مبسوط السرخسي - الجزء السادس عشر

المبسوط السرخسي ج 16

[ 1 ] (الجزء السادس عشر من) كتاب المبسوط لشمس الدين السرخسي وكتب ظاهر الرواية أتت * ستا وبالاصول أيظا سميت صنفها محمد الشيباني * حرر فيها المذهب النعماني الجامع الصغير والكبير * والسير الكبير والصغير ثم الزيادات مع المبسوط * تواترت بالسند المضبوط ويجمع الست كتاب الكافي * للحاكم الشهيد فهو الكافي أقوى شروحه الذى كالشمس * مبسوط شمس الامة السرخسى (تنبيه) قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوى الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان دار المعرفة بيروت - لبنان

[ 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم (باب انتقاض الاجارة) (قال رحمه الله ذكر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال حين وضع رجله في الغرزان الناس قائلون غدا ماذا قال عمر وان البيع عن صفقة أو خيار والمسلحون عند شروطهم) وفي هذا الحديث دليل أن الاجارة يتعلق بها اللزوم إذا لم يشترط فيها الخيار كالبيع بخلاف ما يقوله شريح رحمه الله ان الاجارة من المواعيد لا تكون لازمة وقد بيناه وفيه دليل على ان البيع نوعان لازم بنفسه وغير لازم إذا شرط فيه الخيار فان الصفقة هي اللازمة النافذة يقال هذه صفقة لم يشهدها خاطب إذا أنفذ أمر دون رأى رجل فيكون حجة على الشافعي رحمه الله لانه يثبت خيار المجلس في كل بيع وفيه دليل وجوب الوفاء بالمشروط إذا كان الشرط صحيحا شرعا فلا خلاف بيننا فالشافعى رحمه الله يقول عقد الاجارة إذا أطلقت فهى لازمة كالبيع الا أن عندنا قد يفسخ الاجارة بالعذر وعنده لا يفسخ الا بالعيب وهو بناء على أصله ان المنافع كالاعيان الموجودة حكما فان العقد عليها كالعقد على العين فكما لا يفسخ البيع الا بعيب فكذلك الاجارة وعندنا جواز هذا العقد للحاجة ولزومه لتوفير المنفعة على المتعاقدين فإذا آل الامر إلى الضرر أخذنا فيه بالقياس وقلنا العقد في حكم المضاف في حق المعقود عليه والاضافة في عقود التمليكات تمنع اللزوم في الحال كالوصية ثم الفسخ بسبب العيب لدفع الضرر لا لعين العيب فإذا تحقق الضرر في ايفاء العقد يكون ذلك عذرا في الفسخ وان لم يتحقق العيب في المعقود عليه (ألا ترى) ان من استأجر أجيرا ليقلع درسه فسكن ما به من الوجع كان ذلك عذرا في فسخ الاجارة أو استأجره ليقطع يده للآكلة ثم بدا له في ذلك أو استأجره ليهدم بناء له ثم بدا له في ذلك لانه لا يتمكن من ايفاء العقد الا بضرر يلحقه في نفسه أو ماله من حيث اتلاف شئ من بدنه أو اتلاف ماله وجواز الاستئجار للمنفعة لا للضرر وقد يرى

[ 3 ] الانسان المنفعة في شئ ثم يتبين له للضرر في ذلك وكذلك لو استأجره ليتخذ له وليمة ثم بدا له في ذلك فليس للاجير أن يلزمه اتحاد الوليمة شاء أو أبى لان في ذلك عليه من الضرر في اتلاف ماله وجواز الاستئجار للمنفعة لا لضرر إذا عرف هذا فنقول من العذر في استئجار البيت أن ينهدم البيت أو يهدم منه مالا يستطيع أن يسكن فيه وهذا من نوع العيب في المعقود عليه وثبوت حق الفسخ به مجمع عليه لان تقبض الدار المنافع لا تدخل في ضمانه فحصول هذا العارض في يد المستأجر كحصوله في يد الآجر فان أراد صاحب البيت أن يبيعه فليس هذا بعذر لانه لاضرر عليه في ايفاء العقد الا قدر ما التزمه عند العقد هو الحجر على نفيه عن التصرف في المستأجر إلى انتهاء المدة وان باعه فبيعه باطل لا يجوز لعجزه عن التسليم وقد بينا في البيوع ان الصحيح من الرواية ان البيع موقوف على سقوط حق المستأجر وليس للمستأجر أن يفسخ البيع وان كان على المؤاجر دين فحبس في دينه فباعه فهذا عذر لان علته في ايفاء العقد ضرر لم يلتزم ذلك بالعقد وهو الحبس على سقوط المستأجر عن العين فان بعقد الاجارة لا يزول ملكه عن العين ولا يثبت للمستأجر حق في ماليته فيكون المديون مجبورا على قضاء الدين من ماليته محبوسا لاجله إذا امتنع فلهذا كان ذلك عذرا له في الفسخ ثم ظاهر ما يقول هنا يدل على انه يبيعه بنفسه فيجوز وقد ذكر في الزيادات انه يرفع الامر إلى القاضي ليكون هو الذي يفسخ الاجارة ويبيعه وهو الاصح لانه هذا فصل مجهتد فيه فيتوقف على امضاء القاضي كالرجوع في الهبة وان انهدم منزل المؤاجر ولم يكن له منزل آخر فاراد أن يسكنه لم يكن له أن ينقض الاجارة لانه لاضرر عليه فوق ما التزمه بالعقد فانه يتمكن من أن يكترى منزلا آخر أو يشترى وكذلك ان أراد التحول من المصرف لانه لا يخرج المنزل مع نفسه فلا يلحقه ضرر فوق ما التزمه بالعقد وهو ترك المنزل في يد المستأجر إلى هذه المدة وان كان هذا بيتا في السوق يبيع فيه ويشترى فلحق المستأجر دين أو أفلس فقام من السوق فهذا عذر وله أن ينقض الاجارة لانه استأجره للانتفاع وهو يتضرر بايفاء العقد بعد ما ترك تلك التجارة أو أفلس ضررا لم يلزمه بنفس العقد وكذلك إذا أراد التحول من بلد إلى بلد لانه لو لزمه الامتناع من السفر تضرر به ضرر لم يلتزمه بالعقد وبعد خروجه لا يتمكن من الانتفاع بالبيت فان قال رب البيت انه يتعلل ولا يريد الخروج حلف القاضى المستأجر على ذلك لان الظاهر شاهد له فالظاهر أنه لا يترك ماكان عزم عليه من التجارة في الحانوت الا إذا أراد

[ 4 ] التحول من بلد إلى بلد فالقول قوله مع يمينه وقيل بحكم القاضي حاله في ذلك فان رآه قد استعد للسفر قبل قوله. قال الله تعالى ولو أرادوا الخروج لا عدوا له عدة وقيل يقول له مع من يخرج فالانسان لا يسافر الا مع رفقة ثم يسأل رفقاءه عن ذلك وان فسخ العقد وخرج الرجل ثم رجع وقال قد بدالى في ذلك وخاصمه صاحب البيت فان القاضي يحلف المستأجر بالله انه كان في خروجه قاصدا للسفر لان رب البيت يدعى بطلان الفسخ لعدم العذر وذلك ينبنى وما في ضميره في ضمير المستأجر لا يعلمه غيره فكان القول قوله مع يمينه وكذلك ان أراد التحول من تلك التجارة إلى تجارة أخرى فهذا عذر لان في ايفاء العقد ضررا لم يلتزمه بالعقد وقد تروج نوع التجارة في وقت وتبور في وقت آخر وان لم يكن هذا ولكن وجد بيتا هو أرخص منه لم يكن عذرا. وكذلك لو اشترى منزلا وأراد التحول إليه لانه لايلحقه ضرر الا ما التزمه بالعقد وهو التزام الاجر عند استيفاء المنفعة وانما يقصد بالفسخ هنا الربح لادفع الضرر وان استأجر دابة بعينها لى بغداد فبدا للمستأجر أن لا يخرج فهذا عذر لان عليه ضررا في ايفاء العقد وهو تحمل مشقة السفر وقال ابن عباس رضي الله عنهما لولا قول رسول الله السفر قطعة من العذاب لقلت العذاب قطعة من السفر ولو قال رب الدابة أنه يتعلل فالسبيل للقاضي أن يقول له اصبر فان خرج فقاد الدابة معه لان المعقود عليه خطوات الدابة فإذا قادها معه فقد تمكن من استيفاء المعقود عليه فيلزمه الاجر وان لم يركب وكذلك لو أراد الخروج في طلب غريم له أو عبد آبق فرجع وكذلك لو مرض أو لزمه غرم أو خاف أمرا أو عثرت الدابة أو أصابها شئ لا يستطاع الركوب معه فبعض هذا عيب في المعقود عليه وبعضه عذر للمستأجرين في التخلف عن الخروج ولا فائدة للمؤاجر في ايفاء العقد إذا لم يخرج المستأجر وان عرض لصاحب الدابة مرض لايستطيع الشخوص مع دابته لم يكن له أن ينقض الاجارة لان بامتناعه من الخروج لا يتعذر تسليم المعقود عليه فيؤمر بتسليم الدابة وأنه يرسل معه رسولا يتبع الدابة وكذلك لو حبسه غريمه وروى بشر عن أبى يوسف رحمهما الله قال إذا امتنع رب الدابة من الخروج فيكون هذا عذر وان مرض فهو عذر له لانه يقول غيري لا يشقق على دابتي ولا يقوم بتعاهدها كقيامي فإذا تعذر عليه الخروج لمرض يلحقه في ايفاء العقد ضرر لم يلتزمه بالعقد وروى هشام عن أبى يوسف رحمهما الله قال إذا اكترت المرأة ابلا إلى مكة للذهاب والرجوع فلما كان في يوم النحر ولدت قبل أن تطوف

[ 5 ] للزيادة فهذا عذر للمكارى لانها تحبس إلى مضى مدة النفاس وهذا ضرر لم يلتزمه المكارى بالعقد لانه غير معتاد وان كانت قد ولدت قبل ذلك فان كان الباقي مدة النفاس بعد يوم النحر عشرة أيام أو أقل فهذا ليس بعذر للمكارى لان ما بقى مثل مدة الحيض وذلك معلوم وقوعه عادة وكان المكارى ملتزما ضرر التأخير بقدره وان عطبت الدابة فهو عذر وهذا لان المعقود عليه فات ولاسبب للفسخ أقوى من هلاك المعقود عليه وان كانت الدابة بغير عينها لم يكن هذا عذر لان المكارى التزم العمل في ذمته وهو قادر على الوفاء به بدابة أخرى يحمله عليها ولو مات المستأجر في بعض الطريق كان عليه من الاجر بحساب ما سار ويبطل عنه بحساب ما بقى لانفساخ العقد بموت أحد المتكاريين وقد بينا ذلك وان مات رب الابل في بعض الطريق فللمستأجر أن يركبها على حالة حتى يأتي مكة وذكر في كتاب الشروط أن هذا إذا كان في مفازة بحيث لا يقدر به على سلطان وخاف أن يقطع به وهو الصحيح لانه كما يجوز نقض الاجارة عند العذر لدفع الضرر يجوز ايفاؤها بعد ظهور سبب الانتقاض لدفع الضر وإذا كان في المفازة لو قلنا بانتقاض العقد يتعذر عليه الركوب فيتضرر به لانه عاجز عن المشى ولا يقدر على دابة أخري فأما إذا كان في مصر فهو لا يتضرر بانتقاض العقد وموت أحد المتكاريين موجب انتقاض العقد فإذا بقى العقد لم يضمن ان عطبت من ركوبه وعليه الاجر المسمى وهو استحسان لان العقد لما بقى للتعذر صار الحال بعد موت المكارى كالحال قبله فإذا أتى مكلة دفع ذلك إلى القاضي لان ما به من العذر قد زال وبقيت الدابة في يده ملكا للورثة وهو عيب فدفعها إلى القاضى فان سلم له القاضي الكراء إلى الكوفة فهو جائز إما لانه أمضى فصلا مجتهد فيه باجتهاده أو لانه يرى النظر في ذلك لانه لو أخذها منه أجرها من غيره ليردها إلى الكوفة وصاحبها رضى بكونها في يده فالاولى له إذا كان المستأجر ثقة أن ينفذ له الكراء إلى الكوفة وان رأى النظر في بيعها فهو جائز لان البعث بثمها إلى الورثة ربما يكون انفع وأيسر لهم فان الثمن لا يحتاج إلى النفقة وان كان انفق المستأجر عليها شيئا لم يحسب له ذلك لانه متطوع في ذلك بالانفاق على ملك الغير بغير أمره الا أن يكون بأمر القاضي فيسحب له إذا أقام البينة عليه لان للقاضي ولاية النظر في حق الغائب فالانفاق بأمره كالانفاق بأمر صاحب الدابة ولكنه غير مقبول القول فيما يدعى من الانفاق فإذا قام البينة رد ذلك عليه من الثمن وكذلك ان أقام البينة على توفية الكراء رد عليه بحساب ما بقى لانه أثبت

[ 6 ] دينه في تركة المبيت وهذا مال الميت ولان الابل محبوسة في يده إلى أن يرد عليه ما أنفق بأمر القاضي أو بما عجل من الكراء فلا يتمكن القاضي من أخذها وبيعها حتى يرد عليه ما بقى له فلهذا قبل بينته على ذلك ونفذ قضاؤه على الورثة مع غيبتهم وان استأجر أرضا فغلب عليها الماء أو أصابها نزلا تصلح معه الزراعة فهذا عذر لانه تعذر استيفاء المعقود عليه وكذلك ان اراد ان يترك الزرع أو افتقر حتى لا يقدر على ما يزرع فهذا عذر لان الزارع في الحال متلف لبذره ولا يدرى أيحصل الخارج أم لا وقد بينا أنه إذا كان لا يتمكن من ايفاء العقد الا باتلاف ماله فهو عذر له وان وجد أرضا أرخص منها أو أجود لم يكن هذا عذرا لانه بالفسخ يقصد هنا تحصيل الربح لادفع الضرر وان مرض المستأجر فان كان هو الذي يعمل بنفسه فهذا عذر لانه تعذر عليه استيفاء المعقود عليه وان كان انما يعمل اجراؤه فليس هذا عذر البقاء يمكنه من استيفاء المعقود عليه كما قصده بالعقد وان كانت الارض ليتيم أجرها وصيه فكبر اليتيم لم يكن له ان يفسخ الاجارة لان عقد الوصي على ماله كعقده على نفسه ولاضرر عليه في ايفاء الاجارة بعد بلوغه بخلاف مااذا كان أجر نفسه فان ذلك كد وتعب وهو يتضرر بايفاء العقد بعد بلوغه وإذا استأجر عبدا لخدمة أو لعمل آخر فمرض العبد فهذا عذر في جانب المستأجر ولانه يتعذر عليه استيفاء المعقود عليه وان أراد رب العبد ذلك لم يكن له ذلك لانه لاضرر عليه في ايفاء العقد فالمستأجر لا يكلفه من ايفاء العمل الا بقدر طاقته وهو يرضي بذلك وان كان ذلك دون حقه وان لم يفسخها واحدا منهما حتى بدأ العبد فالاجارة جائزة لازمة لزوال العذر ويطرح عنه من الاجر بحساب ذلك وهو ما يتعطل وكذلك ان أبق العبد أو كان سارقا فللمستأجر أن يفسخ الاجارة اما لتعذر استيفاء المعقود عليه أو لضرر يلحقه في ذلك وليس لمولى العبد فسخها لانه لاضرر عليه في ايفاء العقد فوق ما التزمه بالعقد ولو أراد المستأجر أن يسافر ويترك ذلك العمل فهو عذر لانه لا يتعذر عليه الخروج إلى السفر لحاجته ولا يمكنه أن يستحصب العبد إذا خرج وان أراد رب العبد أن يسافر به لم يكن له هذا عذر لانه لايلحقه من الضرر فوق ما التزمه بالعبد وهو ترك العبد في يد المستأجر إلى انتهاء المدة وان وجد المستأجر أجيرا أرخص منه لم يكن هذا عذرا لان في هذا تحصيل الربح لادفع الضرر وان كان العبد غير حاذق بذلك العمل لم يكن للمستأجر أن يفسخ الاجارة لان صفة الجودة لا تستحق بمطلق العقد الا أن يكون عمله فاسدا فله أن يفسخ حينئذ لان صفة السلامة عن

[ 7 ] العيب تستحق بمطلق المعاوضة وان مات العبد انتقضت الاجارة لفوات المعقود عليه وان كان المستأجر رجلين فمات أحدهما انتقضت حصته وكذلك ان مات أحد المؤجرين اعتبار الموت أحدهما بموتهما في حق الميت منهما وان ارتد الآجر والمستأجر والعياذ بالله ولحق بدار الحرب انتقضت الاجارة لان القاضي بموته حكم حين يقضي بلحاقه فهو كما لو مات حقيقة وان لم يختصما في ذلك حتى رجع مسلما وقد بقى من المدة شئ فالاجارة لازمة فيما بقى منهما لان اللحاق بدار الحرب إذا لم يتصل قضاء القاضى به بمنزلة الغيبة فلا يوجب انفساخ العقد ولكنه كان بمنزلة العذر فإذا زال برجوعه كانت الاجارة لازمة فيما بقى من المدة والله أعلم (باب الشهادة في الاجارة) (قال رحمه الله وإذا اختلف شاهدا الاجارة في مبلغ الاجر المسمى في العقد والمدعى هو المؤاجر أو المستأجر فشهد أحدهما بمثل ما ادعاه المدعى والآخر بأقل أو أكثر لاتقبل الشهادة لان المدعي كذب أحد الشاهدين ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا قبل استيفاء المنفعة لان الحاجة إلى القضاء بالعقد ومع اختلاف الشاهدين في البدل لا يتمكن القاضي من ذلك فاما بعد استيفاء المنفعة فالحاجة إلى القضاء بالمال فينبغي أن تكون المسألة على الخلاف عند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تقضى بالاقل كما في دعوى الدين إذا ادعى المدعى ستة وشهد بها أحد الشاهدين والآخر بخمسة (قال) رضى الله عنه والاصح عندي أن الشهادة لاتقبل عندهم جميعا هنا لان الاجرة بدل في عقد المعاوضة كالثمن في البيع ولابد أن يكون المدعى مكذبا أحد شاهديه فيمنع ذلك قبول شهادته له وان لم يكن لهما بينة وقد تصادقا على الاجارة واختلفا في الاجرة قبل استيفاء المنفعة تحالفا أو تراد الاحتمال العقد الفسخ وكذلك ان كانت دابة فقال المستكرى من الكوفة إلى بغداد بخمسة وقال رب الدابة إلى الصراه والصراه المنصف تحالفا وبعدما حلفا ان قامت البينة لاحدهما أخذت بينته لان البينة العادلة أحق بالعمل بها من اليمين الفاجرة وان قامت لهما بينة أخذت بينة رب الدابة على الآجر وبينة المستأجر على فضل المسير على قول أبى حنيفة رحمه الله وكان يقول أولا إلى بغداد باثنى عشر ونصف وهو قول زفر رحمه الله وقد بينا نظيره وان اتفقا على المكان واختلفا في جنس الاجر فالبينة بينة رب الدابة لانه يثبت حقه بالبينة ولانه يثبت دعواه بالبينة والاجر يثبت باقراره وانما تثبت بالبينة

