والفقير لهذا المعنى وهذا لان الماء ليس بمال قبل الاحراز والناس يتوسعون فيه عادة ولا يخصون به الفقراء دون الاغنياء بخلاف المتصدق بالمال * ثم الواقف وان أطلق

[ 34 ] الغزاة في سبيل الله فمراده التقرب وذلك بصرف المال إلى المحتاجين منهم وفي اللفظ ما يدل عليه شرعا قال الله تعالى من أصناف الصدقات وفي سبيل الله * ثم يصرف الصدقة إلى الفقراء من الغزاة دون الاغنياء * والحاصل انه متى ذكر مصرفا فيه تنصيص علي الفقر والحاجة فهو صحيح سواء كانوا يحصون أو لا يحصون لان المطلوب وجه الله تعالى ومتى ذكر مصرفا يستوى فيه الاغنياء والفقراء فان كانوا يحصون فذلك صحيح لهم باعتبار اعيانهم وان كانوا لا يحصون فهو باطل الا أن يكون في لفظه ما يدل على الحاجة استعمالا بين الناس لا باعتبار حقيقة اللفظ كاليتامى فحينئذ ان كانوا يحصون فالفقراء والاغنياء فيه سواء وان كانوا لا يحصون فالوقف صحيح وتصرف إلى فقرائهم دون أغنيائهم لان الاستعمال بمنزلة الحقيقة في جواز تصحيح الكلام باعتباره وتمام بيان هذه الفصول في كتاب الوصايا. قال (وان جعل أرضا له مسجدا لعامة المسلمين وبناها وأذن للناس بالصلاة فيها وأبانها من ملكه فأذن فيه المؤذن وصلى الناس جماعة صلاة واحدة أو أكثر لم يكن له أن يرجع فيه وان مات لم يكن ميراثا) لانه حرزها عن ملكه وجعلها خالصة لله تعالى قال الله تعالى وأن المساجد لله وقال عليه الصلاة والسلام من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله تعالى له بيتا في الجنة ولا رجوع له فيما جعله لله تعالي خالصا كالصدقة التى أمضاها. ثم عند أبى يوسف يصير مسجدا إذا أبانه عن ملكه وأذن للناس بالصلاة فيه وان لم يصل فيه أحدكما في الوقف على مذهبه ان الوقف يتم بفعل الواقف من غير تسليم إلى المتولي وعند محمد لا يصير مسجدا ما لم يصل الناس فيه بالحماعة. بنى على مذهبه ان الوقف لايتم الا بالتسليم إلى المتولي وعن أبى حنيفة فيه روايتان في رواية الحسن عنه يشترط اقامة الصلاة فيه بالجماعة وفي رواية غيره عنه قال إذا صلى فيه واحد يصير مسجدا وان لم يصل بالجماعة. وجه رواية الحسن أن تمام التبرع بحصول المقصود به بدليل الصدقة فالمقصود بها اغناء المحتاج ثم لايتم ما لم يحصل هذا المقصود بالتسليم إليه فهنا المقصود من المساجد إقامة الصلاة فيها بالجماعة لان جميع وجه الارض موضع الصلاة وانما تبنى المساجد لاقامة الصلاة فيها بالجماعة فلا تصير مسجدا قبل حصول هذا المقصود. وجه الرواية الاخرى أن المقصود أن المسجد موضع السجود وقد حصل ذلك بالصلاة فيه منفردا كان أو بجماعة وقد بينا ان الواحد من المسلمين ينوب عن جماعتهم فيما هو حقهم فتجعل صلاة الواحد فيه كصلاة الجماعة * وقد بينا نظيره في نزول الخان والدفن في المقبرة

[ 35 ] (وروى) عن معاذ بن جبل وابن عباس وشريح والحسن والشعبى رضى الله عنهم قالوا لا تجوز الصدقة حتى يقبض وبه نأخذ فنقول ان الصدقة لا تتم الا بالقبض بخلاف ما يقوله مالك رحمه الله تعالى وهذا لان المتصدق يجعل ما يتصدق به خالصا لله تعالى باخراجه عن ملكه وحقه ولا يتم ذلك الا بالاخراج من يده ولا خلاف فيه بين العلماء رحمهم الله تعالى في الصدقة المنفذة وقال أهل المدينة رحمهم الله مجرد الاعلام يكفى لذلك لما جاء في الاثر عن ابن مسعود رضى الله عنه وغيره إذا أعلمت الصدقة جازت وجعلوا ذلك قياس العتق فان العتق يزيل المعتق عن ملكه ويجعله لله تعالى ثم يتم ذلك بنفسه فكذلك الصدقة ولان الآخذ للصدقة هو الله تعالى قال الله تعالى ويأخذ الصدقات وقال عليه الصلاة والسلام ان الصدقة ان الصدقة تقع في كف الرحمن فيربيها كما يربى أحدكم فلوه حتى تصير مثل أحد. ولكنا نقول هذا في ضمن الاتصال إلى الفقير ليكون الفقير آخذا كفايته من الله تعالي فانه عبد الله وكفاية العبد على مولاه وقد وعدله ذلك بقوله تعالى وما من دابة في الارض الاعلى الله رزقها ولهذا لم يكن للمعطى منة على القابض وهذا المقصود لا يحصل قبل التسليم إلى الفقير فلا تتم الصدقة بخلاف العتق فالعبد في يد نفسه فيصير قابضا نفسه مع أن المعتق متلف للملك والرق فيه والاتلاف يتم بالتلف والمتصدق غير متلف للملك بل جاعل الملك لله تعالى خالصا وذلك في ضمن التمليك من الفقير فكما ان التمليك من الفقير لايتم إلا بالتسليم إليه فكذلك جعله الله تعالى. فأما الصدقة الموقوفة على قول أبى يوسف رحمه الله تلزم بالاعلام وان لم يخرجها من يده إلى يد المتولي وعلي قول محمد رحمه الله لايتم الا بالاخراج من يده والتسليم إلى المتولي وهو قول ابن أبى ليلى. وحجته في ذلك أن ازالة الملك بطريق التبرع فتمامه بالتسليم كما في الصدقة المنفذة وهذا لانه لو لزمه قبل التسليم لصارت يده مستحقة عليه والتبرع لا يصلح سببا للاستحقاق على المتبرع في غير ما تبرع به فينبغي أن يكون متبرعا في ازالة بده كما في ازالة ملكه وذلك بأن لم تتم الصدقة قبل التسليم بل هذا أولى من الصدقة المنفذة فان جواز ذلك متفق عليه بين العلماء رحمهم الله وفى جواز الصدقة الموقوفة ولزومها خلاف ظاهر ثم تلك الصدقة مع قوتها لا تتم الا بالتسليم فهذا أولى * وقال في الكتاب من جوز الصدقة غير مقبوضة لم يفصل بين الصدقة الموقوفة والمنفذة وهو قول أهل المدينة رحمهم الله وكذلك من لم يجوزها الا مقبوضة والفرق بينهما من نوع التحكم وقد بينا أن ذلك لا يجوز وأبو يوسف رحمه الله يقول هذه ازالة ملك لا تتضمن التمليك فتتم بدون القبض

[ 36 ] كالعتق بخلاف الصدقة المنفذة فانها تتضمن التمليك وهذا لان القبض انما يعتبر من المتملك أو من نائبه ليتأكد به ملكه ألا نرى أنه لا يعتبر قبض غيره له بغير اذانه والصدقة الموقوفة لا يتملكها أحد فلا معنى لاشتراط القبض فيها. يوضحه أن المتولي مختار الواقف فيده تقوم مقام يد الواقف لا مقام يد الموقوف عليه فانه ما اختاره وربما لم يعلم به أيضا فإذا كانت تتم بيد من اختاره الواقف فبيد الواقف أولي بخلاف العدل في الرهن فان يده كيد المرتهن هناك لانه لا يصير عدلا الا برضا المرتهن واختياره ولهذا يصير المرتهن مستوفيا دينه بهلاكه في يد العدل ولان حق المرتهن ثبت في العين فتمكن فيجعل العدل نائبا عنه وهنا الموقوف عليه في الغلة لا في العين فلا يمكن جعل المتولي نائبا عنه في قبض العين بل هو نائب عن الواقف فلا معنى لا شتراط قبضه. واستدل محمد رحمه الله في الكتاب بحديث عمر رضي الله عنه فانه جعل وقفه في يد ابنته حفصة رضى الله عنها وانما فعل ذلك ليتم الوقف ولكن أبو يوسف رحمه الله يقول فعل ذلك لكثرة اشتغاله وخاف التقصير منه في أوانه أو ليكون في يدها بعد موته فأما أن يكون فعله لاتمام الوقف فلا وكان القاضي أبو عاصم رحمه الله يقول قول أبى يوسف من حيث المعنى أقوى لمقاربته بين الوقف والعتق من حيث انه ليس في كل واحد منهما معنى التمليك وقول محمد رحمه الله أقرب إلى موافقة الآثار. وعلى هذا الخان والرباط يتم عند أبى يوسف رحمه الله تعالى بالتخلية بينه وبين الناس وان لم ينزل فيه أحد ولا يتم عند محمد رحمه الله الا بالتسليم إلى المتولي أو بنزول الناس فيه. وكذلك المقبرة والسقاية عند محمد لا تتم الا بالتسليم إلى قيم يقوم عليه أو بأن يدفنوا في المقبرة رجلا واحدا أو يسقى من السقاية رجل واحد. وكذلك المسجد الا أن في المسجد تمامه عند محمد رحمه الله بأن يصلي الناس فيه بالجماعة لان التسليم إلى المتولي في المسجد لا يتحقق إذ لاتدبير فيه للمتولى في اختيار من يصلى بالمسجد أو الاستغلال لان المسجد قد تحرز عن ذلك وكذلك لاتدبير لاحد في سد باب المسجد لانه ان كره لاهل المسجد أن يلغقوا باب المسجد فكيف بغيرهم فلهذا يوقف التمام على اقامة الصلاة فيه بالجماعة وفي سائر الوقف للمتولى تدبير في ذلك فجعل التسليم إلى المتولي متمما للصدقة ولان المقصود في سائر الوقف منفعة العباد فيمكن جعل يد المتولي في ذلك بمنزلة يدهم والمقصود هنا اقامه العبادة لله تعالى في المسجد خالصا ولا يحصل ذلك الا باقامة الصلاة فيه. قال (ولو وقف نصف أرض أو نصف دار مشاعا على الفقراء فذلك جائز في قول

[ 37 ] أبى يوسف رحمه الله لان القسمة من تتمة القبض فان القبض للحيازة وتمام الحيازة فيما يقسم بالقسمة. ثم أصل القبض عنده ليس بشرط في الصدقة الموقوفة فكذلك ما هو من تتمة الوقف وهذا لان الوقف على مذهبه قياس العتق والشيوع لايمنع العتق فكذلك لايمنع الوقف الا أن العتق لا يتجزأ عنده لما في التجزى من تضاد الاحكام عنده في محل واحد وذلك لا يوجد في الوقف فيحتمل التجزى ويتم مع الشيوع في القدر الذى أوقفه وأما عند محمد رحمه الله لا يتم الوقف مع الشيوع فيما يحتمل القسمة لان على مذهبه أصل القبض شرط لتمام الوقف فكذلك ما يتم به القبض وتمام القبض فيما يحتمل القسمة بالقسمة واعتبره بالصدقة المنفذة فانها لا تتم في مشاع يحتمل القسمة كالهبة ويتم في مشاع لا يحتمل القسمة لانه بالقسمة يتلاشى فلا تكون القسمة فيه حيازة فكذلك الصدقة الموقوفة تجوز في مشاع لا يحتمل القسمة ولا تجوز في مشاع يحتمل القسمة ما لم يقسم. وعلي هذا الخان والمقبرة والمسجد والسقاية يعنى فيما يحتمل القسمة لانه لا يتم من الشيوع عند محمد رحمه الله تعالى. فأما المسجد والمقبرة لا تتم مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة لان بقاء الشركة يمنع أن تكون البقعة لله تعالى خالصا ولانا لوجوزنا ذلك وقعت الحاجة إلى المهايأة فتقبر فيه الموتى في سنة ثم تنبش في سنة أخرى ويزرع لمراعاة حق المالك ويصلى النسا في المسجد في وقت ويتخذ اصطبلا في وقت آخر بحكم المهايأة وذلك ممتنع بخلاف الوقف فالمقصود هناك الاستغلال فيما بقى منه ملكا وفيما صار منه وقفا فلو جاز مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة لا يؤدى إلى تضاد الاحكام بل يستغل وتقسم الغلة على قدر الملك والوقف منه وذلك صحيح وكذلك لو جعل الارض أو الدار لشئ من ذلك وأخرجه من يده ثم استحق بعضه مشاعا بطل في الكل ورجع الباقي إليه في حياته والي وارثه بعد وفاته لان بالاستحقاق يتبين بطلان تصدقه في القدر المستحق لانه لم يكن مملوكا له يومئذ ولا أجازه مالكه ولو جاز في القدر المملوك لكان لزومه ابتداء في الجزء الشائع وقد بينا أن ذلك لا يجوز فيما لا يحتمل القسمة وهذا بخلاف ما إذا فعله في مرضه ثم مات ولا مال له سواه فأبطله الوارث فيما زاد عن الثلث بقى الثلث صحيحا لان حق الوارث انما يثبت بعد الموت فابطاله في القدر الذى له ابطاله يقتصر على هذه الحالة فلا يتبين به ان ابتداء الوقف في الجزء الشائع وأصل هذا الفرق في الهبة والصدقة المنفذة فان رجوع الوارث في البعض كرجوع الواهب وذلك لا يمنع بقاء الهبة فيما بقى لانه شيوع طارئ

[ 38 ] فكذلك في الصدقة الموقوفة وان استحق بعضه مميزا بعينه كان ما فعله جائزا فيما بقى ماضيا لوجهه لان بهذا الاستحقاق لم يتبين الشيوع فيما بقى فان المستحق مميز مما بقى فهو بمنزلة دارين وقفهما فاستحقت احداهما وكذلك الحكم في الصدقة المنفذة إذا كان المستحق مميزا يقرر الصدقة فيما بقى وكذلك الحكم في الهبة بخلاف ما إذا استحق جزأ شائعا ولا فرق عند استحقاق الجزء الشائع بين أن يكون المستحق كثيرا أولم يكن لان المانع الشيوع وقد تحقق ذلك باستحقاق جزء قل ذلك أو كثر. قال (وإذا كانت الارض بين رجلين فتصدقا بها صدقة موقوفة على بعض الوجوه التى وصفناها ودفعاها إلى ولي يقوم بها كان ذلك جائزا) لان مثله في الصدقة المنفذة جائز إذا تصدق رجلان على واحد والمعنى فيه أن المانع من تمام الصدقة شيوع في المحل ولا شيوع هنا فقد صار الكل صدقة مع كثرة المتصدقين بها والقبض للمتولى في الكل وجد جملة واحدة فهو وما لو تصدق رجل واحد سواء ولو تصدق كل واحد منهما بنصفها شائعا على حدة صدقة موقوفة وجعل لها والياعلى حدة لم يجز لانهما صدقتان متفرقتان لان كل واحد منهما تصدق بنصيبه بعقد على حدة ألا ترى أنه جعل لنصيبه واليا علي حدة ومثله في الصدقة المنفذة لا يجوز حتى لو تصدق احدهما بنصفها مشاعا على رجل وسلم ثم تصدق الآخر بالنصف عليه وسلم لم يجز شئ من ذلك وهذا لان قبضه في نصيب كل واحد منهما لاقى جزأ شائعا فكذلك قبض كل واحد من الواليين هنا لاقى جزأ شائعا. قال (ولو تصدق كل واحد منهما بنصفه صدقة موقوفة على المساكين وجعلا الوالى لذلك رجلا واحدا فسلماها إليه جميعا جاز) لان تمام الصدقة بالقبض والقبض مجتمع فقد حصل قبض الكل من واحد في محل عين والدليل على أن المعتبر هو القبض في الهبة والصدقة المنفذة أنه لو باشر ذلك مع رجل في النصف ثم في النصف ثم سلم الكل إليه جاز ولو باشره في الكل ثم سلم إليه النصف لم يجز وكذلك ان جعلاها جميعا إلى رجلين لان الواليين هنا كوال واحد حيث جعلهما كل واحد منهما واليافي صدقة بخلاف ما تقدم هناك من أن كل واحد من المتصدقين خص واحدا من الواليين فجعله واليا في صدقته فانما يلاقى قبض كل واحد منهما جزأ شائعا ألا ترى أن في الرهن لو أن رجلين رهنا عينا من رجلين بدين لهما عليهما جاز ولو قال على أن نصيب أحد الراهنين رهن عند احدهما ونصيب الآخر عند الآخر لم يجز وكذلك في الهبة والصدقة المنفذة ولو وهبا من رجلين أو تصدقا عليهما جاز عند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله

[ 39 ] ولو قالا نصيب الواهبين لاحدهما بعينه ونصيب الاخر للآخر لم يجز وكذلك في الصدقة الموقوفة. قال (ولو تصدقا بها على واحد فوكل المتصدق عليه رجلين بقبضها كل واحد منهما يقبض نصيب أحدهما خاصة فقبضا ذلك معا جاز وان كان القابض اثنين لانهما انما قبضاها لواحد فكل واحد منهما وكيل من جهته وقبض الوكيل كقبض الموكل فكان القبض مجتمعا حكما وان كان متفرقا صورة (فان قيل) ففى الصدقة الموقوفة الوليان كل واحد منهما يقبض للموقوف عليه فينبغي أن يجوز وان تفرق الوالى لاتحاد جهة الصرف (قلنا) لاكذلك بل كل واحد من الواليين عامل لمن جعله واليا في صدقته ولهذا لو لحقه عهدة فيما قبض رجع به عليه فإذا اختار كل واحد منهما في صدقته قيما على حدته كان قبض كل واحد منهما في جزء شائع ولو تصدقا به على رجلين صدقة واحدة فوكل المتصدق عليهما رجلين كل واحد منهما يقبض ما تصدق به عليه أحد الرجلين دون الآخر فقبض الوكيلان جميعا أو أحدهما قبل صاحبه جاز ذلك لان فعل الوكيلين كفعل الموكلين فان كل واحد منهما نائب وكيله في القبض ولو قبض الموكلان معا أو أحداهما قبل صاحبه جاز ذلك لا تحاد الصدقة في جانب المتصدقين وتمامها عند قبض الآخر منهما فكذلك الوكيلان ألا ترى انه لو كان المتصدق والمتصدق عليه واحدا فقبض النصف ثم النصف كان هذا وما لو قبض الكل جملة سواء وان قبضا أحد النصيبين كان لصاحبه ان يرجع فيه ما لم يقبضا نصيب الآخر لان تمام الصدقة بتمام القبض ولا يتم القبض في مشاع يحتمل القسمة فلم تتم به الصدقة وكان لصاحبه ان يرجع فيه كما قبل التسليم فان قبضا نصيب الآخر قبل رجوع الاول فيه فقد تمت الصدقة لتمام القبض منهما في الكل ولا رجوع فيه لواحد منهما بعد ذلك * ولو تصدق كل واحد منهما بنصفه صدقة موقوفة على حدة ووكلا فيها رجلا واحدا فقبض نصيبهما مجتمعا أو متفرقا كانت الصدقة جائزة لانه حين قبض الكل فلا شيوع في المحل وان كان قبض نصيب أحدهما فله أن يرجع فيه ما لم يقبص نصيب الآخر لما بينا ان قبضه في نصيبه لاقى جزأ شائعا فلا تتم به الصدقة قال (فان باعه وهو في يد الوكيل جاز بيعه) لان الصدقة في نصيبه لم تتم حين لم يقبض الوكيل نصيب الاخر وكان وجود القبض في نصيبه كعدمه فلهذا جاز بيعه وان مات فهو ميراث عنه فان قبض الوكيل نصيب الآخر بعد موت الاول فقبضه باطل والصدقة مردودة لان بموت الاول بطلت الصدقة في نصيبه وصار ميراثا لورثته فلو جازت الصدقة في النصف الآخر

[ 40 ] بالقبض بعد ذلك كان ذلك في جزء شائع وذلك غير جائز ويستوى ان كان قبضه باذن الثاني أو بغير اذن الثاني بخلاف ما قبل موت الاول لان حكم الصدقة في نصيب الاول موقوف على أن تتم بتمام القبض وذلك يحصل بقبضه نصيب الثاني فلهذا تمت الصدقة في الكل. قال (دار بين رجلين تصدق احدهما بنصيبه منها على رجل وسلمه إليه أو إلى وكيله ثم تصدق الآخر أيضا عليه بنصيبه وسلمه إليه أو إلى وكيله لم يجز شئ من ذلك) لانهما صدقتان متفرقتان فان تمام الصدقة بالقبض وقبضه في كل واحد من النصيبين لاقى جزأ شائعا وان لم يقبض نصيب الاول حتى تصدق الآخر بنصيبه عليه أيضا وقد أذن كل واحد منهما له في القبض فقبضهما جملة جاز لما بينا أن المانع افتراق القبض وقد قبض الكل جملة فكأن الصدقة منهما عليه كانت جملة بعقد واحد وكذلك لو قبض نصيب كل واحد منهما على حدة بيده أو بيد وكيله فهو جائز لان قبضه تم حين قبض نصيب الآخر منهما وقبض وكيله له كقبضه وهذا بخلاف الول فان هناك حين قبض نصيب الاول ما كان حكم الصدقة ثابتا في نصيب الآخر أصلا فتعين جهة البطلان في نصيب الاول فيبطل حكم قبضه في نصيب الثاني بعد ما بطل حكم الصدقة في نصيب الاول وبطل حكم قبضه في نصيب الثاني لملاقاته جزأ شائعا وهنا حين قبض نصيب الاول كان حكم الصدقة ثابتا في نصيب الآخر فيتوقف حكم تمام الصدقة في نصيب الاول على تمام القبض وقد تم ذلك بقبض الثاني. يوضحه ان هناك حين قبض نصيب الاول لم يكن متمكنا من قبض نصيب الثاني فانما يعتبر حكم قبضه فيما تمكن منه خاصة وهو جزء شائع وهنا حين قبض نصيب الاول كان متمكنا من قبض نصيب الثاني فيجعل ما تفرق من قبضه كالمجتمع لتمكنه من قبض الكل. قال (وإذا كانت الارض لرجل أو رجلين فتصدقا بها صدقة موقوفة وسلماها إلى رجل واحد وجعل احدهما نصيبه موقوفا على ولده وولده ولده أبدا ما تناسلوا فإذا انقرضوا كانت غلتها للمساكين وجعل الآخر نصيبه وقفا على اخوته وأهل بيته فإذا انقرضوا كانت غلته في الحج يحج بها في كل سنة أو كان المتصدق واحدا فجعل نصف الارض مشاعا على الامر الاول ونصفها على الامر الآخر فذلك جائز) لانها صدقه واحدة يقبضها وال واحد فلا يضرهم على أي الوجوه فرقوا غلها ومعنى هذا ان تمام الصدقة بالقبض وإذا كان الوالى واحدا فهو يقبض الكل جملة فتتم الصدقة بالكل بقبضه ثم بتفرق جهات الصدقة لا تتفرق الصدقة ألا ترى ان المتصدق لو

[ 41 ] كان واحدا وفرق الغلة سهما بعضها في الحج وبعضها في الغزو وبعضها في أهل بيته وبعضها في المساكين كان ذلك صدقة جائزة فكذلك إذا كان المتصدق اثنين وعين كل واحد منهما لنصيبه مصرفا وهذا كله قول محمد فأما عند أبى يوسف الصدقة الموقوفة في جميع هذه الوجوه جائزة لانه يجوزها غير مقبوضة فكذلك غير مقسومة. فالحاصل أن أبا يوسف يوسع في أمر الصدقة الموقوفة في قوله الآخر غاية التوسع وفى قوله الاول ضيق فيها غاية التضييق كما هو قول أبى حنيفة رضى الله تعالى عنه فقال لا تلزم في الحياة أصلا وتوسط قول محمد رحمه الله في ذلك ولهذا أفتى عامة المشايخ رحمهم الله فيها بقول محمد رحمه الله ومما توسع فيه أبو يوسف رحمه الله انه لا يشترط التأبيد فيها حتي لو وقفها على جهة يتوهم انقطاعها يصح عنده وان لم يجعل آخرها للمساكين ومحمد رحمه الله يشترط التأبيد فيها فقال إذا كانت الجهة بحيث يتوهم انقطاعها لا تصح الصدقة إذا لم يجعل آخرها للمساكين لان موجب الوقف زوال المك بدون التمليك وذلك يتأبد كالعتق وإذا كانت الجهة يتوهم انقطاعها فلم يتوفر على العقد موجبه والتوقيت في هذا العقد كالتوقيت في البيع فكان مبطلا وأبو يوسف رحمه الله يقول المقصود هو التقرب الي الله تعالى والتقرب تارة يكون في الصرف إلى جهة يتوهم انقطاعها وتارة بالصرف إلى جهة لا يتوهم انقطاعها لا تصح الصدقة لتحصيل مقصود الواقف * ومن ذلك أنه لو جعل مصرف الغلة لنفسه مادام حيا فذلك جائز عند أبى يوسف أيضا اعتبار للابتداء بالانتهاء لانه يجوز الوقف علي جهة يتوهم انقطاعها وإذا انقطعت عادت الغلة إليه في الانتهاء فكما يجوز ذلك في الانتهاء فكذلك في الابتداء لجواز أن يقدم نفسه على غيره في الغلة وهذا لان معنى التقرب لا ينعدم بهذا قال عليه الصلاة والسلام نفقة الرجل على نفسه صدقة وقال عليه الصلاة والسلام ابدأ بنفسك ثم بمن تعول فأما عند محمد رحمه الله إذا جعله وقفا على نفسه أو جعل شيئا من الغلة لنفسه مادام حيا فالوقف باطل وهو مذهب أهل البصرة رحمهم الله لان التقرب بازالة الملك واشتراط الغلة أو بعضها لنفسه يمنع زوال ملكه فلا يكون ذلك صحيحا وكذلك لو شرط الغلة لامائه فهو كاشتراطه لنفسه ولكن ذكر محمد أنه إذا اشترط الغلة لامهات أولاده فذلك جائز وهذا على أصل أبى يوسف غير مشكل وعلى قول محمد رحمه الله هو مستحسن على ما نبينه بعد هذا ان شاء الله تعالى * ومن ذلك أنه إذا شرط في الوقف ان يستبدل به أرضا أخرى إذا شاء ذلك فهو جائز عند أبى يوسف رحمه الله وعند محمد وهو قول

[ 42 ] أهل البصرة رحمهم الله الوقف جائز والشرط باطل لان هذا الشرط لا يؤثر في المنع من زواله والوقف يتم بذلك ولا ينعدم به معنى التأبيد في أصل الوقف فيتم الوقف بشروطه ويبقى الاستبدال شرطا فاسدا فيكون باطلا في نفسه كالمسجد إذا شرط الاستبدال به أو شرط أن يصلي فيه قوم دون قوما فالشرط باطل واتخاذ المسجد صحيح فهذا مثله. قال (ولو شرط الخيار لنفسه ثلاثه أيام في الوقف فعلى قول أبى يوسف الوقف جائز والشرط جائز كما هو مذهبه في التوسع في الوقف وقال هلال بن يحيى الوقف باطل وهو قول محمد وقال يوسف ابن خالد السمنى الوقف جائز والشرط باطل لانه ازالة ملك لا إلى مالك فيكون بمنزلة الاعتاق واشتراط الخيار في العتق باطل والعتق صحيح وكذلك في المسجد اشتراط الخيار باطل واتخاذ المسجد صحيح فكذلك في الوقف ومحمد يقول ان تمام الوقف يعتمد تمام الرضا ومع اشتراط الخيار لايتم الرضا فيكون ذلك مبطلا للوقف بمنزلة الا كراه على الوقف * ثم تمام الوقف على مذهبه بالقبض وشرط الخيار يمنع تمام القبض ألا ترى ان في الصرف والسلم لايتم القبض مع شرط الخيار وبه فارق المسجد فالقبض هناك ليس بشرط انما الشرط إقامة الصلاة فيه بالجماعة وقد وجد ذلك مع شرط الخيار فلهذا كان مسجدا ثم شرطه غير معتبر في اتخاذ المسجد فلا يفسد بفساد الشرط وشرطه في الوقف مراعى وما يتعلق بالجائز من الشرط الفاسد فالفاسد من الشروط يبطله وأبو يوسف رحمه الله يقول الوقف يتعلق به اللزوم ويحتمل الفسخ ببعض الاسباب واشتراط الخيار للفسخ فيكون بمنزلة البيه في أنه يجوز اشتراط الخيار فيه وهذا في الحقيقة بناء على الاصل الذى ذكرنا له فانه يجوز أن يستثنى الواقف الغلة لنفسه مادام حيا فكذلك يجوز أن يشترط الخيار لنفسه ثلاثه أيام لتروى النظر فيه. قال (فان خرب ما حول المسجد واستغنى الناس عن الصلاة فيه فعلى قول أبى يوسف رحمه الله لا يعود إلى ملك الثاني ولكنه مسجد كما كان وعند محمد رحمه الله يعود إلى ملك الثاني والى ملك وارثه وان كان ميتا) لانه جعل هذا الجزء من ملكه مصورفا إلى قربة بعينها فإذا انقطع ذلك عاد إلى ملكه كالمحصر إذا بعث بالهدى ثم زال الاحصار فادرك الحج كان له أن يصنع بهديه ما شاء * قال (ولو شترى حصر المسجد أو حشيشا فوقع الاستغناء عنه كان له أن يضع به ما شاء وأبو يوسف رحمه الله يقول إذا تم زوال العين عن ملكه وصار خالصا لله تعالى فلا يعود إلى ملكه بحال) كما لو أتق عبده وهذا لان القربة التى قصدها لم تنعدم بخراب ما حولها فان

[ 43 ] الناس في المساجد شرعا سواء فيصلى في هذا الموضع المسافرون ومارة الطريق وهكذا يقول في الحصير والحشيش انه لا يعود إلى ملكه ولكن يصرف إلى مسجد آخر بالقرب من ذلك المسجد وهدى الاحصار لم يزل عن ملكه قبل الذبح * واستدل أبو يوسف رحمه الله بالكعبة فان في زمان الفترة قد كان حول الكعبة عبدة الاصنام ثم لم يخرج موضع الكعبة به من أن يكون موضع الطاعة والقربة خالصا لله تعالى فكذلك سائر هذه المساجد في الحقيقة انما ينبنى هذا على ما بينا فان أبا يوسف رحمه الله تعالى لا يشترط في الابتداء إقامة الصلاه فيه ليصير مسجدا فكذلك في الانتهاء وان ترك الناس الصلاة فيه لا يخرج من أن يكون مسجدا ومحمد يشترط في الابتداء اقامة الصلاة فيه بالجماعة ليصير مسجدا فكذلك في الانتهاء إذا ترك الناس الصلاة فيه بالجماعة يخرج من أن يكون مسجدا * وحكى ان محمدا رحمه الله مر بمزبلة فقال هذا مسجد أبى يوسف يريد به انه لما لم يقل بعوده الي ملك الثاني يصير مزبلة عند تطاول المدة * ومر أبو يوسف باصطبل فقال هذا مسجد محمد يعنى انه لما قال يعود ملكا فربما يجعله المالك اصطبلا بعد أن كان مسجدا فكل واحد منهما استبعد مذهب صاحبه بما أشار إليه * ثم ذكر في الاصل بعض صكوك الوقف وشرح ما هو من رسم الصكوك في ذلك بذكره في كتاب الشروط وانما نذكر هنا من ذلك ما يتصل بالوقف * فمنه انه ذكر في المصارف وعلى ذوى الحاجة من موالى فلان بن فلان ومولياته ولم يذكر الاسفل أو الاعلى وتأويل هذا إذا كان فلان من هؤلاء العرب لا ولاء عليه فان كان عليه ولاء فالوقف بهذا اللفظ لا يصح ما لم يبين الاعلى أو الاسفل على قياس الوصية فانه لو أوصى لموالى فلان ولفلان موال أتقوه وأعنقهم فانه لا تصح الوصية ما لم يبين الاسفل أو الاعلى. منصوص عليه في الوصايا في الجامع فكذلك الوقف * ومن ذلك أنه يشترط فيه أن يرفع الوالي من غلته كل عام ما يحتاج إليه لاداء العشر والخراج وما يحتاج إليه لبذر الارض ومؤنتها وأرزاق الولاة لها ووكلائها وأجور وكلائها ممن يحصدها ويدرسها وغير ذلك من نوائبها لان مقصود الواقف استدامة الوقف وان تكون المنفعة واصلة الي الجهات المذكورة في كل وقت ولا يحصل ذلك الا برفع هذا المؤن من رأس الغلة وذلك وان كان يستحق بغير الشرط عندنا الا انه لا يؤمن جعل بعض القضاة فربما يذهب رأى القاضى إلى قسمة جميع الغلة بناء على الظاهر وإذا شرط ذلك يقع الا من بالشرط والمقصود بالكتاب التوثق فينبغي

[ 44 ] أن يكتب على أحوط الوجوه فيتحرز فيه من طعن كل طاعن وجهل كل جاهل * ومن ذلك قال وان مات القيم فيه في حياة الواقف فالامر فيه إلى الموقف يقيم فيه من أحب ولا شك في جواز هذا الشرط على أصل أبى يوسف لانه يجوز اشتراط الواقف الرأي لنفسه في الاستدلال بالوقف ففى نصب القيم أولى وكذلك عند محمد رحمه الله لانه لا يجوز شرط الاستبدال بالوقف لما فيه من شرط اعادة العين الاولى الي ملكه وذلك يوجد هنا وقد بينا ان القيم نائب عن الواقف بمنزلة الوكيل له في نصيبه ليعمل للموقوف عليهم باعتبار أنه جعل منفعتهم كمنفعته فاشراتط رأيه في نصب قيم آخر بعد موت الاول يحقق المقصود بالوقف ولا يغيره قال (فان مات بعده فأوصي إلى غيره فوصيه بمنزلته) لان الواقف نصبه ليكون ناظرا له محصلا لمقصوده وقد يعجز عن ذلك بموته فيكون آذنا له في استعانة بغيره بعد موته كما أن للوصي أن يوصي إلى غيره وهذا المعنى يخفى على بعض القضاة كما خفى على بعض العلماء فلم يجوزوا للوصي أن يوصي إلى غيره فيشترط ذلك في الكتاب للتحرز عن هذا. قال (وان مات ولم يوص إلى أحد فالرأى فيه إلى القاضى) لانه نصب ناظرا لكل من عجز بنفسه عن النظر والواقف ميت ومصرف الغلة عاجز عن التصرف في الوقف لنفسه فالرأى في نصب القيم إلى القاضي. قال (ولا يجعل القيم من الاجانب ما وجد من أهل ميت الموقف وولده من يصلح لذلك) لانه لو لم يذكر هذا الشرط كان للقاضى أن ينصب أجنبيا إذا رأى المصلحة في ذلك ومقصودا واقف أن يكون ذلك في أهل بيته وولده اما ليكون الوقف منسوبا إليه ظاهرا أو لان ولده أشفق على وقف أبيه من غيره ويذكر هذا في الكتاب ليتحرز القاضى عن خلاف شرطه. قال (وان لم يجد فيهم من يصلح له فجعله إلى أجنبي ثم صار فيهم من يصلح لذلك صرفه إليه) لانه بدون الشرط لا يستحق على القاضي أن يفعل ذلك والانتهاء لا يعتبر بالابتداء في بعض الاحكام ألا ترى أن العدة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع البقاء والاباق في المبيع كذلك فإذا ذكر هذا في كتابه وجب علي القاضى مراعاة شرطه لقوله تعالى فانما اثمه على الذين يبدلونه وكونه في يد ولده إذا كان يصلح لذلك أنفع وان خاف أن يبطل بعض القضاة وقفه ونقضه فأحب الي أن يتحرز من ذلك * وفيه طريقان (أحدهما) أن يكتب في صكه. وان أبطله قاض أو غيره بوجه من الوجوه فهذه الارض بأصلها وجميع ما فيها وصية من مال فلان تباع فيتصدق بثمنها على من سمينا في كتابنا وهذا لان القاضى انما يبطل عند

[ 45 ] خصومة وارث أو غريم لاتصال المنفعة إليه وذلك ينعدم بما يذكره الموقف فلا يشتغل أحد بابطاله والوصية تحتمل التعليق بالشرط فانها في الاصل اثبات الخلافة بعد الموت والتعليق بالشرط يليق به (والوجه الثاني. ان الموقف بعد اتمام الوقف بالتسليم إلى المتولي يخاصم فيه إلى قاض يرى اجازته ويطلب منه ابطاله حتى يقضى القاضى باجازته فينفذ قضاؤه لانه قضي عن اجتهاد في مجلسه وليس لاحد بعد ذلك ابطاله فاما أن يكون اجازته في نسخة على حدة ويشهد الشهود على ذلك ويكتب ذلك في آخر صك الوقف. والذى جرى الرسم به لآن أنهم يكتبون اقرار الواقف بذلك والمقصود لا يحصل فاقراره لا يكون حجة في حق الذى يرى ابطاله وربما يكتبون وقد رفع هذا إلى قاض من القضاة وهذا كذب ان لم يكن رفع إلى أحد ولا رخصة في الكذب والمقصود لايتم به أيضا فربما يذهب اجتهاد قاض إلى أن القضاء والاجارة من المجهول لا تعتبر فانما يتم المقصود بما ذكرنا. قال (ولا يجوز أن يوقف على تجهيز الرجل بالكراع والسلاح والنفقات في سبيل الله تعالى وبين ذلك في صك) وهذا لانه من باب القربة والطاعة فانه جهاد بالمال والجهاد سنام الدين وهذه جهة لا انقطاع لها ما بقيت الدنيا قال عليه الصلاة والسلام الجهاد ماض منذ بعثنى الله تعالى إلى أن يقاتل آخر عصابة من أمتى الدجال فلهذا يجوز الوقف على هذه الجهة. قال (وان كان في الضيعة مماليك وأزواجهم وأولادهم يعملون فيها فوقفها بمن فيها منهم وسماهم جاز ذلك) لان المقصود وهو الغلة بعملهم يحصل والوقف فان كان يختص بالعقار فيجوز أن يثبت في المنقول تبعا للعقار وعلى هذا آلات الحرانة إذا ذكرها في الوقف يثبت فيها حكم الوقف تبعا وهو كالشرب والطريق يدخل في البيع تعبا وان كان لا يجوز البيع فيه مقصودا ثم في وقف المنقول مقصودا اختلاف بين أبى يوسف ومحمد رحمهما الله ذكره في السير الكبير (والجواب) الصحيح فيه ان ما جرى العرف بين الناس بالوقف فيه من المنقولات يجوز باعتبار العرف وذلك كثياب الجنازة وما يحتاج إليه من القدور والاوانى في غسل الميت والمصاحف والكراع والسلاح للجهاد فانه روى انه اجتمع في خلافة عمر رضى الله عنه ثلئمائة فرس مكتوب علي افخاذها جبيس في سبيل الله تعالى وهذا الاصل معروف أن ما تعارفه الناس وليس في عينه نص يبطله فهو جائز وهذا الطريق جوزنا الاستبضاع فيما فيه تعامل لقوله على الصلاة والسلام ما رأه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. قال (وإذا وقفها على أمهات أولاده في حال وقفه ومن يحدث منهن بعد ذلك وسمى

[ 46 ] لكل واحدة منهن كل سنة شيئا معلوما في حياة فلان وبعد وفاته ما لم يتزوجن فهو جائز) وعلى هذا أصل أبى يوسف ظاهر وقد بينا ان عنده لو شرط بعض الغلة لنفسه في حيائه جاز فلامهات أولاده أولى وانما الاشكال علي قول محمد رحمه الله فانه لا يجوز أن يشترط ذلك لنفسه واشتراطه لامهات أولاده في حياته بمنزلة الا شتراط لنفسه ولكنه جوز ذلك استحسانا للعرف ولانه لابد من تصحيح هذا الشرط لهن لانهن يعتقن بموته واشتراطه لهن كاشتراطه لسائر الاجانب فيجوز ذلك في حياته أيضا تبعا لما بعد الوفاة كما قال أبو حنيفة وأصل الوقف إذا قال في حياتي وبعد مماتي مما يتعلق به اللزوم وكذلك ان سمى في ذلك لمدبريه لانهم يعتقون بموته كامهات الاولاد بخلاف العبيد والاماء على قول محمد. وأبو يوسف يجوز ذلك كله وانما يشترط ما لم يتزوجن لان مقصوده توفير المنفعة عليهن مادمن في بيته مشغولات بخدمة أولاده وذلك ينعدم بالتزوج. أو مقصوده من ذلك التحرز عن ضياعهن لعجزهن عن التكسب ويختص ذلك بما قبل التزوج فمن تزوجت منهن تستحق النفعة على زوجها فلهذا قال ما لم يتزوجن. قال (فان جعل الرأى في توزيع الغلة على الفقراء أو القرابة في الزيادة والنقصان إلى القيم جاز ذلك) لان رأى القيم قائم مقام رأيه وكان له في ذلك التفضيل عند الوقف رأيا فيجوز أن يشترط ذلك في القيم بعده وهذا لان المصارف تتفاوت في الحاجة باختلاف الاوقات والامكنة فمقصوده أن تكون الغلة مصروفة إلى المحتاجين في كل وقت وانما يتحقق ذلك بالزيادة والنقصان بحسب حاجتهم والصرف إلى البعض دون البعض إذا استغنى البعض عنه فلهذا جوز له أن يجعل الرأى في ذلك إلى القيم * وان كتب لامهات أولاده وجواريه اللاتى جعلن حرائر بعد موته كتابا أنه تصدق عليهن في حياته وجعل لهن بعد وفاته سكنى منازل وسماهن وبين حدودها ومواضعها تسكن كل امرأة منهن من ذلك بقدر ما يكفيها ما عاشت وأى امرأة منهن تزوجت أو خرجت منتقلة إلى غير هذا المنازل فلا حق لها في السكنى ونصيبها مردود علي من بقيت منهن فذلك جائز اعتبار للسكنى بالغلة فان الغلة تدل علي المنفعة وإذا صح منه هذا الشرط لهن في الغلة فكذلك في المنفعة وهذا لان مقصوده اتصال حاجتهن اليهن لكيلا يضعن بعده وربما تكون حاجتهن إلى السكنى دون الغلة وقد أعطاهن في حياته من المال ما يكفيهن وانما وضع هذه المسائل في أمهات الاولاد لان الحكم في الزوجات الحرائر بخلافه لان الزوجات يرجعن إلى قراباتهن ولاقرابة لامهات الاولاد في دار الاسلام فلهذا ذكر المسائل فيهن. قال

[ 47 ] وان لم يحتج من بقى منهن كان ذلك ميراثا على فرائض الله تعالى) ولكن هذا الشرط يجوز عند أبى يوسف رحمه الله في الحياة والموت لما بينا أنه يتوسع في أمر الوقف فلا يشترط التأبيد واشتراط العود إلى الورثة عند زوال حاجة الموقوف عليه لا يفوت موجب العقد عنده فأما عند محمد رحمه الله التأبيد شرط للزوم الوقف في الحياة فاشتراط العود إلى الورثة يعدم هذا الشرط فيكون مبطلا للوقف الا أن يجعل ذلك وصية من ثلثه بعد موته فحينئذ يجوز ذلك بمنزلة الوصية المعلوم بسكنى داره بعد موته مدة معلومة فان ذلك جائز من ثلثه ويعود إلى الورثة إذا سقط حق الموصى له فكذلك في حق أمهات الاولاد إذا سماهن وان كتب انه جعل لهن في حياته وأوصى لهن من بعد وفاته لكل واحد منهن بخدمها ومتاعها وحليها وثيابها وجوهرها وسمي ما جعل لكل واحدة منهن من ذلك وبين قيمته ووزنه وأنه قد جعل لها في حياته وصحته ذلك ودفعه إليها وأوصى لها بعد وفاته فانه تجوز الوصية من الثلث ولا تجوز في الحياة عندهم جميعا وأما عند محمد رحمه الله لا يشكل وعند أبى يوسف رحمه الله لانه يملكهن الاعيان هنا والمملوكة ليست من أهل التمليك فلا يصح التمليك منهن الا باعتبار حريتهن وذلك بعد وفاته فعرفنا أنه تمليك مضاف الي ما بعد الموت فيكون وصية من الثلث وفيما سبق لا يملك بالوقف أحد شيئا ولكن يخرج العين عن ملكه فيجعله موقوفا عليهن لحاجتهن إلى السكنى وذلك يتم منه في الحال فإذا كان صحيحا حين أخرج الوقف من ملكه تم ذلك معتبرا من جميع ماله ومحمد رحمه الله هكذا يقول فيما لا يعود إليه والى ورثته بعد ذلك بحال بأن جعل آخر وقفه على جهة لا تنقطع فان كان بحيث يعود إليه والى ورثته بعد وفاته لايتم زواله عن ملكه فانما يبقى تمليكه منهن وذلك لا يجوز في حياته وانما يجوز بعد وفاته فيكون بمنزلة الوصية بالسكنى تعتبر بالثلث من ماله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب كتاب الهبة قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسى رحمه الله تعالى املاء: اعلم بأن الهبة عقد جائز ثبت جوازه بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى وإذا حبيتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها والمراد بالتحية العطية وقيل المراد بالتحية السلام والاول أظهر فان قوله أو ردوها يتناول ردها بعينها وانما يتحقق (4 ثانى عشر مبسوط)

[ 48 ] ذلك في العطية وقال الله تعالى فان طبن لحكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا واباحة الاكل بطريق الهبة دليل جواز الهبة. والسنة حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي قال الواهب أحق بهبته ما لم يثبت منها ولانه من باب الاحسان واكتساب سبب التودد بين الاخوان وكل ذلك مندوب إليه بعد الايمان واليه أشار رسول الله صلي الله عليه وسلم بقوله تهادوا تحابوا * ثم الملك لا يثبت في الهبة بالعقد قبل القبض عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى يثبت لانه عقد تمليك فلا يتوقف ثبوت الملك به علي القبض كعقد البيع بل أولى لان هناك الحاجة إلى اثبات الملك من الجانبين وهنا من جانب واحد فإذا كان مجرد القول يوجب الملك من الجانبين فمن جانب واحد أولى وحجتنا في ذلك ماروى عن النبي لا تجوز الهبة الا مقبوضة معناه لا يثبت الحكم وهو الملك إذ الجواز ثابت قبل القبض بالاتفاق والصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على هذا فقد ذكر أقاويلهم في الكتاب ولان هذا عقد تبرع فلا يثبت الملك فيه بمجرد القبول كالوصية وتأيره ان عقد التبرع ضعيف في نفسه ولهذا لا يتعلق به صفة اللزوم والملك الثابت للواهب كان قويا فلا يزول بالسبب الضعيف حتى ينضم إليه ما يتأيد به وهو موته في الوصية لكون الموت منافيا لملكه وتسليمه في الهبة لازالة يده عنه بعد ايجاب عقد التمليك لغيره. ويوضحه أن له في ماله ملك العين وملك اليد فتبرعه بازالة ملك العين بالهبة لا يوجب استحقاق ما لم يتبرع به عليه هو اليد ولو أثتنا الملك للموهوب له قبل التسليم وجب علي الواهب تسليمه إليه وذلك يخالف موضوع التبرع بخلاف المعاوضات. والصدقة كالهبة عندنا في أنه لا يوجنب الملك للمتصدق عليه الا بالقبض خلافا لمالك رحمه الله. وفى الصدقة خلاف بين الصحابة ومن بعدهم رضى الله تعالى عنهم وكان على وابن مسعود رضى الله عنهما يقولان إذا أعلمت الصدقة جازت وكان ابن عباس ومعاذ رضى الله عنهم يقولان لا تجوز الصدقة الا مقبوضة وعن شريح وابراهيم النخعي رحمهما الله تعالي فيه روايتان ذكرهما في الكتاب فأخذنا بحديث ابن عباس رضى الله عنهما وحملنا قول على وعبد الله بن مسعود رضى الله عنهما على صدقة الرجل على ولده الصغير وذلك بالاعلام يتم لانه يصير قابضا له والاصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام يقول ابن آدم مالى مالى وهل لك من مالك الا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو مال الوارث. فقد شرط النبي عليه الصلاة والسلام

[ 49 ] الامضاء في الصدقة وذلك بالقبض يكون وقد بينا هذا في كتاب الوقف * ثم الهبة والصدقة قد تكون من الاجانب وقد تكون من القرابات وذلك أفضل لما فيه من صلة الرحم واليه أشار النبي فقال أفضل الصدقة على ذى الرحم الكاسح ولهذا بدأ الكتاب بحديث رواه عن إبراهيم عن عمر رضى الله عنه قال من وهب لذى رحم محرم هبة فقبضها فليس له أن يرجع فيها. وذكر بعد هذا عن عطاء ومجاهد عن عمر رضي الله عنه قال من وهب هبة لذى رحم محرم فقبضها فليس له أن يرجع فيها ومن وهب هبة لغير ذى رحم فله أن يرجع فيها ما لم يثب منها. والمراد بقوله ذى رحم محرم قد ذكر ذلك في بعض الروايات وهذا لانه يفترض صلة القرابة المتأبدة بالحرمية دون القرابة المتحرزة عن الحرمية وهو كما يتلى في القرآن في قوله سبحانه وتعالى واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام أي اتقوا الارحام أن تقطعوها وقال الله تعالى وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم فأصمهم وأعمى أبصارهم والمراد الرحم المتأبد بالحرمية * ثم ان الحديث دليل أن الهبة لا تتم الا بالقبض لانه اعتبر القبض للمنع عن الرجوع وهو دليل لنا أن الوالد إذا وهب لولده هبة ليس له أن يرجع فيها كالولد إذا وهب لوالده وهذا لان المنع من الرجوع لحصول المقصود وهو صلة الرحم أو لما في الرجوع والخصومة فيه من قطعية الرحم والولاد في ذلك أقوي من القرابة المتأبدة بالحرمية. وفيه دليل على أن من وهب لاجنبي هبة فلم أن يرجع فيها ما لم يعوض منها لقوله عليه الصلاة والسلام ما لم يثب والمراد بالثواب العوض فعمر رضى الله عنه إمامنا في المسئلتين يحتج بقوله رضى الله عنه على الخصم وقد قال عليه الصلاة والسلام اينما دار الحق فعمر معه وان ملكا ينطق على لسان عمر (وعن) عائشة رضى الله عنها قالت نحلنى أبو بكر رضي الله عنه جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية فلما حضره الموت حمد الله تعالى واثنى عليه ثم قال يا بنية ان أحب الناس إلى غنى أنت وأعزهم على فقرا أنت وانى كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالى بالعالية وانك لم تكوني قبضتيه ولا حزتيه وانما هو مال الورثة وانما هما اخواك واختاك قالت فقلت فانما هي أم عبد الله يعنى اسماء قال انه ألقى في نفسي أن في بطن بنت خارجة جارية. ثم ذكر عن الشعبى عن عائشة رضى الله عنها ان أبا بكر رضى الله عنه نحلها أرضا له. وفى هذا دليل ان الهبة لا تتم الا بالقبض وانه يستوى في ذلك الاجنبي والولد إذا كانا بالغين. وفيه دليل على أن الهبة لا تتم الا بالقسمة فيما يحتمل القسمة لان أبا بكر رضي الله عنه أبطل لعدم القبض

[ 50 ] والحيازة جميعا بقوله وانك لم تكوني قبضتيه ولاحزتيه والمراد بالحيازة القسمة لانه يقال حاز كذا أي جعله في حيزه بقبضه وحاز كذا أي جعله في حيزه بالقسمة ولو حملناه علي القبض هنا كان تكرارا وحمل اللفظ على ما يستفاد به فائدة جديدة أولى من حمله علي التكرار وفيه دليل أن هبة المشاع فيما يحتمل القسمة لا تكون باطلة لان أبا بكر رضى الله عنه باشرها ولكن لا يحصل الملك الا بعد القسمة كما لا يحصل الملك الا بعد القبض ولا نقول الهبة قبل القبض باطلة. وفيه دليل ان التسليم كالتمليك المبتدا لان أبا بكر رضي الله عنه امتنع من ذلك لمرضه فان المريض ممنوع من ايثار بعض ورثته بشئ من ماله بطريق التبرع ولكن طيب قلبها بما قال انتدابا إلى ماندب إليه رسول الله في قوله رحم الله امرأ أعان ولده على بره بدأ كلامه بالحمد والثناء على الله تعالى وكل مسلم مندوب إلى ذلك خصوصا في وصيته. ثم يستدل بقوله ان أحب الناس الي غنى أنت وأعزهم على فقرا أنت أي أشدهم من تفضيل الغين الشاكر على الفقير الصابر ولاشك أن أبا بكر رضى الله عنه كان يحب لها أعلي الدرجات ولكن المذهب عندنا أن الافضل ما اختاره رسول الله وقد قال عليه الصلاة والسلام اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا واحشرني في زمرة المساكين وقال صلوات الله وسلامه عليه الفقر أزين بالمؤمن من العذار الجيد على خد الفرس. وكذلك أبو بكر رضى الله عنه اختار الفقر لنفسه حين أنفق جميع ماله على رسول الله فعرفنا أنه انما قال ذلك تطييبا لقلبها أو أحب الغنى لعجزها عن الكسب أو ظن انه يشق عليها الصبر على الفقر فلهذا قال أحب الناس إلى غنى أنت وانى كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالي بالعالية وذلك اسم موضع وقد كان وهب لها قدر عشرين وسقا من ماله في ذلك الموضع قال وانما هو مال الورثة. وفيه دليل على أن حق الوارث يتعلق بمال المريض مرض الموت وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام وما سوى ذلك فهو مال الوارث أو قال ذلك باعتبار أن مآله إلى ذلك كقوله تعالى انك ميت وانهم ميتون. وانما هما أخواك واختاك وانما ذكر ذلك لطييب قلبها انه كان لا يسلم لك فلا يبعد عنك فأشكل على عائشة رضي الله عنها قوله واختاك لانها ما عرفت لها الا اختا واحدة وهى أم عبد الله فقال أبو بكر رضى الله عنه أنه ألقى في نفسي أن في بطن بنت خارجة جارية يعنى أم حبيب امرأته وكانت حاملا. وفيه دليل أن الحمل من جملة الورثة وانه لا بأس للانسان أن يتكلم بمثل هذا بطريق الفراسة فان أبا بكر

[ 51 ] رضى الله عنه قال ذلك بفراسته ولم يكن ذلك منه رجما بالغيب فان مافى الرحم لا يعلم حقيته الا الله تعالى كما قال الله تعالى ويعلم ما في الارحام * ولهذا قيل أفرس الناس أبو بكر رضى الله عنه حيث تفرس في حبل امرته أنها جارية فكان كما تفرس وتفرس في عمر رضى الله عنه حين استخلفه بعده (وعن) عمر وعثمان رضى الله عنهما قالا إذا وهب الرجل لابنه الصغير هبة فأعلمها فهو جائز وبه نأخذ فان حق القبض فيما يوهب لهذا الصغير إلى الاب لو كان الواهب اجنبيا فكذلك إذا كان الواهب يصير قابضا له من نفسه فتتم الهبة بالقبض ولابد من الاعلام ليحصل المقصود به فالولد لا يتمكن من المطالبة به ما لم يكن معلوما له وهو معنى ما روى شريح انه سئل ما يجوز للصبى من نحل ابيه قال المشهود عليه والمراد الاعلام فالاشهاد في الهبة ليس بشرط للاتمام وانما ذكر ذلك للتوثق حتى يتمكن الولد من اثبات ملكه بالحجة بعد موته على سائر الورثة (وعن) إبراهيم قال الرجل والمرأة بمنزلة ذى الرحم المحرم إذا وهب احدهما لصاحبه هبة لم يكن له ان يرجع فيها وبه نأخذ فان ما بينهما من الزوجية نظير القرابة القريبة ولهذا يتعلق بها التوارث من الجانبين بغير حجب ويمتنع قبول شهادة كل واحد منهما لصاحبه وهذا لان المقصود حصل بالهبة وهو تحقيق ما بينهما من معنى السكن والازدواج وفى الرجوع ايقاع العدواة فيما بينهما والنفرة. والزوجية بمعنى الالفة والمودة فلا يجوز لاحدهما الاقدام على ما يضاده وهذا كان مانعا من الرجوع فيما بين القرابات (وقال) في الرجل يهب لامرأته أو لبعض ولده وقد أدرك وهو في عياله ان ذلك جائز إذا أعلمه وان لم يقبض ذلك الموهوب له. وبه يأخذ ابن أبى ليلى فيقول إذا كان الموهوب له في عياله فيده في قبض الهبة كيده كما في الصغار. ولسنا نأخذ بذلك لانه لابد من نوع ولاية له ليجعل قبضه بذلك كقبض الموهوب له ولا ولاية له عليهم بعد البلوغ وان كان يعولهم ألا ترى أن الغنى يعول بعض المساكين فينفق عليهم ثم لو تصدق عليهم لا يتم ذلك الا بالاعلام ما لم يسلمه إليه (وعن) عطاء بن السائب عن شريح رحمهما الله انه سأله عن الحبيس فقال انما أقضي ولست أفتى فأعدت عليه المسألة فقال لاحبيس عن فرائض الله تعالى. وبه يأخذ من يقول لا ينبغى للقاضى ان يفتى وهذا فصل تكلم فيه العلماء رحمهم الله. فمنهم من يقول في العبادات لا بأس بأن يفتى وفي المعاملات لا يفتى لكيلا يقف الخصم على مذهبه فيشتغلوا بالحيل على مذهبه. ومنهم من يقول لا يفتى في مجلس القضاء وله أن يفتى في غير مجلس القضاء