[ 8 ] الدعوى دون الاقرار وان كان قد ركبها إلى بغداد فقال قد أعرتنى الدابة وقال صاحبها بل اكتريتها منك بدرهم ونصف فالقول قول الراكب ولاضمان عليه ولا أجر أما الضمان فلانهما تصادقا على أنه ركبها بأمر صاحبها وأما الاجر فلان المستأجر منكر لعقد الاجارة فالقول في ذلك قوله مع يمينه فان أقام المؤاجر شاهدين فشهد أحدهما بدرهم والآخر بدرهم ونصف فانه يقضى له بدرهم لانهما اجتمعا على الدرهم لفظا ومعنى والمقصود اثبات المال لان العقد منتهى فيقضى بما اتفق عليه الشاهدان وهذا يؤيد قول من يقول في مسألة أول الباب أنه يقضى بالاقل عندهما ولكنا نقول هناك الشاهدان ما اتفق على شئ لفظا فالخمسة غير الستة وعندهما القضاء بالاقل باعتبار الموافقة في المعنى وباعتبار المعنى المدعى مكذب أحدهما وهنا اتفقا الشاهدان على الدرهم لفظا فالمدعى يدعى ذلك ولكنه يدعي شيئا آخر مع ذلك وهو نصف درهم وأحد الشاهدين لم يسمع ذلك فلم يشهد به ولهذا لا يصير المدعي مكذبا له فلهذا أقضينا له بالدرهم ولو ركب رجلا دابة رجل إلى الحيرة فقال رب الدابة اكتريتها إلى الجباية بدرهم فجاوزت ذلك وقال الذى ركب أعرتنيها وحلف على ذلك فهو بريئ من الاجر لانه منكر لعقد الاجارة فان أقام رب الدابة شاهدين أنه اكراه إلى الحيرة بدرهم لم يقبل ذلك لان دعواه إكذاب منه لشهوده فانه ادعى الاكراء إلى الجباية وان ادعي رب الدابة انه أكراها إلى السالحين بدرهم ونصف وشهد له شاهد بذلك وآخر شهد انه أكراها إلى السالحين بدرهم فانه يقضي له عليه بدرهم إذا كان قد ربكها لان الشاهدين اتفقا على ذلك القدر لفظا والمدعى يدعيه أيضا. ولو قال المستأجر تكاريتها منك إلى القادسية بدرهم وقال رب الدابة بل إلى موضع كذا في السواد في غير ذلك الطريق بدرهم وقد ركبها إلى القادسية فلا كراء عليه لانه خالف فصار ضامنا معناه أن رب الدابة ينكر الاذن له في الركوب في طريق القادسية وقد ركب فصار ضامنا وانما ادعى رب الدابة العقد على الركوب في طريق آخر ولم يركب المستأجر في ذلك الطريق فلا أجر عليه لذلك ولو ادعى أنه أكراه دابتين باعيانهما إلى بغداد بعشرة وقال رب الدابتين بل هذه منهما بعينها إلى بغداد بعشرة وأقام البينة ففى قول أبى حنيفة الاول رحمه الله هما له إلى بغداد بخمسة عشر إذا كان أجر مثلهما سواء وفي قوله الآخر هما له إلى بغداد بعشرة لان المستأجر هو المدعى والمثبت بينة الزيادة في حقه وكذلك ان كان رب الدابتين ادعى أنه أكراه أحديهما بعينها بدينار وأقام البينة وأقام المستأجر البينة أنه

[ 9 ] استكراهما جميعا بعشرة دراهم فله دابتان بدينار وخمسة دراهم لان جنس الاجر هنا مختلف فكل واحد منهما يثبت ببينته حقه فلابد من قبول بينة قول كل واحد منهما بخلاف الاول فهناك جنس الاجر متحد وقد اتفق الشهود عليه فلا حاجة لرب الدابة إلى الاثبات ولكن المستأجر هو المحتاج إلى اثبات العقد في الدابة الاخرى وبينته تثبت ذلك وبينة رب الدابة تنفى فالمثبت أولى وان ادعى المستأجر دابة واحدة وان تكاراها إلى بغداد بدينار وأقام البينة وأقام صاحبها البينة أنه اكراها اياه إلى البصرة بعشرين درهما وقد ركبها إلى بغداد قضيت عليه بعشرين درهما ونصف دينار لان جنس الاجر لما اختلفا فلابد من العمل بالبينتين وقد أثبت رب الدابة ببينة إلى البصرة بعشرين درهما وأثبت المستأجر ببينة العقد من البصرة إلى بغداد بنصف دينار فلهذا قضى بهما وان ادعى المستأجر الاجارة وجحدها صاحب الدابة فشهد شاهد أنه استأجرها ليركبها إلى بغداد وشهد الآجر انه استأجرها ليركبها ويحمل عليها هذا المتاع والمستأجر يدعى كذلك لم تجز الشهادة لاختلاف الشاهدين في مقدار المعقود عليه وإكذاب المدعى أحد شاهديه فان (قيل) أليس أن الشاهدين اتفقا على الركوب لفظا ومعنى ويفرد أحدهما بالزيادة وهو حمل المتاع فينبغي أن يقضى بما اتفق عليه الشاهدان قلنا المعقود عليه منفعة الدابة لاعين الركوب فالركوب فعل الراكب وحمل المتاع كذلك فعله والمعقود عليه ملك رب الدابة وذلك يختلف باختلاف الشاهدين فيما شهد به فلا تتحقق الموافقة بينهما لفظا بخلاف الدرهم ونصف مع أن هذا انما يكون قبل استيفاء المنفعة وقبل استيفاء المنفعة الحاجة إلى القضاء بالعقد فلا يتمكن منه مع اختلافهما وكذلك ان اختلفا في حمولتين لان المدعى يكون مكذبا أحدهما لا محالة ولو ادعى أنه سلم ثوبا إلى صباغ وجحد الصباغ ذلك فشهد شاهد أنه دفع إليه ليصبغه أحمر بدرهم وقال الآخر ليصبغه أصفر فقد اختلفت الشهادة لاختلاف الشاهدين في المعقود عليه هو الوصف الذي يحدثه في الثوب والاصفر منه غير الاحمر فيكون المدعى مكذبا أحد الشاهدين والله أعلم بالصواب (باب ما يضمن فيه الاجير) (قال رحمه الله رجل سلم إلى قصار ثوبا فدقه بأجر مسمى فتخرق أو عصره فتخرق أو جعل فيه النورة أو وسمه فاحترق فهو ضامن لذلك كله لان هذا من جناية يده وقد بينا أن

[ 10 ] الاجير المشترك ضامن لما جنت يده فان كان أجير المشترك القصار فعل ذلك غير متعمد له فالضمان على القصار دون الاجير لان الاجير له أجير خاص فلا يضمن الا بالخلاف ولم يخالف ثم عمله كعمل الاستاذ (ألا ترى) أن الاستاذ يستوجب به الاجر فيكون الضمان عليه وان هلك الثوب عند القصار أو سرق فلا ضمان عليه عند أبى حنيفة رحمه الله خلافا لهما وقد بينا وروى عن محمد رحمه الله قال إذا وضع القصار السراج في الحانوت فاحترق به الثوب من غير فعله فهو ضامن لان هذا مما يمكن التحرز عنه في الجملة وانما الذي لا يضمن به الحرق الغالب الذي لا يمكن التحرز عنه ولا يتمكن هو من اطفائه و (قال) في الصباغ يصبغ الثوب أحمر فيقول رب الثوب أمرتك بأصفر فالقول قول رب الثوب لان الاذن يستفاد من قبله وله أن يضمنه قيمة ثوبه أبيض وان شاء أخذ ثوبه وضمن للصباغ ما زاد على العصفر في ثوبه لانه بمنزلة الغاصب قيما صبغه به حين لم يثبت اذن صاحب الثوب له في ذلك وان كان صبغه أسود فاختار أخذ الثوب لم يكن للصباغ عليه شئ عند أبى حنيفة رحمه الله خلافا لهما وقد بينا ذلك في الغصب قال أبو حنيفة رحمه الله في الملاح إذا أخذ الاجر فان غرقت السفينة من ريح أو موج أو شئ وقع عليها أو جبل صدمته فلا ضمان على الملاح لان التلف حصل من عمله وان غرقت من مده أو معالجته أو جذفه فهو ضامن لان هذا من جناية يده والملاح أجير مشترك وان كان على الملاح الطعام وخلي بينه وبين الطعام فنقض فلا ضمان على الملاح عنده بعد أن يحلف لانه أمين فالقول قوله مع يمينه ولا يضمن ما تلف بغير فعله وان انكسرت السفينة فدخل الماء فيها فأسده فان كان ذلك من عمل الملاح فهو ضامن له والا فلا شئ عليه عند أبى حنيفة وان كان رب الطعام في السفينة أو وكيله فلا ضمان على الملاح في شئ من ذلك الا أن يخالف ما أمر به ويصنع شيئا مما يتعمد فيه الفساد لان المتاع في يد صاحبه والعمل يصير مسلما إليه بنفسه فيخرج من ضمان الملاح بخلاف مااذا لم يكن صاحب الطعام معه فالعمل يصير مسلما وعليه هذا قالوا لورد الموج السفينة إلى الموضع الذي حمل الطعام منه فان لم يكن رب الطعام معه فلا أجر للملاح وان كان رب الطعام معه في السفينة فله الاجر بقدر ما صار لان العمل قد صار مسلما بنفسه ويقرر الاجر بحبسه فاما إذا خالف ما أمره به فهذا العمل لا يصير مسلما إلى صاحب الطعام بل يكون العامل فيه متعديا خاصا فيكون ضامنا لذلك وإذا حجم الحجام بأجر أو بزغ البيطار أو خقن الحاقن بأجر حرا أو عبدا بأمره أو بطأ قرحه فمات من ذلك فلا ضمان

[ 11 ] عليه بخلاف القصار إذا دق فخرق لان المستحق عليه هناك العمل السليم عن العيب وذلك في مقدور البشر يصح التزامه بالعقد وهنا المستحق عليه عمل معلوم بجده لاعمل غير سارى لان ذلك ليس في مقدور البشر فالجرح فتح باب الروح والبرء بعده بقوة الطبيعة على دفع أثر الجراحة وليس ذلك في مقدور البشر فلا يجوز التزامه بعقد المعاوضة وانما الذي في وسعه اقامة العمل بجده وقد أتى به فلا يضمن إلا أن يخالف لمجاوزة الحد أو يفعل بغير أمره فيكون ضامنا حينئذ * توضيح الفرق أن الشراية لا تقترن بالجرح ولكنه يكون بعدها بزمان ضعف الطبيعة عن دفع أثر الجراحة وتوالى الآلام على المجروح وهذا كله بعد أن يصير العمل مسلما إلى صاحبه ويخرج من ضمان العمل فاما بخرق الثوب مقترنا بالدق قبل أن يخرج العمل من ضمان القصار فلهذا كان ضمانا لما يتلف بعمله لان عمله مضمون بما يقابله من البدل ولو وطأ الاجير الخاص للقصار على ثوب مما لا يوطأ عليه في دقه فكان الضمان عليه خاصة لانه غير مأذون من جهة الاستاذ في الوطئ على هذا الثوب فكان متعديا فيما صنع وان كان مما يوطأ عليه فلا ضمان عليه لانه مأذون في الوطئ عليه فيكون فعله كفعل الاستاذ وان كان الثوب وديعة عند القصار فالاجير ضامن وان كان ذلك مما يوطأ عليه لانه غير مأذون في بسطه والوطئ عليه من جهة الاستاذ فانه انما أذن له في العمل في بيان القصاره دون ودائع الناس عنده ولو حمل الانسان حملا في بيت القصار من ثياب القصارة فعثر وسقط فتخرق بعضها كان ضمان ذلك على القصار دون الاجير لانه مأذون في هذا العمل من جهة الاستاذ ولو دخل بنار السراج بأمر القصار فوقعت شرارة على ثوب من القصارة أو وقع السراج من يده فأصاب دهنه ثوبا من القصارة فالضمان على الاستاذ دون الغلام لانه مأذون من جهته في ادخال النار بالسراج وكذلك أجير لرجل يخدمه ان وقع من يده شئ فتكسر وأفسد متاعا مما يختلف في خدمة صاحبه فلا ضمان عليه إذا كان في ملك صاحبه لانه استأجره لهذه الاعمال ولو أن غلام القصار انفلتت منه المدقة فيما يدق من الثياب فوقعت على ثوب من القصارة فخرقته فالضمان على القصار دون الغلان لانه مأذون من جهة الاستاذ في دق الثوبين جميعا ولو وقع على ثوب انسان من غير القصارة كان ضمان ذلك على الغلام دون القصار لانه غير مأذون في دق ذلك الثوب فيكون هو جانيا في ذلك الثوب وان كان مخطئا وتعذر الخطأ لا يسقط عنه ضمان المحل وان وقعت المدقة على موضعها ثم وقعت على شئ بعدها فلا ضمان على الاجير لانها كما لو وقعت على المحل

[ 12 ] المأذون فيه صار العمل مسلما وخرج من عهدة الاجير فلا ضمان عليه بعد ذلك وانما الضمان على الاستاذ وإذا أصاب انسانا فقتله كان الغلام ضامنا وقد بينا الفرق بين الجناية في بنى آدم وما سوى ذلك من الاموال فيما سبق وكذلك لو مر بشئ من متاعه فيما يحمله فوقع على انسان في البيت فقتله كان الضمان على الغلام لان الجناية في بنى آدم موجبة الارش العاقلة فلا يمكن اعتبار العقد فيه بخلاف ما سوى ذلك من الاموال وكذلك ان انكسر شئ من أدوات القصار بيد الغلام مما يدق به أو يدق عليه فلا ضمان عليه لانه مأذون من جهة الاستاذ وان كان مما لاحق به ولا يدق عليه فهو ضامن وعلى هذا لو دعا رجلا قوما إلى منزله فمشوا على بساطه فتخرق أو جلسوا على وسادة فتخرقت وان كان الضيف متقلدا سيفا فلما جلس شق السيف بساطا أو وسادة فلا ضمان عليه لانه مأذون فيما فعل من المشى والجلوس وتقلد السيف ولو وطئ على آنية من أوانيه أو ثوبا لا يبسط مثله ولا يوطأ فه ضامن لانه غير مأذون في الوطئ والجلوس على مثله وان حمل الاجير شيئا في خدمة أستاذه فسقط ففسد لم يضمن ولو سقط على وديعة عنده فأفسدها كان ضامنا لها وكذلك لو عثر فسقط عليها فان كان بساطا أو وسادة استعاره للبسطفلا ضمان في ذلك على رب البيت ولا على اجيره لانه مأذون في بسطه من جهة صاحبه وإذا جفف القصار ثوبا على حبل فمرت به حمولة في الطريق فخرقته فلا ضمان على القصار لانه متلف لا بعمله والضمان على سائق الحمولة لانه مسبب وهو متعدي في ذلك فسوق الدابة في الطريق يتقيد عليه بشرط السلامة فإذا لم يسلم كان ضامنا ولو تكارى دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة فحمل عليها خمسة عشر مختوما فلما بلغ المقصد عطبت الدابة فعليه الاجر كاملا لاستيفاء المعقود عليه بكماله وهو ضامن ثلث قيمتها بقدر ما زاد وقد بينا هذا في العارية وذكرنا الفرق بينه وبين الجناية في بنى آدم أن المعتبر هناك عدد الجناة في حق ضمان النفس وأوضح الفرق بما ذكرنا فقال لو أن حائطا مائلا لرجل ثلثاه وللاخر ثلثه يقدم اليهما فيه فوقع على رجل فجرحه وقتله كان على كل واحد منهما نصف الدية ولو لم يجرحه ولكنه قتله ثقل الحائط كانت الدية عليهما بقدر المالك لان ثقل ملك صاحب الثلثين ضعف ثقل ملك صاحب الثلث وفي الجرح المعتبر أصل الجراحة وكل واحد منهما خارج له بملكه فكان بمنزلة الجارح بيده فكذلك في مسألة الدابة يضمن باعتبار ثقل الزيادة وفي مسألة الشجاج في العبد يكون ضمان النفس على كل واحد منهما باعتبار أصل الجرح لا مقداره وعدده وعلى هذا لو أمر

[ 13 ] رجلا أن يضرب عبده عشرة أسواط فضرب أحد عشر سوطا فهو متعدى في السوط الحادي عشر فيضمن نقصان ذلك العبد من قيمته مضروبا عشرة أسواط ونصف ما بقى من قيمته إذا مات من ذلك لانه في ضرب عشرة أسواط عامل لصاحبه بأمره فكأنه فعل ذلك هذا بنفسه وقد مات العبد من السياط كلها فتوزع بدل نفسه نصفين باعتبار عدد الحياة لاعدد الجنايات وإذا سلم الرجل عبده أو أمته إلى مكتب أو عمل آخر فضربه الاستأذ فهو ضامن لما أصابه من ذلك وان أذن له في ذلك ضمان عليه لان فعله باذنه كفعل الموتى بنفسه فلا يكون تعديا منه وفعله بغير أمره يكون تعديا منه وفرق أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بين هذا وبينما إذا ضرب الدابة التى استأجرها ضربا معتاد فقالا الضرب معتاد هناك عند السير متعارف فيجعل كالمأذون فيه وهنا الضرب عند التعليم غير متعارف وانما الضرب عند سوء الادب يكون ذلك ليس من التعليم في شئ فالعقد المعقود على التعليم لا يثبت الاذن في الضرب فلهذا يكون ضامنا الا أن يأذن له فيه نصا وكذلك ان سلم ابنه في عمل إلى رجل فان ضربه بغير اذن الاب فلا اشكال في أنه يكون ضامنا وان ضربه باذن الاب فلا ضمان عليه في ذلك لانه غير متعدى في ضربه باذن الاب ولو كان الاب هو الذي ضربه بنفسه فمات كان ضامنا في قول أبى حنيفة رحمه الله ولاضمان عليه في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله وهما يدعيان المناقضة على أبى حقيقة رحمه الله في هذه المسألة فيقولان إذا كان الاستاذ لا يضمن باعتبار اذن الاب فكيف يكون الاب ضامنا إذا ضربه بنفسه ولكن أبو حنيفة رحمه الله يقول ضرب الاستاذ لمنفعة الصبي لا لمنفعة نفسه فلا يوجب الضمان عليه إذا كان يأذن وليه فاما ضرب الاب إياه لمنفعة نفسه فانه بغير سوء أدب ولده فيتقيد بشرط السلامة كضرب الزوج زوجته لما كان لمنفعة نفسه يقيد بشرط السلامة وإذا توهن راعى الرمكة رمكة منها فوقع الوهن في عنقها فجذبها فعطبت فهو ضامن لانه من جناية يده وان كان صاحبها أمره بالتوهن فلا ضمان عليه لان فعله بأمر صاحبها كفعل صاحبها وهذا لان التوهن ليس من عمل الراعى في شئ ولا يدل في مقابلته فلا يتقيد على المأمور بشرط السلامة بخلاف الدق من القصار ولو أمر رجلا أن يختن عبده أو ابنه فأخطأ فقطع الحشفة كان ضامنا لما بينا أن عمل الختان معلوم بمحله فإذا جاوز ذلك كان ضامنا ولم يبين في الكتاب ماذا يضمن وهو مروى عن محمد رحمه الله في النوادر قال ان برأ فعليه كمال بدل نفسه فان مات فعليه نصف بدل نفسه لانه إذا برأ