[ 52 ] لانه لو اشتغل بها في مجلس القضاء وكل واحد منهما أمر عظيم فربما يتمكن الخلل في أحدهما وهو متعين للقضاء فيشتغل بما تعين له ويدع الفتوى لغيره. والاصح عندنا انه لا بأس له أن يفتى إذا كان أهلا لذلك وقد كان الخلفاء الراشدون رضى الله عنهم يقضون بين الناس ويفتون. والقضاء في الحقيقة فتوى الا أنه فتوى فيه الزام ولهذا كان القاضي في الصدر الاول يسمى مفتيا ألا ترى ان شريحا أفتى لما أعاد السؤال بقوله لاحبيس عن فرائض الله تعالى فهو دليل أبى حنيفة رضى الله تعالى عنه في أن الوقف لا يتعلق به اللزوم وقد روى هذا عن ابن مسعود رضى الله عنه بيناه في الوقف (وعن) ابن عباس وشريح رضي الله عنهما قالا جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيع الحبيس وهكذا عن الشعبي. وفيه بيان أنه كان معروفا فيما بينهم أن الوقف لا يتعلق به اللزوم (وعن) عمر رضي الله عنه قال ما بال أحدكم يتصدق على ولده بصدقة لا يجوزها ولا يقسمها يقول ان أنامت كانت له وان مات هو رجعت إلى وايم الله لا يتصدق منكم رجل على ولده بصدقة لم يحزها ولم يقسمها ثم مات الا صارت ميراثا لورثته وهكذا نقل عن عثمان رضى الله عنه. وفيه دليل أن الصدقة لا تتم الا بالقبض والقسمة لان المراد بالحيازة المذكورة في هذا الحديث القبض فانها قرنت بالقسمة فلو حملنا الحيازة على القسمة كانت تكرارا ولو حملناها على القبض كنا قد استفدنا بكل لفظ فائدة جديدة. وفيه دليل انه إذا مات بعدما تصدق على ولده قبل أن يسلمها إليه فهو ميراث للورثة وتأويله إذا كان الولد بالغا فهو حجة علي ابن أبى ليلى لانه لم يفصل بين ان يكون في عيال الاب أولا يكون ولو كان المراد الولد الصغير فإذا لم يقسمها لم يثبت الملك للولد فكان ميراثا عن الاب بعد موته (وعن) على رضى الله عنه قال إذا وهبت المرأة لزوجها هبة فان شاءت رجعت فيها إذا هي ادعت انه استكرهها وان وهب هولها شيئا فليس له أن يرجع في الهبة وليس مراده الفرق بينهما في الرجوع بحكم الزوجية وانما مراده أن الدعوى من المرأة أنها كانت مكرهة مسموع ومن الزوج لا لاعتبار الظاهر فالظاهر ان الزوج يتمكن من اكراه زوجته والمرأة لا تتمكن من اكراه زوجها والظاهر ان المرأة تخاف على نفسها من جهة الزوج بما يثبت به الاكراه من الضرب والحبس والزوج لا يخاف ذلك من جهة امرأته. وفيه دليل أن الهبة من المكره لا تصح لان شرط صحة الهبة تمام الرضا والاكراه بعدم الرضا. قال (ومن وهب هبة مقسومة لذى رحم محرم وسلمها إليه فليس له أن يرجع فيها وان وهبها لا جنبى أو لذى

[ 53 ] رحم ليس بمحرم فله أن يرجع فيها) وهما فصلان (أحدهما) إذا وهب لاجنبي شيئا فله أن يرجع في الهبة عندنا ما لم يعوض منها في الحكم وان كان لا يستحب له ذلك بطريق الديانة وعند الشافعي ليس له أن يرجع فيها لقوله عليه الصلاة والسلام لا يرجع الواهب في هبته الا الوالد فيما يهب لولده وفي رواية قال لا يحل. فقد نفى الرجوع أو حرم ولا يجوز الاقدام على ارتكاب الحرام شرعا وقال عليه الصلاة والسلام العائد في هبته كالعائد في قيئه وفى رواية كالكلب يقئ ثم يعود في قيئه والعود في القئ حرام فكذلك الرجوع في الهبة والمعنى فيه ان الهبة عقد تمليك فمطلقه لا يقتضى الرجوع فيه كالبيع وهذا لان الرجوع يضاد المقصود بالتمليك والعقد لا ينعقد موجبا ما يضاد المقصود به وانما يثبت حق الرجوع قبل تمامه كما فيما بين الوالد والولد باعتبار أن الولد كسبه علي ما نبينه أو أنه بعضه فلا يتم اخراجه عن ملكه لما جعلها محرزة وهذا لا يوجد فيما بين الاجانب وهو معنى قولهم ليس بين الواهب والموهوب له حزونة فلا يرجع أحدهما فيما يهب لصاحبه كالاخوين. وحجتنا في ذلك حديث علي رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله قال الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها والمراد حق الرجوع بعد التسليم لانها لا تكون هبة حقيقة قبل التسليم واضافتها إلى الواهب علي معنى أنها كانت له كالرجل يقول أكلنا خبز فلان الخباز وان كان قد اشتراه منها ولانه مد هذا الحق الي وصول العوض إليه وذلك في حق الرجوع بعد التسليم وفى قوله تعالى فحيوا بأحسن منها أوردوها ما يدل على ذلك وقد بينا أن المراد بالتحية العطية قال القائل * تحيتهم بيض الولائد بينهم * يريد عطاياهم وفي حديث أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام من وهب هبة ثم أراد أن يرجع فيها فليوقف وليعرف قبح فعله وفى رواية حسن فعله فان أبى يرد عليه والمراد حسن فعله في الهبة وقبح فعله في الرجوع (وعن) فضالة بن عبيد أن رجلين اختصما إليه فقال احدهما انى وهبت لهذا بازيا ليثيبنى ولم يثبنى فأنا أرجع فيه فقال فضالة لا يرجع في الهبة الا النساء والشراء من الناس اردد (وعن) أبى الدرداء رضى الله عنه قال الواهبون ثلاثة رجل وهب على وجه الصدقة فليس له أن يرجع فيها ورجل استوهب فوهب فله أن يرجع فيها ما لم يعوض ورجل وهب بشرط العوض فهى دين له في حياته وبعد موته والمعنى فيه أنه يمكن الخلل في المقصود بالعقد فيتمكن العاقد من الفسخ كالمشترى إذا وجد بالمبيع عيبا. وبيان ذلك أن المقصود من الهبة للاجانب العوض والمكافأة والمرجع

[ 54 ] في ذلك إلى العرف والعادة الظاهرة أن الانسان يهدى إلى من فوقه ليصونه بجاهه والى من دونه ليخدمه والي من يساويه ليعوضه واليه أشار رسول الله صلي الله عليه وسلم في قوله لوفد ثقيف لما أتوه بشئ أصدقة أم هبة فالصدقة يبتغي بها وجه الله تعالى والهبة يبتغي فيها وجه الرسول وقضاء الحاجة ومنه يقال للايادي قروض وقال القائل وإذا جوزيت قرضا فاجزه * انما يجزى الفتى ليس الحمل وبهذا يتبين أن حق الرجوع اليس بمقتضى العقد عندنا بل لتمكن الخلل في المقصود بالعقد علي معنى أن المعروف كالمشروط ولا يقال انما يقصد العوض بالتجارات فأما المقصود بالهبة اظهار الجود والسخاء والتودد والتحبب وقد حصل ذلك وهذا لان العوض في التجارات مشروط وفى التبرعات مقصود ومعنى اظهار الجود ايضا مقصود فانما يمكن الخلل في بعض المقصود وذلك يكفى للفسخ مع أن اظهار الجود مقصود كريم الخلق ولهذا يقول الراجع في الهبة لا يكون كريم الخلق فاما مقصود طيبة النفس العوض ومعنى التودد انما يحصل بالعوض كما قال عليه الصلاة والسلام تهادوا تحابوا فان التفاعل يقتضى وجود الفعل من الجانبين كالمفاعلة فأما الحديث فالمراد به ان لا ينفرد بالرجوع من غير قضاء ولا رضا الا الوالد إذا احتاج الي ذلك فينفرد بالاخذ لحاجته وسمى ذلك رجوعا باعتبار الظاهر وان لم يكن رجوعا في الحكم كما روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حمل على فرس سبيل الله ثم رأى ذلك الفرس يباع فأراد أن يشتريه فسأل رسول الله عن ذلك فقال لا تعد في صدقتك والشراء لا يكون رجوعا في الصدقة حكما والمراد لا يحل الرجوع بطريق الديانة والمروءة وهو كقوله عليه الصلاة والسلام لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر ان يبيت شبعان وجاره إلى جنبه طاو اي لا يليق ذلك بالديانة والمروءة وان كان جائزا في الحكم إذا لم يكن عليه حق واجب. والمراد بالحديث الآخر التنبيه في معنى الاستقباح والاستقذار ألا ترى أنه شبه بعود الكلب في قيئه وفعل الكلب يوصف بالقبح لا بالحرمة وبه نقول وانه يستقبح. وقد بينا الفرق بين هذا وبين الاخوين والزوجين لحصول ما هو المقصود هناك وتمكن الخلل فيما هو المقصود هنا ولهذا يحتاج إلى القضاء أو الرضا في الرجوع لانه بمنزلة الرد بالعيب بعد القبض من حيث ان السبب تمكن الخلل في المقصود فلا يتم الا بقضاء أو رضا والله سبحانه وتعالى أعلم (والفصل الثاني) إذا وهب الوالد لولده فليس له أن يرجع فيه

[ 55 ] عندنا وقال الشافعي له ذلك لما روينا من قوله عليه الصلاة والسلام الا الوالد فيما يهب لولده والاستثناء من النفى اثبات ومن التحريم اباحة * وفي حديث نعمان بن بشير رضى الله عنه قال نحلنى أبى غلاما وانا ابن سبع سنين فأبت أمي الا أن يشهد على ذلك رسول الله فحملني أبى على عاتقه إلى رسول الله وأخبره بذلك فقال صلوات الله وسلامه عليه ألك ولد سواه فقال نعم فقال عليه الصلاة والسلام أوكل ولدك نحلته مثل هذا فقال لا فقال عليه الصلاة والسلام هذا جور وانا لا نشهد على جور اردد فقد امره رسول الله صلي الله عليه وسلم بالرجوع فيه واقل احوال الامر أن يفيد الاباحة ولانه جاد بكسبه على كسبه فيتمكن من الرجوع فيه كما لو وهب لعبده. ومعنى هذا أن الولد كسبه. قيل في معنى قوله تعالى ما أغنى عنه ماله وما كسب وما ولد وقال عليه الصلاة والسلام وان ولده من كسبه. وتأثيره مابينا أنه لا يتميز عن ملكه إذا كان الموهوب له كسباله كالموهوب به وإذا كان الموهوب له جزأ منه فلا يشكل أنه لا يتم خروجه عن ملكه ولا يبعد أن يختص الوالد بمالا يشاركه الولد فيه كالتملك بالاستيلاد فانه يثبت للاب في جارية ابنه ولا يثبت للابن في جارية أبيه. وحجتنا ماروينا من حديث عمر رضى الله عنه فهو الامام لنا في المسئلتين ولان الهبة قد تمت لذى الرحم المحرم ملكا وعقدا فلا يملك الرجوع فيه كالابن إذا وهب لا بيه أو الاخ لاخيه وهذا لان المقصود قد حصل وهو صلة الرحم ولان في الرجوع معنى قطيعة الرحم وهذا موجود في حق الوالد مع ولده لانه بالرجوع يحمله على العقوق وانما أمر الوالد أن يحمل ولده على بره. ولايقال مقصود الوالد أن يحدمه الولد ولما رجع فالظاهر انه لم ينل ذلك لان شفقة الابوة تمنعه من الرجوع بعد حصول المقصود وهذا لان هذا المعنى خفى لا ينبنى الحكم عليه وهو موجود في الولد إذا وهب لوالده فالظاهر أنه قصد أن يخصه باكرام وانما يرجع لانه لم ينل ذلك ولا معتبر بما ذكر من الكسب فانه لو وهب لمكاتبه أو لمعتقه لا يرجع فيه وهو كسبه أيضا وهذا لان الولد كسبه لا ملكه بخلاف عبده. فأما الحديث فقد قيل معنى قوله عليه الصلاة والسلام الا الوالد ولا الوالد فان كلمة الا تذكر بمعنى ولا قال الله تعالى الا الذين ظلموا منهم أي ولا الذين ظلموا منهم وقوله تعالى وما كان مؤمن أن يقتل مؤمنا الاخطأ أي ولا خطأ. أو المراد الا الوالد فانه ينفرد باخذه عند حاجته على ما قررنا وحديث النعمان بن بشير رضى الله تعالى عنه قيل

[ 56 ] قوله وانا ابن سبع سنين وقوله فحملني أبى على عاتقه لم ينقل في شئ من المشاهير فيحتمل انه كان بالغا ولم يسلمه إليه. وعندنا في مثله له أن يرجع ويحتمل انه كان صغيرا ولكن كان فوض ذلك إلى رسول الله ليهبه له ان رآه صوابا. ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام اردد أي أمسك مالك وارجع إلى رحلك. وقيل كان هذا منه بطريق الوصية بعد موته ألا ترى أنه اعتبر التسوية بين الاولاد وانما تجب التسوية في الوصيه بعد الموت فأما في الهبة في الصحة فلا ألا ترى أن أبا بكر رضى الله تعالى عنه خص عائشة بالهبة لها في صحته كما روينا والدليل عليه أن النعمان بن بشير رضى الله عنه قال فرجع أبى في وصيته * وفى هذا التأويل كلام فالمذهب انه ينبغى للوالد ان يسوى بين الاولاد في العطية عند محمد رحمه الله على سبيل الارث للذكر مثل حظ الانثيين وعند أبى يوسف رحمه الله يسوى بين الذكور والاناث قال عليه الصلاة والسلام ساووا بين أولادكم حتي في القتل ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت الاناث والاعتماد على التأويل الاول * وذو الرحم الذى ليس بمحرم كالاجنبي في حق الهبة لان ما بينهما من القرابة لا يفترض وصلها ولهذا لا يتعلق بها استحقاق العتق وحرمة النكاح وكذلك المحرم الذى ليس برحم لانه لا تأثير للرضاع والمصاهرة في استحقاق الصلة فكانت الهبة بينهما المقصود العوض فإذا لم ينل كان له أن يرجع فيها ان كانت قائمة لم يزدد خيرا * والموانع من الرجوع في الهبة إما أخذ العوض لان المقصود به قد تم وفى قوله ما لم يثب منها دليل على انه لا رجوع بعد نيل العوض وأن يزداد الموهوب في ندمه خيرا فان حق الرجوع فيما تتناوله الهبة وتلك الزيادة لم تتناولها الهبة ولا يتأتى الرجوع في الاصل بدون الزيادة المتصلة وهذا بخلاف مالو زاد في سعره لان ذلك ليس بزيادة في العين فانه عبارة عن كثرة رغبات الناس فيه فأما العين علي حاله كما كان. ومنها أن يخرج الموهوب من ملك الموهوب له لان تبدل الملك كتبدل العين ولان حق الرجوع في الملك المستفاد في الهبة على معنى أن بالرجوع ينتهى ذلك الملك فلا يمكن اثباته في ملك آخر. ومنها ان يموت الواهب فليس لوارثه أن يرجع فيه لان التمليك بعقد الهبة لم يكن منه فلا يخلف مورثه فيما لم يكن على ملكه عند موته ومنها ان يموت الموهوب له فان الملك ينتقل من الموهوب إلى وارثه ولو انتقل الملك في حياته إلى غيره لم يرجع الواهب فيه وكذلك بعد موته. قال (فان مات أحدهما إما الواهب أو الموهوب له قبل التسليم بطلت الهبة لان تمام الهبة بالقبض

[ 57 ] وكان القبض في الهبة كالقبول في البيع من حيث ان الملك يثبت به فكما أن موت أحدهما بعد الايجاب قبل القبول يبطل البيع فكذلك الهبة. قال (وان كان الموهوب حاضرا في المجلس فقبضه الموهوب له باذن الواهب ملكه وان قبضه بغير اذنه في القياس لا يملكه وفى الاستحسان يملكه نص على ذلك في الزيادات). وجه القياس أن العين باقية علي ملك الواهب وليس لاحد أن يقبض ملك غيره بغير اذنه فكان متعديا في القبض لا متملكا ولان ايجاب العقد لا يكون اذنا في القبض كالبيع فان المشترى لو قبض المبيع بغير اذن البائع قبل نقد الثمن لم يكن هذا قبضا باذن وان كان المبيع حاضرا حتى لا يسقط حق البائع في الحبس بل أولى فان هناك قد ملكه المشترى بالعقد فانما يقبض ملك نفسه وهنا الموهوب له لم يملك بالعقد. ووجه الاستحسان أن القبض في الهبة كالقبول في البيع ثم ايجاب البيع يكون اذنا في القبول فكذلك ايجاب الهبة يكون اذنا في القبض لان مقصود الموجب اتمام تبرعه وذلك يكون بالقبض فكان في القبض تحصيل مقصوده فلهذا جعلنا مسلطا للموهوب له على ذلك إذا كان الموهوب حاضرا بخلاف البيع والقبض هناك لاسقاط حقه في الحبس ولم يكن ذلك مقصوده بالبيع وانما كان مقصوده أن يسلم العوض له فلهذا لا يجعله بايجاب البيع راضيا بسقوط حقه في الحبس ولو لم يكن الموهوب حاضرا في المجلس فقبضه الموهوب له بعد ما افترقا بغير اذن الواهب لا يملكه وان قبضه باذن الواهب فقياس الاستحسان الاول أن لا يملكه أيضا لان القبض هنا بمنزلة القبول في البيع والقبول بعد الافتراق لا يوجب الملك باذن الموجب كان أو بغير اذنه فكذلك القبض هنا وفي الاستحسان يملكه لان العقد انعقد لوجود الايجاب والقبول والقبض محتاج إلى ذلك ليتقوى به السبب فيكون موجبا للملك وذلك حاصل بعد الافتراق واذنه يحتاج في القبض إلى اذن المالك صريحا أو دلالة فإذا كان الموهوب غائبا لم يثبت الاذن بقبضه دلالة فلابد من التصريح بذلك فإذا قبضه باذن ملكه. والاصل فيه ما روى أن النبي لما نحر هداياه قال من شاء ان يقتطع فليقتطع وانصرف فكان إذنا بالقبض لمجهول يملكه بالقبض فلان يصح ذلك للمعلوم كان أولى وله أن يرجع قبل أن يقبضه الموهوب له سواء كان حاضرا وغائبا أذن له في قبضه أولم يأذن له ومراده التفرد بالرجوع فان الملك لم يحصل للموهوب له فكان الراجع مستديما لملكه والمالك ينفرد باستدامة ملكه فأما بعد القبض لا يرجع في الهبة الا بقضاء أو رضا بمنزلة الاخذ بالشفعة

[ 58 ] لان الراجع يعيد إلى نفسه ملكا هو لغيره فلا ينفرد به من غير قضاء ولا رضا لانه ان كان هو يطلب لحقه فالموهوب له يمنع تملك فكان الفصل بينهما إلى القاضي كما في الاخذ بالشفعة والفرقة بين العنين وامرأته. قال (وإذا أودع الرجل الرجل شيئا ثم لقيه فوهبه له وليس الشئ بحضرتهما فالهبة جائزة إذا قال الموهوب له قبلت ولا يحتاج فيه إلى قبض جديد) لان الشئ في يد الموهوب له واليد مستدامة فاستدامتها كانشائها بعد قبول الهبة وهذا لان القبض يحكم الهبة ليس بموجب للضمان فيد الامانة تنوب عنه بخلاف الشراء فان المودع إذا اشترى الوديعة من المودع وهى ليست بحاضرة لا يصير قابضا بنفس الشراء فان القبض بحكم الشراء قبض ضمان وقبض الامانة دون قبض الضمان والضعيف لا ينوب عن القوى. وكذلك هذا في العارية والاجارة لان قبض المستعير والمستأجر قبض أمانة كقبض المودع أو أقوى منه. قال (والنحلى والعمري والعطية بمنزلة الهبة فيما ذكرنا) لان هذه عبارات عن شئ واحد وهو التمليك بطريق الهبة وانما يعتبر المقصود لا العبارة عنه ألا ترى أن لفظ الفارسية والعربية فيه سواء والاصل فيه ماروي أن النبي اجاز العمرى وأبطل الشرط يعنى شرط العود إليه بعد موت الموهوب له أما الصدقة إذا تمت بالقبض فليس له أن يرجع فيها سواء كانت لقوابته أو لاجنبي لان المطلوب بالصدقة نيل الثواب وقد حصل ذلك ولا رجوع بعد حصول المقصود بتمامه ولان المتصدق يجعل ذلك المال لله تعالى ثم يصرفه إلى الفقير فيكون كفاية له من الله تعالى ولهذا لم يكن للمعطى فيه منة على القابض وانما له حق الرجوع في ملك ذلك المال المتملك من جهته وقد انعدم ذلك في الصدقة فلهذا لا يرجع فيها ويستوى في الهبة حكم الرجوع ان كان الموهوب له مسلما أو كافر لان المقصود لا يختلف بذلك فانه ان كان اجنبيا فالمقصود العوض وان كان قريبا له فالمقصود صلة الرحم وفى هذا المسلم والكفار سواء. قال (وإذا وهب عبدا لا خيه ولا جنبي وقبضاه فله أن يرجع في نصيب الأجنبي اعتبارا للبعض بالكل) وهذا لان في نصيب الأجنبي مقصوده العوض ولم ينل ذلك. قال (وان وهب لاخيه هبة وهو عبد فقبضها فله أن يرجع فيها) لان الملك بالهبة وقع للمولي والعبد ليس من أهل الملك والمولى أجنبي فعرفنا ان مقصوده العوض والمكافأة ولم ينل ذلك ولانه انما يخاصم في الرجوع المرلى باعتبار أن الملك واليد له فلا يتمكن بينهما قطعية رحمه إذا كان المولى أجنبيا. قال (وان وهب لعبد أخيه

[ 59 ] هبة فله أن يرجع فيها في قول أبى حنيفة) وفي قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله ليس له أن يرجع فيها. وجه قولهما ان الملك بحكم الهبة وقع لذى الرحم المحرم فلا رجوع فيها كما لو كان وهب للمولى وهذا لانه وان أضاف العقد إلى العبد فالمقصود المولى وهو قريبه فعرفنا أن مقصوده صلة الرحم ألا ترى أنه لو أوصى لعبد وارثه أو لعبد قاتله كان ذلك كالوصية لمولاه حتى لا يصح ولانه في الرجوع يخاصم المالك وهو قريب له وفي مخاصمته في الرجوع فيها قطيعة الرحم وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول الصلة ما تمت لذى الرحم المحرم عقدا وملكا فيكون له أن يرجع فيما كما لو كان وهب لاخيه وهو عبد لغيره وهذا لان الرجوع باعتبار العقد والملك حتى إذا كان العقد معاوضة فليس فيه حق الرجوع وبعد زوال الملك لا رجوع والعقد هنا للعبد ألا ترى أن القبول والرد يعتبر منه دون المولى وان المعتبر منه دين العبد حتى إذا كان الموهوب خمرا صحت الهبة إذا كان العبد كافرا وان كان مولاه مسلما. والملك بحكم الهبة يقع للعبد على أحد الطريقين لان الحكم انما يثبت لمن باشر سببه ولهذا يقدم فيه حاجة العبد حتى يقضي منه ديونه ثم ينتقل إلى المولى عند استغناء العبد عنه لانه مالك لرقبته فيخلفه في كسبه خلافة الوارث المورث. وعلى الطريق الآخر الملك يقع للمولى ولكن بطريق الخلافة عن العبد لانه ليس بأهل للملك فيخلف القاتل في ذلك مولاه وهو نظير الطريقين في الوكيل بالشراء * إذا ثبت هذا فنقول لما وقع العقد للعبد وهو أجنبي فلا ينفك هذا العقد عن مقصود العوض فيثبت حق الرجوع فيه إذا لم يعوض (فان قيل) فإذا وقع الملك للعبد ثم انتقل منه الي المولى ينبغى أن لا يثبت حق الرجوع فيه (قلنا) هذا ان لو كان الثابت له ملكا مستقرا وهو ليس من أهل ذلك وعند العقد هذا الانتقال كان معلوما فلا يكون مانعا من الرجوع (فان قيل) كيف يقصد بالهبة من العبد العوض وهو ليس من أهل العوض فينبغي أن لا يثبت الرجوع في الهبة من العبد أصلا لعلمنا أنه لم يقصد العوض به كما لا يرجع في الهبة من الفقير (قلنا) العبد من أهل أن يعوض بمنافعه وخدمته ومن أهل أن يعوض بكسبه عند اذن المولى فكان المقصود بالهبة منه ما هو المقصود بالهبة من الحر وهو العوض وهذا بخلاف الوصية فالبطلان هناك لايثار بعض الورثة وذلك بالملك لا بالعقد فاعتبرنا من يقع له الملك وهنا الرجوع لفوات المقصود بالعقد فان العوض مقصود بعقد التبرع أيضا فانما ينظر إلى من وقع العقد أو الملك له فأيهما كان أجنبيا ثبت حق الرجوع له لانه لم

[ 60 ] ينفك عن قصد العوض * فان كان المولى والعبد كل واحد منهما ذا رحم محرم منه بان كان أخوه لابيه عبدا لاخيه لامه فقد ذكر الكرخي عن محمد رحمه الله ان في قياس قول أبى حنيفة رضي الله عنه أن لا يرجع فيه أيضا لانه لا معتبر بقرابه العبد في المنع من الرجوع بدليل الفصل الاول فكان هذا ومالو كان العبد أجنبيا سواء كان أبو جعفر الهندوانى رحمه الله يقول لا يرجع هنا وهو الصحيح عندنا لانا علمنا أنه لم يقصد العوض بهذا العقد فان تخصيصه هذا العبد من بين عبيد مولاه دليل على أنه قصد صلة الرحم دون العوض وكذلك تخصيصه عند هذا المولى دليل على انه قصد صلة رحم مولاه فسواء اعتبرنا العقد أو الملك أو اعتبرنا هما فالمقصود صلة الرحم دون العوض. قال (حربى دخل علينا بأمان وله عندنا أخ مسلم فوهب احدهما لصاحبه شيئا وسلمه فلا رجوع له فيه) لان المقصود لا يختلف بكون أحدهما مسلما أو مستأمنا ولان الرحم مع المحرمية مانع من الرجوع في الهبة كما أنه موجب العتق عند دخوله في ملكه ويستوى في ذلك المستأمن والذمى والمسلم فكذلك في حق الرجوع فان لم يقبض الموهوب له حتي رجع الحربى إلى دار الحرب بطلت الهبة لان رجوعه إلى دار الحرب حربيا كموته فان من في دار الحرب في حق من هو في دار الاسلام كالميت وموت الموهوب له قبل القبض يبطل الهبة وكذلك ان كان الحربى هو الواهب فقد بطلت الهبة وبقى المال على ملكه فيوقف حتى يحضر هو أو نائبه فيأخذ ولا يبعث به الي دار الحرب بمنزلة مال خلفه في دارنا وهذا لبقاء حكم الامان في المال الذى خلفه هنا * فان كان الحربى اذن للمسلم في قبضه وقبضه بعد رجوعه إلى دار الحرب جاز استحسانا وفي القياس لا يجوز لانه لما صار بمنزلة الميت بطلت الهبة ولا يبقى حكم اذنه في القبض كما لو مات حقيقة بعد الاذن في القبض وهذا لانه اذن له في قبض متمم للهبة وذلك لا يكون الا مع بقائه حيا حقيقة وحكما. ووجه الاستحسان ان اذنه في القبض باق بعد لحاقه لان ابتداء اذنه في قتض هذا المال بعد لحاقه معتبر فانه لو أرسل هذا الرجل ليأخذ ماله يجب تسليمه إليه فلان يبقى اذنه كان أولى وإذا بقى اذنه يجعل في الحكم كانه سلمه إليه بنفسه. وحقيقة الفرق بين هذا والموت الحقيقي أن هناك المال صار حقا لوارثه وليس له اذن معتبر في ملك الغير وهذا المال بقى موقوفا على حقه فكان اذنه فيه معتبرا فلهذا يملك بالقبض باذنه استحسانا. قال (رجل وهب لامرأة هبة ثم تزوجها فله أن يرجع فيها) لانها لما كانت أجنبية منه حين وهب لها علمنا أن مقصوده العوض ولم

[ 61 ] ينل ذلك (فان قيل) بل كان مقصوده أن تزوج نفهسا منه وقد فعلت فينبغي أن لا يرجع في الهبة (قلنا) هذا ليس بمقصود شرعى فيما شرعت الهبة له فلا معتبر به وبالنكاح وان حصل له الملك فقد وجب عليه البدل فلا يعتبر ذلك في المنع من الرجوع في الهبة. قال (وان وهب لامرأته هبة ثم أبانها فليس له أن يرجع فيها) لان الهبة لما كانت في حال قيام الزوجية بينهما عرفنا أنه لم يكن مقصوده العوض فلهذا لا يرجع فيها. قال (رجل وهب لابنه الكبير عبدا وهو في عياله ولم يسلمه إليه أو وهب لزوجته لم تجز الهبة الا على قول ابن ابى ليلى) فانه يقول من في عياله تحت يده فيقوم قبضه لهم مقام قبضهم كما لو وهب لولده الصغير والدليل عليه أن الصغير إذا كان في عيال اجنبي فوهب هوله أو غيره هبة وقبضه من يعوله تمت الهبة ولانسب بينهما سوى أنه يعوله ولكنا نقول لا ولاية له على ولده البالغ ولا على زوجته فيما وراء حقوق النكاح وقبض الهبة ليس من حقوق النكاح في شئ وكان هو والاجنبي في ذلك سواء ولانه متبرع بالانفاق على ولده البالغ فهو كالغنى إذا تبرع بالانفاق على بعض المساكين ويعولهم فلا ينوب قبضه عن قبضهم في اتمام الصدقة والهبة بخلاف الاب في حق ولده الصغير فانه وليه وهكذا نقول فيمن يعول يتيما انما يعتبر قبضه له إذا لم يكن لليتيم ولى يقبض له وهنا الموهوب له ولى نفسه فلا حاجة إلى قبض من يعوله في حقه كما إذا كان الصغير في عيال أجنبي وله أب أو جد فانه لا يعتبر قبض من يعوله في اتمام الهبة له. قال (وكل شئ وهبه لابنه الصغير واشهد عليه وذلك الشئ معلوم فهو جائز) والقبض فيه باعلام ما وهبه له والاشهاد عليه والاشهاد له ليس بشرط بل الهبة تتم بالاعلام الا انه ذكر الاشهاد احتياطا للتحرز عن جحود سائر الورثة بعد موته أو عن جحوده بعد ادراك الولد أما إذا اتفقوا على ذلك فالهبة تامة بدون الاشهاد. وكذلك ان كان هذا الولد في عيال أمه لان لها عليه نوع ولاية ألا ترى انها تحفظه وتحفظ ماله وهذا القدر من الولاية يكفى لقبض الهبة. والصدقة في هذا قياس الهبة لان تمام كل واحد منهما بالقبض. قال (وان كان اليتيم في عيال امه فوهبت له عبدا واشهدت عليه وأبوه ميت ولا وصي له جازت الهبة وقبض الام بمنزلة الاب لو كان حيا) لان في القبض معنى الاحراز كالحفظ وللام ولاية حفظ مال اليتيم فكانت في قبض الهبة كالاب. قال (وكذلك ان كان اليتيم في عيال عمه فقبضه العم له وان كان له أخ أو أم فقبض العم له قبض ايضا) لانه يستوي بالاخ في ثبوت ولاية الحفظ له في ماله فكان ذلك محض منفعة له وبسبب

[ 62 ] قرابته القريبة يثبت هذا القدر من الولاية كقرابة العم لقرابة الاخ ثم تأيدت قرابة العم بكون اليتيم في عياله فتتم الهبة له بقبضه * قال وكذلك ان كان له وصى فوهب له هبة وهو في عياله وأشهد على ذلك وأعلمه جاز وقبل مراده وصى الام أو الاخ فأما وصي الاب والجد فله أن يقبض ما يوهب له سواء كان في عياله أولم يكن لانه قائم مقام الوصي في الولاية في ماله مطلقا سواء كان هو الواهب له أو غيره. قال (فان كان رجل اجنبي يعول يتيما وليس بوصى له ولا بينهما قرابة وليس لهذا الوصي أحد سواه جاز له ان يقبض ما يوهب له استحسانا) وفى القياس لا يجوز لانه لا ولاية له عليه وهو متبرع في تربيته والانفاق عليه فكان كسائر الاجانب فيما ينبنى على الولاية ولكنه استحسن فقال فيما يتمحض منفعة لليتيم فمن يعوله خلف عن وليه ألا ترى انه أحق بحفظه وتربيته لو أراد اجنبي آخر ان ينتزعه من يده لم يكن له ذلك وأن يسلمه في تعليم الاعمال فيكون في ذلك بمنزلة وليه والخلف يعمل عمل الاصل عند عدم الاصل. وانما أثبتنا هذه الخلافة توفيرا للمنفعة على الصغير لانه يقرب إلى المنافع ويبعد عن المضار وفى قبض الهبة محض منفعة له فإذا ثبت أن له أن يقبض هبة الغير له فكذلك إذا كان هو الواهب فاعلمها وأبانها فهو جائز وقبضه له قبض ويستوى ان كان الصبي يعقل أو لا يعقل. وفيه نوع اشكال لانه إذا كان يعقل فهو من اهل ان يقبض بنفسه فلا حاجة إلى اعتبار الخلف هاهنا * ولكن الجواب ان يقول يقبض لا باعتبار الولاية على نفسه فالصغير تبقى ولايته عن نفسه ولكن لتوفير المنفعة عليه وفى اعتبار قبض من يعوله مع ذلك معنى توفير المنفعة اظهر لانه ينفتح عليه بابان لتحصيل هذه المنفعة بخلاف الولد الكبير لانه يقبض هناك بولايته على نفسه وولاية الغير خلف فلا يظهر عند ظهور الاصل. قال (وكل يتيم في حجراخ أو ابن أخ أو عم يعوله فوهب له رجل هبة فانما يقبضها الذى يعوله إذا كان هو صغيرا لا يحسن القبض) وكذلك ان كان عاقلا يحسن القبض قبض له من يعوله جاز لما بينا وان قبض الصغير بنفسه ففى القياس لا يجوز قبضه وهو قول الشافعي لانه لا معتبر بقبضه قبل البلوغ خصوصا فيما يمكن تحصيله له بغيره فان اعتبار عقله للضرورة وذلك فيما لا يمكن تحصيله له بغيره فأما فيما يمكن تحصيله له بغيره فلا تتحقق الضرورة ولهذا لم يعتبر الشافعي رحمه الله عقله في صحة اسلامه واعتبره في وصيته واختياره أحد الابوين لان ذلك لا يمكن تحصيله له بغيره. وجه الاستحسان انه انما لا يعتبر عقله لدفع الضرر عنه

[ 63 ] فالظاهر أنه لا يتم في عواقب الامور بماله من العقل الناقص قبل بلوغه وهذا فيما يتردد بين المضرة والمنفعة فأما فيما يتمحض منفعته لا يتحقق هذا المعنى وقد بينا أن في اعتبار عقله توفير المنفعة عليه وإذا كان فيما لا يمكن تحصيله له بغيره إذا كان محض منفعة يعتبر عقله لتوفير المنفعة عليه بطريقتين * ثم العادة الظاهرة بين الناس التصدق على الصبيان من غير نكير منكر وتعامل الناس من غير نكير منكر أصل من الاصول كبير ولان حقيقة القبض توجد منه وهو محبوس فانما يسقط اعتباره في حق حكمه لحجر شرعى ولا حجر عليه فيما يتمحض منفعته له. قال (والصبية التى دخل بها زوجها فان زوجها يقبض الهبة لها لانه يعولها (فان قيل) الولاية عليها للاب دون الزوج (قلنا) نعم ولكن الاب أقام الزوج مقام نفسه في حفظها وحفظ مالها إذا زفها إلى بيت الزوج وقبض الهبة من باب الحفظ فيقوم الزوج فيه مقام الاب ولكن لهذا لا تنعدم ولاية الاب فإذا قبضها الاب صح قبضة لقيام ولايته وان قبضت بنفسها جاز لانها تعقل القبض وان قبض الزوج جاز لما بينا ولا يكون الزوج في هذا بمنزلة مالو سلم الاب ولده الصغير الي من يعوله لان ذلك لا يثبت به الاستحقاق فعرفنا انه لا يقوم فيه مقام الاب والزوج فحكم النكاح يثبت له عليها استحقاق اليد حتى يصير أولى بها من ابيها وان كانت لم تزف إلى زوجها لم يعتبر قبض الزوج لها لان اعتبار ذلك بحكم أنه يعولها وان له عليها يدا مستحقة وذلك لا يوجد قبل الزفاف وان ادركت لم يجز قبض الزوج لها لان اعتبار ذلك بحكم انه يعولها لانها صارت ولية نفسها حين بلغت عاقلة. قال (ولا يجوز قبض الاخ والجد على الصغير إذا كان الاب حيا حاضرا) لان من هو الاصل في هذه الولاية حاضر فلا حاجة إلى اعتبار من هو خلف في ذلك فان كان الاب غائبا غيبة منقطعه فقد خرج الصغير من أن يكون منتفعا برأى الاب فيصير هو كالمعدوم فتكون ولاية القبض للاخ إذا كان الصغير في عياله وهذا نظير ولاية التزويج ونظير حق الحضانة والانفاق من المال فانه لا يعتبر مال الجد ما دام الصغير منتفعا بمال الاب فإذا انعدم ذلك بغيبة ماله جعل في حكم المعدوم أصلا ألا تري أن التيمم لما جعل خلفا عن الماء في حكم الطهارة فحال عدم الماء وحال نجاسة الماء الموجود في ذلك سواء لان ما هو المقصود وهو الطهارة لا يحصل بالماء النجس فان كان الاب دفعه إلى غير الاخ وغاب غيبة منقطعة فكان في حجر الرجل وعياله جاز له قبض الهبة ولو قبض الاخ لم يجز قبضه لان الاب اقامه مقام نفسه في النظر (5 ثانى عشر مبسوط)

[ 64 ] له فكان هو منتفعا برأيه قائما مقامه ولو كان منتفعا برأيه بأن كان حاضرا لم يجز قبض الاخ فهذا مثله وهذا لما بينا ان مجرد قرابة الاخ لا تثبت له الولاية بدون اليد * وإذا كان في عيال من اختاره الاب فليس للاخ عليه يد موجودة ولا مستحقة حتى انه ليس له ان يسترده ممن يعوله فكان كالاجنبي ولمن يعوله يد مستحقة ما لم يحضر الاب فهو الذى يقبض الهبة له والله اعلم بالصواب باب ما يجوز من الهبة وما لا يجوز قال (وإذا وهب الرجل للرجل نصيبا مسمى من دار غير مقسومة وسلمه إليه مشاعا أو سلم إليه جمبع الدار لم يجز) يعنى لا يقع الملك للموهوب له بالقبض قبل اقسمة عندنا وقال الشافعي يقع الملك وتتم الهبة لما روي أن رسول الله لما دخل المدينة نظر إلى موضع المسجد فوجده بين أسعد بن زرارة وبين رجلين من قومه فوهب أسعد رضى الله عنه نصيبه لرسول الله ثم وهب الرجلان نصيبهما منه أيضا فبنى المسجد (وقال) عليه الصلاة والسلام للرجل الذى أتاه بكبة من شعر فقال أخذت هذه من الغنيمة لاخيط بها بردعة بعير لي أما نصيبي منها فهو لك فقد وهب المشاع (وعن) أنس بن مالك رضى الله عنه انه جوز الهبة في المشاع ولانه عقد تمليك للمال فيصح في المشاع كالبيع وتأثيره أن الجزء المشاع محل لما هو موجب هذا العقد وهو الملك وانما يشترط في المحل المضاف إليه العقد كونه محلا لحكم العقد وبه فارق الصوف على ظهر الغنم فانه مملوك وصفا وتبعا لا مقصودا وموجب الهبة الملك مقصودا ولهذا لا يجوز اضافة البيع إليه بخلاف الجزء الشائع ولان الشيوع فيما لا يحتمل القسمة لا يمنع تمام الهبة وما يؤثر فيه الشيوع فيما يحتمل القسمة وما لا يحتمل القسمه فيه سواء كالرهن عندكم والنكاح عندي ولان الهبة عقد تبرع فتكون بمنزلة القرض والوصية والشيوع لايمنع صحة الوصية وهى تبرع بعد الموت فكذلك التبرع في الحياة ولا يمنع القرض أيضا فانه لو دفع ألف درهم إلى رجل على أن يكون نصفها قرضا عليه ويعمل في النصف الآخر بشركته يجوز ذلك وبفضل القرض يبطل اعتمادكم على اشتراط القبض فاصل القبض شرط لوقوع الملك في القرض ثم لا تشترط القسمة والدليل على ان القبض مع الشيوع يتم انه ينتقل الضمان الي

[ 65 ] المشترى بالقبض مع الشيوع ويملك المشاع عندكم بالبيع الفاسد والمشاع يصلح أن يكون رأس مال السلم وبدل الصرف. واعتمادنا في المسألة على إجماع الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم فقد روينا في أول الكتاب شرط القسمه عن أبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم وعن على رضى الله عنه من وهب ثلث كذا أو ربع كذا لا يجوز حتى يقاسم والمعنى فيه أن شرط القبض منصوص عليه في الهبة فيراعى وجوده علي اكمل الجهات التى تمكن كشرط استقبال القبلة في الصلاة لما كان منصوصا على يشترط ذلك فيه حتى لو استقبل الحطيم لا تجوز صلاته والحطيم من البيت من وجه دون وجه وهذا لان الثابت من وجه دون وجه لا يكون ثابتا مطلقا وبدون الاطلاق لا يثبت الكمال. ثم القبض مع الشيوع ثابت من وجه دون وجه لان القبض عبارة عن الحيازة وهو ان يصير الشئ في حيز القابض والمشاع في حيزه من وجه وفى حيز شريكه من وجه لانه لا يمكن ان يشار إلى شئ منه بعينه فيقال انه في يد هذا دون هذا ولان القسمه من تتمة القبض ألا ترى ان الشفيع لا ينقض قسمة المشترى كما لا ينقض قبضه وله حق نقض تصرفات المشرى فان للمشترى ان يطالب البائع بالقسمة بعد الشراء وانما يثبت له حق المطالبة بالقبض بالشراء فعرفنا أن القسمة من تتمة القبض فبدونها لايتم ولكن هذا فيما يتأتى فيه القسمة فأما فيما لا يقسم القسمة لا يكون حيازة لان المقصود الانتفاع وبالقسمة يتلاشي فعرفنا أن القسمة فيه ليست من تتمة القبض ولان اشتراط أصل القبض في وقوع الملك هنا لمعنى ذلك المعنى موجود في القسمة وهو أن لا يصير عقد التبرع سببا لوجوب الضمان للمتبرع عليه على المتبرع في عين ما تبرع به لانه لو ملك قبل القبض طالبه بالتسليم إليه وكذلك لو ملكه قبل القسمه طالبه بالتسليم إليه فكذلك لو ملكه قبل القسمة طالبه بالقسمة فيصير عقد التبرع موجبا ضمان القسمة عليه وهو خلاف موضوع التبرع بخلاف مالا يحتمل القسمة فانه لا يستوجب به حق المطالبة بالقسمة (فان قيل) يستوجب به المهايأة (قلنا) المهايأة قسمة المنفعة وعقد التبرع لاقى العين فلم يكن ذلك ضمانا في عين ما تبرع به * ولا يرد علي هذا مالو أتلف الواهب الموهوب بعد التسليم ضمن قيمته للموهوب له لان ذلك الضمان يلزمه بالاتلاف لا بعقد التبرع وضمان المقاسمة هنا وان كان بالملك فذلك الملك حكم الهبة فلا يمنع اضافة الضمان إلى الهبة ألا ترى ان شراء القريب اعتاق وان كان العتق بسبب الملك لان ذلك الملك حكم الشراء وبه فارق البيع فانه عقد ضمان فيجوز أن يتعلق به ضمان

[ 66 ] المقاسمة ولان اصل القبض هناك لا يشترط لوقوع الملك فذلك ما يتممه وبه فارق الوصية فأصل القبض هناك ليس بشرط للملك فكذلك ما يتممه وكما يستحق هناك ضمان التسليم على المالك يستحق ضمان المقاسمة ايضا والقرض تبرع من وجه ومن وجه هو عقد الضمان حتى كان المستقرض مضمونا بالمثل فلا يبعد أن يتعلق به ضمان المقاسمة وشرط القبض هناك ليس بمنصوص ليراعى وجوده على أكمل الجهات * ثم لشبهه بالتبرع شرطنا فيه القبض ولشبهه بعقد الضمان لا يشترط فيه القسمة وذلك اعتبار صحيح فيما له سببان وحديث الكبة فانما قال ذلك رسول الله على وجه المبالغة في النهى عن الغلول أي لا أملك الا نصيبي فكيف أطيب لك هذه الكبة من الغنيمة ألا ترى أنه ليس لواحد من الغانمين أن يهب نصيبه قبل القسمة لانه لا يدري أين يقع نصيبه أو كان ذلك مما لا يحتمل القسمة فالكبة من الشعر إذا قسمت على جند عظيم لا يصيب كل واحد منهم ما ينتفع به وحديث المسجد فذكر الواقدي ان أبا بكر رضى الله عنه هو الذى اشترى موضع المسجد باثنى عشر دينارا ولئن تثبت الهبة فيحتمل أن أسعد رضى الله عنه وهب نصيبه ولم يسلم حتى وهب الرجلان نصيبهما ثم سلموا جملة. وعندنا هذا يجوز فان المؤثر الشيوع عند القبض لا عند العقد حتى لو وهب الكل وسلم النصف لا يجوز ولو وهب النصف ثم النصف وسلم الكل جاز. قال (ولو وهب أحد الشريكين نصيبه من شريكه مشاعا فيما يحتمل القسمة لا يجوز عندنا ايضا) وقال ابن أبى ليلى يجوز لقوله تعالى فنصف ما فرضتم الا أن يعفون أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح فهذا يقتضي أن الصداق إذا كان عينا يتنصف بالطلاق فان المرأة تندب إلى أن تترك الكل للزوج والزوج يندب إلى أن يسلم الكل إليها وذلك من كل واحد منهما هبة في المشاع (وعن) أبى السباع مولى عطاء قال أقرضت ابن عمر رضى الله عنهما خمسمائة درهم فقضاني في كيس فوجدته يزيد على حقى ثمانين فقلت في نفسي لعله جربني بهذا فأتيته واخبرته بذلك فقال هولك فهذا كان منه هبة للمشاع في تلك الزيادة من الشريك ولان المانع استحقاق ضمان المقاسمة وذلك لا يجوز في الهبة من الشريك. وحجتنا في ذلك ما بينا أن اشتراط القسمة في الهبة فيما يحتمل القسمه كاشتراط القبض وفى ذلك يستوى الهبة من الشريك ومن الاجنبي فكذلك في القسمة وهذا لان القبض في الهبة لايتم في الجزء الشائع فقبض الشريك لايتم اعتبار ما لاقاه في الهبة وانما يتم به وبغيره وهو ماكان مملوكا

[ 67 ] له وما يشترط لاتمام العقد فانما يعتبر ثانيا فيما تناوله العقد دون غيره فأما الاستدلال بالآية قلنا العفر حقيقته اسقاط وذلك في الدين دون العين ثم في العين كل واحد منهما مندوب إلى العفو عندنا ولكن بطريقة وذلك في أن يهب نصيبه من صاحبه بعد القسمة وليس في الآية ما يمنع ذلك وهو تأويل حديث ابن عمر رضي الله عنهما فمن وجد ما يستوفى أكثر من حقه يميز له الفضل ويأتى به ليرده فيحتمل انه فعل ذلك فوهبة له ابن عمر رضى الله عنهما وعدنا هذا يجوز. قال (ولو وهب دارا لرجلين وسلمها اليهما فالهبة لا تجوز في قول أبى حنيفة رضى الله عنه وفى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله يجوز) لان العقد والتسليم لاقى مقسوما فانه حصل في الدار جملة فيجوز كما لو وهبها لرجل واحد وهذا لان تمكن الشيوع باعتبار تفرق المالك والملك هنا حكم الهبة وحكم الشئ يعقبه فالشيوع الذى ينبنى علي ملك يقع للموهوب لهما لا يكون مقترنا بالعقد ولا تأثير للشيوع الطارئ في الهبة كما لو رجع الواهب بالنصف ولان المعنى استحقاق ضمان المقاسمة على المتبرع وذلك لا يوجد هنا فالعين تخرج من ملك المتبرع جملة وانما ضمان المقاسمة بين الموهوب لهما باعتبار تفرق ملكهما ولان تأثير الشيوع في الرهن أكثر منه في الهبة حتي لا يجوز الرهن في مشاع لا يحتمل القسمة بخلاف الهبة ثم لو رهن من رجلين جاز فالهبة أولى وكذلك الاجارة عند أبى حنيفة رضى الله عنه لا تصح مع الشيوع * ثم إذا أجر داره من رجلين يجوز فكذلك الهبة وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول قبض كل واحد منهما لاقى جزأ شائعا وذلك غير موجب للملك فيما يحتمل القسمة بحكم الهبة كما لو وهب النصف من كل واحد منهما بعقد على حدة وهذا لان تأثير الشيوع باعتبار أن القبض لايتم معه وذلك موجود هنا فكل واحد منهما لا يقبض الا نصبه ولا يتم قبضه مع الشيوع والدليل عليه أن المانع تمكن الشيوع في الملك المستفاد بعقد الهبة حتى لو وهب من رجل النصف ثم النصف وسلم الكل جملة يجوز لانه لاشيوع في الملك المستفاد بالهبة * ولو وهب رجلان من واحد يجوز مع وجود الشيوع في الواهيين لانه لا شيوع في الملك المستفاد بالهبة وان وهب أحدهما نصيبه من زيد والآخر نصيبه من عمرو لا يجوز لتمكن الشيوع في الملك المستفاد بالهبة فثبت أن المانع هذا وهو موجود في الهبة من رجلين. والدليل علي أن المعتبر جانب المتملك دون المملك حكم الشفعة فان رجلين لو اشتريا دارا من واحد لم يكن للشفيع أن يأخذ نصيب أحد المشتريين بالشفعة لتفرق الملك

[ 68 ] في جانب المتملك فظهر بهذا أن المعتبر جانب المتملك لا جانب المملك. ولا اعتماد عن انتفاء ضمان المقاسمة عن الواهب فان رجلين لو وهبا من رجلين على أن يكون نصيب احدهما لاحدهما بعينه ونصيب الآخر للآخر لا يجوز وليس على الواهبين ضمان المقاسمة وليس هذا كالرهن لان المانع هناك تمكن الشيوع في المحل فان موجب الرهن الحبس والحبس في الجزء الشائع لا يتأتى وفى الرهن من رجلين لا شيوع في الحبس لان الحبس ثبت لكل واحد منهما في الكل حتى لو قضى دين أحدهما لا يكون له ان يسترد شيئا من الرهن ما لم يقبض دين الآخر وهذا لانه لا مضايقة في الحبس فكما لا يجوز أن يكون الشخص الواحد كله محبوسا بدين زيد وكله محبوسا بدين عمرو فكذلك العين الواحدة وهنا موجب العقد الملك ولا يتأتى اثباته بكماله لكل واحد منهما فعرفنا ان كل واحد منهما يتملك جزأ شائعا وهذا بخلاف الاجارة فالمانع هناك تعذر استيفاء المنفعة التى تناولها العقد من الجزء الشائع وذلك لا يوجد في الاجارة من الرجلين أو المانع استحقاق عود المستأجر إلى يد المؤجر في مدة الاجارة بحكم المهايأة وذلك لا يوجد وفى الاجارة من الرجلين ولهذا جازت اجارة أحد الشريكين من شريكه بخلاف الهبة ثم قال في الاصل وكذلك في الصدقة وهذا يدل على انه إذا تصدق بما يقسم على رجلين انه لا يجوز عند أبى حنيفة رضى الله عنه كالهبة. وفي الجامع الصغير قال لو تصدق بعشرة دراهم على فقيرين يجوز قال الحاكم رحمه الله يحتمل أن يكون مراده من قوله وكذلك الصدقة على الغنيين فيكون ذلك بمنزلة الهبة لان فعل الهبة من الفقير صدقة والصدقة على الغنى تكون هبة. والاظهر أن في المسألة روايتين. وجه رواية الاصل مابينا ان تمام الصدقة بالقبض كالهبة وقبض كل واحد منهما يلاقى جزأ شائعا فلا يتم به الصدقة كما لا تتم به الهبة ووجه الرواية الاخرى أن المتصدق يجعل ماله لله تعالى خالصا ولا يملكه الفقير من جهة نفسه وانما يملكه الفقير ليكون كفاية له من الله تعالى بعد ما تمت الصدقة من جهته وإذا تصدق على رجلين فلا شيوع في الصدقة لانه جعل جميع العين لله سبحانه وتعالى خالصا بخلاف الهبة ألا ترى ان الجهالة في المصروف إليه لا تمنع صحة الصدقة حتى إذا أوصى بثلث ماله صدقة على الفقراء يجوز بخلاف ما لو أوصي به لقوم لا يحصون من الاغنياء وكذلك إذا أوصى بعين للفقراء أو لفلان ونصفه لفلان واعتبر للفقراء سهم واحد باعتبار ان الصدقة لله تعالى لا للفقراء. قال (وان وهب رجل دارا لرجلين لاحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها وقبضاها لم يجز في قول أبى

[ 69 ] حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله ويجوز عند محمد رحمه الله) وهذا على أصل أبى حنيفة لا يشكل فانه عند الاطلاق لا يجوز هذا الاطلاق فعتد التفصيل أولى وانما الخلاف بينهما لو قال على أن يكون النصف لهذا يجوز عندهما ذكره ابن سماعة في نوادره فأبو يوسف رحمه الله يقول حالة التفصيل متى كانت لا تخالف حالة الاجمال فالتفصيل لغو ومتى كانت تخالف حالة الاجمال فلابد من اعتبار التفصيل لان كلام العاقل معتبر لفائدته لا لعينه فإذا لم يكن مفيدا لا يعتبر وإذا نصف بينهما فالتفصيل لا يخالف الاجمال لان موجب العقد عند الاجمال أن يملك كل واحد منهما النصف فلا يعتبر تفصيله وإذا تفاوت بينهما فالتفصيل يخالف الاجمال فيجب اعتباره فإذا اعتبر بتفرق العقد فكأنه أوجب لكل واحد منهما العقد في جزء شائع على حدة وقاس الرهن فانه لو رهن من رجلين مطلقا يجوز وإذا فصل لا يجوز لان بالتفصيل يتفرق العقد الا ان هناك يستوى ان فصل أو سوى في التفصيل لمخالفة حالة التفصيل حالة الاجمال في الوجهين فان عند الاجمال يثبت حق الحبس لكل واحد منهما في الكل وعند التفصيل لا يثبت ومحمد رحمه الله يقول العقد والتسليم من الواهب جملة وان فصل وفصل يجوز إذا اطلق أو سوى في التفصيل. وهذا لوجهين (احدهما) أن الاطلاق في الهبة كالتفصيل حتى لو وهب لرجلين عينا لا تحتمل القسمة فقبل أحدهما دون الاخر لا يجوز كما لو فرق العقد (والثانى) أن العقد متى كان جملة عند الاطلاق فبالتفصيل لا يتفرق في عقود التمليكات كما في البيع فان رجلا لو باع ثوبين من رجل بعشرين درهما فقبل المشترى العقد في احدهما لا يجوز ولو قبل فيهما ثم نقد الثمن في احدهما لا يكون له أن يقبض مانقد ثمنه وكذلك لو فصل وسمى لكل واحد منهما ثمنه. فعرفنا أن بالتفصيل لا يتفرق العقد فالشيوع باعتباره لا يفرق العقد وانما يكون طارئا بعد ملك الموهوب لهما وذلك غير مؤثر في المنع من الهبة فاما في الرهن فالمانع تمكن الشيوع في المحل فيما هو موجب العقد وهو الحبس وذلك يتحقق عند التفصيل وان كانت الصفقة واحدة ألا ترى أنه لو وهبه عينا بدينين نصفه بأحد الدينين ونصفه بالدين الآخر لا يجوز وقد بينا ان في الهبة عند اتحاد العقد لا يمنع صحته لتمكن الشيوع فيما هو موجب العقد وهو الملك المستفاد لكل واحد منهما. قال (ولو وهب أحد الشريكين نصيبه من الدار من أجنبي لم يجز) لان الايجاب والتسليم لاقى جزأ شائعا وانما

[ 70 ] أورد هذا الاشكال وهو ان ضمان المقاسمة هنالك لا يستحق على المتبرع انما يستحق على الشريك ولكن قد بينا أن هذا المعنى لا يتمشى في جميع الفصول كالهبة من الشريك ويجوز ذلك وان الحرف الذى يتمشي ان القبض لا يتم مع الشيوع فيما يحتمل القسمة. قال (وان وهب رجل لرجلين الف درهم لاحدهما ستمائة وللآخر اربعمائة فذلك لايوز عند ابى حنيفة وابى يوسف رحمهما الله ويجوز عند محمد رحمه الله) وهذا وما تقدم من هبة الدار إذا فصل وفصل سواء. قال (رجل وهب لرجل دينارا له على رجل وامرأة يقبضه جاز ذلك استحسانا) وفي القياس لا يجوز وهو قول زفر لان الدين ليس بمال حتى ان من حلف لامال له وله دين على انسان لا يحنث في يمينه والهبة عقد مشروع لتمليك المال فإذا اضيف إلى ما ليس بمال لا يصح باعتبار مآله كما لو وهب مسلم خمرا من مسلم لا يصح باعتبار مآله وهو التحلل والدليل عليه أن بيع الدين من غير من عليه الدين لا يجوز لانه عقد مشروع لتمليك المال فالهبة مثله أو أولى لان الهبة لا تتم الا بالقبض وقبض ما في ذمة الغير لا يتصور ولا وجه لتصحيحه إذا قبضه لان تمام عقد الهبة بقبض ما أضيف إليه العقد إلى الدين والمقبوض عين والعين غير الدين. ووجه الاستحسان انه أنابه في القبض مناب نفسه فيجعل قبض الموهوب له كقبض الواهب ولو قبضه بنفسه ثم وهبه وسلمه جاز وكذلك إذا أمر أن يقبضه له ثم لنفسه وهذا لان في باب الهبة المعتبر وقت القبض فان الملك عنده يثبت. دليل ما بينا من فصل الشيوع وعند القبض هو مال قابل للتمليك كسائر الاسباب فكذلك بالهبة والمقبوض وان كان غير الدين حقيقة جعل في الحكم كأنه هو بدليل جواز القبض في الصرف والسلم مع حرمة الاستبدال فيهما وليس البيع نظير الهبة فانه يوجب الملك بنفسه قبل القبض فكان المعتبر فيه وقت العقد فإذا لم يكن عين مال لم يجز بيعه مع ان الدين في الذمة يقبل التمليك بالعقد فانه لو باعه ممن عليه الدين بعوض جاز ولو وهبه منه جاز فعرفنا أنه مال قابل للتمليك حكما ولهذا تجب الزكاة فيه قبل القبض والشرط في عقد التمليك ان يضاف الي محل قابل له وقد وجدتم لزومه قبل القبض وعند القبض بحكم الهبة هو عين فيتم العقد. قال (رجل رهن عبده من رجل وسمله إليه ثم وهبه لابنه الصغير لم يجز) لانه ليس في يده فاليد بعقد الرهن مستحقة عليه للمرتهن فلا يكون الاب قابضا لولده ما ليس في يده ولانه يبطل به حق المرتهن وهو حق مستحق عليه فلا يملك ابطاله وكذلك لو غصب عبده غاصب فوهبه