[ 14 ] فعليه ضمان الحشفة وهو عضو مقصود لا يتأتى له في البدن فيتقدر بدله ببدل النفس وإذا مات فقد حصل تلف النفس بفعلين أحدهما مأذون فيه وهو قطع الجلدة والآخر غير ماذون فيه وهو قطع الحشفة فكان ضامنا نصف بدل النفس ولو أمر رجلا أن يقطع أصبعه لوجع أصابه فيها فقطعها فمات منها لم يكن على القاطع شئ الا في رواية الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله فانه يقول يضمن الدية اعتبارا بما لو قال ذلك قتلني فقتله وجه ظاهر الرواية أن الاذن صح هنا لان للآذان أن يفعل ذلك بنفسه فينتقل عمل المأذون إليه ويصير كانه فعله بنفسه بخلاف قوله اقتلني فالاذن هناك غير صحيح لان الآذن ليس له أن يفعل ذلك بنفسه وكذلك لو أمر أن يفعل ذلك بابن له صغير أو بعبد له فهذا ومالو أمره بنفسه سواء ولو أمر حجاما ليقطع سنا ففعل فقال أمرتك أن تقلع سنا غير هذا فالقول قوله والحجام ضامن لان الاذن يستفاد من جهته ولو أنكره كان القول قوله فكذلك إذا أنكر الاذن في السن الذي قلعه ولو تكارى دابة يحمل عليها عشرة مخاتيم فجعل في جوالق عشرين مختوما ثم أمر رب الدابة فكان هو الذي وضعها على الدابة فلا ضمان عليه لان صاحب الدابة هو المباشر بحمل الزيادة عى دابته وأكثر ما فيه أنه مغرور من جهة المستأجر ولكن الغرور إذا لم يكن مشروطا في عقد ضمان لا يكون مثبتا الرجوع للمغرور على الغار وان حملاها جميعا ووضعاها على الدابة ضمن المستأجر ربع قيمة الدابة لان نصف المحمول مستحقا بالعقد ونصفه غير مستحق وفعل كل واحد منهما في الحل شائع في النصفين فباعتبار النصف الذي حمله على الدابة لا ضمان على أحد وباعتبار النصف الذي حمله المستأجر لا ضمان عليه في نصفه لانه يستحق بالنصف وعليه الضمان في النصف الآخر لانه متعدي فيه فكان ضامنا ربع قيمتها وان كان الحمل في عدلين فرفع كل واحد منهما عدلا فوضعاهما جميعا على الدابة لم يضمن المستأجر شيئا لان المستأجر استحق بالعقد حمل عشر مخاتيم حنطة وقد حمل هذا المقدار فيجعل حمله مما كان مستحقا بالعقد والزيادة انما حملها رب الدابة وذكر في النوادر لو أن القصار استعان بصاحب الثوب حتى دق الثوب معه فتخرق ولا يدري من أي الفعلين تخرق فعلى قول أبى يوسف رحمه الله القصار ضامن نصف القيمة باعتبار الاحتمال وعلى قول محمد رحمه الله هو ضامن جميع القيمة لان الثوب في يده فباعتبار اليد هو ضامن ما لم يصل إلى صاحبه سواء تلف بعمله أو بغير عمله فما لم يعلم أن التلف بعمل صاحب الثوب كان القصار ضامنا وإذا ساق الراعى الغنم أو البقر فتناطحت

[ 15 ] فقتل بعضها بعضا أو وطئ بعضها بعضا من سياقته وهو غير مشترك وهى لانسان واحد فلا ضمان عليه لانه مأذون في السوق وقد بينا أن الاجير الخاص لا يكون ضامنا فيما يتلف بعمل المأذون فيه وان كانت لقوم شتى فهو ضامن مشتركا كان أو غير مشترك أما المشترك فلان هذا من جناية يده وأما غير المشترك فلانه سائق الدابة التى وطئت والسائق ضامن بالسبب وكل من وقع عليه الضمان فلا أجر له فيه لانه ملك المضمون بالضمان فلا يكون مسلما إلى صاحبه وإذا ساق الراعى الماشية فعطبت واحدة أو وقعت في نهر فعطبت فهو ضامن لانه أجير مشترك والتلف حصل بعمله ولو استأجر دابة ليركبها فلبس من الثياب أكثر مما كان عليه حين استأجرها فان لبس من ذلك مثل ما يلبس الناس إذا ركبوا لم يضمن وان كان أكثر من ذلك ضمن بقدر ما زاد لان المستحق بمطلق العقد ما هو المتعارف وان تكارى ناقة ليحمل عليها امرأة فولدت المرأة فحملها هي وولدها على الناقة بغير أمر صاحبها فعطبت الناقة فهو ضامن بحساب ما زاد عليها للولد لان الولد مقصود بالحمل بعد الانفصال وهو في مقداره مخالف فيضمن بحساب مايخالف كما لو زاد متاعا معها ولو نتجت الناقة فحمل ولد الناقة مع المرأة فهو ضامن أيضا لانه مخالف لما قلنا وان تكاري بغير المحمل فحمل عليه زاملة فهو ضامن لانه مخالف فيما صنع فالزاملة أضر بالبعير من المحمل وان حمل عليه رجلا مكان المحمل فلا ضمان عليه فلا يكون فعله ذلك خلافا وقد بينا نظيره في السرج مع الاكاف والله تعالى أعلم بالصواب (باب اجارة رحا الماء) (قال رحمه الله وإذا استأجر الرجل رحا ماء والبيت الذي هو فيه وهو متاعها كل شهر بأجر مسمى فهو جائز) لانه غير متنفع به واستئجاره متعارف فان انقطع الماء عنها فلم يعمل رفع عنه الاجر بحساب ذلك لزوال تمكنه من الانتفاع على الوجه الذي استأجره فانه انما استأجره ليطحن فيها بالماء دون الثور وبانقطاع المال زال تمكنه من ذلك وبدون التمكن من الانتفاع لا يجب الاجر فله أن ينقض الاجارة لتغير شرط العقد عليه فان لم ينقضها حتى عاد الماء لزمته الاجارة فيما بقى من الشهر وان كان قد بقى يوم واحد فلم يكن له أن ينقضها لزوال العذر وتمكنه من الانتفاع فيما بقى من المدة ولان هذه الاجارة في حكم عقود متفرقة لا يثبت الخيار لتفرق الصفقة وان اختلفا في مقدار ماكان الماء منقطعا فالقول قول المستأجر لانهما يتفقان أنه لم

[ 16 ] يستوف جميع المعقود عليه وانما اختلفا في مقدار ما استوف فرب الرحا يدعى زيادة في ذلك والمستأجر منكر ذلك ولو قال المؤاجر لم ينقطع الماء فانه بحكم الحال فيه فان كان الماء منقطعا في الحال فالقول قول المستأجر وان كان جاريا فالقول قول المؤاجر مع يمينه على عمله لانه إذا كان منقطعا في الحال فالظاهر انه كان منقطعا فيما مضى وان كان جاريا في الحال فالظاهر انه كان جاريا فيما مضى وفي الخصومات القول قول من يشهد له الظاهر * توضيحه انا قد عرفنا الماء جاريا عند العقد والبناء على الظاهر واستصحاب الحال أصل ما لم يعلم خلافه فإذا علمنا انقطاع الماء في الحال بقدر استصحاب الحال فاعتبرنا الدعوى والانكار قرب الرحا يدعي تسليم المعقود عليه والمستأجر منكر فالقول قوله فاما إذا كان جاريا في الحال فاستصحاب الحال ممكن فجعلنا رب الرحا مسلما للمعقود عليه بهذا الطريق ولهذا كان القول قوله مع يمينه لى عمله لان الاستحلاف على ما لم يكن في يده ولامن عمله فيكون على العلم وان كان استأجر جميع ذلك بعشرة دراهم كل شهر فطحن فيها في الشهر بثلاثين درهما فربح عشرين درهما فان كان المستأجر هو الذي يقوم على الرحا والطعام أو أجيره أو عبده فالربح له طيب لان الفضل بمقابلة منافعه وان كان رب الطعام هو الذي يلي ذلك لم يطلب الربح للمستأجر إلا أن يكون قد عمله فيها عملا تنتفع بها الرحا من كرى النهر أو نقر الرحا وغير ذلك فحينئذ يجعل الفضل بمقابلة عمله فيطيب له فقد جعل نقر الرحا معتبرا يجعل الفضل بمقابلته ولم يجعل كنس البيت فيما سبق معتبرا في ذلك لان كنس البيت ليس بزيادة في البيت ولان التمكن من الانتفاع باعتباره فأما نقر الرحا وكرى النهر بعد زيادة المستأجر وبه يتمكن من الانتفاع وإذا استأجر موضعا على نهر ليبنى عليه بناء ويتخذ عليه رحا ماء على أن الحجارة والمتاع والحديد والبناء من عند المستأجر فهو جائز لانه استأجر الارض لمنفعة معلومة فان انقطع ماء النهر فلم يطحن ولم يفسخ الاجارة فالاجر لازم له لان المعقود عليه منفعة الارض وهى باقية بعد انقطاع الماء والمستأجر مستوفى بما يشغل الارض بمتاعه بخلاف الاول فهناك المعقود عليه منفعة الرحا لعمل الطحن والتمكن منه يزول بانقطاع الماء الا أن هنا له أن يفسخ الاجارة للعذر فان مقصوده استيفاء منفعة لايتم ذلك بدون جريان الماء وفي الزام العقد إياه بعد انقطاع الماء ضرر فيكون ذلك عذرا له في الفسخ ولو استأجر رحا ماء بمتاعها فانقطع الماء شهرا فلا أجر عليه في ذلك الشهر لما قلنا وان قل الماء حتى أضر به في الطحن وهو يطحن مع ذلك فان كان ضررا فاحشا فهو عيب فيما هو المقصود فيتمكن

[ 17 ] لاجله من فسخ العقد وان لم يفسخ كان الاجر واجبا عليه لبقاء تمكنه من الانتفاع ورضاه بالعيب وان كان غير فاحش فالاجارة لازمة له لانه لما استأجر الرحا في الابتداء مع علمه أن الماء يزداد تارة وينتقص أخرى فقد صار راضيا بالنقصان اليسير ولان ما لم يمكن التحرز عنه عفو وإذا خاف رب الرحا أن ينقطع الماء فتفسخ الاجارة فأكري البيت والحجرين والمتاع خاصة فهو جائز لانه عين منتفع به فان انقطع الماء فللمستأجر أن يترك الاجارة لان استئجار هذا الاعيان كان لمقصود معلوم وقد فات ذلك بانقطاع الماء وفي ايفاء العقد بعد انقطاع الماء ضرر عليه وهذا ضرر لم يلتزمه بأصل العقد فيكون عذرا له في الفسخ كما لو استأجر والرحا يطحن بجعله فينق جمله ولم يكن عنده ما يشترى به جملا كان له أن يترك الاجارة ولو استأجر رحا ماء فانكسر أحد الحجرين أو الدوارة أو البيت فله أن يفسخ الاجارة لزوال تمكنه من الانتفاع فان أصلح ذلك رب الرحا قبل الفسخ لم يكن للمستأجر أن يفسخ بعد ذلك لزوال العذر في بقية المدة ولكن يرفع عنه من الاجر بقدر ذلك لانعدام تمكنه من الانتفاع به والقول قول المستأجر في مقدار العطلة لاتفاقهما على أنه لم يسلم جميع المعقود عليه الا أن ينكر المؤاجر البطالة أصلا فكان القول قوله باعتبار استصحاب الماء لانا عرفنا تمكن المستأجر من الانتفاع عند تسليم الرحا ثم يدعى هو رضا مانعا فلا يقبل قوله في ذلك الا بحجة كما لو ادعى أن غاصبا حال بينه وبين الانتفاع بالرحا وان استأجر رحاماء على أن يطحن فيها الحنطة ولا يطحن غيرها فطحن فيها شعيرا أو شيئا من الحبوب سوى الحنطة فان كان ذلك لا يضر بالرحا فلا ضمان عليه وان كان أضر عليها من الحنطة ضمنه ما نقصها لان التقيد معتبر إذا كان مفيدا والخلاف إلى ما هو أضر عدوان منه فيلزمه ضمان النقصان ولا أجر عليه في ذلك لوقت لانه غاصب ضامن من النقصان ولا يجتمع الاجر والضمان وإذا استأجر الرجل رحا وبيتا من أجير وبعيرا من آخر صفقة واحدة كل شهر باجر معلوم فهو جائز لان استئجار كل عين من هذه الاعيان على الانفراد صحيح ثم يقتسمون الاجر بينهم على قدر ذلك لان المسمى بمقابلة الكل فيتوزع عليها بالحصة ولو اشترك أرباب هذه الاشياء على أن يعملوا للناس باجر فما طحنوا فالاجر بينهم أثلاثا فان أجروا الجمل بعينه فطحن فأجر ذلك لصاحب الجمل لانه سمى بمقابلته منفعة الجمل وللآخرين أجر مثلهما لنفسهما ومتاعهما على صاحب الجمل لان سلامة الاجر له بذلك كله فيكون هو مستوفيا لمنافعهما وقد شرط بمقابلة ذلك أجر ولم

[ 18 ] يسلم لهما ذلك الاجر فان قبلوا الطعام على أن يطحنوه باجر معلوم ولم يؤجر والا الجمل بعينه فما اكتسبوه صار أثلاثا بينهم لانهم اشتركوا في تقبل العمل وبذلك استوجبوا الاجر وان كان لرجل بيت على نهر قد كان فيه رحا ماء فذهب وجاء آخر برحا آخر ومتاعها فنصبها في البيت واشتركا على أن يتقبلا من الناس الحنطة والشعير فطحناه فما كسبا فهو بينهما نصفان فهو جائز وما طحناه وما تقبلاه فاجره بينهما نصفان لاستوائهما في تقبل العمل في ذمتها وليس للرحا ولا للبيت أجرة لان كل واحد منهما ما ابتغى عن متاعه أجرا سوى ما قال (ألا ترى) أن قصارين لو اشتركا على أن يعملا في بيت احدهما باداه الآخر فما كسبا فهو بينهما نصفان كان جائزا ولم يكن لواحد منهما أن يطالب صاحبه باجر باداته ولو أجر الرحا باجر معلوم على طعام معلوم كان الاجر كله لصاحب الرحا لانه مسمى بمقابلة منفعة ملكه ولصاحب البيت أجر مثل بيته ونفسه على صاحب الرحا إذا كان قد عمل في ذلك لان منفعة بيته ونفسه سلمت لصاحب الرحا ولم يسلم له بمقابلته ما شرط له من الاجر (قال) ولا أجاوز به نصف أجر مثل الرحا في قول أبى يوسف رحمه الله وقد بينا نظيره في كتاب الشركة ولو انكسر الحجر الاعلى من الرحا فنصب رجل مكانه حجرا بغير أمر صاحبه وجعل يتقبل الطعام ويطحن فهو مسئ في ذلك ضامن لما أفسد من الحجر الاسفل ومتاعه لانه غاصب والاجر له لانه وجب بعقده وان كان وضع الحجر الا على برضاء صاحبه على أن الكسب بينهما نصفان فهو كما شرط وهو نظير ما سبق إذا كان يتقبلان الطعام فالاجر بينهما كما شرط ولو بنى على نهر بيتا ونصب فيها رحا ماء بغير رضى صاحب النهر ثم يقبل الطعام فكسب في ذلك مالا كان له في الكسب وكان ضامنا لمناقص البيت وساحته وموضعه والنهر لانه متلف لذلك بفعله ولا يضمن شيئا من الماء لان الماء غير مملوك ولانه لم يفسد شيئا من الماء بعمله ولو أن رجلا له نهر اشترك هو ورجلان على أن جاء أحدهما برحاء والاخر بمتاعها على أن يبنوا البيت جميعا من أموالهم على أن ما كسبوا من شئ فهو بينهم فهو جائز وهذا مثل المسألة الاولى إذا كانوا يتقبلون الطعام فالاجر بينهم أثلاثا والله أعلم بالصواب (باب الكراء إلى مكة) (قال رحمه الله وإذا استأجر بعيرين من الكوفة إلى مكة فحمل على أحدهما محملا فيه

[ 19 ] رجلان وما يصلحهما من الوطئ والدثر وإحديهما زاملة يحمل عليه كذا مختوما والسويق وما يصلحهما من الخل والزيت والمعاليق وقد رأى الرجلين ولم ير الوطاء والدثر ولم يبين ذلك وشرط حمل ما يكفيه من الماء ولم يبين ذلك فهذا كله فاسد في القياس لجهالة وزن الوطأ ولدثر وجهالة مقدار الماء والخل والزيت والمعاليق وهذه جهالة تفضي إلى المنازعة فان الضرر على الابل تختلف بقلة ذلك وكثرته وفي الاستحسان يجوز لانه متعارف وفي اشتراط اعلام وزن كل شئ من ذلك بعض الحرج ثم المقصود على أحد الحملين الرجلان وقد رآهما الحمال وعلى الحمال الآخر الدقيق والسويق وما سوى ذلك تبع إذا صار ما هو الاصل معلوما فاجهل في البيع عفو ومقدار البيع يصير معلوما أيضا بطريق العرف وعلى هذا لو اشترط عليه أن يحمل له من هدايا مكة من صالح ما يحمل الناس فهو جائز أيضا لانه متعارف معلوم المقدار عرفا ولو بين وزن المعاليق والهدايا كان أحب الينا لانه أبعد من المنازعة وإذا أرادا الاحتياط في ذلك فينبغي أن يسمى لكل محمل قربتين من ماء أو ادواتين من أعظم ما يكون من ذلك ويكتب في الكتاب أن الحمال قد رأى الوطأ والدثر والقربتين والادواتين والخيمة والقبة فان ذلك أوثق وانما يكتب الكتاب على أوثق الوجوه وان اشترط عليه عقبة الاجير فهو جائز ويكتب وقد رأي الحمال الاجير وفي تفسير عقبة الاجير قولان أحدهما أن المستأجر ينزل في كل يوم عند الصباح والمساء فذلك معلوم فيركب أجيره في ذلك الوقت وسمى ذلك عقبة الاجير والثاني أن يركب أجيره في كل مرحلة فرسخا أو نحوه مما هو متعارف على خشبة خلف المحمل ويسمى ذلك عقبة الاجير وفي كتاب الشروط قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يرى أن يشترط من هدايا مكة كذا وكذا منا لان ذلك أبعد من المنازعة والمحمول من الهدايا يختلف في الضرر على الدابة باختلاف مقدرا الوزن وان تكاري شق محمل أو شق زاملة فاختلفا فقال الحمال انما عينت عيدان المحمل وقال المستكري بل عينت الابل فان كان الكراء كما يتكاري به الابل إلى مكة فهو على الابل وان كان كما يتكارى به شق محمل خشب فالقول قول الحمال مع يمينه لانه إذا كان كما يتكاري به الاول فالظاهر يشهد للمستكرى وان كان شيئا يسيرا كما يتكارى به الخشب فالظاهر يشهد للحمال وعند المنازعة يجعل القول قول من يشهد له الظاهر كما لو اشترى قربة ماء بدانق فقال انما اشتريت القربة دون الماء لا يصدق ولو اشتراها بعشرين درهما قال السقاء بعت الماء دون القربة وكذلك لو اشترى مبطخة ثم قال المشتري اشتريت الارض وقال البائع انما بعت البطيخ

[ 20 ] فانه بحكم الثمن في ذلك فيجعل القول قول من يشهد له الظاهر وإذا تكارى من الكوفة إلى مكة ابلا مسماة بغير أعيانها فقال الحمال أخرجك في عشر ذي القعدة فقال المستكري أخرجنى في خمس مضين أو على عكس ذلك فانه يخرجه في خمس مضين في الوجهين جميعا لانه لا يخاف الفوت إذا خرج بعد خمس مضين فان أراد الحمال أن يخرجه قبل ذلك فهو يريد أن يلزمه ضرر السفر من غير حاجة إليه فيسقط عن نفسه مؤنة العلف فلا يمكن من ذلك وإذا طلب المستكرى في عشر ذي القعدة وهو يريد أن يلزم الحمال ضرر السفر من غير حاجة ليكون هو مترفها في نفسه فلهذا لا يمكن من ذلك ولان بمطلق العقد انما يثبت المتعارف والمتعارف الخروج من الكوفة بخمس مضين فإذا أراد الحمال أن يتأخر إلى نصف ذي القعدة وأبى ذلك المستكرى فليس للحمال ذلك لانه يخاف الفوت في هذا التأخير ويلحق المستكرى مشقة عظيمة باستدامة السفر وان قال المستأجر أخرجنى للنصف من ذي القعدة وقال الحمال أخرجك بخمس مضين فانه يرتكب مؤنة العلف فانى أؤخره لعشر مضين من ذي القعدة ولا تؤخره لاكثر من ذلك لان الغالب ادراك الحج إذا خرج بعشر مضين والغالب هو الفوات إذا أخر الخروج أكثر من ذلك والمستحق بمطلق العقد صفة السلامة لا نهاية الجودة وان كان بينهما شرطا حملهما على ذلك لقوله الشرط أملك: أي يوفى به ولا بأس بأن يسلف في كراء مكة قبل الحج سنة أو باشهر لان وقت الحج معلوم لا يجهل وهذا بناء على مذهبنا ان الاجارة المضافة إلى وقت في المستقبل تصح (وعلى قول) الشافعي رحمه الله لا تصح الدار والحانوت والدواب وغير ذلك فيه سواء وهذا بناء على أصله ان جواز العقد باعتبار ان المنافع جعلت كالاعيان القائمة فانما يتحقق ذلك إذا اتصل المعقود عليه بالعقد في الاجارة المضافة ولا يوجد ذلك ثم الاضافة إلى وقت في المستقبل كالتعليق بالشرط حتى ان ما يحتمل التعليق بالشرط يجوز اضافته إلى وقت في المستقبل كالطلاق والعتاق ومالا فلا كالاجارة والبيع ثم الاجارة لا تحتمل التعليق بالشرط فلا تحتمل الاضافة إلى وقت في المستقبل والدليل عليه أنه لا يتعلق به اللزوم ولا يملك الاجر بنفس العقد وان شرط التعجيل فلو انعقد العقد صحيحا لانعقد بصفة اللزوم ويملك الاجر به إذا شرط التعجيل فان ذلك موجب العقد وحجتنا في ذلك أن جواز عقد الاجارة لحاجة الناس وقد تمس الحاجة إلى الاستئجار مضافا إلى وقت في المستقبل لان في وقت حاجته ربما لا يجد ذلك أولا يجده باجر المثل فيحتاج إلى أن يسلف فيه قبل ذلك