[ 71 ] لابنه لانه ليس في يد المغصوب منه حقيقة ولا حكما فانه مضمون على الغاصب وانما يضمن بتفويت يد المغصوب منه بخلاف الوديعة إذا وهبها من أبيه لان يد الموع في الحكم كيد المودع فيمكن أن يجعل قابضا لولده باليد التى هي قائمة مقام يده (فان قيل) فقد قلتم إذا وهب الوديعة من المودع جاز ولو كانت يده كيد المودع لم يكن قابضا لنفسه بحكم يده (قلنا) في الحقيقة اليد للمودع فباعتبار هذه الحقيقة يجعله قابضا لنفسه ثم انما قامت يده مقام يد المودع مادام هو في الحفظ عاملا للمودع وذلك قبل التمليك بالهبة فأما بعد ذلك فهو عامل لنفسه * ولو باعن بيعا فاسدا وسلمه أو باعه بشرط الخيار للمشترى ثم وهبه لابنه الصغير لا يجوز لانه خرج من ملكه بتصرفاته فانما وهب مالا يملك ولان اليد لغيره حقيقه وحكما حين كان في ضمان الغير. قال (ولا يجوز هبة المكاتب كما لا يجوز عتقه) لانه تبرع محض ولو اجازه المولى فكذلك لان اجازة المولى إنما يعمل فيها بملك المولى أنشأه وهو لا يملك ذلك في كسب المكاتب. قال (رجل وهب لرجل ما على ظهر غنمه من الصوف أوما في ضروع غنمه من اللبن لم يجز ذلك) لان الصوف واللبن مادام متصلا بالحيوان فهو ليس بمال مقصود بنفسه ولكنه وصف الحيوان وعقد التمليك مقصودا لا يتم فيما ليس بمال مقصود فان أمره بجز الصوف وحلب اللبن وقبض ذلك استحسنت أن أجيزه وهذا لوجهين (احداهما) أن الصوف على ظهر الغنم واللبن في الضرع محل للتمليك بدليل جواز الوصية به وجواز الصلح عليه عند أبى يوسف رحمه الله في الصوف وتمام عقد الهبة بالقبض فإذا كان قبضه بعد الجزاز وهو مال متقوم في هذه الحال يتم فيه الهبة كما بينا في الدين (والثانى) أن امتناع جواز الهبة لان الموهوب متصل بما ليس بموهوب من ملك الواهب مع امكان الفصل فيكون ذلك بمنزلة الشائع وقد بينا أنه لوهب شيئا مشاعا ثم قسم وسلم مقسوما تمت الهبة فهذا مثله وكذلك ثمر الشجرة والزرع إذا حصده فهو على القياس والاستحسان الذى ذكرنا. قال (ولا يجوز هبة العبد المأذون) لانه منفك الحجر عنه في التجارات دون التبرعات فان اجازه مولاه ولا دين عليه جاز لان كسبه خالص حقه يملك مباشرة الهبة فيه فينفذ باجازته ايضا وان كان عليه دين لم يجز ذلك وان اجازه المولى والغرماء لان حق الغرماء في دينهم لا يسقط باجازة الهبة فلا معتبر باجازتهم والمولى لا يملك مباشرة الهبة بنفسه فلا تعمل اجازته ايضا قال (ولو وهب له ما يثمر النخيل العام لم يجز) لانه معدوم في الحال والمعدوم ليس بشئ

[ 72 ] بنفوذ العتق وفى الهبة لو استثنى مافى البطن قصدا لم تبطل الهبة فكذلك إذا صار مستثنى حكما وذكر في كتاب العتاق انه لو دبر مافى بطن جاريته ثم وهب الجارية لم يجز. وقيل في الفصلين روايتان. في احدى الروايتين لا يجوز فيهما لان الموهوب مشغول بما ليس بموهوب فهو كما لو وهب دارا فيما متاع الواهب. وفى الرواية الاخرى يجوز فيهما لانه لو استثنى الولد قصدا لم تبطل به الهبة في الام فكذلك إذا صار مستثنى حكما والاصح هو الفرق بينهما فان التدبير لا يزيل ملك المدبر. والموهوب متصل بما ليس بموهوب في ملك الواهب فكان ذلك في معنى هبة المشاع فيما يحتمل القسمة فأما العتق فانه يزيل ملك المعتق فإذا وهب الام بعد اعتاق الجنين فالموهوب غير متصل بما ليس بموهوب في ملك الواهب فهو كما لو وهب أرضا فيها ابن الواهب واقف وسلمها إلى الموهوب له تمت الهبة فكذلك هنا. قال (ولا يجوز للاب ان يهب من ماله ابنه الصغير شيئا) لانه صار نائبا عن الصغير في التصرف في ماله لتوفير المنفعة عليه وذلك بالتبرع لا يحصل فهو كسائر الاجانب كما لو طلق امرأته. قال (عبد مأذون عليه دين كثير وهبه مولاه لرجل لم تجز هبته والدين في رقبته يباع فيه الا أن يؤدى عند مولاه الذى في يده) ومعنى قوله لم يجز ان الهبة لا تتم وللغرماء أن يبطلوا هبته لان المولى مالك لرقبته ولكن حق الغرماء سابق على حقه في ماليته وفى اتمام الهبة ابطال هذا الحق عليهم ولكن ليس في أصل التمليك إبطال حقهم فيصير مملوكا للموهوب له مشغولا عن الغرماء على الوجه الذى كان في ملك الواهب لانه اقامه مقام نفسه في ملك الرقبة وله هذه الولاية فيما هو خالص حقه ولهذا لو قضي الموهوب له دينه كان سالما له لان تمكن الغرماء من إبطال ملكه لقيام دينهم وقد وصل إلى الغريم حقه قال (فان ذهب الموهوب له بالعبد ولم يقدر عليه فللغرماء أن يأخذوا الواهب بقيمته يوم وهب) لانه هو الذى اتلف حقهم بالتمليك من الموهوب له والتسليم فيصير ضامنا قيمته لهم كما لو اعتقه. قال (ولو وهب له ما في بطن أمته وسلطه على قبضه بعد الوضع فقبضه لم يجز) وقد بينا الفرق بين هذا وبين هبة الدين والصوف على ظهر الغنم * وفى الكتاب قال من قيل انه وهب له ما لم يكن بعد فانه وهب له الولد وقبل الانفصال لا يكون ولدا ألا ترى انه لو وهب له دهن سمسم قبل أن يعتصر وسلطه على قبضه إذا عصر أو وهب الزيت في الزيتون والدقيق في الحنطة قبل الطحن والسمن في اللبن قبل ان يتمخص فهذا كله باطل لانه هبة

[ 73 ] واضافة عقد التمليك إلى غير محله لغو (فان قيل) لاكذلك فالوصية بما يثمر نخيله العام صحيح (قلنا) الوصية ليست بعقد تمليك مال وانما شرعت للخلافة عن الموصى ثم الملك من ثمراته ولهذا لا يتوقف ثبوت الملك فيه على القبض وهنا العقد التمليك فلابد من اضافته إلى ما هو مملوك ليعتبروا الملك لا يسبق الوجود وبه فارق ما سبق من الصوف واللبن فانه موجود مملوك وان كان متصلا بالحيوان فانما يمتنع جواز بيعه لتمكن المنازعة بينهما عند التسليم وذلك لا يوجد في الهبة * ثم الجزاز والحلب والقبض في اللبن في وسعه فيمكن أن يجعل فيه نائبا عن الواهب ثم قابضا لنفسه بعد ذلك فأما الايجاب في الثمار ليس إليه. قال (وكذلك لو وهب له مافى بطن جاريته وهى حبلى أو مافى بطن غنمه فهو باطل) من اصحابنا رحمهم الله من يقول ان أمره بقبضه بعد الولادة فقبض ينبغى ان يجوز استحسانا كما في الصوف واللبن والاصح أنه لا يجوز لان مافى البطن ليس بمال اصلا ولا يعلم وجوده حقيقة ولان اخراج الولد من البطن ليس إليه فلا يمكن أن يجعل في ذلك نائبا عن الواهب بخلاف الجزاز في الصوف والحلب في اللبن. ومعنى هذا الفرق ان فيما ليس في وسعه لو جاز العقد باعتباره كان تعليقا للهبة بالخطر وذلك غير جائز وما في وسعه يكون تأخيرا لملكه إلى قبضه لا تعليقا للهبة بالخطر وذلك جائز. قال (ولو اعتق مافى بطن جاريته ثم وهبها لرجل وسلمها إليه جازت الهبة في الام فان باعها لم يجز بيعه) لانه لو باع جاريته واستثنى ما في بطنها لم يجز البيع ولو وهبها واستثنى مافى بطنها جازت الهبة في الام والولد والاستثناء باطل * أما مسألة استثناء ما في البطن تنقسم إلى ثلاثة أقسام (قسم منها) لا يجوز أصل التصرف وهو البيع والاجارة والرهن لان موجب اضافة العقد إلى الامر دخول الولد فيه واستثناء موجب العقد في هذه العقود مبطل للعقد لانه شرط فاسد وما يتعلق بالجائز من الشرط فالشرط الفاسد يبطله (وقسم منها) يجوز التصرف ويبطل الشرط وهو النكاح والخلع والصلح عن دم العمد والهبة لان الشرط الفاسد لا يبطل هذه العقود بل العقد صحيح والشرط باطل والاصل فيه ماروى عن النبي انه أجاز العمرى وأبطل الرقبي (وقسم) يجوز التصرف والاستثناء جميعا وهو لوصية لان في حكم الوصية مافى البطن كانه شخص على حدة حتى يجوز افراده بالوصية فيجوز استثناؤه أيضا لانه غير مبنى على السراية بخلاف العتق * فإذا عرفنا هذا فنقول في البيع لو استثنى ما في البطن قصدا لم يجز البيع فكذلك إذا صار مستثنى حكما

[ 74 ] المعدوم فان الدهن حادث بالعصير والدقيق بالطحن ولهذا لو فعله الغاصب كان مملوكا له وهذا لانه قبل الطحن في الحنطة والدقيق غير الحنطة وكون الشئ الواحد مثنى في وقت واحد مستحيل فعرفنا أنه أضاف العقد إلى المعدوم وكان لغوا. بخلاف الوصية فان هذا كله يجوز في الوصية لانه خلافه وليس بايجاب للملك * ثم قال في بعض النسخ وكذلك اللبن في ضرع الشاة والصوف على ظهرها وهذا غلط فقد قيل هذا في الصوف واللبن إذا أذن له في الحلب والجز وقبض ذلك جاز استحسانا وبما بينا يظهر الفرق بينهما. قال (وإذا وهب الرجل للرجل نصف عبد أو ثلثه وسلمه جاز) لانه مما لا يقسم وقد بينا ان هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة صحيحة فإذا وهب جزأ مسمى وسلمه بالتخلية جاز وهذا لان الحاجة تمس إلى ايجاب التبرع فيما لا يحتمل القسمة فلو لم يجز ذلك ضاق الامر على الناس لابطال هذا النوع من التصرف عليهم فيما لا يحتمل القسمة أصلا بخلاف ما يحتمل القسمة فانه يتأخر فيه التصرف إلى القسمه ولا يبطل أصلا فلا يتحقق فيه الضرورة. قال (وان وهب عبده لرجلين أو وهب رجلان لرجل أو وهب أحدهما نصيبه لشريكه أو لاجنبي وسلمه فهو جائز كله) لان الموهوب معلوم ولا أثر في الشيوع في المنع من الهبة في هذا المحل * وان قال أحد الشريكين لرجل قد وهبت لك نصيبي من هذا العبد فاقبضه ولم يسمه له ولم يعلمه اياه لم يجز لجهالة الموهوب وهذه الجهالة تفضى إلى المنازعة بينه وبين الشريك الآخر ولان المجهول لا يجوز تمليكه بشئ من العقود قصدا قال (ولو وهب رجل لرجلين نصف عبدين أو نصف ثوبين مختلفين أو نصف عشرة أثواب مختلفة نمطى ومروى وهروى ونحو ذلك جاز) لان مثل هذه الثياب لا تقسم قسمة واحدة فكان واهبا لنصيبه من نصف كل ثوب وكل ثوب ليس بمحتمل للقسمة في نفسه وكذلك الدواب المختلفة علي هذا فان كان ذلك من نوع واحد لم تجز هبته الا مقسوما لان الثياب إذا كانت من نوع واحد تقسم قسمة واحدة والدواب كذلك فانما وهب النصف مشاعا فيما يحتمل القسمة وذلك لا يجوز. قال (وان وهب نصيبا له في حائط أو طريق أو حمام وسمى وسلطه فهو جائز) لانه غير محتمل للقسمة فانه إذا قسم لا يمكن الانتفاع به على الوجه الذى ينتفع به قبل القسمة وهذا هو صفة مالا يحتمل القسمة. قال (ولو وهب نصف داره لرجل وسلمها إليه ثم وهب نصفها الآخر لرجل لم يجز شئ من ذلك) لان كل واحد من العقدين لوتم انما يتم في مشاع يحتمل القسمة وان لم

[ 75 ] يسلم النصف الاول حتى وهب النصف الثاني للثاني ثم سلم الدار اليهما جازت الهبة لهما عند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله بمنزلة مالو وهب الدار لهما جملة (وان وهب لرجل نصفها ثم قسمها ودفع النصف إليه جاز) لان المعتبر عند القبض ولا شيوع عند ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم باب العوض في الهبة قال (وإذا عوض الموهوب له الواهب من هبته عوضا وقبضه الواهب لم يكن للواهب. ان يرجع في هبته ولا للمعوض أن يرجع في عوضه) والحاصل ان العوض في الهبة نوعان متعارف ومشروط فبدأ الباب ببيان ما هو متعارف من العوض غير مشروط والاصل أن المعوض بمنزلة الواهب حتى يشترط في العوض ما يشترط في ابتداء الهبة فلا يحصل الملك للواهب الا بالقبض بعد القسمة لان المعوض متبرع مختار في هذا التمليك كالواهب وبعد وصول العوض إلى الواهب لا رجوع له في الهبة لقوله ما لم يثب منها وحكم ما بعد الغاية بخلاف ما قبله ولان حق الرجوع له في الهبة كان لخلل في مقصوده وقد انعدم ذلك لوصول العوض إليه فهو كالمشتري يجد بالمبيع عيبا فيزول العيب قبل ان يرده ولا يرجع المعوض في عوضه أيضا لان مقصوده بالتعويض اسقاط حق الواهب في الرجوع وقد نال هذا المقصود ولانه مجازى في التعويض وبقاء جزء الشئ ببقاء أصله فإذا كان الموهوب سالما له فينبغي أن يكون الجزء سالما لصاحبه أيضا. قال (وان وهب عبدا لرجلين فعوضه أحدهما من حصته كان له أن يرجع في حصة الآخر) لانه لم يصل إليه العوض عن حصة الآخر والجزء معتبر بالكل والرجوع في النصف شائعا صحيح بخلاف ابتداء الهبة لان الراجع ليس يتملك بالرجوع بل يعيده إلى قديم ملكه والشيوع من ذلك لايمنع وبالرجوع في النصف لا تبطل الهبة فيما بقى لانه شيوع طرأ بعد تمام الهبة فلا يكون مؤثرا فيه فان ما يتمم القبض معتبر بأصل العقد وعود الموهوب إلى يد الواهب لايمنع بقاء الهبة فالشيوع كذلك فان عوضه أحدهما عن نفسه وعن صاحبه لم يكن للواهب أن يرجع في شئ من العبد لانه في نصيب صاحبه أجنبي والتعويض من الاجنبي صحيح وان كان بغير أمر الموهوب له لانه تصرف في المعوض في ملكه وانما يسقط به حق الواهب في الرجوع ومثل هذا التصرف يصح من الأجنبي كصلح الاجنبي مع صاحب الدين من دينه على مال

[ 76 ] نفسه يجوز ويسقط به الدين عن المديون فهذا مثله ولا يكون للمعوض أن يرجع في شئ من العوض لان مقصوده قد حصل حتى سقط حق الواهب عن الرجوع في الكل ولا يرجع على صاحبه أيضا بشئ سواء عوضه بأمره أو بغير أمره وكذلك لو عوضه أجنبي عن الهبة شيئا أما إذا كان بغير أمره فلا يشكل وان كان بأمره فالتعويض لم يكن مستحقا على الموهوب له فانما أمره بأن يتبرع بمال نفسه على غيره وذلك لا يثبت له حق الرجوع عليه من غير ضمان ولانه مالك للتعويض بدون أمره فلا معتبر بأمره فيه وهذا بخلاف الدين فانه إذا كان أمر انسانا بقضاء دينه يرجع عليه بما أدى لان الدين كان معلوما في ذمته وهو كان مطالبا به فقد أمره أن يسقط عنه المطالبة بمال يستحق عليه وأمره أن يملكه ما في ذمته بعوض ولو أمره أن يملكه عينا بعوض رجع عليه بما أدى فيه من ملك نفسه فهذا مثله وهنا لم يكن للواهب في ذمة الموهوب له ملك فالمعوض غير مملوك منه ولا هو مسقط عنه مطالبة مستحقة لانه ما كان يستحق عليه العوض انما كان للواهب حق الرجوع فقط والموهوب له كان متمكنا من اسقاط حقه بدون التعويض بان يتصرف فيه فلهذا لا يرجع عليه المعوض بأمره إذا لم يضمن له ألا ترى أنه فيما هو فوق هذا لا يرجع بالامر بدون الشرط نحو مااذا قال كفر يمينى من طعامك أو أد زكاة مالى بمالك فهذا أولى. قال (إذا عوض الموهوب له الواهب من هبته عوضا فقال هذا عوض من هبتك أو ثواب من هبتك أو بدلها أو مكانها فهذا كله عوض) لان الشرط في التعويض أن يضيفد إلى الموهوب ليندفع به الغرر عن الواهب ويعلم الواهب أنه يعطيه جزاء صنعه واتماما لمقصوده وقد حصل ذلك بهذه الالفاط فانما ينبنى الحكم على ما هو المقصود فإذا حصل ذلك فالعبارات فيه سواء فان استحقت الهبة كان للمعوض أن يرجع في عوضه لانه انما عوضه ليتم سلامة الموهوب له باسقاط حق الواهب في الرجوع وقد فات ذلك عليه باستحقاق الموهوب فيتمكن من الرجوع في العوض أو لان المعوض كالواهب فإذا استحق الموهوب فلم يبق له بمقابلة هبته شئ فكان له أن يرجع بالهبة وان كان المعوض هالكا ضمنه قيمته وروى بشر عن أبى يوسف رحمهما الله أنه لا يضمنه شيئا لان المعوض واهب وقبض الهبة ليس بقبض ضمان ولانه تبين أنه بمنزلة الواهب ابتداء فيكون حقه في الرجوع مقصورا على العين لحق الواهب ابتداء. وجه ظاهر الرواية أن المعوض انما رضى بالتعويض ليتم له به سلامة الهبة فإذا استحق فقد

[ 77 ] تمكن الخلل في رضاه فيجعل كما لو قبض الواهب بغير رضاه وهلك في يده فعليه ضمان القيمة ولان الواهب عاد له في هبة المستحق ولولا ذلك ما عوضه وللمغرور أن يدفع الغرر عن نفسه بالرجوع على الغار بما لحقه من الخسران. يوضحه أن التعويض لا يكون الا مضافا إلى الهبة والتمليك مضافا إلى بدل مستحق يكون فاسدا فتبين أن الواهب قبضه لنفسه بسبب فاسد وكان مستحق الرد عليه عند قيامه مضمونا بالقيمة بعد هلاكه وان استحق العوض كان للواهب أن يريجع في هبته إذا كانت قائمة بعينها لم تزدد خيرا لان التعويض بطل بالاستحقاق من الاصل فظهر الحكم الذى كان قبل التعويض. قال (وان استحق نصف الهبة كان للمعوض أن يرجع في نصف العوض اعتبارا للجزء بالكل وان استحق نصف العوض فليس للواهب أن يرجع في شئ من الهبة الا ان يشاء أن يرد ما بقى من العوض ويرجع في الهبة فيكون له ذلك) وقال زفر إذا استحق نصف العوض فله أن يرجع في نصف الهبة اعتبار للجزء بالكل واعتبار للعوض بالهبة فانه لو استحق نصف الهبة كان له أن يرجع في نصف العوض فكذلك إذا استحق نصف العوض وهذا لان كل واحد منهما يصير مقابلا بالآخر في حكم سلامته لصاحبه فهو كبيع العوض بالعوض إذا استحق نصف احدهما يكون للمستحق عليه أن يرجع على صاحبه بنصف ما يقابله. وجه قولنا ان المستحق يخرج من أن يكون عوضا فيصير كأن لم يكن ولو كان عوضه في الابتداء نصف العبد لم يرجع في شئ من الهبة فكذلك هنا وهذا لان ما بقى يصلح أن يكون عوضا عن الكل وانما يتمكن الخلل في رضاء الواهب فكان تأثيره في اثبات الخيار له فان شاء رد ما بقى ليدفع الضرر به عن نفسه وان شاء أمسك ما بقى ولم يرجع بشئ (فان قيل) في الابتداء يجعل تمليك النصف عوضا له عن جميع الهبة فأما في الاستحقاق فهو قد يجعل تمليك الكل عوضا عن جميع الهبة فيكون ذلك تنصيصا منه على أن النصف عوض نصف الهبة فلا يجوز أن يجعل بالاستحقاق النصف عوضا عن الجميع (قلنا) هذا مستقيم في المبادلات لان البعض ينقسم على البعض لتحقق المقابلة وهذا ليس بمبادلة على سبيل المقابلة فلا يثبت هذا التقسيم في حقه ولكن كل جزء من آخر العوض يكون عوضا عن جميع الهبة فلا يكون له أن يرجع في شئ من الهبة مع سلامة جزء العوض له * ثم الفرق بين استحقاق نصف العوض ونصف الهبة بهذا الحرف وهو أن المعوض ملك العوض الا جزأ فيعتبر حكم المقابلة في حقه فإذا استحق نصف الهبة من يده رجع ينصف العوض فأما الواهب

[ 78 ] فقد ملك الهبة ابتداء من غير أن يقابله شئ ثم تأثير العوض في اسقاط حقه في الرجوع والجزء من العوض في ذلك بمنزلة الكل إذا تم رضاه به * والحاصل ان للعوض شبهين شبه ابتداء الهبة من حيث ان العوض مختار فيه متبرع وشبه المبادلة له من حيث انه ملكه مضافا إلى الهبة فتوفر حظه عليهما فنقول لشبهه بالمبادلات إذا استحق الكل رجع في الهبة ولشبهه بابتداء الهبة إذا استحق النصف لا يرجع في شئ من الهبة الا أن يرد ما بقى. قال (وسواء كان العوض شيئا قليلا أو كثيرا من جنس الهبة أو من غير جنسها) لان هذه ليست بمعاوضة محضة فلا يتحقق فيها الربا وانما تأثير العوض في قطع الحق وفي الرجوع لتحصيل المقصود ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير إذا بينه للواهب ورضى الواهب به قال (فان كانت الهبة ألف درهم والعوض درهم واحد من تلك الدراهم لم يكن عوضا وكان للواهب أن يرجع في الهبة وكذلك ان كانت الهبة دارا والعوض بيت منها) وعن زفر أن هذا يكون عوضا لان ملك الموهوب له قد تم في الموهوب بالقبض والتحق المقبوض بسائر أمواله فكما يصلح سائر أمواله عوضا عن الهبة قل ذلك أو كثر فكذلك هذا. وجه قولنا ان مقصود الواهب بهذا لا يحصل لانا نعلم يقينا انه يهبه ألف درهم منه ما قصد تحصيل درهم من تلك الدراهم لنفسه لان ذلك كان سالما له وسقوط حقه في الرجوع باعتبار حصول مقصوده بالهبة ولانه انما يجوز أن يجعل عوضا بالتراضى في الانتهاء ما يجوز ان يجعل عوضا شرطا في الابتداء فكذلك لا يستقيم أن يجعل عوضا في الانتهاء بخلاف مال آخر من ملك الموهوب له. قال (ولو ان نصرانيا وهب للمسلم هبة فعوضه المسلم منها خمرا أو خنزيرا لم يكن ذلك عوضا) لما بينا أن هذا لا يصلح عوضا شرطا في الابتداء ولان المعوض مملك ابتداء وتمليك المسلم الخمر أو الخنزير من النصراني بالعقد باطل وإذا بطل التعويض كان للنصراني ان يرجع في هبته. قال (عبد مأذون له في التجارة وهب لرجل هبة فعوضه من هبته كان لكل واحد منهما ان يرجع في الذى له) لان الهبة من العبد باطلة فانه غير منفك عنه الحجر بالتبرع وبالتعويض الهبة الباطلة لا تنقلب صحيحة وانما تأثير العوض في اسقاط حق الرجوع في هبة صحيحة وإذا رجع العبد في الهبة لبطلانها فللمعوض أن يرجع في العوض لانه عوضه ليسلم له الهبة ولم يسلم. قال (وكذلك والد الصغير إذا وهب من مال ابنه شيئا لرجل فعوضه الموهوب له) لان هذا تعويض عن هبة باطلة. قال (فان كان الواهب هو الرجل فعوضه الاب منمال الصغير لم يجز

[ 79 ] العوض) لانه ملك مال الصغير بالتبرع ابتداء وليس للاب ذلك في مال الولد وقد بينا أن المعوض كالواهب ابتداء وإذا لم يسلم العوض للواهب فله ان يرجع في هبته كما قبل التعويض. قال (وإذا تصدق الموهوب له على الواهب يصدقة أو نحله أو أعمره فقال هذا عوض من هبتك فهو عوض لان المقصود قد حصل ولا معتبر لاختلاف العبارة بعد حصول المقصود فبأي لفظ ملكه العوض أو أعلمه انه عوض من هبته فهو عوض قال (رجل وهب لرجل عبدا على أن يعوضه عوضا يوما أو اتفقا على ذلك ولم يقبض واحد منهما حتى امتنع أحدهما منه فله ذلك فان تقابضا جاز ذلك) بمنزلة البيع وليس لواحد منهما أن يرجع فيه وهذا مذهبنا فان الهبة بشرط العوض هبة ابتداء بيع انتهاء وقال زفر رحمه الله ابتداء وانتهاء بيع وفى أحد أقاويل الشافعي رضى الله عنه هو فاسد لان هذا شرط يخالف مقتضى العقد فيكون مبطلا للعقد. وبيانه أن عقد الهبة عقد تبرع واشتراط العوض فيه يخالف مقتضاه وزفر رحمه الله تعالى يقول هذا تمليك مال بمال شرطا وكان بيعا فاسدا ابتداء كما لو عقد بلفظ البيع أو التمليك وهذا لان في العقود يعتبر المقصود وعليه ينبنى الحكم. ألا ترى أنه لو قال اشتريت منك كرا من حنطة صفتها كذا بهذا الثوب وبين شرائط السلم يكون سلما وان لم يذكر لفظ السلم وانه لو وهب ابنته من رجل كان نكاحا. ولو وهب امرأته من نفسها كان طلاقا. ولو وهب عبده من نفسه كان عتقا. ولو وهب الدين ممن عليه كان ابراء فاللفظ واحد ثم اختلف العقد لا ختلاف المقصود. والدليل عليه أنه لو قال وهبت منك منفعة هذه الدار شهرا بعشرة دراهم يكون اجارة يلزم بنفسه. وكذلك لو قال أعرتك والاعارة تمليك المنفعة بغير عوض فإذا شرط فيه البدل كان اجارة فكذلك الهبة تمليك الموهوب بغير عوض فإذا شرط العوض يكون بيعا والدليل عليه أن المكره على الهبة بشرط العوض لو باع كان مكرها وكذلك المكره على البيع والتسليم إذا وهب بشرط العوض ولو لم يكونا في الحكم سواء لم يكن المكره على احدهما مكرها على الآخر. وحجتنا في ذلك أن هذا تمليك المال بلفظ يخالف ظاهره معناه فيكون ابتداؤه معتبرا بلفظه وانتهاؤه معتبرا بمعناه كالهبة في المرض فان ظاهره تمليك في الحال بطريق التبرع ومعناه معنى الوصية فيعتبر ابتداؤه بلفظه حتى يبطل بعدم القبض ولا يتم مع الشيوع فيما يحتمل القسمة وانتهاؤه معتبر بمعناه حتي يكون من الثلث بعد الدين وهذا لان الالفاظ قوالب المعاني فلا يجوز الغاء اللفظ وان وجب (6 ثانى عشر مبسوط)

[ 80 ] اعتبار المعنى الا إذا تعذر الجمع للمنافاة ولا منافاة هنا فشرط العوض لا يكون أبلغ من حقيقة التعويض وبحقيقة التعريض لا ينتفى معنى الهبة فبشرط العوض أولى بخلاف النكاح والطلاق والعتاق فان هناك بين اللفظ والمعنى منافاة وقد وجب اعتبار المعنى فيسقط اعتبار اللفظ لذلك ثم انعقاد العقد باللفظ والمقصود هو الحكم وأوانه بعد تمام العقد فعند الانعقاد اعتبرنا اللفظ لان العقد به ينعقد وعند التمام اعتبر المقصود وما تردد بين أصلين توفر حظه عليهما فالمكاتب لما كان بمنزلة الحر من وجه وبمنزلة المملوك من وجه اعتبر الشبهان * فأما لفظ الاعارة أو الهبة في المنفعة فقد حكى عن ابن طاهر الدباس قال كنافى تدبر جواب هذه المسألة فوجدت رواية عن أبى حنيفة أنه لا يلزم قبل استيفاء المنفعة وبعد التسليم يقول هناك يتعذر اعتبار الجانبين لان المنفعة لا تبقى وقتين فلا يمكن جعل العقد عليها تبرعا ابتداء معاوضة انتهاء فجعلناه معاوضة ابتداء بخلاف العين على ما قررناه. وأما مسألة الاكراه قلنا المكره مضار متعنت ومعنى الاضرار في حكم السبب لافى نفسه فلهذا استوفي في حقه البيع والهبة بشرط العوض ولهذا جعل الاكراه على الهبة اكراها على التسليم وبعد التسليم البيع والهبة بشرط العوض سواء * إذا ثبت هذا الاصل فنقول قبل التقابض العقد تبرع فان لكل واحد منهما أن يرجع عنه ولا يملك كل واحد منهما متاع صاحبه ما لم يقبضه ولا يجوز في مشاع يحتمل القسمة وبعد التقابض هو بمنزلة البيع فليس لواحد منهما أن يرجع فيه ويجب للشفيع به الشفعة ولكل واحد منهما أن يرد مافى يده بعيب ان وجد فيه كما هو الحكم في البيع وان استحق مافى يد احدهما يرجع على صاحبه بما في يده ان كان قائما وبقيمته ان كان هالكا لانه ما رضي بسقوط حقه عن متاعه الا بشرط سلامة العوض له فإذا لم يسلم رجع بمتاعه ان كان قائما وبماليته ان كان هالكا. وكذلك لو كان الاستحقاق بعد موت احدهما وهو معنى ما ذكرنا من حديث أبى الدرداء رضى الله عنه فهو دين عليه في حياته وبعد موته. قال (رجل وهب لرجل ثوبا لغيره وسلمه إليه فأجاز رب الثوب جازت الهبة) لان الاجازة في الانتهاء بمنزلة الاذن في الابتداء من حيث انه يتم رضا المالك بها. ثم العاقد في الهبة يكون معيرا لا يتعلق به حقوق العقد والمجيز يكون كالمباشر لعقد الهبة فله أن يرجع فيما لا يعوضه الموهوب له أو يكون ذا رحم محرم منه * وان عوض الرجل الذى وهب له أو كان بينهما قرابة لم يمنع ذلك رب الثوب من الرجوع لان العاقد معتبر كالرسول فلا معتبر بحاله وانما

[ 81 ] المعتبر حال المالك فإذا لم يكن بينهما قرابة عرفنا أن مقصوده العوض ما لم ينل العوض كان له أن يرجع فيه. قال (رجل وهب لرجل خمسة دراهم وثوبا وقبض ذلك الموهوب له ثم عوضه الثوب أو الدراهم من جميع الهبة لم يكن ذلك عوضا لانها هبة واحدة) وقد بينا أن عقد الشئ في عقد واحد لا يكون عوضا ومعوضا وقد علمنا ان هذا لم يكن مقصود الواهب في الهبة. قال (وان كانا في عقدين مختلفين في مجلس أو مجلسين فعوضه احداهما على الاخرى فهذا عوض نأخذ فيه بالقياس) وروى بشر عن أبى يوسف رحمهما الله انه لا يكون عوضا لانا نعلم أن الواهب لم يقصد هذا فقد كان مملوكا له فالعقد الواحد والعقدان في هذا المعنى سواء وجه ظاهر الرواية أن اختلاف العقد كاختلاف العين ويستقيم جعل احدهما عوضا عن الآخر شرطا عند اختلاف العقد فكذلك مقصودا وقد يقصد الواهب هذا بأن يهب شيئا ثم يحتاج إليه فيندم فيستقبح الرجوع فيه فيهب منه شيئا آخر على أن يعوضه الاول فيحصل منه مقصوده ويندفع عنه مذمة لرجوع في الهبة. أرأيت لو كان الاول منهما صدقة والآخر هبة فعوضه الصدقة عن الهبة أما كان ذلك عوضا * وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحهما الله تعالي لو وهب نصف داره من رجل وتصدق عليه بنصفها وسلم الكل لم يجز في قول زفر لان اختلاف السبب كتفرق العقد والتسليم فكأنه وهب النصف وسلم ثم النصف وقال أبو يوسف رحمه الله التسليم حصل جملة واحدة بعقد هو تبرع كله فيجوز كما لو وهب الكل وهذا لان الفرق بين الصدقة والهبة في مقصود العوض ففى الصدقة المقصود الثواب دون العوض وفي الهبة المقصود العوض فأما في اخراج العين عن ملكه وتمليك القابض بطريق التبرع لافرق بينهما. قال (وان وهب له حنطة فطحن بعضها وعوض دقيق تلك الحنطة كان جائزا) لان الدقيق حادث بالطحن وهو غير الحنطة ولهذا يكون مملوكا للغاصب فكان تعويضه دقيق هذه الحنطة ودقيق حنطة أخرى سواء ولان حقه في الرجوع قد انقطع بالطحن فتعويضه اياه لا يكون رجوعا فأما قبل الطحن حق الواهب في الرجوع ثابت والرد مستحق على الموهوب له إذا رجع فيه الواهب فيقع فعله على الوجه المستحق وعلى هذا لو وهب له ثيابا قصبغ منها ثوبا بعصفر أو خاطه قميصا ثم عوضه أو كان وهب له سويقا فلت بعضه ثم عوضه لان حقه في الرجوع قد انقطع بهذا الصنع والتحق هذا بسائر أموال الموهوب له فكما أنه لوعوضه مالا آخر كان ذلك عوضا

[ 82 ] فكذلك هذا المال. قال (وإذا وهب للواهب شيئا ولم يقل هذا عوض من هبتك فللواهب أن يرجع في هبته) لانه لما لم يضف تمليكه إلى هبته كان فعله هبة متبدأة لا تعويضا فلكل واحد منهما أن يرجع فيه ولان سقوط حق الرجوع لحصول مقصود الواهب وانما يعلم ذلك إذا بين له أنه عوض ويرضى به فأما بدونه لا يحصل المقصود * وان قال قد كافيتك هذا من هبتك أو جازيتك أو أثبتك كان عوضا) لان المقصود يحصل بهذه الالفاظ والغرور يندفع. قال (وان عوض من نصف الهبة شيئا كان له أن يرجع فيما بقى اعتبار للبعض بالكل) وهذا لان التعويض مما يحتمل التحرى في الموهوب فإذا أضاف العوض الي بعض الهبة اقتصر حكمه عليه بخلاف الطلاق والنكاح فانه لا يحتمل التحرى في المحل ويجوز أن يثبت حق الرجوع في النصف دون النصف ابتداء كما لو وهب منه النصف وتصدق عليه بالنصف فلان يجوز ذلك بقاء أولى. قال (وليس للواهب أن يرجع في هبته عند غير قاض الا أن يرد عليه الموهوب له فيجوز) لما بينا أن الرجوع في الهبة مختلف فيه بين العلماء رحمهم الله منهم من رأى ومنهم من أبى وفى أصله وهى فيكون الفصل بينهما في القضاء والرضا لان الواهب ان كان يطالب بحقه فالموهوب له يمنع ملكه والملك مطلق له ذلك فلابد من اعتبار قضاء القاضي بينهما. قال (ولو كانت الهبة عبدا فباعه الوهوب له أو أعتقه قبل ان يقضى به القاضى للواهب أجاز ما صنع الموهوب له فيه من ذلك) لان ملكله قائم ما لم يقض القاضى عليه بالرجوع والملك في المحل منفذ للبيع فيه والعتق إذا صدر من أهله في محله ينفذ ولا يجوز ذلك ان فعله بعد قضاء القاضى عليه بالرد قبل أن يرده لان بقضاء القاضى عاد العبد إلى ملك الواهب وتصرف ذى اليد في ملك الغير لا يكون نافذا الا أن يجيز المالك. قال (وان مات في يد الموهوب له قبل أن يقبضه الواهب بعد ما قضى القاضي له لم يكن للواهب ان يضمنه قيمته) لان أصل قبضه لم يكن موجبا ضمان المقبوض عليه واستدامة الشئ معتبر بأصله وكذلك منعه قبل قضاء القاضي منع بسبب ملكه فلا يكون موجبا للضمان عليه ولم يوجد بعد القضاء في الموهوب سبب موجب للضمان عليه والضمان لا يجب بدون السبب الا أن يكون صنعه بعد القضاء وقد طلب منه الواهب فهذا المنع يتقرر بسبب الضمان وهو قصر يد المالك عن ملكه بازالة تمكنه من اخذه وهو حد الغصب الموجب للضمان. قال (فان كانت الهبة هالكة أو مستهلكة أو خارجة من ملك الموهوب له إلى ولده الصغير أو

[ 83 ] إلى أجنبي بهبة أو غيرها أو زادت عنده خيرا فلا رجوع فيها للواهب) وقد بينا هذه الموانع والفرق بين زيادة العين وزيادة السعر وبين الزيادة في البدن والنقصان في حكم الرجوع قال (وان كانت الهبة ادارا أو أرضا فبنى في طائفة منها أو غرس شجرا أو كانت جارية صغيرة فكبرت وازدادت خيرا أو كان غلاما فصار رجلا فلا رجوع له في شئ من ذلك) وقال ابن أبى ليلى له أن يرجع في جميع ذلك لان حق الرجوع كان ثابتا في الاصل فيثبت في البيع فان ثبوت الحكم في البيع بثبوته في الاصل ولا يجوز أن يبطل الحكم الثابت في الاصل بسبب المنع ولكنا نقول حق الرجوع للواهب مقصور على الموهوب بعينه فلا يثبت فيما ليس بموهوب تبعا كان أو أصلا وهنا الحق في الاصل ضعيف وحق صاحب الزيادة في الزيادة قوى فإذا تعذر التمييز بينهما رجحنا أقوى الحقين وجعلنا الضعيف مرفوعا بالقوى والبناء في بعض الارض كالبناء في جميعها لان البناء في جانب من الارض يعد زيادة في جميع الارض ألا ترى أنه يزداد به مالية الكل وهذا إذا كان ما بنى بحيث يعد زيادة فان كان لا يعد زيادة كالآري أو يعد نقصانا كالتنور في الكاشانة فانه لايمنع الرجوع لانعدام المانع وهو زيادة مالية الموهوب بزيادة في عينه. قال (وان كانت الهبة دارا فهدم بناءها كان له أن يرجع في الارض) وكذلك في غير الدار إذا استهلك بعض الهبة ببيع أو غيره وبقى بعضها كان له أن يرجع في الباقي اعتبارا للبعض بالكل وهذا لان ما فعله من هدم البناء نقصان في الارض وليس بزيادة. قال (وان كانت الهبة ثوبا فصبغه أحمر أو أصفر وخاطه لم يكن له أن يرجع فيه) لان ما فعله زيادة وصف قائم في العين ولو قطعة ولم يخطه فله أن يرجع فيه لان القطع قبل الخياطة نقصان ولم يذكر مالو صبغه أسود (والجواب) أن عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى له أن يرجع فيه لان السواد عنده نقصان. وعند هما ليس له أن يرجع وقد بينا المسألة في كتاب الغصب. قال (وإذا وهب دينا له عليه فقبله لم يكن له أن يرجع فيه) لانه سقط عنه فانه قابض للدين بذمته فيملك بالقبول ومن ملك دينا عليه سقط ذلك عنه والساقط يكون متلاشيا فلا يتحقق الرجوع فيه كما لو كان عينا فهلك عنده. قال (فان قال الموهوب له مكانها لا أقبلها فالدين عليه بحاله) والحاصل ان هبة الدين ممن عليه الدين لا تتم الا بالقبول والابراء يتم من غير قبول ولكن للمديون حق الرد قبل موته ان شاء الله وعن زفر رحمه الله انه يسوي بينهما وقال تتم الهبة والابرء قبل القبول بناء علي اصلة انه

[ 84 ] يعتبر ما هو المقصود والمقصود في الوجهين الاسقاط دون التمليك لان مافى الذمة ليس بمحل للتمليك ولكنه مجرد مطالبة يحتمل الاسقاط ولكن عند زفر رحمه الله ان رده المديون صح رده في الوجهين جميعا وكان ابن شجاع رحمه الله يقول لا يعمل رده لان الاسقاط يتم بالمسقط والمسقط يكون متلاشيا فلا يتصور فيه الرد وقاس ذلك بالطلاق والعتاق والعفو عن القصاص ولكنا نقول الدين مملوك للطالب في ذمة المديون فيكون قابلا للتمليك بملك العين ويجعل ذلك في الحكم كانه ذلك الدين خصوصا في السلم والصرف فإذا ثبت انه قابل للتمليك والهبة عقد تمليك فإذا ذكر لفظ الهبة وجب اعتبار معنى التمليك فيه والتمليك لايتم بالمملك قبل قبول الآخر لان أحدا لا يملك ادخال الشئ في ملك غيره قصدا من غير قبوله وهو محتمل للاسقاط أيضا لانه في الحقيقة ليس الا مجرد حق المطالبة وابراء اسقاط إذا ذكر لفظ الابراء وكان تصرفه اسقاطا والاسقاط تصرف من المسقط في خالص حقه فلهذا يتم بنفسه ولكنه يتضمن معنى التمليك من وجه لما بينا ان الدين مملوك في ذمته فانما يسقط عنه إذا ملكه فلاعتبار هذا المعنى قلنا له أن يرده بخلاف الطلاق والعتاق فانه اسقاط محض لا يتضمن معنى التمليك حتى ان الابراء لو كان اسقاطا محضا لم يرتدا بالرد أيضا و هو ابراء الكفيل فانه اسقاط محض لان الدين يبقى على الاصل علي حاله فلا يرتد برد الكفيل والهبة من الكفيل تمليك منه حتى يرجع على المكفول عنه فلا يتم الا بقبوله فان كان الموهوب له غائبا ولم يعلم بالهبة حتى مات جازت الهبة وبرئ مما عليه وهذا استحسان فأما في القياس لا يبرأ فأصله في الموصى له إذا مات بعد موت الموصى قبل قبوله في القياس تبطل الوصية لانه قبل القبول لم يملك وانما يخلفه وارثه في ملكه بعد موته. وفي الاستحسان جعل موته بمنزلة القبول فكذلك هنا في الاستحسان يجعل موت الموهوب له بمنزلة قبوله قال (وان وهبه له وهو معه قائم فسكتا حتى افترقا جازت الهبة) وهذا استحسان أيضا فان سكوته عن الرد دليل على رضاه بالهبة منه عرفا ودليل الرضا كصريح الرضا ألا ترى ان السكوت من البكر جعل اجازة لعقد الولي استحسانا فهذا مثله ومن مشايخنا رحمهم الله من بنى الجواب في هذا الفصل على الظاهر ويقول هبة الدين ممن عليه الدين بمنزلة الابراء يتم بنفسه من غير قبول وان كان له حق الرد فيها فالموت قبل الرد يبطل حقه في الرد ويبقى تاما في نفسه وكذلك بالسكوت حتى افترقا ينعدم الرد فتبقى الهبة تامة ولكن الاول وهو الفرق بين الهبة والابراء من حيث المعنى أصح ويتضح ذلك

[ 85 ] في الفرق بين ابراء الكفيل وبين هبة الدين منه. قال (رجل وهب لرجل هبة وقبضها الموهوب له ثم وهبها الموهوب له لآخر وسلمها إليه ثم رجع فيها أوردها عليه الآخر فللواهب الاول ان يرجع فيها) أما إذا رجع فيها بقضاء القاضي فلان القاضى يفسخ بقضائه العقد الثاني فيعود إلى الاول ملكه المستفاد بالهبة من الاول وقد كان حق الرجوع ثابتا له في ذلك الملك وما سقط بزواله تعذر استيفاؤه لانعدام محله فإذا عاد المحل كما كان عاد حقه في الرجوع وان رده عليه بغير قضاء القاضى فكذلك عندنا وقال زفر رحمه الله ليس للاول ان يرجع لان هذا ملك حادث له ثابت بتراضيهما فهو بمنزلة مالو وهبه له ابتداء أو تصدق به عليه أو أوصى به له أو مات فورثه والدليل عليه انه لورده في مرضه بغير قضاء ومات من ذلك المرض اعتبر من ثلثه. والدليل على الفرق بين القضاء والرضا الرد بالعيب فانه إذا كان بقضاء القاضى كان فسخا وان كان بغير قضاء فهو كالبيع المبتدا ولكنا نقول حق الواهب في الرجوع مقصور على العين وفى مثله القضاء وغير القضاء سواء كالاخذ بالشفعة وهذا لانهما فعلا بدون القاضى عين ما يأمر به القاضي أن لو رفعا الا مراليه وانما يكون التراضي موجبا ملكا مبتدأ إذا تراضيا على سبب موجب للملك منه كالهبة والصدقة والوصية وهنا تراضيا على دفع السبب الاول وذلك لا يصح موجبا ملكا مبتدأ بخلاف الرد بالعيب فحق المشترى ليس في عين الرد بل بالمطالبة في الجزء الثابت ولهذا لو تعذر الرد رجع بحصة العيب من الثمن وهنا حق الواهب في فسخ العقد مقصور على العين. قال (وإذا رجع في مرض الموهوب له ففيه روايتان كلاهما في الكتاب) في احدى الروايتين قال يعتبر من جميع ماله وذكر ابن سماعة فيه القياس والاستحسان في القياس يعتبر من جميع ماله وفى الاستحسان يعتبر من الثلث لا لانه تمليك ابتداء ولكن الراد في مرضه باختياره يتم بالقصد إلى ابطال حق الورثة كما تعلق حقهم به فلرد قصده جعل معتبرا من ثلثه. قال (رجل وهب عبدا لرجلين فله أن يرجع في نصيب أحدهما وكذلك ان جعل نصيب أحدهما هبة ونصيب الآخر صدقة كان له أن يرجع في الهبة اعتبارا للجزء بالكل) وهذا في العبد غير مشكل فان الشيوع فيما لا يحتمل القسمة لا يمنع ابتداء الهبة فكذلك الرجوع. وفيما يحتمل القسمة كالدار ونحوها الجواب كذلك وهو دليلنا على زفر فان الرجوع بغير قضاء القاضي لو كان بمنزلة الهبة ابتداء لما صح في مشاع يحتمل القسمة وحيث صح عرفنا انه فسخ وأن العقد يبقى في النصف الآخر فيكون

[ 86 ] ذلك شيوعا طارئا ولا أثر للشيوع الطارئ في الهبة. والدليل عليه أن بالرد بالتراضي يعود الملك إلى الواهب قبل القبض وابتداء الهبة لا يوجب الملك الا بالقبض وهو الدليل على أن الشيوع لا يمنع منه لان تأثير الشيوع في المنع من اتمام القبض فلا يؤثر فيما لا يشترط فيه القبض قال (فان وهب لمكاتب رجل هبة ثم عتق المكاتب أو عجز فله أن يرجع في الهبة في قول أبى يوسف) وقال محمد فله أن يرجع فيها إذا عتق وليس له أن يرجع فيها إذا عجز فلا خلاف ان قبل العتق والعجز له أن يرجع فيها. وفيه نوع اشكال فالمكاتب فقير والهبة من الفقير صدقة ولا رجوع فيها. قال (ولكنا نقول المكاتب فقير ملكا ولكنه غنى يدا وكسبا فالهبة منه لا تنفك عن قصد العوض إما بمنافعه أو كسبه كالهبة من العبد فله أن يرجع فيها إذا لم ينل العوض وكذلك بعد العتق لان حق الرجوع ثبت له في ملك المكاتب فقد تقرر ذلك بعتقه فأما إذا عجز فالاصل عند أبى يوسف ان عجز المكاتب يقرر ملك المولى في كسبه كما أن عتقه يقرر ملكه لان لكل واحد منهما حق الملك في الكسب وعند محمد عجز المكاتب ناقل للملك من كسبه إلى مولاه بمنزلة موت الحر فكما أن موت الحر الموهوب له يقطع حق الواهب في الرجوع فكذلك عجز المكاتب والدليل على الفرق أن المكاتب إذا استبر أجارية محيضة ثم عتق فليس عليه فيها استبراء جديد ولو عجز كان على المولى أن يستبرئها وسنقرر هذا الاصل في كتاب الاجارات إن شاء الله تعالى. قال (فان كان المكاتب أخ الواهب لم يرجع فيها في حال قيام للكتابة ولا بعد عتقه لان الحق للمكاتب والمانع من الرجوع وهو الاخوة بينهما قائم وبعد العجز كذلك عند محمد رحمه الله وعند أبى يوسف يرجع فيها بعد العجز لانه يقرر الملك للمولى والمولى أجنبي عنه وقد بينا أنه لو وهب لا خيه وهو عبد كان له أن يرجع فيها والمكاتب بعد العجز بمنزلة العبد وكان أبو يوسف يعتبر معنى قطيعة الرحم بسبب المنازعه في الرجوع فيقول قبل العجز خصومته في الرجوع مع المكاتب فيؤدى إلى قطيعة الرحم وبعد العجز خصومته مع المولى وليس فيه قطيعة الرحم ولان هبته تنفك عن قصد العوض مادام الحق فيها لقريبه فإذا تقرر الحق لاجنبي لم ينفك عن قصد العوض. قال (رجل وهب لرجل أرضا فبنى فيها الموهوب له ثم أراد الرجوع فيها وخاصمه إلى القاضي فقال له القاضى ليس لك أن ترجع فيها ثم هدمها الموهوب له فعادت كما كانت فللواهب أن يرجع فيها لزوال المانع وهو البناء) وفرق بين هذا وبين مااذا اشترى عبدا علي انه بالخيار ثلاثة أيام فحم العبد في الايام

[ 87 ] الثلاثة وخاصمه في الرد فأبطل القاضي حقه للحمى ثم أقلعت قبل مضى الايام الثلاثة ليس له أن يرده لان هناك حقه في الخيار بعرض السقوط حتى يسقط باسقاطه فكذلك يسقط بقضاء القاضي وهنا حق الواهب في الرجوع ليس بعرض السقوط حتى لا يسقط باسقاطه فكذلك القاضي لا يسقط بقضائه حقه في الرجوع ولكن يكف عن القضاء بالرجوع لتعذر ذلك بسبب البناء فإذا زال ذلك فقد زال المانع وحقه قائم وكان له الرجوع فيها يوضحه أن السبب هناك للفسخ عدم لزوم العقد فبقضائه يصير لازما لان صفة اللزوم تليق بالبيع وهنا السبب كون العقد تبرعا ويمكن الخلل في مقصوده وهو العوض وبقضانه لا يرتفع هذا السبب فكان له أن يرجع إذا زال المانع. قال (رجلان وهبا لرجل عبدا وقبضه ثم أراد أحدهما أن يرجع في حصته والآخر غائب فله ذلك) لان كل واحد منهما مباشر للتصرف في نصيب نفسه فيكون متمكنا من الرجوع فيه كما لو انفرد بهبة نصيبه. قال (وإذا أراد الواهب الرجوع في الهبة وقال الموهوب له أنا أخوك أو قال قد عوضتك أو قال انما تصدقت بها على وكذبه الواهب فالقول قول الواهب) لان السبب المثبت لحق الواهب في الرجوع ظاهر والموهوب له يدعى المانع فالقول فيه قول المنكر * ثم إذا قال تصدقت على فالتمليك من جهة الواهب اتفاقهما والقول قول المملك في بيان سبب التمليك وإذا قال عوضتك فهو يدعى تسليم شئ من ماله إليه وهو منكر وإذا قال أنا أخوك فالاخوة لا تثبت بمبجرد دعواه ولا يتبين به أنه لم يكن قصد الواهب العوض. قال (وان كانت الهبة خادما فقال وهبتها لى وهى صغيرة فكبرت عندي وازدادت خيرا وكذبه الواهب فالقول قول الواهب عندنا) وقال زفر القول قول الموهوب له لانه مالك لها في الحال وهو منكر حق الواهب في الزيادة الحادثة فيها فيكون القول قوله كما إذا كان الموهوب ارضا وفيها بناء أو شجر وقال الواهب وهبتها لك وقال الموهوب له لم يكن فيها بناء ولا شجر حين وهبتها فالقول قول الموهوب له. ولكنا نقول الموهوب له يدعى تاريخا سابقا في الهبة والهبة حادثة فمن يدعى فيها تاريخا سابقا لا يقبل قوله الا بحجة ثم ليس فيها زيادة من غيرها وحق الواهب ثابت في عينها باتفاقهما فكان الموهوب له يدعى انتفاء حقه من الزيادة المتولدة من العين مثل السمن والكبر بخلال البناء والشجر فانه غير متولد من الارض ولكنه ملك مبتدأ للموهوب له في الحال وهو ينكر تملكه من جهة الواهب وثبوب حقه فيه يوضح الفرق أن البناء من وجه أصل حتى يجوز افراده بالبيع

[ 88 ] فالظاهر فيه شاهد للموهوب له دون الواهب والسمن والكبر وصف وهو بيع محض وثبوت الحق في البيع بثبوته في الاصل فكان الظاهر شاهدا للمواهب * وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله لو وهب له عبدا فعلمه الموهوب له الكتابة أو الخبز فليس للواهب أن يرجع فيه عند أبى يوسف وقال زفر له أن يرجع لانه لا زيادة في عين الموهوب فهو كزيادة القيمة بتغيير السعر وقال أبو يوسف رحمه الله تعلم الكتابة والخبز معنى في العبد تزداد به ماليته فهو بمنزلة السمن بخلاف زيادة السعر فان ذلك ينبنى على كثرة الرغائب فيه الا أن يكون معنى في العين. والدليل عليه ان صفة الكتابة والخبز يصير مستحقا للمشترى بالشرط ويثبت له الخيار عند فواته بمنزله صفة السلامة عند اطلاق العقد فبه يتبين أنه وصف في العين وكل شئ زاد فيه من غيره نحو الثوب يصبغه والسويق يلته والثوب يخيطه فالقول فيه قول الموهوب له بمنزلة البناء والغرس وأما ما كان من حيوان فالقول فيه قول الواهب بمنزلة الكبر في الخادم. قال (وإذا كانت الهبة جارية فولدت عند الموهوب له من زوج أو فجور فللواهب أن يرجع فيها دون الولد لأن الولد ليس بموهوب وحق الرجوع مقصور على عين الموهوب والولادة في الجارية نقصان وقد بينا أن النقصان لايمنع الرجوع والزيادة المنفصلة ليست كالزيادة المتصلة لان الاصل هناك لا يتميز عن الزيادة ليرجع فيها وهنا الزيادة منفصلة عن الاصل فله أن يرجع فيه وهذا بخلاف البيع فان بعد الزيادة المنفصلة هناك لو رد الاصل ردها بجميع الثمن فيسلم له الولد مجانا بحكم عقد المعاوضة وذلك في المعاوضات ربا وفى الهبة يسلم له الولد مجانا وهذا غير ممتنع في التبرعات وقد كان الاصل سالما له مجانا. قال (وإذا أراد الواهب الرجوع وهى حبلى فان كانت قد ازدادت خيرا فليس له ان يرجع فيها وان كانت قد ازدادت شرا فله أن يرجع فيها) والجواري في هذا تختلف فمنهن من إذا حبلت سمنت وحسن لونها فكان ذلك زيادة في عينها فيمنع الرجوع ومنهن من إذا حبلت اصفر لونها ورق ساقها فيكون ذلك نقصانا فيها فلا يمنع حق الواهب من الرجوع قال (وإذا وهب جاريتين فولدت احداهما فعوضه الولد عنهما لم يكن له ان يرجع في واحدة منهما) لانه لاحق للواهب في الولد فهو كسائر املاك الموهوب له في صلاحية العوض فإذا عوضه عنهما ورضى به الواهب فقد تم مقصوده. قال (وان وهب له حديدا فضرب منه سيفا أو غزلا فنسجه أو وهب له دفاتر فكتب فيها لم يكن له أن يرجع فيها في شئ من ذلك أبدا) اما لتبدل العين أو للزيادة