[ 21 ] ثم قد بينا انه وان أطلق العقد فهو في معنى المضاف في حق المعقود عليه لانه يتجدد انعقاده بحسب ما يحدث من المنفعة أو تقام العين المنتفع بها مقام المعقود عليه في هذا العقد ولافرق في هذا بين المضاف إلى وقت في المستقبل وبين المعقود عليه في الحال وهذا لان ذكر المدة لبيان مقدار المعقود عليه كالكيل فيما يكال وذلك لا يختلف به وبه فارق التعليق بالشرط فان التعليق يمنع انعقاد العقد في الحال والاضافة لا تمنع من ذلك وفي لزوم الاجارة المضافة روايتان وأصح الروايتين أنه يلزم وليس لاحدهما أن يفسخ الا بعذر فان الاجر لا يملك بشرط التعجيل وقد بينا الفرق بين هذا وبينما إذا شرط التعجيل في عقد الاجارة في الحال لان هناك تأخر الملك بقضية المساواة فيحتمل التغير بالشرط وهنا تأخر الملك لنصيبهما على التأخير باضافة العقد إلى وقت في المستقبل فلا يتغير ذلك بالشرط ولو تكارى ابلا إلى مكة بشئ من المكيل أو الموزون معلوم القدر والصفة وجعل له أجلا مسمى فهو جائز وان لم يسم الموضع الذي يوفيه فيه وقد نص على الخلاف فيما تقدم أن على قول أبى حنيفة رحمه الله لابد من بيان المكان فتبين بذلك أن هذا الجواب قولهما وان حل الاجل بمكة وأراد أخذه هناك وأبى المستأجر فأن استوثق من المستأجر على أن يوفيه بالكوفة حيث تكارى وقد ذكرنا على قولهما أن اجارة الدار يتعين للايفاء موضع الدار وهنا ذلك غير ممكن لان الاجر يجب شيئا فشيئا بحسب سير الدابة في الطريق فيتعذر تعيين موضع استيفاء المعقود عليه للايفاء وربما يتعين للتسليم موضع السبب وهو العقد وان كان الاجر شيئا بعينه مما له حمل ومؤنة فانما يتعين لايفائه الموضع الذي فيه ذلك العين لانه ملك في ذلك الموضع بعينه كالمبيع بخلاف مالا حمل له ولا مؤنة فانه يسلم إليه بعد الوجوب حيث مالقيه وقد بينا الفرق بينهما في البيوع ولو تكاري منه حملا وزاملة وشرط حملا معلوما على الزاملة فما أكل من ذلك الحمل أو نقص من الكيل والوزن كان له أن يتم ذلك في كل منزل ذاهبا وجائيا لانه استحق بالعقد حملا مسمى على البعير في جميع الطريق فيكون له أن يستوفى ما استحقه بالشرط وليس للحمال أن يمنعه من ذلك بخلاف المحمل فانه إذا شرط فيه انسانين معلومين فليس له أن يحمل غيرهما الا برضاء الحمال لان الضرر على الدابة يختلف باختلاف الراكب وان خرج بالبعيرين يقودهما ولا يركبهما ولم يحمل عليهما جائيا فعليه الاجر كاملا لتمكنه من استيفاء المعقود عليه وكذلك لو بعث بهما مع عبده يقودهما لما بينا أن المعقود عليه خطوات الدابة في الطريق وقد صار مسلما إلى

[ 22 ] المستأجر نقود الدابة معه في الطريق وإذا مات الرجل بعد ما قضي المناسك ورجع إلى مكة فانما عليه من الاجر بحساب ذلك لان العقد فيما بقى قد بطل بموته فيسقط الاجر بحسابه ويجب في تركته بحساب ما استوفى ثم بين فقال يلزمه من الكراء خمسة أعشار ونصف ويبطل عنه أربعة أعشار ونصف وبيان تخريج هذه المسألة أن من الكوفة إلى مكة سبعا وعشرين مرحلة فذلك للذهاب والرجوع كذلك وقضاء المناسك تكون في ستة أيام في يوم التروية يخرج إلى منى وفي يوم عرفة يخرج إلى عرفات وفي يوم النحر يعود إلى مكة لطواف الزيادة وثلاثة أيام بعده للرمي فيحسب لكل يوم مرحلة فإذا جمع ذلك كله كان ستين مرحلة كل سنة من ذلك عشر فإذا مات بعد قضاء المناسك والرجوع إلى مكة فقد تقرر عليه ثلاثة وثلاثون جزأ من ستين جزأ من الاجر سبعة وعشرين جزأ للذهاب إلى مكة وستة أجزاء لقضاء المناسك وذلك خمسة أعشار ونصف عشر كل عشر ستة وربما يشترط الممر على المدينة فيزداد به ثلاثة مراحل فان من الكوفة إلى مكة على طريق المدينة ثلاثين مرحلة فان كان شرط ذلك في الذهاب تكون القسمة على ثلاثة وستين جزأ ويتقرر عليه ستة وثلاثون جزأ من ثلاثة وستين جزأ من الاجر ثلاثون للذهاب وستة لقضاء المناسك وان كان الشرط الممر على المدينة في الرجوع فعليه ثلاثة وثلاثون جزأ من ثلاثة وستين جزأ من الاجر سبعة وعشرين للذهاب ولقضاء المناسك ستة أجزاء وان كان الشرط بينهما أن الذهاب من طريق المدينة والرجوع كذلك فالقسمة على ستة وستين جزأ وانما يتقرر عليه ستة وثلاثين جزأ من ستة وستين للذهاب ثلاثون ولقضاء المناسك ستة أجزاء فحاصل ما يتقرر عليه ستة أجزاء من احدى عشر جزأ من الاجر وحرف هذه المسألة أنه لم يعتبر السهولة والوعورة في المراحل لقسمة الكراء عليها لان ذلك لا يملك ضبطه والكراء لا يتفاوت باعتباره عادة وانما يتفاوت بالقرب والبعد فلهذا قسمه على المراحل بالسوية كما بينا وان تكارى قوم مشاة بعيرا إلى مكة واشترطوا على المكارى أن يحمل من مرض منهم أو أعيا فهذا فاسد للجهالة وربما تفضى هذه الجهالة إلى المنازعة ولو اشترطوا عليه عقبة لكل واحد منهم كان جائزا لان ذلك معلوم لاتمكن بعده المنازعة وإذا أراد المستأجر أن يبدل محمله ليحمل محملا غيره فان لم يكن في ذلك ضرر فله ذلك لما بينا أن التعيين الذي ليس بمفيد لا يكون معتبرا وان أراد أن ينصب على المحمل كنيسة أو قبة فليس له ذلك الا برضاء من المكاري لما في ذلك من زيادة الضرر على البعير وذلك لا يستحق الا بالشرط وان اشترط

[ 23 ] عليه كنيسة بعينها فاراد أن يحمل كنيسة أعظم منها أو قبة فليس له ذلك لان هذا تعيين مفيد وفي التبديل زيادة ضرر على دابته وان أراد أن يحمل كنيسة دونها فله ذلك لانها أخف على البعير من المشروط وان أراد الحمال أن لا يخرج إلى مكة فليس له عذر لانه يتمكن من تسليم المعقود عليه من غير أن يخرج بأن يبعث بالابل مع أجيره أو مع غلامه وان أراد المستأجر أن لا يخرج من عامه ذلك فهذا عذر لانه لا يتمكن من الاستيفاء الا بتحمل مشقة السفر وفيه من الضرر مالا يخفى وذلك لو كان اكترى الابل لحمل الطعام إلى مكة فبلغه كساد أو خوف أو بدله ترك التجارة في الطعام فهذا عذر له لانه لا يتمكن من استيفاء المعقود عليه الا بضرر لم يلتزمه بأصل العقد وذلك عذر لفسخ الاجارة والله أعلم بالصواب (باب من استأجر أجيرا يعمل له في بيته) (قال رحمه الله وإذا استأجر أجيرا يعمل له في بيته عملا مسمى ففرغ الاجير من العمل في بيت المستأجر ولم يضعه من يده حتى فسد العمل أو هلك وله الاجر) لان عمله صار مسلما إلى المستأجر لان محمل العمل في يد المستأجر لانه في بيته والبيت مع ما فيه في يد صاحب البيت فكما صار مسلما تقرر الاجر في ذمته ولاضمان على الاجر فيما هلك من غير فعله لان مال صاحبه هلك في يده وكذلك لو استأجره يخيط له في بيت المستأجر قميصا وخاط بعضعه ثم سرق منه الثوب فله الاجر بقدر ما خاط فان كل جزء من العمل يصير مسلما إلى صاحب الثوب بالفراغ منه ولا يتوقف التسليم في ذلك الجزء عند حصول كمال المقصود فلو كان استأجره ليخيط في بيت الاجير لم يكن له شئ من الاجر لانه لا يصير عمله مسلما إلى صاحب الثوب فان الثوب في يد الاجير لانه في بيته ولايقال قد اتصل عمله بملك صاحب الثوب لان اتصال العمل بملكه يوجب الملك له فيما اتصل به ولكن لما لم يكن أصل الثوب في يده فيده لا تثبت على ما اتصل به أيضا وخروجه من ضمان العامل وتعذر الاجر على المستأجر باعتبار ثبوت اليد له على المعول واستشهد بما قال انه لو استأجره يبنى له حائطا فبنى بعضه أو كله ثم انهدم فله أجر ما بنى لانه في ملك صاحب البناء وكذلك حفر البئر وكذلك الرجل يستأجر الخباز ليخبز له في بيته دقيقا معلوما بأجر معلوم فخبزه ثم سرق فله الاجر تاما وان سرق قبل أن يفرغ فله من الاجر بحساب ما عمل وان كان يخبز في بيت الخباز لم يكن له من الاجر شئ

[ 24 ] ولاضمان عليه فيما سرق في قول أبى حنيفة رحمه الله لانه أجير مشترك فلا يضمن ما هلك في يده بغير فعله وان احترق الخبز في التنور قبل أن يخرجه فهو ضامن لان هذا من جناية يده ويتخير صاحب الخبز إن شاء ضمنه قيمته مخبوزا وأعطاه الاجر وان شاء ضمنه دقيقا ولم يكن له أجر وقد بينا نظيره في القصار وان استأجر رجلا يحمل له طعاما إلى موضع معلوم فسرق منه في بعض الطريق فله الاجر بقدر ما تحمل لان المعقود عليه ههنا منافعه لاحداث وصف في المحل فبقدر ما تحمل يصير المعقود عليه مسلما إلى صاحبه فكان له من الاجر بقدره بخلاف ما تقدم فالمعقود عليه هناك الوصف الذي يحدث في المحل بعمله وثبوت اليد على الوصف بثبوته على الموصوف فما لم تثبت يد المستأجر على محل العمل لا يصير مسلما العمل فلا يتقرر الاجر وعلى هذا قلنا في كل موضع إذا هلك لم يكن له فيه أجر فله أن يحبسه حتى يأخذ الاجر كالخياط والقصار في بيت نفسه وفي كل موضع لو هلك كان له الاجر فليس له أن يحبسه كالحمال والخياط والخباز في بيت صاحب العمل فان حبسه وهلك عنده فهو ضامن من لانه غاصب في الحبس حين لم يكن له حق الحبس والعمال الذين يعملون في بيت المستأجر ضامنون لما جنت أيديهم مثل ما يضمنون ما عملوا في بيوتهم لان العامل أجير مشترك سواء عمل في بيت نفسه أو في بيت المستأجر فيكون المعقود عليه العمل وعقد المعاوضة تقتضي سلامة المعقود عليه فالعمل المعيب لا يكون معقودا عليه وهذا بخلاف مااذا استأجره يوما ليخيط له ثوبا في بيته فانه لا يضمن ما جنت يده لان المعقود عليه منافعه (ألا ترى) أنه ليس له أن يعمل ذلك في غير يومه وأنه يستوجب الاجر بتسليم النفس وان لم يستعمله ولو استأجر طباخا يصنع له طعاما في وليمة فافسد الطعام فاحرقه ولم ينضجه فهو ضامن لانه أجير مشترك وهذا من جناية يده ولو لم يفسد الطباخ ولكن رب الدار اشترى راوية من ماء فأمر صاحب البعير فادخلها الدار فساق البعير فعطب فخر على القدور فكسرها فافسد الطعام فلا ضمان على صاحب البعير لانه ساقها بأمر رب الدار وفعله كفعل رب الدار وسوق الانسان الدابة في ملك نفسه لا يكون تعديا موجبا للضمان كحفر البئر ووضع الحجر في ملك نفسه ولاضمان على الطباخ فيما عمل من الطعام لان التلف حصل بغير فعله بل بفعل مضاف إلى صاحب الدار حكما وكذلك ولو كان البعير سقط على ابن رب الدار وهو صبي فقتله أو على عبده فلا ضمان عليه لان التسبب إذا لم يكن تعديا لا يكون موجبا للضمان على أحد ولو أدخل الطباخ النار ليطبخ بها فوقعت شرارة

[ 25 ] واحترقت الدار فلا ضمان عليه لان له أن يدخل النار ويعمل بها فعمله لا يتأتى بدونها ولا ضمان على رب الدار فيما احترق للسكان لانه أدخل النار في ملكه ومن أوقد النار في ملكه لا يكون متعديا فيه فكذلك إذا فعل غيره بأمره والله أعلم بالصواب (باب اجارة الفسطاط) (قال رحمه الله وإذا استأجر فسطاطا يخرج به إلى مكة ذاهبا وجائيا ويحج ويخرج من الكوفة في هلال ذى القعدة فهو جائز) لانه استاجر عينا منتفعا به وهو معتاد استئجاره والفسطاط من المساكن فاستئجاره كاستئجار البيت وكذلك الخيمة والكنيسة والرواق والسرادق والمحمل والجرب والجوالق والحبال والقرب والبسط فذلك كله منتفع به معتاد استئجاره فان تكارى شيئا من ذلك ليخرج به إلى مكة ذاهبا وجائيا ولم يسم متى يخرج به فهو فاسد في القياس لان وجوب التسليم إليه حين يخرج به وإذا لم يكن معلوما فربما تتمكن بينهما منازعة فيه والناس يتفاوتون فيه بالخروج إلى مكة فمن بين مستعجل ومؤخر ولكنه استحسن فقال وقت الخروج للحج من الكوفة معلوم بالعرف والمتعارف كالمشروط وهذا لان المعتبر الوقت الذي تخرج فيه القافلة مع جماعة الناس ولا معتبر بالاقرار وذلك الوقت معلوم وان تخرق الفسطاط من غير خلاف ولا عنف لم يضمن المستأجر لان العين في يده أمانة فان نقيضه يقرر حق صاحبه في الاجر وهو مأذون في استيفاء المنفعة على الوجه المعتاد فلا يكون ضامنا لما يتخرق منه إذا لم يحاوز ذلك وان ذهب به ورجع فقال استغنيت عنه فلم أستعمله فالاجر واجب عليه لانه تمكن من الانتفاع به وذلك يقوم مقام الانتفاع به في تقرر الاجر عليه ولو انقطعت أطنابه وانكسر عموده فلم يستطع نصبه لم يكن عليه أجر لانه لم يكن متمكنا من الانتفاع به والاجر لا يلزمه بدونه فالقول فيه قول المستأجر مع يمينه لانهما اتفقا أنه لم يتمكن من استيفاء جميع المعقود عليه وان الصفقة قد تفرقت عليه فالقول قول المستأجر في مقدار ما استوفى وكذلك لو احترق فقال المستأجر لم أستعمله إلا يوما واحدا فالقول قوله وليس عليه الكراء الا مقدار ذلك لانه منكر للزيادة ولو أسرج المستأجر في الفسطاط أو في الخيمة حتى اسود من الدخان أو احترق أو علق فيه قنديلا فان كان صنع كما يصنع الناس فلا ضمان عليه وان كان تعدى فيه أو اتخذه مطبخا أو أوقد فيه نارا حتى صار بمنزلة المطبخ من

[ 26 ] السواد فهو ضامن لما أفسد لان بمطلق العقد يثبت له حق استيفاء المنفعة على الوجه المتعارف فإذا لم يجاوز ذلك لا يكون ضامنا وهذا لان الفسطاط من المساكن وادخال السراج والقنديل وايقاد النار في المسكن متعارف لابد للساكن منه ولكن إذا جاوز الحد المتعارف فهو متعدي فيما صنع فيكون ضامنا لما أفسد وكان عليه الكراء إذا كان ما بقى منه شيئا ينافى السكنى فيه فان كان دون ذلك فلا كراء عليه منذ يوم لزمه الضمان لانعدام تمكنه من الانتفاع به في بقية المدة وان اشترط عليه صاحبه أن لا يوقد فيه ولا يسرج فليس له أن يوقد فيه ولا يسرج لان هذا أضر من السكنى فيه من غير اسراج وقد استثناه صاحبه بالشرط والتقييد متى كان مفيدا فهو معتبر فان فعل ذلك ضمن لانه جاوز ما استحقه بالعقد وعليه الاجر لانه استوفى المعقود عليه وانما ضمن باعتبار الزيادة فلا يمنع ذلك تقرر الاجر باستيفاء المعقود عليه كالمستأجر للدابة إلى مكان إذا جاوز وإذا استأجر قبة تركية بالكوفة كل شهر بأجر معلوم ليستوقد فيها ويبيت فهو جائز ولاضمان عليه ان احترقت من الوقود لان الايقاد فيها معتاد فلا يكون هو متعديا بالايقاد فيها فان بات فيها عبده أو ضيفه فلا ضمان لانها من المساكن وقد بينا أن له أن يسكن ضيفه وعبده فيما سكن فيه هو وهذا لانه لاضرر على القبة بكثرة من يسكنها وإذا استأجر فسطاطا يخرج به إلى مكة فقعد وأعطاه أخاه فحج ونصب واستظل به فهو ضامن ولا أجر عليه في قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله وقال محمد لا ضمان عليه وعليه الاجر لان الفسطاط من المساكن وفى المسكن لا يتعين سكناه بنفسه لان سكناه وسكنى غيره في الضرر على الفسطاط سواء فهو كتسليم البيوت (ألا ترى) أنه لو أخرج الفسطاط فيه بنفسه ثم أسكن فيه غيره لم يضمن فلذلك إذا دفعه إلى غيره حتى يخرج به وهو نظير مالو استأجر عبدا يخدمه في طريق مكة فاجره من غيره بخدمة لم يضمن وتفاوت الناس في الاستخدام والاضرار على الغلام أبين من التفاوت في السكنى في الفسطاط ثم لما لم يتعين هناك المستأجر للاستخدام فهذا أولى وجه قولهما أن الفسطاط يحول من موضع إلى موضع والضرر عليه يتفاوت بتفاوت مواضع النصب فان نصبه في مهب الريح يخرقه ونصبه من موضع الندوة والنز يفسده فإذا كان هذا مما يتفاوت فيه الناس وبحبسه يختلف الضرر فكان التعيين معتبرا بمنزلة الدابة استأجرها ليركبها أو الثوب يستأجره ليلبسه هو فإذا دفعه إلى غيره صار مخالفا ضامنا ولا أجر عليه لانه لم يستوف المعقود عليه وهذا بخلاف المسكن فانه لا يجول من

[ 27 ] موضع إلى موضع بخلاف العبد لان الاستخدام له حد معلوم بالعرف فإذا كلفه فوق ذلك امتنع العبد منه سواء كان المستأجر هو الذي يستخدمه أو غيره فلا فائدة في التعيين هناك بخلاف مااذا خرج بنفسه لانه هو الذي يختار موضع النصب للفسطاط وإذا كان ذلك برأيه كما أوجبه العقد فسكناه وسكنى غيره بعد ذلك سواء فاما إذا دفعه إلى غيره ليخرج به فاختيار موضع نصب الفسطاط لا يكون برأيه بل يكون برأى الذي خرج به وذلك خلاف موجب العقد وعلى هذا قالوا لو لم يبين عند الاستئجار من يخرج به فالعقد فاسد في قول أبى يوسف رحمه الله كما لو لم يبين من يلبس الثوب عند الاستئجار وعند محمد رحمه الله العقد جائز كما في خدمة العبد وسكنى الدار ولو انقطعت أطناب الفسطاط كلها فصنعها المستأجر من عنده ثم نصب الفسطاط حتى يرجع فعليه الاجر كله لانه استوفى المعقود عليه فالمعقود عليه منفعة الفسطاط لا منفعة الاطناب فإذا تمكن من استيفاء المعقود عليه باطناب نفسه لزمه الاجر كما في استئجار الرحا إذا انقطع الماء فطحن المستأجر بجمله وجب عليه الاجر ثم يمسك أطنابه لانه ملكه فيمسكه إذا رد الفسطاط ولو لم تعلق عليه الاطناب لم يكن عليه الكراء لانه لم يكن متمكنا من استيفاء المعقود عليه بملك صاحب الفسطاط ولا يعتبر تمكنه من الاستيفاء بملك نفسه لان ذلك ليس مما أوجبه العقد وكذلك لو انكسر عمود الفسطاط فاما إذا انكسرت أو تاده فلم يضر به حتى رجع كان عليه الكراء كاملا وليس الاوتاد مثل الاطناب والعمود لان الاوتاد من قبل المستأجر والاطناب والعمود من قبل صاحب الفسطاط ومن أصحابنا رحهم الله من يقول أنه بنى هذا الجواب على عرف ديارهم فاما في عرف ديارنا الاوتاد من قبل صاحب الفسطاط والاصح أن يقول من الاوتاد ما يتيسر وجوده في كل موضع ولا يتكلف بحمل مثله من موضع إلى موضع فهذا على المستأجر ومنه ما يكون متخذا من حديد وذلك لا يوجد في كل موضع فمثله يكون على صاحب الفسطاط كالعمود فمراده مما قال الاوتاد التى توجد في كل موضع فبانكسارها لا يزول تمكنه من استيفاء المعقود عليه فيكون الاجر عليه بخلاف العمود والاطناب وان تكاري فسطاطا يخرجه إلى مكة فخلفه بالكوفة حتى رجع فهو ضامن لانه أمسكه في غير الموضع المأذون فيه فان صاحبه انما أذن له في الامساك في الطريق ليقرر حقه في الاجر ويفوت عليه هذا المقصود إذا أمسكه بالكوفة وامساك الغير بغير اذن مالكه موجب الضمان عليه ولاكراء عليه لانه ما تمكن من استيفاء المعقود عليه فالمعقود عليه نصبها

[ 28 ] وسكناها في الطريق وذلك لا يتأتى إذا خلفها بالكوفة والقول قوله مع يمينه بالله ما أخرجه لانه ينكر التمكن من استيفاء المعقود عليه ووجوب الاجر عليه فهو كما لو أنكر قبض الفسطاط أصلا وكذلك لو أقام بالكوفة ولم يخرج ولم يدفع الفسطاط إلى صاحبه فهو مثل الاول لوجود الامساك لا على الوجه الذي أذن له فيه صاحبه وكذلك لو خرج ودفع الفسطاط إلى غلامه فقال ادفعه إلى صاحبه فلم يدفعه حتى رجع المولى فهو مثل الاول لانه لم يصل إلى صاحبه وكونه في يد غلامه ومالو خلفه في بيته بالكوفة سواء وكذلك لو دفعه إلى آخر وأمره أن يرده إلى صاحبه فلم يفعله لانه مخالف بالامساك في غير الموضع المأذون فيه وبالتسليم إلى الاجنبي أيضا ولو حمله الرجل إلى صاحب الفسطاط فأبى أن يقبله برئ المستأجر والرجل من الضمان ولا أجر عليه لان صاحب الفسطاط تمكن من فسطاطه حين رد عليه وفعل مأمور المستأجر كفعل المستأجر بنفسه ولو رده بفسه لم يكن لصاحبه أن يمتنع من قبوله لان هذا عذر له لانه يحتاج إلى مؤنة في اخراج الفسطاط وله أن يلتزم تلك المؤنة فكذلك إذا رده ثانية لم يكن له أن يمتنع من قبوله ولو هلك الفسطاط عند هذا الآخر قبل أن يحمله إلى صاحبه فلصاحب الفسطاط أن يضمن أيهما شاء لان كل واحد منهما متعدى في حقه غاصب فان ضمن الوكيل رجع به على المستأجر لانه ضمن في عمل باشره له بامره وان ضمن المستأجر لم يرجع به على الوكيل لو رجع عليه رجع الوكيل به أيضا ولان يد الوكيل قائمة مقام يد المستأجر فهلاكه في يد الوكيل كهلاكه في يد المستأجر وان ذهب بالفسطاط إلى مكة ورجع به فقال المؤاجر للمستأجر احمله إلى منزلي فليس له ذلك على المستأجر ولكنه على رب المتاع لما بينا أن منفعة النقل حصل لرب المتاع من حيث أنه تقرر حقة في الاجر فكانت مؤنة الرد عليه بخلاف المستعير وان لم يخرج بالفسطاط وخلفه بالكوفة فضمنه وسقط عنه الاجر فالحمولة على المستأجر لانه بمنزلة الغاصب وهو الذي ينتفع بالرد من حيث أنه برأ نفسه عن الضمان وان استأجر دابة إلى بلدة أخرى فقبضها وذهب صاحب الدابة فان حبسها بالكوفة على قدر ما يحبسها الناس إلى أن يرتحل فلا ضمان عليه وان حبسها مما لا يحبس الناس مثله يومين أو ثلاثة فهو ضامن لها ولاكراء عليه لانه أمسكها في غير الموضع الذي أذن له صاحبها في الامساك وفي هذا الخلاف ضرر على صاحبها فان حقه في الاجر لا يتقرر بامساكها في هذا الموضع فلهذا كان ضامنا الا أن المقدار المتعارف من الامساك يصير مستحقا له بالعرف فيجعل كالمشروط بالنص وإذا استأجر الرجلان

[ 29 ] فسطاطا من الكوفة إلى مكة ذاهبا وجائيا فقال أحدهما انى أريد ان آتى بالبصرة وقال الآخر انى أريد أن أرجع إلى الكوفة وأراد كل واحد منهما يأخذ الفسطاط من صاحبه فالمسألة على ثلاثة أوجه اما أن يدفع الكوفى إلى البصري أو البصري إلي الكوفى أو يختصما فيه إلى القاضى بمكة فاما إذا دفعه الكوفى إلى البصري فذهب به إلى البصرة واستعمله فلرب الفسطاط أن يضمن البصري قيمته ان هلك لانه غاصب مستعمل في غير الموضع الذي أذن له صاحبه فيه وكذلك ان لم ينصبه فهو بالامسالا في غير الموضع الذي أذن له صاحبه فيه يكون ضامنا قيمته ان هلك وعليهما حصة الذهاب من الاجر ولا أجر على واحد منهما في الرجوع أما البصري فلانه ما رجع من الكوفة وقد تقرر عليه ضمان القيمة وأما الكوفى فلانه لا يكون متمكنا من استيفاء المعقود عليه في الرجوع حين ذهب البصري بالفسطاط وان أراد صاحبه أن يضمن الكوفي فان أقر أنه أمره أن يذهب به إلى البصرة كان له أن يضمنه نصف قيمته لان النصف كان أمانة في يده وقد تعدى بالتسليم إلى صاحبه ليمسكه على خلاف ما رضى به صاحبه فكان له أن يضمنه ويضمن البصري نصف قيمته وان قال الكوفي لم آمره أن يذهب به إلى البصرة ولكني دفعته إليه ليمسكه حتى يرتحل فلا ضمان عليه لان الفسطاط مما لا يحتمل القسمة فلكل واحد من المستأجرين أن يتركه في يد صاحبه ولايكون تسليمه إلى صاحبه ليمسكه في الموضع الذي تناول الاذن موجع الضمان عليه والقول قوله في ذلك مع يمينه لانه ينكر سبب وجوب الضمان عليه وصاحب الفسطاط يدعي ذلك عليه وان دفعه البصري إلى الكوفي فرجع به إلى الكوفة فالكراء عليهما جميعا على البصري نصفه وعلى الكوفي نصفه لان الكوفي استوفي المعقود عليه في الرجوع في نصيب نفسه باعتبار ملكه وفي نصيب البصري بتسليطه اياه على ذلك وذلك ينزل منزلة استيفائة بنفسه فيجب الكراء عليهما ولاضمان على واحد منهما ان هلك قيل هذا قول محمد رحمه الله فأما عند أبى يوسف رحمه الله ينبغى أن يكون البصري ضامنا ولاكراء عليه في الرجوع كما لو دفعه إلى أجنبي آخر وقد بيناه والاصح أنه قولهم جميعا لان صاحب الفسطاط هنا قد رضي برأى كل واحد منهما في النصب واختيار الموضع لذلك بخلاف الاجنبي فصاحب الفسطاط هناك لم يرض برأيه في اختيار موضع النصب وان غصبه الكوفي فعلى الكوفي حصته من الاجر ذاهبا وجائيا لانه استوفى المعقود عليه وعلى البصري أجره ذاهبا وليس عليه أجر في الرجوع لان نصيبه كان في يد الغاصب ولم يكن هو متمكنا من استيفاء المعقود عليه

[ 30 ] حين ذهب من طريق البصرة ويكون الكوفى ضامنا لنصف قيمته ان هلك لانه غاصب للنصف من البصري فيكون ضامنا وان ارتفعا لى القاضى بمكة فللقاضي في ذلك رأى فان شاء لم ينظر فيما يقولان حتى يقيما عنده البينة لان صاحب الفسطاط غائب وهما يدعيان على القاضي وجوب النظر عليه في حق الغائب في ماله فلا يلتفت إلى ذلك إذا لم يعرف سببه فان فعل القاضي بذلك ولم يجدا بينة فدفعه البصري إلى الكوفى فهو على الجواب الاول الذي قلنا إذا لم يرتفعا إلى القاضي وإذا أقام البينة عنده على ما ادعيا قبلت البينة لانهما أثبتا سبب وجوب ولايته في هذا المال ووجوب النظر للغائب وهذه بينة تكشف الحال فتقبل من غير الخصم أو القاضي كأنه الخصم في موجب هذه البينة ثم يحلف البصري على ما يريد من الرجعة إلى البصرة لانه يدعى العذر الذي به يفسخ الاجارة في نصيبه وذلك شئ في ضميره لا يقف عليه غيره فيقبل قوله فيه مع يمينه وان شاء نظر في حالهما من غير اقامة البينة احتياطا في حق الغائب وإذا حلف البصري فالقاضي يخرج الفسطاط من يده لانها ليس من النظر للغائب ترك الفسطاط في يده ليذهب به إلى البصرة ولكنه يؤاجر نصيبه من كوفى مع الكوفى الاول ليتوصل صاحب الفسطاط إلى غير ملكه ويتوفر عليه الكراء بجميع الفسطاط في الرجوع وان أراد الكوفى أن يستأجر نصيب البصري فهو أولى الوجوه لان صاحب الفسطاط كان راضيا بكون الفسطاط في يده ولان اجارته منه تجوز بالاتفاق لانه اجارة المشاع من الشريك وذلك جائز وفعل القاضى فيما يرجع إلى النظر للغائب كفعل الغائب بنفسه وان لم يرغب فيه حينئذ يؤاجره من كوفى آخر فيجوز ذلك على قول من يجوز اجارة المشاع وعلى قول من لا يجوز ذلك فهذا فصل مجتهد فيه فإذا امضاه القاضي باجتهاده نفذ ذلك منه وان لم يجد من يستأجره من أهل الكوفة يدفع الفسطاط إلى الكوفى وقال نصفه معك بالاجارة الاولى ونصفه معك وديعة حتى يبلغ صاحبه فهو جائز لما فيه من معنى النظر للغائب باتصال عين ملكه إليه وعلى الكوفى نصف الاجر في الرجوع لانه استوفي المعقود عليه والشيوع طارئ فلا يمنع بقاء الاجارة ولا أجر على البصري في الرجعة لانه استوفى المعقود عليه فسخ العقد بعذر عند القاضى ولاضمان عليه أيضا لان تسليمه إلى القاضى كتسليمه إلى صاحبه فالقاضي نائب عنه فيما يرجع عليه لذلك وان تكار فسطاطا من الكوفة إلى مكة ذاهبا وجائيا وخرج إلى مكة فخلفه بمكة ورجع إلى الكوفة فعليه الكراء ذاهبا وهو ضامن لقيمة الفسطاط يوم خلفه لانه تركه في غير

[ 31 ] الموضع الذي رضي صاحبه بتركه فيه وان لم يختصما حتى حج من قابل فرجع بالفسطاط فلا أجر عليه في الرجعة لانه كان استأجره في العام الماضي وقد انتهى العقد بمضي ذلك الوقت فيكون غاصبا ضامنا في استعماله في العام الثاني وكل من استأجر فسطاطا أو متاعا أو حيوانا إذا فسد ذلك حتى لا ينتفع به أو غصبه غاصب فلا أجر على المستأجر منذ يوم كان ذلك لانعدام تمكنه من استيفاء المعقود عليه وعليه أجر ما قبله والقول قول المستأجر إذا اختصما يوم اختصمنا وهو على ما وصفنا من الفساد أو الغصب مع يمينه لان انعدام تمكنه من الاستيفاء في الحال يمنع البناء على استصحاب الحال فيما مضى والبينة بينة المؤاجر لانه يثبت حقه ببينته ولاتقبل بينة المستأجر على خلاف ذلك لانه ينفى بينته ما يثبته الآخر من الاجر. رجل تكارى دابتين من رجل صفقة واحدة بعشرة دراهم ليحمل عليهما عشرين مختوما فحمل على كل واحدة منهما عشرة مخاتيم فانما يقسم الاجر على أجر مثل كل واحدة منهما وذلك لصاحبهما لان المسمى بمقابلة منفعة دابتين ولو كان بمقابلة عينهما بان يتبعا وجب قيمته على قيمتها فكذلك إذا كان بمقابلة منفعتهما وقيمة المنفعة أجر المثل فلهذا يقسم على ذلك ولا ينظر إلى ما حمل على كل دابة (ألا ترى) أنه لو ساقهما ولم يحمل عليهما شيئا وجب الاجر عليه والله أعلم (باب الاجارة الفاسدة) (قال رحمه الله رجل استأجر من رجل ألف درهم بدرهم كل شهر يعمل بها فهو فاسد وكذلك الدنانير وكل موزون أو مكيل) لان الانتفاع بها لا يكون الا باستهلاك عينها ولايجوز أن يستحق بالاجارة استهلاك العين ولا أجر عليه لان العقد لم ينعقد أصلا لانعدام محله فمحمل الاجارة منفعة تنفصل عن العين بالاستيفاء وليس لهذه الاموال منفعة مقصودة تنفصل عن العين وبدون المحل لا ينعقد العقد وهو ضامن للمال لان العقد لما صار لغوا بقى مجرد الاذن فكأنه أعاره إياه وقد بينا أن العارية في المكيل والموزون قرض وإذا استأجر ألف درهم ليزن بها يوما إلى الليل باجرة مسماة فهو جائز وكذلك لو استأجر حنطة مسماة يعبر بها مكاييل له يوما إلى الليل فهو جائز وذكر الكرخي رحمه الله في مختصره أنه لا يجوز قبل ما رواه الكرخي رحمه الله محمول على مااذا استأجرها ليعبر بها مكيا لا بغير عينها وما ذكر في اكتاب محمول على ماذا استأجرها ليعبر بها مكيلا لا بعينه فيكون المعقود عليه معلوما

[ 32 ] وقيل بل فيه روايتان وجه ما قال الكرخي رحمه الله ان هذا النوع من الانتفاع غير مقصود بهذه الاعيان وإذا كان لا يجوز استئجارها للمنفعة التى هي مقصودة منها فلان لا يجوز استئجارها للمنفعة التى هي غير مقصودة منها أولى وجه ظاهر الرواية ان ما سمى عملا يعمل بالمستأجر مع بقاء عينه فان الوزن بالدراهم عمل مقصود كالوزن بالحجر ولو استأجر حجرا ليزن به يوما جاز فكذلك الدراهم وهذا لان المنافع عند اطلاق العقد كونه متضمنا استهلاك العين لو صح وقد انعدم ذلك بتسمية منفعة تستوفى مع بقاء العين وهو مقصود في الناس أو كالاناء يستأجره ليعمل به أو الثوب ليلبسه وان استأجر نصيبا في أرض غير مسماة لم يجز وكذلك العبد والدابة في قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله ثم رجع أبو يوسف رحمه الله وقال هو جائز وهو بالخيار إذا علم النصيب وهو قول محمد رحمه الله وقد ذكر في آخر الشفعة انه لو باع نصيبه من الدار والمشترى لا يعلم كم نصيبه لم يجز في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو قول أبى يوسف الاول رحمه الله ثم رجع أبو يوسف وقال يجوز فأبو حنيفة استمر على مذهبه في الفصلين حيث لم يجوز البيع والاجارة في النصيب المجهولة ومسألة الاجارة له أيضا بناء على اجارة المشاع فانه لا يجوز الاجارة في النصيب الشائع وان كان معلوما فإذا كان مجهولا أولى وأبو يوسف رحمه الله استمر على مذهبه أيضا فانه جوز البيع والاجارة في نصيب العاقد وان لم يكن ذلك معلوما للاجير عند العقد لان اعلامه ممكن بالرجوع إلى قول الموجب ومن أصله أيضا جواز الاجارة في الجزء الشائع ومحمد رحمه الله فرق بين البيع والاجارة وقال في البيع الثمن يجب بنفس العقد فلو صح العقد وجب الثمن بمقابلة مجهول وفي الاجارة لا يجب الا عند استيفاء المنفعة وعند ذلك نصيب المؤاجر معلوم فانما يجب البدل بمقابلة المعلوم ومن أصله جواز الاجارة في المشاع وان استأجر مائة ذراع مكسرة من هذه الدار أو أجر مائتين من هذه الارض فانه لا يجوز في قول أبى حنيفة رحمه الله وهو جائز في قولهما وهو بناء على ما ذكرنا في البيوع إذا باع مائة ذراع من هذه الدار عند أبى حنيفة رحمه الله لا يجوز لان الذراع اسم لبقعه معلومة يقع عليها الذرع وذلك يتفاوت في الدار فكما لا ينعقد البيع صحيحا بهذا اللفظ فكذلك الاجارة وعندهما ذكر الذراع كذكرك السهم حتى ينعقد به البيع صحيحا فكذلك الاجارة وهو بناء على اختلافهم أيضا في اجارة المشاع ولايجوز اجارة الشجر والكرم بأجرة معلومة على أن تكون الثمرة للمستأجر لان الثمرة عين لا يجوز استحقاقها