[ 89 ] الحادثة في العين أو في ماليته بفعله فان ذلك مانع من الرجوع والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب باب الرقبي قال (رجل حضره الموت فقال دارى هذه حبيس لم تكن حبيسا وكان ذلك ميراثا) لان قوله حبيس أي محبوس فعيل بمعنى مفعول كالقتيل بمعنى المقول ومعناه محبوس عن سهام الورثة وسهام الورثة في ماله بعد موته حكم ثابت بالنص فلا يتمكن من ابطاله بقوله وهو معنى قول شريح لا حبيس عن فرائض الله تعالى وجاء محمد ببيع الحبيس. وكذلك ان قال دارى هذه حبيس على عقبى بعد موتى فهو باطل لان معناه محبوس على ملكهم لا يتصرفون فيه بالازالة كما يفعله المالك وهو مخالف لحكم الشرع فكان باطلا. قال (ولو قال دارى هذه لك رقبي فهو باطل في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله هي هبة صحيحة إذا قبضها وكذلك لو قال لك حبيس) فأبو يوسف استدل بحديث ابن الزبير عن جابر رضى الله عنهما أن النبي صلي الله عليه وسلم أجاز العمرى والرقبي والمعنى فيه أن قوله دارى لك تمليك صحيح وقوله حبيس أو رقبي باطل فكأنه لم يذكر ذلك يوضحه ان معنى قوله دارى لك رقبي ملكتك دارى هذه فأرقب موتك لتعود الي فيكون بمنزلة العمرى في معنى الانتظار والتعليق بالعود إليه دون التمليك فيبقى المتليك في الحال صحيحا. وحجتهما في ذلك حديث الشعبى عن شريح رحمهما الله أن النبي أجاز العمرى ورد الرقبي والحديثان صحيحان فلابد من التوفيق بينهما. فنقول الرقبي قد تكون ممن الا رقاب وقد تكون من الترقب حيث قال أجاز الرقبي يعنى إذا كان من الا رقاب بان يقول رقبة دارى لك وحيث قال رد الرقبي إذا كان من الترقب وهو أن يقول أراقب موتك فراقب موتى فان مت فهى لك وان مت فهى لي فيكون هذا تعليق التمليك بالخطر وهو موت المملك قبله وذلك باطل ثم لما احتمل المعنيان جميعا والملك لذى اليد فيها يقينا فلا يزيله بالشك وانما يكون قوله دارى لك تمليكا إذا لم يفسر هذا الاضافة بشئ أما إذا فسرها بقوله رقبى أو حيس يتبين أنه ليس بتمليك كما لو قال دارى لك سكنى تكون عارية وهذا لان المكلام المبهم إذا تعقبه تفسير فالحكم لذلك التفسير. قال (رجل قال لرجلين عبدى هذا لاطولكما حياة أو حبيس على أطولكما حياة فهذا باطل) لانه لايراد بهذا اللفظ طول الحياة فيما مضى حتى لو كان احدهما شابا والآخر

[ 90 ] شيخا لا يتعين الشيخ بالتمليك منه بهذا اللفظ ولكن المراد طول الحياة في المستقبل معناه للذى يبقى منكما بعد موت الآخر فهو تعليق التمليك بالخطر وهو معنى الرقبي من حيث انه يأمر كل واحد منهما أن يراقب موت صاحبه لتكون الدار له وذلك باطل والله سبحانه وتعالى أعلم باب الشهادة في الهبة قال (وإذا شهد شاهدان على الهبة ومعاينة القبض جازت الهبة) لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة والهبة مع القبض سبب ملك تام وان شهدا على اقرار الواهب بالقبض وهو يجحده لم تجز شهادتهما في قول أبى حنيفة الاول ثم رجع فقال الشهادة جائزة وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله والصدقة والرهن على الخلاف أيضا. وجه قوله الاول ان تمام هذه العقود بقبض يوجد وهو فعل لاقول والاقرار يحتمل الصدق والكذب والمخبر به إذا كان كذبا فبالاخبار لا يصير صدقا وما لم يكن موجدا من القبض فباقراره لا يصير موجودا فظهر أن هذه الشهادة ليست بما هو سبب ملك تام. وجه قوله الآخر ان القبض في هذه العقود لا يكون أقوى من القتل والغصب ثم فعل القتل والغصب كما يثبت بالشهادة على معاينته يثبت بالشهادة على الاقرار به وهذا لان الثابت من الاقرار بالبينة كالمسموع من المقر في مجلس الحكم. ولو أقر الخصم بأنه وهبه وسلمه إليه قضي بالملك له فكذلك إذا ثبت اقراره بالبينة. قال (وان كان لعبد في يد الموهوب له فشهد على اقرار الواهب بالهبة والقبض جازت الشهادة كما لو سمع القاضي اقراره بذلك وكذلك ان كان العبد في يد الواهب فاقر عند القاضى أنه وهبه منه وسلمه إليه أخذ باقراره) لان كون العبد في يده لاينا في ما أقربه من الهبة وقبض الموهوب والمقر يعامل في حق نفسه كأن ما أقربه حق وفرق أبو حنيفة على القول الاول بين مااذا أقر بنفسه وبين ما إذا شهد الشهود على اقراره لان الاقرار موجب بنفسه من غير قضاء والشهادة لا توجب الا بقضاء القاضي والقاضي لا يقضى الا ان يشهدوا بسبب ملك تام. قال (وإذا استودع الرجل رجلا وديعة ثم وهبها له ثم جحده فشهد بذلك عليه شاهد ان ولم يشهدا بالقبض فهو جائز) لان العقد يثبت بالبينه وقبضه معلوم بالمعاينة فيتم به سبب الملك. قال (فان جحد الواهب أن تكون في يده يومئذ وقد شهد الشهود على الهبة ولم يشهدوا على معاينة القبض ولا على اقرار الواهب والهبة في يد الموهوب له يوم

[ 91 ] تخاصم الي القاضى فذلك جائز إذا كان الواهب حيا) لانه في الحال قابض وقد أثبت عقده بالبينة فيجعل قبضه صادرا عن ذلك العقد لان القبض حكم العقد أو متمم للعقد الذى هو سبب الملك والثابت من العقد بالبينة كالثابت معاينة فكما يجعل القبض هنا متمما للسبب فكذلك هنا ولكن هذا إذا كان الواهب حيا فان كان ميتا فشهادتهما باطلة لان الملك في الحال للوارث فلا يكون اثبات العقد على الواهب بعد موته سبب للملك ألا ترى انه مادام الواهب حيا إذا قبض الموهوب باذنه تتم الهبة ويملكه بعد موته لا يملكه بالقبض وان كان قد أذن له في ذلك الا أن يشهدا على أنها كانت في يده في حياة الواهب أو على اقرار الواهب بذلك فحينئذ يثبت الملك للموهوب له لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة. قال (رجل وهب لرجل عبدا وقبضه الموهوب له ثم جاء رجل وأقام البينة انه كان اشتراه من الواهب قبل الهبة والقبض أبطلت الهبة) لانه أثبت الشراء من المالك والشراء يوجب الملك بنفسه فتبين به أنه وهب وسلم مالا يملك. قال (فان شهدوا على الشراء ولم يذكروا انه كان قبل الهبة فهو للموهوب له) لانه في يده والاستحقاق له ثابت باعتبار يده وليس في هذه الهبة ما يوجب الاستحقاق عليه لان شراءه محتمل فانه لو كان قبل الهبة ثبت استحقاقه وان كان بعد الهبة لا يثبت وبالاحتمال لا يثبت الاستحقاق * وكذلك ان أرخ شهود الشراء شهرا أو سنة لان اليد للموهوب له معاين وهو دليل سبق عقده فان تمكنه من القبض دليل يدل عليه ذلك والتاريخ في حق الآخر مشهود به وليس الخبر كالمعاينة. فان كان العبد في يد الواهب فأقام الموهوب له البينة انه وهبه له وقبضه قبل الشراء وأقام المشترى البينة انه اشتراه قبل الهبة وقبضه فالعبد لصاحب الشراء لان سبب ملكه أقوى من حيث ان الشراء يوجب الملك بنفسه وانه عقد ضمان وانه يوجب الملك في البدلين وعند المعاوضة يترجح أقوى السببين فان الضعيف مدفوع بالقوي ولا يظهر عند المقابلة بالقوى. قال (رجل وهب لرجل متاعا ثم قال انما كنت استودعتك فالقول قول صاحب المتاع مع اليمين) لان المستودع يدعي تملك العين عليه بسبب وهو منكر فعليه أن يثبت السبب بالبينة والقول قول المنكر مع اليمين فإذا حلف أخذ المتاع وان وجده هالكا فان كان قد هلك بعد ما ادعى المستودع الهبة فهو ضامن للقيمة لانه بدعوى التملك بالهبة يكون جاحدا للوديعة والمودع يضمن الوديعة بالجحود ولانه صار مفوتا لليد الحكمية التى كانت اللمودع حين زعم انه قابض لنفسه متملك فكان ضامنا القيمة لهذا

[ 92 ] (فان قيل) هذا أن لوثبت الايداع (قلنا) لا حاجة إلى ذلك بقبض مال الغير لنفسه علي وجه التملك موجب للضمان الا أن يثبت تمليك من صاحبه اياه ولم يثبت ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم باب الصدقة قال (الصدقة بمنزلة الهبة في المشاع وغير المشاع وحاجتها إلى القبض) وقد بينا اختلاف ابن أبى ليلي فيها الا أنه لا رجوع في الصدقة إذا اتمت لان المقصود بها نيل الثواب وقد حصل وانما الرجوع عند تمكن الخلل فيما هو المقصود ويستوى ان تصدق علي غنى أو فقير في انه لا رجوع له فيها. ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول الصدقة على الغنى والهبة سواء انما يقصد به العوض دون الثواب ألا ترى ان في حق الفقير جعل الهبة والصدقة سواء في ان المقصود الثواب فكذلك في حق الغنى الهبة والصدقة سواء فيما هو المقصود ثم له أن يرجع في الهبة فكذلك في الصدقة ولكنا نقول ذكره لفظ الصدقة يدل على انه لم يقصد العوض ومراعاة لفظه أولى من مراعاة حال المتملك * ثم التصدق على الغنى يكون قربة بستحق بها الثواب فقد يكون غنيا يملك نصابا ولكن عيال كثيرة والناس يتصدقون على مثل هذا لنيل الثواب ألا ترى ان عند اشتباه الحال يتأدى الواجب من الزكاة بالتصدق عليه ولارهن ولا رجوع فيه بالاتفاق فكذلك عند العلم بحاله لا يثبت له حق الرجوع عليه. قال (رجل تصدق على رجل بصدقه وسلمها إليه ثم مات المتصدق عليه والمتصدق وارثه فورثه تلك الصدقة فلا بأس عليه فيها) بلغنا في الاثر عن رسول الله أن رجلا تصدق بصدقة ثم مات المتصدق عليه فورثه النبي صلي الله عليه وسلم من تلك الصدقة والحديث فيه ماروى ان طلحة رضي الله تعالى عنه تصدق على أمه بحديقة ثم ماتت قال صلي الله عليه وسلم ان الله تعالى قبل منك صدقتك ورد عليك حديقتك وفي المشهور ان النبي قال لا تحل الصدقة لغنى الا بخمسة وذكر من جملتها رجلا تصدق بصدقة ثم مات المتصدق عليه فورث ثلث الصدقة. قال (رجل قال في صحته جعلت غلة دارى هذه صدقة للمساكين ثم مات أو قال دارى هذه صدقة في المساكين ثم مات قال هي ميراث عنه) لانها صدقة لم تتصل بهذا القبض ولان هذا اللفظ منه بمنزلة النذر سواء التزم الصدقة بعينها أو بغلتها والمنذور لا يزول

[ 93 ] عن ملكه قبل تنفيذ الصدقة فيه وانما عليه الوفاء بنذره حقا لله تعالي ولهذا يفتي به ولا يجبر عليه في الحكم ومثله لايمنع الارث فلا يبقى بعد الموت وان كان حيا وتصدق بقيمتها أجزأه لان ما لزمه من التصدق في عين مال بالتزامه معتبر بما أوجب الله تعالي عليه وهو الزكاة والواجب هناك يتأدى بالقيمة كما يتأدى بالعين فهذا مثله لان المقصود في حق المتصدق عليه اغناؤه وسد خلته. قال (فان قال جميع ما أملك صدقة في المساكين فعليه أن يتصدق بجميع ما يملك من الصامت وأموال السوائم وأموال الزكاة ولا يتصدق بالعقار والرقيق وغير ذلك استحسانا) وفي القياس عليه أن يتصدق بجميع ذلك وهو قول زفر رحمه الله وزعم بعض مشايخنا رحمهم الله ان في قوله جميع ما أملك يتصدق بالكل قياسا واستحسانا وانما القياس والاستحسان في قوله مالى صدقة أو جميع مالى صدقة والاصح انهما سواء وجه القياس ان اسم الملك حقيقة لكل مملوك له واسم المال لكل ما يتموله الانسان ومال الزكاة في ذلك وغير مال الزكاة سواء ألا ترى أن في الارث والوصية بالمال يستوى فيه ذلك كله وهذا لان اللفظ معمول به في حقيقته ما أمكن ولكنه استحسن فقال انما ذكر المال والملك عند ذكر الصدقة فيختص بمال الزكاة بدليل شرعى وهو ان ما يوجبه علي نفسه معتبر بما أوجب الله سبحانه وتعالى عليه والله تعالي أوجب الحق في المال ولذلك يختص بمال الزكاة فكذلك ما يوجبه على نفسه بخلاف الوصية وهذا لان الصدقة شرعا انما تكون عن غنى قال لاصدقه الاعن ظهر غنى والغنى شرعا يختص بمال الزكاة حتى لا يكون مالك العقار والرقيق لغير التجارة غنيا شرعا فلهذا الدليل تركنا اعتبار حقيقة اللفظ وأو جبنا عليه التصدق بمال الزكاة وبخلاف الوصيه والميراث فان ذلك خلافه والحاجة إليه في مال الزكاة وغير مال الزكاة سواء ثم يمسك من ذلك قوته فإذا أصاب شيئا بعد ذلك تصدق بما أمسك لان حاجته في هذا القدر مقدمة إذ لو لم يسمك احتاج أن يسأل الناس ولا يحسن أن يتصدق بماله ثم يسأل الناس من ساعته ولم يبين في الكتاب مقدار ما يسمك لان ذلك يختلف بقلة عياله وكثرة عياله. وقيل ان كان محترفا فانما يمسك قوت يوم وان كان صاحب غلة امسك قوت شهر وان كان صاحب ضياع أمسك قوت سنة لان يد الدهقان إلى ما ينفق انما تتصل سنة فسنة ويد صاحب الغلة شهرا فشهرا ويد العامل يوما فيوما قال (رجل وهب للمساكين هبة ودفعها إليهم لم يرجع فيها استحسانا وفى القياس يرجع) لانه ملكه بطريق الهبة وفي أسباب الملك الغنى والفقير سواء

[ 94 ] كالبيع وغيره. ووجه الاستحسان أن قصده بالهبة من الفقير الثواب دون العوض إذ لو كان قصده العوض لاختار للهبة من يكون أقدر على أداء العوض ولما اختار الفقير مع عجزه عن أداء العوض عرفنا ان مقصوده الثواب وقد نال ذلك. قال (وكذلك ان أعطى سائلا أو محتاجا علي وجه الحاجة) فان العطية بمنزلة الهبة وانما قصده بفعله سد خلة المحتاج وذلك يفعل لا بتغاء مرضاة الله تعالى ونبل ثوابه وهو معنى ما روي عن عمر رضى الله عنه من وهب هبة لصلة رحم أو علي وجه الصدقة لم يكن له أن يرجع فيها. قال (رجل جعل في داره مسجدا يصلى فيه الناس ثم مات قال هو ميراث لورثته) لانه لم يميزه عن ملكه فيكون هذه بمعنى صدقة المشاع. ثم الاصل في المساجد المسجد الحرام وهذا ليس في معنى ذلك لان ذلك يدخله من شاء من كل جانب وهذا ملكه محيط بكل جانب منه فلا يتمكن أحد من الدخول فيه بغير اذنه. فان كان أخرجه من داره وعزله وجعله مسجدا وأظهره للناس ثم مات فهو مسجد لا يورث وقد بينا تمام هذا الفصل في كتاب الوقف. قال (وان بنى على منزله مسجدا وسكن أسفله أو جعله سردابا ثم مات فهو ميراث) وكذلك ان جعل أسفله مسجدا وفوقه مسكنا لان المسجد ما يحرز أصله عن ملك العباد وانتفاعهم به على قياس المسجد الحرام وذلك غير موجود فيما اتخذه حين استثنى العلو أو السفل لمنفعة نفسه * وعن محمد قال ان جعل السفل مسجدا جاز وان جعل العلو مسجدا دون الفسل لا يجوز لان المسجد ماله قرار وتأبيد وذلك في السفل دون العلو وعن الحسن بن زياد رحمه الله أنه إذا دخل العلو مسجدا والسفل مستغلا للمسجد فهذا يجوز استحسانا وعن أبى يوسف أن ذلك كله جائز رجع إليه حين قدم بغداد ورأى ضيق المنازل بأهلها فجوز أن يجعل العلو مسجدا دون السفل والسفل دون العلو وهو مستقيم على أصله وقد بينا أنه يوسع في الوقف فكذلك في المسجد. قال (رجل وهب لمسكين درهما وسماه هبة ونواه من زكاته أجزأه) لما بينا ان في حق المسكين لفظة الهبة كلفظة الصدقة ولانه لا معتبر باللفظ في أداء الزكاة انما المعتبر الاعطاء بنية الزكاة ألا ترى أنه لو أعطاه ولم يتكلم بشئ كان ذلك زكاة له فلا يتغير ذلك الحكم بذكر الهبة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب باب العطية (وإذا قال الرجل لغيره قد أعمرتك هذه الدار وسلمها إليه فهى هبة صحيحه) لحديث ابن

[ 95 ] الزبير عن جابر رضى الله عنه أن النبي قال امسكوا عليكم أموالكم لاتعمروها فمن أعمر عمرى فهى للمعمر له ولورثته بعده. وروى سلمة عن جابر رضى الله عنهما ان النبي صلي الله عليه وسلم قضى بالعمرى للمعمر له ولعقبه بعده وقال عليه الصلاة والسلام من أعمر عمرى قطع قوله حقه يعنى قطع قوله وهبت لك عمرك حقه في الرجوع بعد موته والمعنى فيه أنه ملكه في الحال والوارث يخلفه في ملكه بعد موته فشرط الرجوع إليه بعد الموت فاسد والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة. قال (وكذلك لو قال نحلتك هذا الثوب أو أعطيتك هذا الثوب عطية فهذه عبارات عن تمليك العين بطريق التبرع وذلك يكون هبة) وكذلك لو قال قد كسوتك هذا الثوب فان هذا اللفظ لتمليك العين بدليل قوله تعالى أو كسوتهم فالكفارة لاتتأدى الا بتمليك الثوب من المسكين ويقال في العرف كسا الامير فلانا أي ملكه * وان قال حملتك على هذه الدابة كانت عراية لان الحمل على الدابة إركاب وهو تصرف في منافعها لافى عينها فتكون عارية الا أن يقول صاحب الدابة أردت الهبة لان هذا اللفظ قد يذكر للتمليك يقال حمل الامير فلانا على فرسه أي ملكه فإذا نوى ما يحتمله لفظه وفيه تشديد عليه عملت نيته. وكذلك لو قال قد أخدمتك هذه الجارية فهى عارية لان معناه مكنتك من ان تستخدمها وذلك تصرف في منافعها لافى عينها ان. وقال قد منحتك هذه الجارية أو هذه الارض فهى عارية لان المنحة بدل المنفعة بغير بدل قال المنحة مردودة والعارية مؤداة فيكون معنى كلامه جعلت لك منفعة هذه العين وهو نفس العارية. فان قال قد اطعمتك هذه الارض فانما أطعمه غلتها والرقبي لصاحبها لان عينها لا تطعم فمعناه أطعمتك ما يحصل منها فيكون تمليكا لمنفعة الارض دون عينها وله أن يأخذها متى شاء يعنى إذا كانت فارغه فأما بعد الزراعة إذا أراد ان يستردها فان رضى المستعير بأن يقلع زرعها ويردها فله ذلك وان أبى تركت في يده بأجرة مثلها إلى وقت ادراك الغلة لانه محق في زراعتهما غير متعد فلابد من مراعاة حقه بخلاف الغاصب وانما يعتدل النظر من الجانبين بأن تترك في يده بأجر إلى ادراك الغلة وان قال قد أطعمتك هذا الطعام فاقبضه فقبضه فهذه هبة لان عين الطعام تطعم فاضافة لفظة الاطعام إلى ما يطعم عينه يكون تصرفا في العين تمليكا بغير عوض وذلك يكون هبة. وكذلك لو قال جعلت هذه الدار لك فاقبضها لان معنى كلامه ملكتك هذه الدار ألا ترى ان في التمليك ببدل لافرق بين لفظ الجعل والتمليك (7 ثانى عشر مبسوط)

[ 96 ] فكذلك في التمليك بغير بدل * فان قال دارى لك عمرى سكنى فهذا عارية لان قوله سكنى تفسير لقوله عمرى والكلام المبهم إذا تعقبه تفسير فالحكم للتفسير. وبيان هذا وهو ان قوله لك عمرى يحتمل تمليك عينها منه عمره ويحتمل تمليك منفعتها فكان قوله سكنى تفسيرا أي لك سكناها عمرك وكذلك قوله نحلى سكنى. وقوله هبة سكنى أو سكنى هبة أو سكني صدقة فهذا كله عارية لما بينا أن قوله سكنى تفسير للمحمل من كلامه ألا ترى أنه لو قال هي لك فاقبضها كانت هبة ولو قال هي لك سكنى كانت عارية وجعل قوله سكنى تفسير أو ذلك إذا زاد لفظه العمرى والهبة والصدقة. وان قال هي لك هبة عارية أوهى عارية هبة فهى عارية قدم لفظة الهبة أو أخرها لانه محتمل لجواز أن يكون مراده هبة العين ويجوز أن يكون مراده هبة المنفعة وقوله عارية تفسير لذلك المبهم لانه في نفسه محكم لا يتناول الا المنفعة فسواء قدمه أو أخره فالحكم له. وأن قال هي لك هبة اجارة كل شهر بدرهم أو اجارة هبة فهى اجارة في الوجهين لان لفظة الاجارة في حق المحل محكم فانه لا يتناول الا المنفعة ولفظة الهبة تحتمل تناول العين تارة والمنفعة تارة أخرى فكان الحكم للفظ المحكم قدمه أو أخره وتمليك المنفعة ببدل معلوم إلى مدة معلومة تكون اجارة. وان قال دارى هذه لك عمرى تسكنها وسلمها إليه فهى هبة لان قوله تسكنها ليس بتفسير لقوله عمرى فالفعل لا يصلح تفسيرا للاسم ولكنه مشورة أشار عليه في ملكه فان شاء قبل مشورته وسكنها وان شاء لم يقبل وهو بيان لمقصوده انه ملكه الدار عمره ليسكنها وهذا معلوم. وان لم يكذره فلا يتغير به حكم التمليك بمنزلة قوله هذا الطعام لك تأكله أو هذا الثوب لك تلبسه. قال (وان قال وهبت لك العبد حياتك وحياته وقبضه فهى هبة جائزة) لانه ملكه في الحال بقوله وهبت لك وقوله حياتك وحياته فضل من الكلام غير محتاج إليه فكان لغوا أو فيه ايهام شرط الرجوع إليه بعد موته وقد بينا ان هذا الشرط باطل. وكذلك لو قال أعمرتك دارى هذه حياتك أو اعطيتها حياتك أو وهبت لك هذا العبد حياتك فإذا مت فهى لى وإذا مت أنا فهي لورثتي فهذا كله تمليك صحيح في الحال وشرط الرجوع إليه أو إلى الورثة باطل. وكذلك لو قال هي هبة لك ولعقبك بعدك لانه ملك العين بأول كلامه وذكر العقب لغو واشتغال بمالا يفيد فهو يعلم ان عقبه من ورثته يخلفه في ملكه وان قال اسكنتك دارى هذه حياتك ولعقبك من بعدك فهذه عارية لانه صرح بلفظ الاسكان وهو تصرف في المنفعة دون العين وقوله بعدك عطف والعطف للاشتراك فمعناه


[ 97 ]

عدل

سكناها لعقبك من بعدك فهي هبة له وذكر العقب لغو لان قوله هي لك تمليك لعينها منه وبعد ما هلك عنها منه لا يبقى له ولاية ايجابها لغيره فكان قوله ولعقبك من بعدك لغو بخلاف الاول فان بعد ايجاب المنفعة له بطريق العارية يبقثى له ولاية الايجاب لغيره فكان كلامه عارية في حقه وفى حق عقبه بعده وله أن يأخذها متى شاء. قال رجل وهب لرجل عبدا على أن يعتقه ويسلمه إليه فالهبة جائزة والشرط باطل لان شرط العتق عليه بعد تمام ملكه في الموهوب باطل ولكن الهبة لا تبطل بالشرط كما قلنا. قال رجل وهب لرجل عبدا مريضا به جرح فداواه الموهوب له فبرأ لم يكن للواهب أن يرجع فيه للزيادة الحاصلة في العين عند الموهوب له وكذلك لو كان أصم أو أعمى فسمع وأبصر لانه زوال للعين فزواله يكون بوجود ذلك الجزء والزيادة في العين تمنع الرجوع كما لو كان مهر ولم بسم. قال مريض وهب عبده لرجل ولا مال له غير فتبعه الموهوب له فاعتقه أو باعه ثم مات من مرضه أو فعل ذلك بعد موت المريض قبل أن يقضي القاضى فيه بشئ فعتقه وبيعه جائز لان تصرف المريض إذا كان على وجه يحتمل النقض بعد صحته فحكم بصحته في الحال لوجود العلة المطلقة للتصرف وهو الملك وكون المانع محتملا لان المانع مرض الموت وهو ما يتصل به الموت ولا يدرى أن مرضه هذا يتصل به الموت أم لا والموهوم لا يعارض المتحقق فحكم بنفوذ تصرفه لهذا وثبت الملك للموهوب له بالقبض وانما تصرف في ملكه بالبيع والعتق وكذلك ان كان تصرفه بعد موت المريض لان أكثر ما فيه أن الهبة فكت بموته في البعض أوفى الكل وفساد السبب لايمنع ابتداء الملك عند القبض فلا يمنع بقاءه بطريق الاولى الا ان يقضي القاضي عليه بالرد لاستغراق تركة الميت بالعين فحينئذ يبطل ملكه بقضاء القاضي ولا ينفذ تصرفه بعد ذلك فأما قبل ذلك إذا نفذ تصرفه فهو ضامن قيمة العبد إذا كان على الميت دين مستغرق لتركته لان الهبة في المرض وصية فيتأخر عن الدين ولزمه رد العين لرد الوصية وقد تعذر رده باخراجه اياه من ملكه فكان ضامنا قيمته ان لم يكن عليه دين ولكن لامال للميت سواه فقد بطلت الوصية في قدر الثلثين منه فيضمن ثلثى قيمته لورثة الميت وان كان الموهوب له معسرا وقد كان أعتق العبد فلا سبيل لغرماء الواهب ولا لورثته علي العبد لان القيمة دين في ذمة الموهوب له لزمه باكتساب سببه وهو الاتلاف ودين الحر الصحيح في ذمته لا تعلق له بملكه وانما يجب على العبد السعاية بعد العتق في دين كان تعلق بماليته قبل العتق

[ 98 ] فان كان الموهوب له أعتقه وهو مريض ثم مات ولا مال له غيره وعليه دين فعلى العبد السعاية في قيمته لان عتق الموهوب له اياه في مرضه وصية فيجب ردها للدين المستغرق عليه وقد تعذر رد الرقبة بالعتق فيجب عليه السعاية في قيمته وتكون تلك القيمة بين غرماء الموهوب له وغرماء الواهب يضرب فيه غرماء الموهوب له بديونهم وغرماء الواهب بقيمة العبد لا بديونهم لان تلك القيمة تركة الموهوب فيقسم بين غرمائه بحسب ديونهم عليه ودين غرماء الموهوب له كان عليه فأما دين غرماء الواهب أصله كان على الواهب وانما استوجبوا على الموهوب له مقدار قيمة العبد لاتلاف مالية الرقبة عليهم فلهذا ضربوا بقيمة العبد وتعلق حق الفريقين بمالية العبد لان باعتبار مرض الموت له فلهذا لا يقدم احداهما على الآخر. قال رجل وهب لرجل عبدا وسلمه فدبره فليس للواهب ان يرجع فيه لان بالتدبير يجب له حق العتق على وجه لا يمكن نقله من ملك إلى ملك بعد ذلك فاعتبر ذلك بحقيقة العتق في المنع من الرجوع وان كاتبه ثم عجز فرد رقيقا فله ان يرجع فيه لانه عاد قنا كما كان وقد بينا ان بالكتابة لا يبطل حق الرجوع بل يتعذر لمعنى في المحل فإذا زال ذلك صار كان لم يكن وان جنى العبد على الموهوب له فللواهب أن يرجع فيه والجناية باطلة لانه حين جنا كان مملوكا للموهوب له وجناية المملوك على مالكه فيما يوجب المال تكون هدرا وبالرجوع لا يتبين انه لم يكن مملوكا له حين جنى فالرجوع من وجه ينهى الملك المستفاد بالهبة ألا ترى انه لو وطئها الموهوب له ثم رجع فيها الواهب فلا عقر على الموهوب له بعد رجوع الواهب فيها وان كان الولد سلم للموهوب له بعد رجوع الواهب فيها فكذلك لا تعتبر جنايته عليه بعد رجوع الواهب وكذلك لو أبق العبد عند الموهوب له فرده راد فللواهب أن يرجع فيه لان الاباق عيب والنقصان لا يمنع الرجوع في الهبة والجعل علي الموهوب له لانه رد عليه ملكه وانما يستوجب الجعل باحياء الملك بالرد فإذا أحياه ملك الموهوب له كان الجعل عليه. قال رجل وهب لرجل شجرة بأصلها فقطعها فله ان يرجع فيها قال أبو عصمة هذا غلط الا أن يريد بقوله بأصلها بعروقها ويأذن له في قطعها لان اتصال الموهوب بما ليس بموهوب في ملك الواهب في معنى الشيوع فلا تتم الهبة الابعد القطع وإذا تمت الهبة فيها وهى مقطوعة فله ان يرجع فيها فأما إذا كان المراد بقوله بأصلها بعروقها من الارض وذلك معلوم مميز فالهبة تمت في الحال ثم القطع بعد ذلك يجعل الشجرة في حكم شئ آخر لانها كانت نامية وقد