[ 33 ] بعقد الاجارة فانه يجوز بيعه بعد الوجود وانما يستحق بقدر الاجارة مما لا يجوز بيعه بعد الوجود ولان محل الاجارة المنفعة وهى عرض لا يقوم بنفسه ولا يتصور بقاؤها والثمرة تقوم بنفسها كالشجرة فكما لا يجوز أن يتملك الشجرة بعقد الاجارة فكذلك الثمرة ولان المؤاجر يلتزم مالا يقدر على ابقائه فربما تصيب الثمرة آفة وليس وسع البشر اتخاذها وكذلك ألبان الغنم وصوفها وسمنها وولدها كل ذلك عين يجوز بيعه فلا يتملك بعقد الاجارة وان استأجر أرضا فيها زرع ورطبة أو شجرة أو قصب أو كرم أو ما يمنع من الزراعة فالاجارة فاسدة لان استئجار الارض لمنفعة الزراعة وهذه المنفعة لا يمكن استيفاؤها مع هذه الموانع فقد التزم بالعقد تسليم مالا يقدر على تسليمه وان كان مقصود المستأجر ما فيها فهو عين لا يجوز استحقاقه بالاجارة ولايجوز اجارة الاجام والانهار للمسك ولا لغيره لان المقصود استحقاق العين ولان السمك صيد مباح فكل من أخذه فهو أحق به وانما يستحق على المؤاجر بالاجارة ماكان مستحقا له ولان المؤاجر يلتزم مالا يقدر على ايفائه به فان أجرها للزراعة فهى ليست بصالحة لذلك وان أجرها للسمك فربما يجده المستأجر وليس في وسع الاجر أن يمكنه من تحصيل ذلك ولو استأجر بئرا شهرين ليسقى منها أرضه وغنمه لم يجز وكذلك النهر والعين لان المقصود هو الماء وهو عين لا يجوز أن يتملك بعقد الاجارة ولان الماء أصل الاباحة ما لم يحرزه الانسان بانائه وهو مشترك بين الناس كافة قال الناس شركاء في الثلاث في الماء والكلاء والنار فالمستأجر فيه والاجر سواء فلهذا لا يستوجب عليه أجر بسببه وان استأجر نهر ليجرى فيه شربا له إلى أرضه روى عن أبى يوسف رحمه الله ان ذلك لا يجوز قال أرأيت لو استأجر مسيل ماء على سطح ليسيل ما أسطحه فيه أكان يجوز ذلك فهذا كله فاسد وهكذ ذكره محمد في ظاهر الرواية وروى هشام عن محمد رحمهما الله أنه ان استأجر موضعا معينا معلوما لذلك فهو جائز لان الجهالة تزول بتعيين الموضع وهى منفعة مقصودة فالاستئجار لاجله يصح وجه ظاهر الرواية انه مجهول في نفسه فان الضرر يتفاوت بقلة الماء وكثرته واعلام مقدار الماء غير ممكن فربما لا يأخذ الماء جميع الموضع الذي عينه وربما يزداد عليه فللجهالة قلنا لا يجوز الاستئجار ولو استأجر عبدا بأجر معلوم كل شهر بطعامه لم يجز لان طعامه مجهول وهو على رب العبد فإذا شرطه على المستأجر كان فاسدا والمجهول متى ضمن إلى المعلوم يصير الكل مجهولا به وكذلك استئجار الدابة بأجر مسمى وعلفها وكذلك كل اجارة

[ 34 ] فيها رزق أو علف فهى فاسدة الا في استئجار الظئر بطعامها وكسوتها وان أبا حنيفة رحمه الله قال أستحسن جواز ذلك وقد بيناه واشترط تطيين الدار ومرمتها أو غلق باب عليها أو ادخال جذع في سقفها على المستأجر مفسد للاجارة لانه مجهول فقد شرط الاجر لنفسه على المستأجر وكذلك استئجار الارض بأجر مسمى واشترط كرى نهرها أو ضرب مسناة عليها أو حفر بئر فيها أو أن يسرقها المستأجر فهذا كله مفسد للاجارة لان أثر هذه الاعمال تبقى بعد انتهاء مدة الاجارة ويسلم ذلك للاجر فيكون في معنى شرط أجرة مجهولة على المستأجر لنفسه وكذلك لو اشترط عليه رب الارض أنه يكون له ما فيها من ذرع إذا انقضت الاجارة وان يردها عليه مكروبة فهذا كله مجهول ضمنه إلى المعلوم وشرطه لنفسه يفسد العقد به. رجل دفع أرضه إلى رجل يغرس فيها شجرا على أن تكون الارض والشجر بين رب الارض والغارس نصفين لم يجز ذلك لانه يكون مشتريا نصف الغراس منه بنصف الارض والغراس مجهول فلا يصح ذلك هكذا ذكره بعض مشايخنا رحمهم الله فاما الحاكم رحمه الله في المختصر يقول تأويل المسألة عندي أن جعل نصف الارض عوضا عن جميع الغراس ونصف الخارج عوضا لعمله فعلى هذا الطريق يقول اشترى العامل نصف الارض بجميع الغراس وهى مجهولة فكان العقد فاسدا فان فعل فالشجر لرب الارض لان العقد في الشجر كان فاسدا ومذرعته في أرضه بأمره فكأن صاحب الارض فعل ذلك بنفسه فيصير قابضا للغراس باتصاله بأرضه مستهلكا بالعلوق فيجب عليه قيمة الشجر وأجر ما عمل لانه ابتغى من عمله عوضا وهو نصف الخارج ولم ينل ذلك فكان عليه أجر مثله فان (قيل) كان ينبغى على قول أبى حنيفة رحمه الله أن يكون نصف الارض للعامل لانه اشترى نصف الارض شراء فاسدا ومن اشترى نصف الارض شراء فاسدا غرس فيها أشجارا فانه ينقطع فيها حق البائع في الاسترداد عند أبى حنيفة رحمه الله (قلنا) هذا أنه لو غرس الاشجار لنفسه وهنا العامل في الغرس يقوم مقام رب الارض ويعمل له بالاجر فكأن رب الارض عمل ذلك بنفسه فلهذا لا يملك العامل شيئا من الارض وإنما اختار هذا التأويل لامكان ايجاب أجر العمل فانه لو جعل مشتريا نصف الغرس كان عاملا فيما هو شريك فيه فلا يستوجب الاجر فلذلك ألزمه قيمة الغرس حين علقت ولو كان مشتريا للنصف لكان يلزمه نصف قيمة الغرس حين علقت ونصف قيمة الشجر وقت الخصومة لانها أشجار مشتركة بينهما في أرض أحدهما فانما يتملك صاحب الارض نصيب صاحبه عليه

[ 35 ] بالقيمة في الحال ثم قال ولا آمره بقلع الاشجار لما يدخل به من الفساد عليهما وبظاهر هذا يتمسك من يختار الطريقة لاولى انه يكون مشتريا نصف الغرس لانه أشار إلى أن الاشجار تكون مشتركة ولكنه لا يقلع لما يدخل به من الفساد عليهما قال الحاكم رحمه الله تأويل هذا اللفظ فساد القلع على رب الارض وضياع عمل الاجير بالقلع وبطلان حقه في الاجر ولو كان قد أكل الغلة على هذا حسب على الغارس ما أكل من أجره لان الشجرة ملك رب الارض وانما يملك الثمر يملك الشجر فما أكله العامل من ذلك يكون محسوبا عليه من أجره (قال) رضى الله عنه والاصح عندي أن يقال في تقليل هذه المسألة ان صاحب الارض استأجره ليجعل أرضه بستانا بآلات نفسه على أن يكون أجره بعض ما يحصل بعمله وهو نصف البستان فهو كما لو استأجر صباغا ليصبغ ثوبه بصبغ نفسه على أن يكون نصف المصبوغ للصباغ وذلك فاسد لانه في معنى قصر الطحان ونهى عنه رسول الله وهذا لان الغرس آلة تصير الارض بها بستانا كالصبغ للثوب فإذا فسد العقد بقيت الالة متصلة بملك صاحب الارض وهى متقومة فيلزمه قيمتها كما يجب على صاحب الثوب قيمة ما زاد الصبغ في ثوبه الا أن الغراس أعيان تقوم بنفسها فلا يدخل أجر العمل في قيمتها فيلزمه مع قيمة الاشجار أجر مثل عمله لانه أبقى من عمله عوضا ولم يسلم له ذلك فيستوجب أجر المثل ولو دفع الغزل إلى حائك لينسجه بالنصف فهو فاسد لانه في معنى قفيز الطحان وقد بينا اختلاف المشايخ رحمهم الله فيه وكذلك حمل الطعام في سفينة أو على دابة بنصفه غير جائز وهذا لانه لو جاز صار شريكا باول جزء من العمل يقع على العامل فيما هو شريك فيه لا يستوجب الاجر فإذا لم يصح العقد لم يملك شيئا من المعمول فيبقى عمله مسلما إلى صاحبه بعقد فاسد فله أجر مثله لا يجاوز به نصف ذلك لتمام رضاه بذلك القدر ولو كان طعاما بين رجلين استأجر أحدهما صاحبه ليحمله أو يطحنه لم يجز ذلك عندنا وهو جائز عند الشافعي رحمه الله لان هذا العمل في نصيب شريكه غير مستحق عليه فاستئجاره على ذلك كاستئجاره أجنبيا آخر وشركته في المحل لا تمنع صحة الاستئجار كما لو استأجر أحد الشريكين من صاحبه بيتا ليحفظ فيه الطعام المشترك أو دابة لينقل عليها الطعام المشترك صح الاستئجار فهذا مثله (وحجتنا) الحديث المشهور في النهى عن قفيز الطحان وقد بينا أن معنى النهى انه لو جاز صار شريكا فذلك دليل على ان تقدم الشركة في المحل يمنع صحة الاجارة وهذا لان العقد يلاقى العمل وهو عامل لنفسه

[ 36 ] من وجه وبين كونه عاملا لنفسه وبين كونه عاملا لغيره منافاة والاجير من يكون عاملا لغيره وفيما يكون عاملا لنفسه لا يصلح أن يكون أجيرا بخلاف البيت والدابة فالعقد هناك يرد على المنفعة والبدل بمقابلتها ولا شركة له في ذلك (ألا ترى) انه لا يتعين عليه حفظ الطعام المشترك في البيت ولو سلم البيت إليه في المدة استوجب الاجر وان لم يحفظ فيه شيئا بخلاف ما نحن فيه فالعقد هنا يرد على العمل في المشترك حتى لا يستوجب الاجر بدون العمل ولا يعمله في محل آخر ثم هنا وان أقام العمل فلا أجر له بخلاف مذهب أبى حنيفة رحمه الله في اجارة المشاع فان هناك باستيفاء المنفعة يجب أجر المثل وان كان العقد فاسدا لان فساد العقد هناك للعجز عن استيفاء المعقود عليه على الوجه الذي أوجبه العقد لا لانعدام الاستيفاء أصلا فإذا تحقق استيفاء المعقود عليه وجب الاجر وهنا بطلان العقد لتعذر استيفاء المعقود عليه أصلا من حيث أنه في المحل المشترك عامل لنفسه وهو في العمل الواحد لا يكون عاملا لنفسه ولغيره في حالة واحدة وبدون الاستيفاء لا يجب الاجر في العقد الفاسد وعلى هذا نسج الغزل ورعى الغنم التى تكون بينهما فكل من يستوجب الاجر بالعمل فهو داخل في هذا الخلاف ولو استأجر رحا ماء على أنه ان انقطع الماء عنها فالاجر عليه لم يجز لان هذا الشرط مخالف موجب العقد فهو فاسد مفسد للعقد لان موجب العقد أن لا يجب الاجر الا بالتمكن من استيفاء المعقود عليه وكل شرط يخالف موجب العقد مفسد للعقد ولان عقد الاجارة لا يتناول وقت انقطاع الماء حتى لا يجب الاجر فيه وان لم يفسخ فكأنه جعل جميع المسمى بمقابلة منفعة الرحا في وقت جريان الماء ولا يدرى في كم يكون الماء جاريا وجهالة المنع تمنع صحة الاجارة ولو استأجر كتبا ليقرأ فيها شعرا أو فقها أو غير ذلك لم يجز لان المعقود عليه فعل القارى والنظر في الكتاب والتأمل فيه ليفهم المكتوب فعله أيضا فلا يجوز أن يجب عليه أجر بمقابلة فعله ولان فهم ما في الكتاب ليس في وسع صاحب الكتاب ولا يحصل ذلك بالكتاب ولكن لمعنى في الباطن من حدة الخاطر ونحو ذلك وكأن صاحب الكتاب يوجب له مالا يقدر على ايفائه فليس في عين الكتاب منفعة مقصودة ليوجب الاجر بمقابلة ذلك فكان العقد باطلا سمى المدة أو لم يسم ولا أجر له وان قر أو كذلك اجارة المصحف والكلام فيه أبين فان قراءة القرآن من المصحف والنظر فيه طاعة وكان هذا كله نظيره مالو استأجر كرما ليفتح له بابه فينظر فيه للاستيفاء من غير أن يدخله أو استأجر مليحا لينظر إلى وجهه فيستأنس بذلك أو استأجر جبا مملوأ من

[ 37 ] الماء لينظر فيه إذا سوى عمامته فهذا كله باطل لا أجر عليه بحكم هذه العقود فكذلك فيما سبق ولايجوز أن يستأجر رجلا ليعلم ولده القرآن أو الفقه أو الفرائض عندنا وقال الشافعي رحمه الله يجوز ذلك فالمذهب عندنا أن كل طاعة يختص بها المسلم فالاستئجار عليها باطل وعلى قول الشافعي كل مالايتعين على الاجير اقامته فالاستئجار عليه صحيح وقد بينا الكلام فيه في كتاب المناسك في الاستئجار على الحج والدليل على أنه لا يجوز الاستئجار على تعليم القرآن حديث عبد الرحمن بن شبل الانصاري رضى الله عنه أن النبي قال اقرؤا القرآن ولا تأكلوا به وقال لمدرس العلم اياك والخبز الرقاق والشرط على كتاب الله تعالي ولما أقرأ أبى بن كعب رضى الله عنه رجلا سورة من القرآن أعطاه على ذلك قوسا فقال رسول الله أتحب أن يقوسك الله بقوس من نار فقال لا قال رد عليه قوسه ولان من يعلم غيره القرآن فهو خليفة رسول الله فيما يعمل فانه بعث معلما وهو ماكان يطمع في أجر على التعليم فكذلك من يخلفه وعمله ذلك قربة ومنفعة عمل يحصل له فذلك يمنعه من التسليم إلى غيره وبدون التسليم لا يجب الاجر وبعض أئمة بلخ رحمهم الله اختاروا قول أهل المدينة رحمهم الله وقال إن المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله بنوا هذا الجواب على ما شاهدوا من عصرهم من رغبة الناس في التعليم بطريق الحسبة ومروءة المتعلمين في مجازات الاحسان بالاحسان من غير شرط فاما في زماننا فقد انعدم المعنيين جميعا فنقول يجوز الاتسئجار لئلا يتعطل هذا الباب ولا يبعد أن يختلف الحكم باختلاف الاوقات (ألا ترى) أن النساء كن يخرجن إلى الجماعات في زمن رسول الله وأبى بكر رضي الله عنه حين منعهن من ذلك عمر رضي الله عنه وكان ما رواه من ذلك صوابا ولو استأجروا من يؤمهم في رمضان أو غيره لم يجز لان المصلى عامل لنفسه فلا يستوجب الاجر على غيره وكذلك ان استأجروا من يؤذن لهم فالمؤذن خليفة رسول الله في الدعاء إلى الله تعالى ومنفعة عمله تحصل له لان بكثرة الجماعة يزداد ثوابه على أداء الصلاة والاصل فيه ما ذكر من حديث عثمان بن أبى العاص رضي الله عنه قال كان من آخر ما عهد رسول الله ان قال صل بالقوم صلاة أضعفهم وان اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الاذان أجرا وجاء رجل إلى عمر رضي الله عنه فقال انى أحبك فقال عمر رضي الله عنه انى أبغضك في الله قال ولم يا أمير المؤمنين قال بلغني أنك تأخذ على الاذان أجرا ولا تجوز الاجارة

[ 38 ] على شئ من الغنا والنوح والمزامير والطبل وشئ من اللهو لانه معصية والاستئجار على المعاصي باطل فان بعقد الاجارة يستحق تسليم المعقود عليه شرعا ولايجوز أن يستحق على المرء فعل به يكون عاصيا شرعا وكذلك الاستئجار على الحداء وكذلك الاستئجار لقراءة الشعر لان هذا ليس من اجارة الناس والمعتبر في الاجارة عرف الناس ولان ما هو المقصود انما يحصل بمضي في المستأجر وهو السماع والتأمل والتفهم فلا يكون ذلك موجبا للاجر عليه وان أعطى المستأجر شيئا من اللهو يلهو به فضاع أو انكسر فلا ضمان عليه لانه قبضه واستعمله باذن صاحبه فان العقد وان بطل فالاذن في الاستعمال باق وإذا استأجر الذمي من المسلم بيعة يصلى فيها لم يجز لانه معصية وكذلك إذا استأجرها ذمى من ذمى وكذلك الكنيسة وبيت النار فانهم يعتقدون في هذه البقاع ما يعتقده في المساجد واستئجار المسلم من المسلم مسجدا يصلى فيه مكتوبة أو نافلة لا يجوز فكذلك لا يمكن تصحيح هذا العقد فيما بينهم بناء على اعتقادهم وفي اعتقادنا هذا منهم معصية وشرك فالاستئجار عليه باطل ثم استئجار المسجد من المسلم للصلاة فيه كاستئجار مسلم يصلى له وقد بينا ان ذلك باطل لان استئجار على الطاعة فهذا مثله وعلى هذا لو استأجر أهل الذمة ذميا ليصلى بهم أو ليضرب لهم الناقوس فهو باطل لانه معصية وإذا استأجر الذمي من المسلم بيتا ليبيع فيه الخمر لم يجز لانه معصية فلا ينعقد العقد عليه ولا أجر له عندهما وعند أبى حنيفة رحمه الله يجوز والشافعي رحمه الله يجوز هذا العقد لان العقد يرد على منفعة البيت ولا يتعين عليه بيع الخمر فيه فله أن يبيع فيه شيئا آخر يجوز العقد لهذا ولكنا نقول تصريحهما بالمقصود لا يجوز اعتبار معنى آخر فيه وما صرحا به معصية وكذلك لو أن ذميا استأجر مسلما يحمل له خمرا فهو على هذا عند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لا يجوز ان العقد لان الممر يحمل للشرب وهو معصية والاستئجار على المعصية لا تجوز والاصل فيه قوله لعن الله في الخمر عشرا وذكر في الجملة حاملها والمحمولة إليه وأبو حنيفة رحمه الله يقول يجوز الاستئجار وهو قول الشافعي رحمه الله لانه لا يتعين عليه حمل الخمر فلو كلفه بأن يحمل عليه مثل ذلك فلا يستوجب الاجر ولان حمل الخمر قد يكون للاراقة وللصب في الخل ليتخلل فهو نظير مالو استأجره ليحمل ميتة وذلك صحيح فهذا مثله الا أنهما يفرقان فيقولان الميتة تحمل عادة للطرح وإماطة الاذى فاما الخمر يحمل عادة للشرب والمعصية وذكر هشام عن محمد رحمهما الله قال ابتلينا بمسألة وهو أن مسلما استؤجر على أن ينقل جيفة ميتة