[ 99 ] صارت حطبا فليس له أن يرجع فيها ألا ترى انه قال لو قطعها فجعلها أبوابا أو جذوعا لم يكن له أن يرجع فيها إذا عمل فيها شيئا قل أو كثر لانها الآن ليست بشجرة كما وهبها له وله أن يرجع في موضعها من الارض ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لان مجرد القطع في الشجرة نقصان وان كان يزيد في ماليتها فهو باعتبار رغائب الناس فيه بمنزلة الذبح في الشاة والنقصان في الموهوب لا يمنعه من الرجوع بخلاف مااذا جعلها أبوابا أو جزوعا فذلك زيادة صفة حادثة في الموهوب بفعل الموهوب له فيمنعه من الرجوع فيها. قال ولو وهبها له بغير أصلها وأذن له في قبضها فقطعها وقبضها كان له أن يرجع فيها لان الهبة جازت وهى مقطوعة وفي الباب الاول جاز بالهبة وهى شجرة وهذا إشارة إلى ما ذكره أبو عصمة انه بعد القطع لا يكون له أن يرجع فيها إذا تمت الهبة قبل القطع وانما يرجع فيها إذا كان تمام الهبة بععد القطع قال وان وهب له ثمرة في نخل وأذن له في قبضها كان له أن يرجع فيها لما بينا ان تمام الهبة إذا كان معرض الفصل. قال رجل وهب لرجل عبد افجنى عبد الموهوب له جناية بلغت قيمته ففداه الموهوب له فللواهب أن يرجع في هبته لان بالفداء يظهر عن الجناية وعاد كما كان قبل الجناية ولم يتمكن في عينه زيادة فكان للواهب أن يرجع فيه ولا يرد على الموهوب له شيئا من الفداء لانه فدى ملكه باختياره وقد بينا أن بالرجوع ينتهى ملكه المستفاد بالهبة وان رجع قبل أن يفديه كانت الجناية في عتق البعد يدفعه الواهب بها أو يفديه لان المستحق بالجناية نفس العبد واستحقاق نفسه بالجناية نقصان فيه فلا يمنع الواهب من الرجوع ثم برجوعه بقضاء القاضي ينعدم ملك الموهوب له بغير اختياره فلا يصير هو مستهلكا ولا مختارا ولكن الجناية تبقى في رقبة العبد فيخاطب مالكه بالدفع أو الفداء ومالكه الواهب في الحال فهو المخاطب بذلك كما لو مات مولى العبد الجاني فورثه وارثه. قال ولو وهبه ثوبا فشقه نصفين فخاط نصفا قباء ونصفه الآخر علي حاله كان له أن يرجع في النصف الباقي لان الشق نقصان في الثوب وخياطة القباء زيادة في النصف الذى حدثت الزيادة بفعله فيه تعذر الرجوع وقد بينا أن تعذر الرجوع في النف لا يمنعه من الرجوع في النصف الباقي وان قال وان وهب له شاة فذبحها كان له أن يرجع فيها لان الذبح نقصان في العين فان عمله في ازهاق الحياة قال وان ضحى بها أو ذبحها في هدى المتعة لم يكن له أن يرجع فيها في قول أبى يوسف وقال محمد يرجع فيها وتجزئه الاضحية والمتعة للذابح ولم يذكر قول أبى حنيفة

[ 100 ] وقيل قوله كقول أبى يوسف أما محمد يقول ملك الموهوب له لم يزل عن عينها والذبح ونقصان فيها فلا يمنع الرجوع فيها بقى كالشاة للقصاب وهذا لان معنى القربة في نيته وفعله دون العين والموجود في العين قطع الحلقوم والاوداج سواء كان علي نية اللحم أو نية القربة والذى حدث في العين أنه تعلق به حكم الشرع من حيث التصدق به وذلك لايمنع الرجوع كرجوع الزكاة في المال الموهوب في يد الموهوب له بل أولى لان التصدق هنا ليس بمتحتم حتى يكون له أن يأكله ويطعم من شاء من الاغنياء بخلاف الزكاة وأبو يوسف يقول في التضحية جعلها الله تعالى خالصا وقد تم ذلك فلا يرجع الواهب فيه بعد ذلك كما لو كان الموهوب له أرضا فجعلها مسجدا وبيان قولنا أن في التقرب بارافة الدم وقد حصل ذلك ألا ترى انه لو سرق المذبوح أو هلك كان مجزئا عنه واباحة التناول منه بأذن من له الحق بقوله تعاليا افطرا منها ألا ترى انه يجوز له أن يتصرف فيها على غير الوجه المأذون فيه وهو بطريق التجارة ويمنع من ذلك ولو فعله كان ضامنا فعرفنا انه تم معنى التقرب به فيكون نظير هذا من الزكاة ما إذا أداه إلى الفقير بنية الزكاة وليس للواهب أن يرجع فيه بعد ذلك وهذا الفعل في صورة ذبح شاة القصاب ولكن في المعنى والحكم غيره ولا تعتبر الصور ألا ترى ان الذبح يتحقق من المسلم والمجوسي والتضحية لاتتحقق الا ممن هو أهل فعرفعنا انه في المعنى غير الذبح ثم عند محمد برجوع الواهب لا تبطل التضحية لان رجوعه في القائم دون ما يلاشى منه وقد بينا ان الرجوع ينهى ملك الموهوب له فانما انعدم ملكه بغير اختياره وهو في حق نظير مالو هلك بعد الذبح. قال رجل وهب لرجل درهما فقبضه الموهوب له وجعله صدقة لله تعالى فللواهب أن يرجع فيه ما لم يقضه المتصدق عليه لانه التزم فيه الصدقة بنذره فلا يكون ذلك أقوي من وجوب الصدقة عليه فيه بايجاب الله تعالي وهو الزكاة وذلك لا يمنعه من الرجوع وهذا لان قبض المتصدق عليه لايتم معنى العبادة والتقرب فيه (وكذلك) لو وهب له ناقة فجعلها الموهوب له بدنة وقلدها فللواب أن يرجع فيها قبل أن ينحرها الموهوب له وفرق أبو يوسف بين هذا والاول فقال بالتقليد رأيتم جعلها لله تعالى ألا ترى أنه لو قلدها عن هدى واجب فهلكت قبل أن ينحرها فابه عليه أخرى بخلاف ما بعد النحر وان وهب له أجزاعا فكسرها وجعلها حطبا فله أن يرجع فيها لان هذا نقصان في العين وان كان يزيد في المالية بزيادة رغائب الناس فيه لا لمعنى في العين فلهذا كان

[ 101 ] له أن يرجع فيها (وكذلك) لو وهب له لبنها فجعله طينا فهذا نقصان فان أعاده لبنا لم يرجع فيها لان هذا اللبن حادث بفعله أو ضرب اللبن من الطين زياده في عينه فإذا كان حادثا في يد الموهوب له منع ذلك الواهب من الرجوع وان وهب له نجيحا فجعله خلا لم يرجع فيه لان مالية الخل غير مالية النجيح وهذه مالية حدثت بصنعة حادثة في العين في يد الموهوب له وان وهب له سيفا فجعله سكاكين أو سكينا لم يكن له أن يرجع فيه لان السكين غير السيف (وكذلك) ان كسره فجعل منه سيفا آخر لان هذا الثاني حادث بعلمة ألا ترى أن الغاصب لو فعل ذلك كان ضامنا قيمة السيف المغصوب منه ويجعل ما ضربه له قال وان وهب له دارا فبناها على غير ذلك البناء وترك بعضها على حالها لم يكن له أن يرجع في شئ منها لان ما زاد في البناء في جانب منها يكون زيادة في جميعها كما في الارض إذا بنى في ناحية منها قال وان وهب له حماما فجعله مسكنا أو وهب له شيئا فجعله حمامافان كن البناء على حاله لم يزد فيه شئ فله أن يرجع فيه لان تصرفه في المنفعة دون العين والمانع من الرجوع زيادة في العين وان كان زاد عليه بناء أو غلق عليه بابا أو جصصه أو أصلحه أو جعله بصاروج أو طنية فليس له أن يرجع فيه لان هذا كله زيادة في عينها. قال مريض وهب لصحيح عبدا يساوى ألفا ولا مال له غيره فعوضه الصحيح منه عوضا وقبضه المريض ثم مات والعوض عنده فان كان العوض مثل ثلثى قيمة العبد أو أكثر فالهبة ماضية لان العوض المقبوض بمنزلة المشروط أو أقوى والثلث منه كان من خالص حقه والثلثان حق الورثة فإذا كان العوض مثل ثلثى قيمة العبد عرفنا انه لم يبطل شيئا من حق الورثة بتصرفه وانما تصرف فيما هو خالص حقه فكانت الهبة ماضية وان كانت قيمته قيمة العوض نصف قيمة الهبة يرجع ورثة الواهب في سدس الهبة لان حقهم في ثلثى العبد وقد وصل إليهم من العوض بقدر مالية نصف العبد فانما تبقى لا تمام حقهم سدس العبد فلهذا يرجع الوارث بسدس الهبة وان كان العوض شرطا في أصل الهبة فان شا الموهوب له رد الهبة كلها وأخذ العوض وان شاء رد سدس الهبة وأهسك الباقي لانه ما رضى بسقوط حقه عن عوضه الا بأن يسلم له جميع الموهوب ولم يسلم ولان التبعيض في الملك المجتمع عيب فاستحقاق جزء من العبد وان قل بتعيب ما بقى منه وحق الرد بالعيب ثابت بعد التقابض إذا كان العوض مشروطا لان الهبة بشرط العوض تصير بيعا بالقياس فلهذا ثبت له الخيار

[ 102 ] في رد ما بقى فإذا لم يكن العوض مشروطا فانه لا يصير معاوضة بالتقابض في حكم الرد بالعيب فيرد سدس الهبة ولا يكون له أن يسترد العوض لان ملكه على سبيل الهبة وقد مات الموهوب له فلا رجوع له فيه بعد ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم باب هبة المريض (قال ولا يجوز هبة المريض ولا صدقته الا مقبوضة فإذا قبضف جازت) وقال ابن أبى ليلى تجوز غير مقبوضة لانها وصية بدليل انها تعتبر من الثلث فالوصية تتأكد بالموت قبضت أو لم تقبض ولا تبطل به فكذلك الهبة في المرض وهذا لان المرض سبب الموت وجعل ما يباشره المريض في الحكم كالثابت بعد موته حتى لو طلق زوجته ثلاثا ورثته بمنزلة مالو وقعت الفرقة بينهما بالموت فهذا مثله وكلنا نقول المعنى الذى له ولاجله لا تتم الهبة والصدقة من الصحيح الا بالقبض موجود في حق المريض وهو أنه تمليك بعقد تبرع فيكون ضعيفا في نفسه لا يفيد حكمه حتى ينضم إليه ما يؤيده وهذا في حق المريض أظهر لان تصرفه أضعف من تصرف الصحيح واعتباره من الثلث لا يدل على أنه غير ثابت في الحال ككفالته فاعتاقه وهذا بخلاف الوصية فانها خلافة ثم الملك من ثمراتها والخلافة لا تكون الا بعد الموت وهذا عقد تمليك لا يحتمل الاضافة فإذا لم يتفق قبل الموت تبطل بالموت كالبيع الموقوف إذا لم يتصل به الاجازة حتى مات أحدهما ولا يقول الطلاق يصير كالمضاف ولكن تقام العدة عند الموت مقام حقيقة النكاح أنها لحقها في ماله بعد تعلقه ولهذا اعتبرنا هبته من الثلث هنا وان حق الوارث تعلق بثلثي ماله بمرضه فلابقاء حقهم جعلنا هبته من الثلث. قال فان كانت الهبة دارا فقبضها ثم مات ولا مال له غيرها جازت الهبة في ثلثها ورد الثلثين إلى الورثة (وكذلك) سائر ما يقسم ومالا يقسم الا فيما لا ينقسم فلا اشكال وأما فيما يقسم فلان الموهوب له ملك الكل بالقبض ثم بطل ملكه في الثلثين بعد موته إذا لم تجز الورثة فكان هذا شيوعا طاريا فيما بقى بخلاف مااذا استحق نصف الدار فانه يتبين انه لا يملك المتسحق بالقبض وقد بطل العقد فيه من الاصل فلو جاز في الباقي كان شائعا فيما يحتمل القسمة وذلك يمنع ابتداء الملك بالهبة. قال فان كانت الهبة جارية فكاتبها الموهوب له ثم مات المريض ولا مال له غيرها فعلى الموهوب له ثلثا قيمته للورثة ولا ترد الكتابة لان

[ 103 ] الكتابة منه صحيحة لازمة لكونه مالكا لها حين كانت فما دامت باقية لا تحتمل النقل من ملك إلى ملك ولان في رد ثلثها على الورثة ابطال الحق الثابت لها في نفسها وكسبها وذلك لا يجوز وان تعذر رد عينها بسبب باشره الموهوب له كان ضامنا للورثة قيمة حصتهم منها كما لو كان أعتقها أو دبرها فان قضى القاضى عليه بثلثي قيمتها ثم عجزت المكاتبة لم يكن للورثة عليه سبيل لان القاضى قضى بالقيمة والسبب الموجب للقضاء به وهو العجز عن رد العين يتحقق فانتقل حقهم إلى القيمه ثم لا يعود في العين بعد ذلك بزوال العجز كالمغصوب إذا عاد من اباقه بعد ما قضى القاضي بقيمته على الغاصب وإذا عجزت قيل القضاء أخذوا ثلثيها لان المانع زوال قبل انتقال حقهم من عينها إلى محل آخر فهو كالمغصوب إذا عاد قبل قضاء القاضى بالقيمة (وكذلك) ان كاتبها بد موت المريض (فالجواب) على ما تقدم ما لم يقض القاضى بثلثيها للورثة لان ملك الموهوب له بان ببقاء قبضه وإذا فسد السبب ما لم يقض القاضي عليه بالرد فان فضي القاضى بذلك عاد الملك له في ثلثيها إلى الورثة بقضاء القاضى فان اعتقها الموهوب له بعد ذلك فهو بمنزلة عتق أحد الشريكين الجارية المشتركة وقد بينا ذلك في كتاب العتق. قال مريض وهب لمريض عبدا وسلمه إليه فأعتقه وليس لواحد منهما مال غيره ثم مات الواهب ثم مات الموهوب له قال يسعى العبد في ثلثى قيمته لورثة الواهب لان عتق الموهوب له في مرض موته بمنزلة الوصية فيتأخر عن الدين وثلثا قيمته دين لورثة الواهب على الموهوب له فانه أتلف عليهم حقهم في ثلثى العبد بالاعتاق فعلى العبد أن يسعى في ذلك لهم وانما بقى مال الموهوب له ثلث رقبته فسلم له بطريق الوصية ثلث هذا الثلث ويسعى في ثلثى هذا الثلث لورثة الموهوب له وكان جميع ما عليه السعاية في ثمانية أتساع قيمته وانما يسلم له التسع وان كان على الموهوب له دين ألف درهم وقيمة العبد الف درهم سعى العبد في قيمته يضرب فيها غيرها الموهوب له بدينهم وورثة الواهب بثلثي قيمة العبد لان دين الموهوب له محيط بتركته فعلى العبد السعاية في جميع القيمة لرد الوصية ثم هذه القيمة تركة الموهوب له فيضرب فيها غرماؤه بديونهم ودين ورثة الواهب عليه ثلثا قيمته ودين الغريم الآخر ألف فتقسم التركة بينهما بالحصة. قال مريض وهب لمريض عبدا وهو ثلث ماله وسلمه إليه ثم ان الموهوب له قتل الواهب في مرضه فالهبة مردودة إلى وارثه لان الهبة في المرض في حكم التنفيذ معتبر بالوصية ولهذا ينفذ من الثلث بعد الدين

[ 104 ] ولا وصية للقاتل عند عدم اجازة الورثة فكذلك الهبة في المرض وهذا لان بطلان الوصية للقاتل الدفع المعاضلة عن الورثة حتى لا يزاحمهم قاتل أبيهم في مال أبيهم وهذا المعنى موجود فيما وهبه في مرضه. قال رجل وهب لرجل عبدا في مرضه وقيمته ألف درهم وسلمه إليه ولا مال له غيره ثم ان العبد قتل الواهب يقال للموهوب له ادفعه أو افده لان الموهوب له ملك العبد بالقبض فانما جنى على الواهب ملكه وفى جناية المملوك خطأ على غير المالك يخاطب المالك بالدفع أو الفداء كما لو جنى على انسان آخر ودليل تمام ملك الموهوب له أنها لو كانت جارية حل له وطؤها بعد الاستبراء فان اختار الفداء فداؤه بعشرة آلاف لان الفداء بارش الجناية وهو دية النفس ثم بدل نفس الواهب بمنزلة مال خلفه حتى يقضى منه ديونه وتنفذ وصاياه فتبين أن ماله عند موته احدى عشر ألفا وأن العبد خارج من ثلثه وزيادة فكانت الهبة صحيحة في جميعه وان اختار الدفع دفعه ولا شئ عليه لان المولى يتخلص عن عهدة الجناية بدفع الجاني ولم يببن كيفية الدفع هنا وانما بين ذلك في كتاب الدور فقال يدفع نصفة إليهم على وجه رد الهبة ونصفه على وجه الدفع للجناية لان الهبة تجوز في نصف العبد وكان ينبغي أن يكون جواز الهبة في ثلث العبد لانه لامال للواهب سواه ولكن لضرورة الدور جوز الهبة في نصف العبد وبيان ذلك انما يجعل العبد علي ثلاثة أسهم وتجوز الهبة في سهم وتبطل في سهمين ثم يدفع الموهوب له هذا السهم بالجناية فيزداد مال الواهب ويجب بحسابه الزيادة في تنفيذ الهبة وإذا زدنا في تنفيذ الهبة يزداد ماله بالدفع بالجناية أيضا فلا يزال يدور هكذا وسهم الدور ساقط لانه شاع بالفساد فالسبيل يقيد وانما يطرح هذا السهم من قبل من خرج الدور من جهتهم وانما الدور هناك بزيادة ظهرت في نصيب الورثة فالسبيل أن تطرح من أصل حقهم بينهما وحق الموهوب له في سهم وبه يظهر أن العبد يكون في الاصل على سهمين تنفذ الهبة في أحدهما وهو النصف ثم يدفع الموهوب له ذلك السهم بالجناية فسلم للورثة سهمان وقد نفذ بالوصية في سهم فاستقام الثلث والثلثان والعبد وان كان واحدا في الصورة ففى الحكم صار بمنزلة عبد ونصف فكان تنفيذ الوصية في نصف العبد ولما بطلت الهبة في النصف بالرد سقط حكم الجناية فيه لان جناية المملوك على مالكه خطأ واعتبر في النصف الآخر وقد دفعه المالك بالجناية فلهذا لا شئ عليه سواه قال وإذا رجع الواهب في هبته والموهوب له مريض وقد كانت الهبة في الصحة فان كان بقضاء قاض

[ 105 ] فالرجوع فيه صحيح ولا سبيل لغرماء الموهوب له وورثته بعد موته على الواهب لان الواهب يستحقه بحق سابق له على حقهم وان كان ذلك بغير قضاء قاض كان رد المريض لها حين طلب الواهب فيها بمنزلة هبة جديدة من المريض فيكون من الثلث ان لم يكن عليه دين وان كان عليه دين يحيط بماله أبطل ذلك الرجوع وردت الهبة إلى تركة الميت وقد تقدم بيان مافى هذه المسألة من اختلاف الروايات والقياس والاستحسان ووجهه انه بالرد باختياره ورضاه قصد ابطال حق الغرماء والورثة عنه بعد تعلق حقهم به يوضحه ان حق الواهب في الرجوع ضعيف حتى يتمكن الموهوب له من اسقاطه بتصرفه فإذا اتصل قضاء القاضى به يقوي فيقدم على حق غرماء الموهوب له وورثته لقوته وإذا لم يتصل به القضاء يقدم حق الغرماء والورثة على حقه لقوة حقهم وضعف حق الواهب. قال مريض له عبد يساوى خمسة آلاف درهم وهبه لرجل وقبضه الموهوب له ولا مال له غيره ثم ان العبد قتل المريض خطأ فانه يقال للموهوب له ادفعه أو افده لما بينا أنه مالك للعبد حين جنى فان اختار الدفع فقد بينا التخريج وان اختار الفداء فداه بالدية وسلم له العبد كله لان الدية بدل نفس الواهب بمنزلة ما خلفه فتبين به ان مال خمسة عشر ألفا وقيمة العبد خمسة آلاف فهو خارج من ثلثه فلهذا تنفذ الهبة في جميعه وإذا ظهر نفوذ الهبة في جميع العبد ظهر أن على الموهوب له دية كاملة للورثه باختياره فان كان يساوى ستة آلاف درهم واختار الفداء فانه يرد على ورثة الواهب ربعه ويفدى ما بقى بثلاثة أرباع الدية وذكر محمد في كتاب الدور طريقا في تخرج هذا الجنس من المسائل هو أسهل الطرق. قال ولو كان للواهب سوى ألفى درهم كانت الهبة صحيحة في جميع العبد لان اختيار الفداء يؤدى الدية عشرة آلاف درهم فيسلم ذلك للورثة مع الالفين فيكون اثنى عشر ألفا وقد نفذ بالهبة في العبد وهو يساوى ستة آلاف فيسلم للورثة ضعف ما نفذنا فيه الهبة فإذا عدمنا الالفين تعذر علينا تنفيذ الهبة في جميع العبد فالسبيل ان يضم ما عدمنا وهو الالفان إلى قيمة العبد وهو ستة آلاف ثم يبطل من الهبة بقدر ما عدمنا وتجوز بقدر الموجود والذى عدمنا من الجملة مقدار الربع فتبطل الهبة في ربع العبد ويجوز هنا وقيمة ذلك أربعة آلاف وخمسمائة ثم يفدى ذلك بثلاثة أرباع الدية وذلك سبعة آلاف وخمسمائة فيسلم ذلك للورثة مع ربع العبد وقيمته ألف وخمسمائة وجملة ذلك تسعة آلاف وقد نفذنا الهبة في نصف ذلك أربعة

[ 106 ] آلاف وخمسمائة فيستقيم الثلث والثلثان فهذا طريق ظاهر من غير دور فأما بيان طريق الدور ان العبد في الابتداء على ثلاثة أسهم صحت الهبة في سهم منه ثم على الموهوب له ان يفدى السهم بمثله ومثل ثلثيه فعرفنا ان كل سهم من العبد يقابله من الدية مثله ومثل ثلثيه فإذا فداه بسهم وثلثين ازداد مال الورثة وجاء الدور من الوجه الذى قررنا فالسبيل ان يطرح من أصل حق الورثة مقدار الزيادة وهو سهم وثلثا سهم وقد كان حقهم في سهمين فإذا طرحنا سهما وثلثي سهم بقى حقهم في ثلث سهم وحق الموهوب له في سهم فيكون العبد على سهم وثلث انكسر بالاثلاث فاصرفه في ثلثه وسهم وثلث في ثلثه يكون أربعة فتبين ان العبد على أربعة أسهم وان الهبة تنفذ في ثلاثة أرباعه فيقدر ذلك بثلاثة أرباع الدية ثم التخريج إلى آخره كما بينا وتخرج هذه المسألة على طريق الحساب من الجبر والمقابلة وغيرها ولكن يؤخر بيان ذلك إلى كتاب الدور وهذه المسألة واخواتها تعود هناك ان شاء الله تعالى قال وأهل الذمة في حكم الهبة بمنزلة المسلمين لانهم التزموا أحكام الاسلام فيما يرجع إلى المعاملات الا أنه لا يجوز المعاوضة بالخمر عن الهبة فيما بين المسلم والذمى سواء كان المسلم هو المعوض للخمر أو الذمي لان الخمر ليست بمال متقوم في حق المسلم وهو ممنوع من تمليكه وتملكها فهى في حقه كالميتة والدم لا تصلح عوضا قال وان صارت الخمر خلا في يد القابض لم تصر معوضا ويرده إلى صاحبها لان تمليكها على وجه التعويض باطل فتثبت على ملك صاحبها فإذا تخللت كان الخل مملوكا له مردودا عليه وأصل التعويض لما بطل لا ينقلب صحيحا بالتخلل كما لو باع خمرا من انسان فتخللت في يد المشترى وتجوز المعاوضة بالخمر والخنزير فيما بين الذميين كما يجوز ابتداء المبايعة لان ذلك مال متقوم في حقهم ولا يجوز بالميتة والدم لان ذلك ليس بمال في حقهم كما في حقنا وصحة التعويض تختص بمال متقوم. قال مسلم وهب لمرتد هبة فعوضه منها المرتد ثم قتل أو لحق بدار الحرب جازت الهبة ولم يجز تعويضه في قول أبى حنيفة لان التعويض تصرف من المرتد في ماله ومن أصل أبى حنيفة ان تصرف المرتد في ماله يبطل إذا قتل أو مات أو ألحق بدار الحرب وأما هبة المسلم من المرتد صحيحة لان قبول الهبة من المرتد ليس بتصرف في ماله والحجر بسبب الردة لان يكون فوق الحجر بسبب الرق وذلك لايمنع قبول الهبة فهذا أولى الا أنه إذا كان للواهب حق الرجوع في حال حياة الموهوب له وقد مات حقيقة أو حكما لحاقه بدار الحرب فكانت الهبة جائزة وقد

[ 107 ] بطل التعويض وفى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعوضه صحيح كسائر تصرفاته الا أن عندا أبى يوسف يكون من جميع ماله وعند محمد من ثلثه بمنزلة سائر تصرفات المرتد على وجه التبرع فان كان المرتد هو الواهب وقد عوضه الموهوب له من هبته ثم قتل أو لحق بدار الحرب فانه يرد هبته إلى ورثته لانه كان تصرفا منه في ماله وإذا كان تصرفه في ماله بيعا يبطل عنده إذا مات فتصرفه هبة أولى فترد هبته إلى ورثته ويرد عوضه إلى صاحبه ان كان قائما وان كان قد استهلكه كان ذلك دينا في مال المرتد لانه قبضه على وجه العوض ولم يسلم الموهوب للموهوب له فلا يسلم العوض له أيضا ولكن ان كان قائما رده على الموهوب له بعينه وان كان مستهلكا فقد تعذر رده مع قيام السبب الموجب للرد فتجب قيمته دينا في ماله سواء كان الآخر علم بارتداده أو لم يعلم لان حكم تصرف المرتد لا يختلف بعلم من عامله بردته وجهله فان التوقف لحق الورثة وحقهم ثابت في الحالين. قال وإذا وهب المرتد للنصراني هبة أو النصراني للمرتد على أن عوضه عنها خمرا فذلك باطل لان المرتد في حكم التصرف في الخمر كالمسلم فانه مجبر على العود الي الاسلام غير مقر علي ما اعتقده فيبطل تصرفه في الخمر تعويضا عن الهبة كما يبطل من المسلم قال وإذا وهب الحربى المستأمن هبة لمسلم أو وهبها له مسلم فقبضها ثم رجع إلى دار الحرب ثم عاد مستأمنا فلكل واحد منهما ان يرجع في هبته لبقاء الملك المستفاد بالهبة وبقاء العين على حاله فأن المستأمن وان كان في دارنا صورة فهو في أهل دارا الحرب حكما فلا يتبدل ملكه بالرجوع إلى دار الحرب وان سبى وأخذت الهبة منه لم يكن للواهب ان يرجع فيها لزوال الملك المستفاد بالهبة فان نفسه بالسبي قد تبدلت وخرج هو من أن يكون أهلا للملك والموهوب صار ملكا للسابى بمنزلة سائر أمواله إذا أخذه معه فلا سبيل للواهب عليه وان حضر قبل القسمة لانه انما يتمكن من أخذ ما بقى ووقع الظهور عليه من ماله وهذا مال أزاله عن ملكه باختيار فلا يأخذه من الغنيمة وان حضر قبل القسمة قال وان وقع الحربى في سهم رجل فاعتقه ثم وصلت تلك الهبة إليه بشراء أو غيره لم يكن للواهب أن يرجع فيها لان هذا ملك حادث له وحق الواهب كان في الملك المستفاد بالهبة فلا يثبت في ملك حدث بسبب آخر وصار اختلاف سبب الملك كاختلاف العين قال وان كان الحربى هو الواهب فسبي ووقع في سهم رجل لم يكن له أن يرجع في هبته لان نفسه تبدلت بالرق وذلك بمنزلة موته فان الحرية حياة والرق تلف وبموت الواهب يبطل الحق