[ 39 ] من المشركين من بلد إلى بلد فكذلك قال أبو يوسف رحمه الله لاأجر له لانه انما يحمل حمل الجيفة إلى المقبرة لاماطة الاذى فاما حملهما من بلد إلى بلد فهو معصية لا يجوز الاسئتجار عليه (وقلت) انا ان كان الاجير عالما بما أمر بحمله فلا أجر له أيضا وان لم يعلم بذلك فله الاجر لمعنى الغرور واستئجار الذمي الدابة من المسلم أو السفينة لينقل عليها خمرا على الخلاف الذي بينا وان استأجر ذمى ذميا لشئ من ذلك فهو جائز وكذلك لو استأجره يرعى له خنازير لان الخمر والخنزير مال متقوم في حقهم بمنزلة الشاة والبعير في حقنا وان استأجره ليبيع له ميتة أو دما لم يجز لان هذا ليس بمال في حق أحد فحكمهم فيها كحكم المسلمين ولا بأس بان يؤاجر المسلم دارا من الذمي ليسكنها فان شرب فيها الخمر أو عبد فيها الصليب أو دخل فيها الخنازير لم يلحق المسلم اثم في شئ من ذلك لانه لم يؤاجرها لذلك والمعصية في فعل المستأجر وفعله دون قصد رب الدار فلا إثم على رب الدار في ذلك كمن باع غلاما ممن يقصد الفاحشة به أو باع جارية ممن لا يشتريها أو يأتيها في غير المأتى لم يلحق البائع اثم في شئ من هذه الافعال التى يأتي بها المشتري وكذلك لو اتخذ فيها بيعة أو كنيسة أو باع فيها الخمر بعد أن يكون ذلك في السواد ويمنعون من احداث ذلك في الامصار وقد بينا ذلك الكلام في هذا الفصل فيما سبق واستدل بحديث ثوبة بن نمر أن رسول الله قال لااخصاء ولا كنيسة في الاسلام ولحديث مكحول أن أبا عبيدة بن الجراح رضى الله عنه صالحهم بالشام على أن يحصل عن كنائسهم القديمة وعلى أن لا يحدثوا كنيسة في مصر من امصار المسلمين وان استأجر المسلم من المسلم بيتا ليصلى فيه المكتوبة أو التروايح لم يجز ولا أجر له لما بينا أن العقد اقامة الطاعة ثم يحق على كل مسلم دينا تمكين المسلم من موضع يصلى فيه عند الحاجة فلا يجوز أن يأخذ على ذلك أجرا فلو استأجر رجلا ليقتل له رجلا أو يشجه أو يضربه ظالما لم يجز ولا أجر له لما بينا أن العقد اقامة الطاعة ثم يحق على كل لانه استئجار على المعصية ولو جاز العقد لصار اقامة العمل مستحقا عليه وفعل ما هو ظلم لا يكون مستحقا على أحد شرعا ولو أعطاه سلاحا لذلك فضاع أو انكسر لم يضمن لانه قبضه باذن صاحبه ولو أن قاضيا استأجر رجلا ليضرب حدا قد لزمه أو ليقبض من رجل أو ليقطع يد رجل أو ليقوم عليه في مجلس القضاء شهرا بأجر معلوم فالاجارة جائزة وله الاجر لان المعقود عليه منافعه في المدة حتى يستوجب الاجر بتسلم النفس وهو معلوم ثم يحكم أنه ملك منافعه ليستعمله في اقامة الحدود غير

[ 40 ] ذلك وان استأجره لاقامة الحدود أو القصاص خاصة لم يجز ذلك لانه مجهول في نفسه وان فعل شيئا من ذلك كان له أجر مثله لانه استوفى منافعه بعقد فاسد فان (قيل) اقامة الحد طاعة فكيف يستوجب الاجر على اقامته عند فساد العقد قلنا) معنى الطاعة فيه غير مقصود ولهذا صح من الكافر والمسلم كبناء المسجد ونحوه ولو استصحبه على أن يجعل له رزقا كل شهر فهو جائز أما ان بين مقدار ما يعطيه فالعقد جائز لان المعقود عليه منافعه وهو معلوم وان لم يبين مقدار ذلك فهو في هذا كالقاضي وللقاضي أن يأخذ رزقا بقدر كفايته من بيت المال وكذلك من ينوب عن القاضى في شئ من عمله وكذلك قسام القاضى إذا استأجره ليقسم كل شهر بأجر مسمى فهو جائز وفي حديث على رضى الله عنه فانه كان له قاسم يقسم بالاجر ولانه لم يتعين اقامة هذا العمل على أحد دينا فيجوز الاستئجار عليه ولو قضى لرجل بالقصاص في قتل فاستأجر رجلا يقتل له لم أجعل له أجرا وفي السير الكبير قال إذا استأجر رجلا يقتل مرتدا أو حربيا أسيرا لم يجز عند أصحابنا رحمهم الله ولو استأجره ليقطع طريقا جاز وأما أنا فلا أفرق بينهما وأجوز العقد فيهما ومراده بقوله عند أصحابنا أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فالحاصل أن عند محمد يجوز الاستئجار على ذلك كله لانه عمل معلوم بمحله واقامته جائز شرعا فيجوز الاستئجار عليه كذبح الشاة وقطع الطرق وكسر الحطب وما أشبه ذلك ولابي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله (حرفان) أشار إلى أحدهما في الكتاب فقال ما قيل ان هذا ليس بعمل يعنى ان القتل ازهاق الروح وذلك ليس بصنع العباد كما أن ادخال الروح ليس من صنع العباد ولا يتصور الاستئجار عليه فكذلك الازهاق بخلاف الذبح فهو عبارة عن تسيل الدم النجس ليتميز به الطاهر من النجس وذلك بقطع الحقوم والاوداج وهو من صنع العباد والقطع كذلك فانه ابانة الجزء من الجملة وذلك يحصل بصنع العبد ولان القتل ايقاع الفعل في المحل مع التجافي ومثله منه ما يحل شرعا ومنه ما يحرم كالمثلة ولا يدري كيف يكون منه ايقاع الفعل والمقصود يتم بضربة أو بضربتين فللجهالة والترد بين الحل والحرمة لم يجز الاستئجار عليه بخلاف القطع والذبح فانه يكون بامرار السلاح على المحل لا بصفة التجافي عنه وكسر الحطب بايقاع الفعل على المحل بالتجافي ولكن الكل فيه سواء في صفة الحل شرعا فلهذا جاز الاستئجار عليه ولو استأجر رجلا يغزو عنه لم يجز ذلك لان الغزو طاعة فهو سنام الدين ولما حضر القتال افترض عليه الذب عن المسلمين وقتال المشركين فلا يجوز له أخذ الاجر على اقامة

[ 41 ] ما هو فرض عليه قال مثل الذين يغزون من أمتى ويأخذون على ذلك أجرا كمثل أم موسى عليه السلام كانت ترضع ولدها وتأخذ الاجر من فرعون ولو شارط كحالا أن يكحل عينه شهرا بدرهم جاز ذلك وكذلك الدواء في كل داء لانه عمل معلوم عند أهل الصنعة والاستئجار عليه متعارف بين الناس وإذا استأجر فحلا لينزيه لم يجز للاثر الذي جاء به النهى عن رسول الله عن التيس ولان المقصود الماء ولاقيمة له وصاحب الفحل يلتزم ايفاء مالا يقدر على تسليمه ولا تجوز الاجارة على تعليم الغناء والنوح لان ذلك معصية وان سلم غلاما إلى معلم ليعلمه عملا وشرط عليه أن يحذقه فهذا فاسد لان التحذيق مجهول إذ ليس لذلك غاية معلومة وهذه جهالة تفضى إلى المنازعة بينهما وكذلك لو شرط في ذلك أشهرا مسماة لانه يلتزم ايفاء مالا يقدر عليه فالتحذيق ليس في وسع المعلم بل ذلك باعتبار شئ في خلقة المتعلم ثم فيما سمى من المدة لا يدري انه هل يقدر على أن يحذقه كما شرط أم لا والتزام تسليم مالا يقدر عليه بعقد المعاوضة لا يجوز ولو أجر أرضه بدراهم وشرط خراجها على المستأجر فهذا فاسد لان الخراج مجهول لايعرف من أصحابنا رحمهم الله من يقول مراده في الاراضي الصلحية فالمال في ذلك يقسم على الجماجم والاراضي فتزداد حصة الاراضي إذا قلت الجماجم وتنقص بكثرة الجماجم فاما في جراح الوظيفة لاجهالة في المقدار وقيل ان مراده من هذا ان ولاة الظلمة ألحقوا بالخراج روادف يزداد ذلك تارة وينتقص أخرى فيكون مجهولا وقيل معناه ان الخراج بحسب الطاقة وريع الارض كما أشار إليه عمر رضي الله عنه في قوله لعلكما حملتما الارض ما لا تطيق وكذلك أو اعطاه بغير اجر الا ان يشترط عليه أن يؤدى خراجها فان الخراج على صاحب الارض فإذا شرطه على المزارع يكون ذلك أجرة وجهالة الاجارة تفسد الاجار وهذا لان الواجب في كل جريب درهم وقفيز مما يخرجه وذلك مجهول الجنس في الصفة ولو أجرها وشرط العشر على المستأجر فالعقد فاسد عند أبى حنيفة رحمه الله لان العشر عنده على المؤاجر فإذا شرطه على المستأجر كأن أجره وهو مجهول الجنس والقدر وعندهما العشر على المستأجر فلا يصير اشتراط ذلك عليه وخراج المقاسمة نظير العشر فيما ذكرنا وإذا كان الاجر كذا درهما ودينارا أو فلسا فهو جائز وله نقد البلد ووزنهم فان كان وزنهم مختلفا فهو فاسد حتى يبين الوزن بمنزلة الثمن في البيع وقد بيناه وان جعل الاجر دراهم مسماة عددا بغير وزن وبغير عينها فهو فاسد ومراده في الدراهم

[ 42 ] الموزونة فانها تتفاوت في الوزن فأما ما يعد ولا يوزن كالعطريفى فإذا سمى العدد فيه جاز كما في الفلوس وان أشار إلى دراهم بعينها جازت الاجارة وان لم تكن معلومة القدر كالثمن في البيع بخلاف السلم عند أبى حنيفة رحمه الله وقد بينا الفرق في البيوع فان قال مائة درهم عددا مما يدخل في المائة خمسة كان جائزا لانه قد سمى الوزن بما ذكر معناه فيما يزن خمسة وتسعين درهما فكأنه قال مائة الا خمسة. ولو استأجر رجلا يكتب له مصحفا أو فقها معلوما كان جائزا لان الكتابة عمل معلوم وهو يتحقق من المسلم والكافر ثم الاستئجار عليه متعارف وقيل الاستئجار على الكتابة كالاستئجار على الصياغة لان بعمله يحدث لون الحبر في البياض أو كالاستئجار على النقش وذلك جائز إذا كان معلوما عند أهل الصنعة (قال) الشيخ الامام رحمه الله الاصح عندي أن المقصود هنا يحصل بعمل الاجير وهي الكتابة بخلاف التعليم فالمقصود هناك لا يجعل الا بمعنى في المتعلم وايجاد ذلك ليس في وسع المعلم بينهما ولو استأجر رجلا يعمل عملا فلا أجر له في ذلك بخلاف مالو استأجر نصيبه من دار بينهما وقد بينا هذا ولو استأجر الوصي نفسه أو عبده يعمل لليتيم لم يجز أما عند محمد رحمه الله فلان الوصي لا ينفر بالعقد لليتيم مع نفسه بحال كما في البيع وعند أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله لا يجوز ذلك الا بمنفعة ظاهرة ولا منفعة هنا لان من جهة الوصي مما ليس بمتقوم لنفسه ويشترط على اليتيم بمقابلته مالا متقوما فهذا لا يجوز ولم يذكر أنه لو استأجر اليتيم أو عبد اليتيم بمال نفسه ليعمل له هل يجوز أم لاقالوا وينبغى أن يجوز ذلك عند أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله لما فيه من المنفعة الظاهرة لليتيم فانه يدخل في ملكه مالا بازاء ما ليس بمال والاب يستأجر نفسه أو عبده لعمل يعمله لولده فيجوز ذلك ويستوجب الاجر لان شفقة الابوة تمنعه من ترك النظر له فيجوز عقده مع نفسه من غير اشتراط منفعة ظاهرة لولده فيه ولو استأجر الوصي من نفسه عبدا لليتيم ليعمل ليتيم آخر في حجرة وهو وصيهما فهذا لا يجوز لانه ان نفع أحدهما أضر بالآخر وهو لا ينفرد بالتصرف الا بمنفعة ظاهرة ولايجوز للصبي أن يؤاجر نفسه لانه عقد معاوضة كالبيع فلا يملكه المحجوز عليه وانما ذلك إلى وليه وله الاجر ان عمل استحسانا وفي القياس لاأجر له لان العقد باطل ووجوب الاجر باعتباره فإذا بطل لم يجب الاجر وفي الاستحسان يجب الاجر لان هذا العقد منه تمحض منفعة بعد اقامة العمل فانا لو اعتبرنا العقد استوجب الاجر ولو لم يعتبره لم يجب له الاجر والصبي لا يكون محجورا عما يتمحض منفعة له

[ 43 ] كقبول الهبة والصدقة وكذلك العبد المحجور عليه لا يؤاجر نفسه فان فعل وسلم من العمل وجب له الاجر استحسانا لما قلنا فان مات من العمل تقرر الضمان على المستأجر لانه غاصب له ثم الاجر له لانه ملكه بالضمان من حين وجب عليه الضمان بخلاف الصبي الحر فانه وان هلك في العمل فله الاجر بقدر ما أقام من العمل لان الحر لا يملك بالضمان وإذا أخذ العبد الاجر فهو لمولاه لانه كسب عبده فان أخذه الغاصب من يده فاستهلكه لا ضمان عليه عند أبى حنيفة رحمه الله لان اتلاف بدل منفعة كاتلاف منافعه وقد بينا هذا في الغصب. وإذا استأجر نهرا يابسا ليجرى فيه الماء بارضه أو إلى رحا ماء فهذا فاسد لان موضع النهر لا يصلح للسكنى واجراء الماء فيه ليس في وسعه ومقدار ما يجرى من الماء مجهول والضرر يختلف بقلته وكثرته وكذلك لو استأجر بالوعة ليصب فيها وضوءه وبوله أو مسيل ماء ليسيل فيه ماء ميزابه فهذا مجهول والضرر يختلف بقلته وكثرته وكذلك لو استأجر بئرا ليسقى منها غنمه وان أراد الحيلة في ذلك فالوجه أن يؤاجره من حريم النهر والبئر موضعا معلوما ليكون عطنا لمواشيه ويبيح له سقى المواشى من البئر وكذلك اجارة المرعى لا تجوز والحيلة فيه أن يؤاجره موضعا معلوما ليضرب فيه خيمة فيسكن ويبيح له الانتفاع بالمرعى ولو أجره بكرة وحبلا ودلوا يسقى بها غنمه فهو فاسد للجهالة الا أن يسمى وقتا فيجوز لان العقد يرد على منفعة العين في المدة فان استأجر من رجل موضع جزع يضعه على حائطه لم يجز عندنا وجاز عند الشافعي رحمه الله لانه موضع استأجره لمنفعة معلومة ولو استعاره ذلك جاز فكذلك إذا استأجره ولكنا أفسدناه للجهالة لان الضرر يتفاوت بثقل الجذع وخفته وكثرة ما يبنى وقلته وكذلك لو استأجر حائطا ليبنى عليه سترة فهو فاسد في قول أبى حنيفة رحمه الله للجهالة وقد يفضى إلى المنازعة وان استأجر طريقا في دار ليمر فيه كل شهر باجر مسمى فهو فاسد وفي قول أبى حنيفة رحمه الله لجهالة الموضع الذي يتطرق فيه وللشيوع فان عنده استئجار جزء من الدار شائعا لا يجوز فكذلك الطريق وعندهما استئجار جزء شائع صحيح فكذلك الطريق وهو معلوم بالعرف على وجه لا يكون فيه منازعة ولو استأجر علو منزل ليبنى عليه لم يجز في قول أبى حنيفة رحمه الله وجاز في قولهما لان مقدار بناء العلو معلوم بالعرف وسطح السفل حق صاحب السفل كالارض ولو استأجر أرضا ليبنى عليه بيتا جاز فكذلك إذا استأجر سطح السفل ليبنى عليه وأبو حنيفة رحمه الله يقول هذا استئجار الهواء والهواء ليس بمملوك لاحد

[ 44 ] ثم مقدار ما يبنى مجهول والضرر على حيطان السفل يتفاوت بقلة ذلك وكثرته وربما تفضى هذه الجهالة إلى المنازعة بخلاف الارض فالضرر على الارض لا يختلف بخفة البناء وثقله ولو استأجر موضع كوة ينقبها في حائط له يدخل عليه منها الضوء لم يجز لان هذا ليس من اجاراة الناس ولان المقصود الانتفاع بما ليس من ملك المؤاجر وهو ضوء الشمس فكذلك لو استأجر موضعا ليتدفي حائط يعلق عليه شيئا فانه لا يجوز من قبل انه ليس معه أرض وبهذا اللفظ يستدل من لا يجوز من أصحابنا رحمهم الله استئجار البناء بدون الارض ففى تأمله تنصيص على هذا ثم الضرر على الحائط يختلف بخفة ما يعلقه على الوتد أو بثقله فهو مجهول على وجه لا يمكن اعلامه وكذلك لو استأجر موضع ميزاب في حائط لان الضرر على الحائط يتفاوت بقلة الماء الذي يسيل في الميزاب وكثرته فاما إذا استأجر ميزابا مدة معلومة لينصبه في حائط يسيل فيه ماؤه فهذا جائز لانه عين منتفع به استأجره لمنفعة معلومة وإذا استأجر رجلا ليعمل له عمل اليوم إلى الليل بدرهم خياطة أو صباغة أو خبزا أو غير ذلك فالاجارة فاسدة عند أبى حنيفة رحمه الله وفي قولهما يجوز استحسانا ويكون العقد على العمل دون اليوم حتى إذا فرغ منه نصف النهار فله الاجر كاملا وان لم يفرغ في اليوم فله أن يعمله في الغد لان المقصود العمل وهو معلوم مسمى وذكر الوقت للاستعجال لا لتعليق العقد به فكأنه استأجره للعمل على أن يفرغ منه في أسرع أوقات الامكان وهذا لان المستأجر انما يلتزم البدل بمقابلة ما هو مقصود له وذلك العمل دون المدة وأبو حنيفة رحمه الله يقول جمع في العقدتين تسمية العمل والمدة وحكمهما مخلف فموجب تسمية المدة استحقاق منافعه في جميع المدة بالعقد وموجب تسمية العمل أن يكون المعقود عليه الوصف الذي يحدثه في المعمول لا منافعه ويتعذر الجمع بينهما اعتبارا وليس أحدهما بالاعتبار باولى من الآخر فيفسد العقد بجهالة المعقود عليه وقد تفضى هذه الجهالة إلى المنازعة فانه إذا فرغ من العمل قبل مضى اليوم فللمستأجر أن يقول منافعك في بقية اليوم حقى باعتبار تسمية الوقت وأنا استعملك وإذا لم يفرغ من العمل في اليوم فللاجير أن يقول عند مضي اليوم قد انتهى العقد بانتهاء المدة وان كان العمل مقصود المستأجر فالمدة مقصود الاجير فليس البناء على مقصود أحدهما باولى من البناء على مقصود الاخر ولان الاجير يلتزم مالا قدر عليه هو اقامة جميع العمل المسمى في الوقت المسمى وروى محمد عن أبى حنيفة رحمهما الله أنه لو استأجره ليخيط له هذا القميص لا يجوز ولو قال في اليوم يجوز لان بحرف في

[ 45 ] يظهر أن مراده من ذكر المدة الاستعجال لاتسمية المقدار المعقود عليه من المنفعة وحرف في للظرف والمظروف وقد يشغل جزءا من الظرف لاجميعه وعلى هذا الخلاف لو استأجر دابة من الكوفة إلى بغداد ثلاثة أيام بأجر مسمى فذكر المدة والمسافة والعمل وكذلك لو استأجره ينقل له طعاما معلوما من موضع من اليوم إلى الليل فهو على الخلاف الذي بينا وان استأجر عبدا شهرا بأجر مسمى على انه ان مرض فعليه أن يعمل بقدر الايام التى مرض فيها من الشهر الداخل فهذا فاسد لجهالة مدة الاجارة فلا يدري في أي مقدار من الشهر يمرض ليدخل في العقد بقدر ذلك من الشهر الداخل ثم هذا الشهر يخالف مقتضي العقد لان مقتضى العقد انتهاؤه بمضي المدة تمكن من استيفاء المعقود عليه أو لم يتمكن وهذا الشرط يخالف ذلك وان استأجر بيتا شهرا بعشرة دراهم على انه ان سكنه يوما ثم خرج عليه عشرة دراهم فهذا فاسد لان هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد لان مقتضى العقد انه متى خرج بعذر لا يلزمه الاجر ثم مقدار أجر منفعة البيت في اليوم الاول مجهول أنه ثلاثة دراهم أو عشرة دراهم وكذلك ان استأجر دابة بعشرة دراهم إلى بغداد على أنه ان بلغ قرية كذا ثم بدا له أن يرجع فله الاجر كاملا فهذا فاسد لجهالة مقدار الاجر إلى الموضع الذي سمى ولان الشرط يخالف مقتضى العقد وان استأجر دابة ليحمل عليها حمل كذا بأجر معلوم إلى موضع كذا على انه ان حمل عليها كذا من الحمل فحمل غير ذلك إلى ذلك المكان ولم يحمل الاول فاجرها كذا فهو فاسد في قول أبى حنيفة رحمه الله الاول وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله وهو جائز في قوله الاخر على ما شرطا وكذلك لو استأجر أرضا ليزرعها حنطة بخمسين درهما وان زرعها سمسما فاجرها مائة درهم فهو على هذا الخلاف. وكذلك ان استأجر بيتا على انه ان أسكنه بزازا فاجره خمسة وان أسكنه قصارا فاجره عشرة وجه قوله الاول أن المعقود عليه مجهول والبدل بمقابلته مجهول فالضرر يختلف بسكن القصار والبزاز وهما عقدان في عقد ونهى رسول الله عن بيعين في بيع أرأيت لو سلم إليه البيت فلم يسكنه أصلا حتى مضت المدة فماذا يوجب عليه خمسة أو عشرة ووجه قوله الآخران كل نوع من المنفعة معلوم بالتسمية والبدل بمقابلته معلوم فيصح العقد وهذا لان الاجر لا يجب بنفس العقد وانما يجب باستيفاء المنفعة وعند ذلك لاجهالة في المعقود عليه ولافي البدل فاما إذا لم يسكنها فقال بعض مشايخنا رحمهم الله ينبغى على قياس قوله الاخر أن يلزمه نصف

[ 46 ] كل واحد من التسميتين لان وجوب الاجر التمكن من الاستيفاء هنا وقد تمكن من استيفاء المنفعتين جميعا وليس أحد البدلين بالايجاب عليه باولى من الآخر فيلزمه نصف كل واحد منهما والاصح أنه لا يلزمه الا خمسة لان أصل البدل بمقابلة منفعة البيت خمسة ثم التزم زيادة البدل بزيادة الضرر إذا سكنه قصارا لان ذلك يوهن البناء فإذا لم يسكنها أحدا فقد انعدم ذلك الضرر (ألا ترى) أنه لو أسكن بزازا لا يلزمه الا خمسة وقد كان متمكنا من أن يسكنه قصارا فإذا لم يسكنه أصلا أولى أن لا يلزمه الا خمسة فرجل استأجر دارا سنة بمائة درهم على أن لا يسكنها ولا ينزل فيها فالايجارة فاسدة لانه نفى موجب العقد بالشرط وذلك يضاد العقد وان لم يسكنها فلا أجر عليه وفي هذا اللفظ تنصيص على أن الاجارة الفاسدة بالتمكن من الاستيفاء لا يوجب الاجر ما لم يوجب الاستيفاء حقيقة كما في النكاح الفاسد وانما يتكلفون من الفرق بينهما غير معتمد وان سكنها فعليه بأجر مثلها لا ينقص مما سمى لانه انما رضى بالمسمى بشرط أن لا يسكن فعند السكنى لا يكون راضيا به فيلزمه أجر مثلها بالغا ما بلغت وان جعلت أجر الدار أن يؤذن لهم سنة أو يوما فالاجارة فاسدة وعليه أجر مثل الدار ان سكنها لانه استوفي منافعها بعقد فاسد فانما سمى إذا كان لا يصلح بدلا فهو في الحكم كما لو أجرها ولم يسم الاجر ولا أجر له في الاذان والامامة لان الاجارة لا تنعقد على هذا العمل لا صحيحا ولا فاسدا ولانه عامل لنفسه فلا يكون مسلما عمله إلى غيره. وان تكارى برذونا ليتعرض عليه فان جاز فعليه عشرة دراهم وان لم يجز فعليه خمسة فالاجارة فاسدة ومعنى المسألة أن المستأجر من أصحاب الديوان اسمه في ديوان الفرسان وقد يفق فرسه فطلب السلطان العرض فاستأجر الفرس على أنه ان لم يوقف على ضيعة فالاجر عشرة وان وقف على ذلك فالاجر خمسة فهذا فاسد لجهالة الاجر فلا يدرى الجواز ولايجوز وعليه أجر مثلها فيما استوفى من المنفعة ولاضمان عليه أن يفق في ركوبه أو أخذه السلطان لان المقبوض بحكم اجارة فاسدة في حكم الضمان كالمقبوض بحكم اجارة صحيحة وان تكارى بغلا على أنه كلما ركب الامير ركب معه فالاجارة فاسدة لجهالة المعقود عليه وعليه من كل ركبة أجر مثله لان أجر المثل بعقد فاسد بقدر المستوفى من المفنعة وان تكاري دابة إلى بغداد على أنه ان رزقه الله تعالى من بغداد شيئا أو من فلان شيئا أعطاه نصف ذلك فهذا فاسد لجهالة الاجر والغرر المتمكن بسبب الشرط في أصل الاجر وعليه أجر مثلها فيما يركب وان تكاراها إلى بغداد على أنها ان بلغته

[ 47 ] إلى بغداد فله أجر عشرة دراهم والا فلا شئ له فالاجارة فاسدة وعليه أجر مثلها بقدر ما سار عليها لمعنى المخاطرة والضمان وقد تقدم نظيره في مسألة الخياطة والله أعلم بالصواب (باب اجارة حفر الآبار والقبور) (قال رحمه الله وإذا استأجر حفارا ليحفر له بئرا في داره ولم يسم له موضعا ولم يصفها فهو فاسد) لجهالة المعقود عليه فعمل الحفر يختلف باختلاف الموضع في الصلابة والرخاوة والسهولة والصعوبة ويختلف باختلافه البئر في العرض والعمق ولو سمى عشرة أذرع في الارض ومما يدير هكذا ذراعا بأجر مسمى جاز لان العمل صار معلوما بتسمية الذرعان عند أهل الصنعة والموضع معلوم بتسمية داره فان حفر ثلاثة أذرع ثم وجد جبلا أشد عملا وأشد مؤنة فأراد ترك ذلك فليس له ترك ذلك ويجبر على الحفر إذا كان يطاق لانه ان التزم العمل مع عمله على أن أطباق الارض تختلف فليس في ابقاء العقد عليه ضرر فوق ما التزم بالعقد فلا يكون ذلك عذرا له في الفسخ وفي الكتاب (قال) إذا كان يطاق وما من موضع الا ويطاق فيه حفرا ولكن مراده من هذا اللفظ إذا كان يطاق حفرا بآلة الحفارين ولايحتاج الاجير إلى اتخاذ آلة أخرى لذلك لانه انما التزم اقامة العمل بآلة الحفارين فإذا كان يحتاج إلى اتخاذ آلة أخرى لذلك فهذا ضرر لم يلتزمه بالعقد فيكون عذرا له في الفسخ وان شرط عليه أن كل ذراع في سهل أو طين بدرهم وكل ذراع في جبل أو ماء بدرهيمن وسمى طول البئر خمسة عشر ذراعا فهو جائز لانه ذكر نوعين من العمل وسمى بمقابلة كل واحد منهما بدلا معلوما ولا يبقى بعد ذلك للتسمية جهالة تفضى إلى المنازعة لان وجوب الاجر عند الحفر وعند ذلك ما يلزمه من الاجر معلوم القدر. ولو استأجره ليحفر له بئرا عشرة أذرع في جبل مروة فحفر ذراعا ثم استقبل جبلا صما صفا فان كان يطاق حفره فهو عليه والمروة اللين من الحجر الذي يضرب إلى الخضرة والصفاة ما يضرب إلى الحمرة وقد بينا أنه التزم الحفر بآلة الحفارين فإذا كان بحيث يطاق الحفرة بتلك الالة فلا عذر له في الترك وان كان لا يطاق فله أن لا يترك الاجارة وله من الاجر بحساب ما حفر وكذلك النهر والقناة والسرداب والبالوعة إذا ظهر الماء فيه قبل أن يبلغ ما شرط عليه فان كان لا يستطاع الحفر معه فهذا عذر لان في ايفاء العقد يلحقه الضرر لم يلتزمه بالعقد. ولو استأجره ليحفر له بئر في داره فحفرها ثم انهارت قبل أن يفرغ منها فله من

[ 48 ] الاجر بحساب ما حفر لانه يقيم العمل في ملك المستأجر فيصير عمله مسلما إليه بقدر ما يفرغ منه ويتقرر حقه في الاجر فلا يسقط حقه بالتلف بعد مايخرج من ضمانه ولو كانت بئر ماء فشرط عليه مع حفرها طيها بالآجر والجص ففعل وفرغ منها ثم انهارت فله الاجر كاملا وان انهارت قبل أن يطويها بالاجر فله الاجر بحساب ذلك لان بنفس العمل يجب له الاجر ويصير العمل مسلما إلى صاحبه فيطالبه بالاجر بحساب ما أقام من العمل ولو استأجره ليحفرها في الجبانة في غير ملكه ولافي فنائه فحفرها فانهارت فلا أجر له حتى يسلمها إلى صاحبها بمنزلة العامل من الخياط والقصار في بيت نفسه وهذا لان عمله ما اتصل بملك المستأجر ليصير المستأجر بذلك قابضا ولابد لدخول العمل في ضمانه من أن يثبت يده عليه وذلك لا يكون إلا بالتسليم إليه وفي هذا اللفظ دليل على ان الفناء حق المرء ولكنه غير مملوك له (ألا ترى) انه قال في غير ملكه ولا في فنائه والفناء في يده لكونه أحق بالانتفاع به فإذا كان الحرف فيه يصير العمل مسلما إليه بمنزلة الحفر في ملكه. وكذلك لو استأجره ليحفر له قبرا ثم دفن فيه انسان قبل أن يأتي المستأجر بجنازته لم يكن على المستأجر أجر لانه حفر القبر في غير ملك المستأجر فما لم يسلم إليه لا يتقرر حقه في الاجر وان جاء المستأجر فحال الاجير بينه وبين القبر فانهار بعد ذلك أو دفنوا فيه انسانا آخر فله الاجر كاملا لانه قد سلم المعقود عليه إلى صاحبه وان دفن فيه المستأجر ميتة ثم قال للاجير أحث التراب عليه فابى الاجير في القياس لا يلزمه ذلك لانه التزم عمل الحفر وحثى التراب كنس وليس بحفر وهو ضد ما التزمه بعقد الاجارة ولكني انظر إلى ما يضع أهل ملك البلاد فان كان الاجير هو الذي يحثى التراب خيرته في ذلك وذلك يعمل بالكوفة وان كان الاجير لم يفعل ذلك في تلك البلدة لم أجبره عليه وهذا لان بمطلق العقد يستحق ما هو المتعارف والمعروف في كل موضع يجعل كالمشروط. وان أراد أهل المبيت أن يكون الاجير هو الذي يضع الميت في لحده وهو ينصب اللبن عليه لم يجبر الاجير على ذلك لان هذا غير متعارف بل العرف ان أقرباء الميت وأصدقاءهم الذين يضعونه في لحده وترك ذلك إلى الاجير يعد من الاستخفاف به فان وصف له موضع يحفر فيه فوافق فيه جبلا هو أشد من وجه الارض فحفره لم يزد على أجره لانه قد التزم عمل الحفر مع عمله باختلاف أطباق الارض في الصلابة والرخاوة وان استأجره بالكوفة يحفر قبرا ولم يسم له في أي المقابر يحفر فالعقد فاسد في القياس للجهالة التى تفضى إلى المنازعة ولكن أستحسن إذا حفر في الناحية

[ 49 ] التى يدفن فيها أهل ذلك الموضع أجعل له الاجر وهذا بنماء على عادة أهل الكوفة فان لكل درب فيهم مقبرة على حدة لاهلها فأما في ديارنا فلو انتقل من محلة إلى محلة فلابد من تسمية المقبرة بناء على عرف ديارنا وان سمى له موضعا معلوما فحفر في موضع آخر فلا أجر له الا أن يدفنوا في حفرته فان فعلوا ذلك فله الاجر حينئذ وكذلك ان أمروه بحفر القبر ولم يسموا موضعا فحفر في غير مقبرة أهل تلك البلدة أو تلك الناحية فلا أجر له الا أن يدفنوا في حفرته فحينئذ يستوجب الاجر لوجود الرضاء منهم بعمله حين دفنوا المية فيه وان أرادوا منه تطيين القبر أو تجصيصه فليس ذلك عليه لانه التزم عمل الحفر والتجصيص ليس من ذلك في شئ وفي العادة الذي يطين القبر غير الذي يحفره وان استأجروه ليحفر لهم القبر ولم يسموا له طوله ولا عرضه ولاعمقه في الارض فهو فاسد في القياس لان القبور تختلف في الطول والعرف والعمق والعمل بحسبه يتفاوت ولكني أستحسن فاجبره فاقدره بوسط ما يعمل الناس لان ذلك معلوم بالعرف فهو كالشروط بالنص وبمطلق العقد يستحق الوسط في المعاوضات فانه فوق الوكس ودون الشطط وخير الامور أوسطها وان وصفوا له موضعا فوجد وجه الارض لينا فلما حفر ذراعا وجد جبلا أجبره على أن يحفر ان كان مما يحفر الناس لانه التزمه بمطلق العقد وان لم يسموا له لحدا ولاشقا فهو على عادة أهل تلك الناحية فان كان بالكوفة فعظم عملهم على اللحد وان كان في بلد عظم عملهم على الشق فهو على الشق لان بمطلق العقد يستحق المتعارف والمتعارف ما عليه عظم العمل ولو استأجره ليكرى له نهرا أو قناة فأراد مفتحها ومصبها وعرضها وسمى له كم يمكن في الارض فهو جائز وان اشترط طيها بالاجر والجص من عند الاجير فهو فاسد لانه مشترى للاجر والجص فهذا بيع شرط في الاجارة وذلك مفسد للعقد وان شرط الاجر والجص من عند المستأجر ولم يسم عدد الاجر فهو في القياس فاسد لجهالة ما شرط عليه من العمل وذلك يتفاوت بتفاوت الآجر وفي الاستحسان هو جائز على ما يعمل الناس لان عدد ما يحتاج الناس إليه لذلك العمل من الآجر معلوم عند أهل الصنعة فيكون كالمشروط وان سمى عدد الآجر وكيل الجص وعرض الطى وطوله في السماء فهو أوثق لانه عن المنازعة أبعد وان استأجر قوما يحفرون له سردابا لم يجز حتى يسمى طوله وعرضه وقعره في الارض فالمعقود عليه لا يصير معلوما الا بذلك وبعد الاعلام إذا عمل بعضهم أكثر من غيره فالاجر بينهم على عدد الرؤوس لان

[ 50 ] استحقاق الاجر يقبل العمل وقد استووا في ذلك ولانه اشتركوا مع عملهم أنه لابد من تفاوت في عملهم فكان ذلك رضاء منهم بترك اعتبار ذلك التفاوت وان لم يعمل واحد منهم لمرض أو عذر فان كان بينهم شركة في الاصل فله الاجر معهم بعقد الشركة بينهم وان لم يكن بينهم شركة فلا أجر له لان استحقاق الاجر بالعمل لا يستحقه من لم يعمل سواء ترك العمل بعذر أو بغير عذر ويرفع عنهم من الاجر بحساب حصته ويكون عملهم في حصته تطوعا لان كل واحد منهم يستحق الاجر عند العمل بالتسمية فانما يستحق بقدر ما سمى له وان زاد عمله على ما التزم بالعقد فهو متطوع في تلك الزيادة. رجل تكارى رجلا يحفر له بئرا عشرة أذرع طولا في عرض معلوم بعشرة دراهم وزعم الحفار أنه شرط أن يحفرها خمسة أذرع طولا ولم يعمل شيئا بعد فانهما يتحالفان لاختلافهما في مقدرا المعقود عليه في حال قيام العقد واحتماله للفسخ وان كان قد حفر خمسة أذرع فالقول قول المستأجر مع يمينه ويعطيه من الاجر بحساب ما قال لان الاجير يدعى عليه الزيادة وهو منكر ويحلف الاجير على دعوى المستأجر لانه يدعى عليه حفر خمسة أذرع أخري مما التزمه بالعقد وهو منكر فيحلف على ذلك ويتشاركان فيما بقى ولو قال احفر لى في هذا المكان فحفر فانتهى إلى جبل لا يطاق أي لا يطاق بآلة الحفارين فالاجير بالخيار لما يلحقه من الضرر فوق ما التزمه بالعقد والله أعلم بالصواب (باب اجارة البناء) (قال رحمه الله وإذا استأجر الرجل رجلا يبنى له حائطا بالجص والاجر وأعلمه طوله وعرضه وعمقه وارتفاعه في السماء فهو جائز) لانه عمل معلوم يستأجر عليه عرفا ويقدر الاجر على ايفائه وان سمى كذا كذا ألف آجرة من هذا الاجر وكذا كذا من الجص ولم يسم الطول والعرض فهو في القياس فاسد لجهالة المعقود عليه لان المعقود عليه العمل دون الاجر والجص والعمل يختلف باختلاف صفة الحائط في الطول والعرض وفي أسفل الحائط يكون العمل أسهل وكل ما يرتفع من وجه الارض كان العمل أشق ولكنه استحسن (فقال) هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة وبنيان مقدار الاجرة والجص يصير الطول والعرض في الحائط الذي يبنى عليه معلوم عند أهل الصنعة فلو سمى مع ذلك الطول والعرض كان أجود لانه عن الجهالة أبعد وان سمى كذا كذا آجرا ولبنا ولم يسم الملبن ولم يره اياه فهو فاسد في القياس للجهالة ولكنه

[ 51 ] استحسن فقال ان كان ملبن ذلك البلد الاجر واللبن واحد معلوم فالمعلوم بالعرف كالمشروط بالنص وان كان مختلف فحينئذ يفسد العقد إذا لم يبين فهو قياس النقد في ذلك وإذا استأجر بناء ليبنى له دارا الاساس والسراديب والسفل والعلو بالطاقات والاساطين والحيطان على مثل ما يبنى بالكوفة كل ألف آجرة وأربعة اكرار جص بكذا فهو في القياس فاسد لان الاساس والسفل أهون من العلو والطاقات أشد من الحائط المستطيل فكان المعقود عليه مجهولا وربما تفضى هذه الجهالة إلى المنازعة فالبناء عند العقد لايعرف مراد صاحب البناء ولكنه استحسن (فقال) صفة البناء معلوم بطريق الظاهر والانسان انما يبنى داره على عادة أهل بلده وأهل محلته وان كان يتكلف التفاوت فهو يسير لاتجزئ المنازعة باعتبار العادة (قال) واجعل الزنابيل والدلاء وآنية الماء على رب الدار للعرف ولان البناء التزم بالعقد العمل وهذه الاشياء ليس من العمل في شئ فيكون على رب الدار كالاجر والجص ولاطعام على رب الدار في هذه الاجارة لانه بالعقد التزم الاجر والطعام وراء الاجر ولانه غير معتاد في تقبل العمل وانما هو معتاد في استئجار العامل يوما بيوم وان اشترط رب الدار الزنبيل وآنية الماء على المستقبل فهو عليه لانه التزمه وقد استأجره للعمل باداة نفسه وذلك جائز كاستئجار الخياط ليخيط بابرة نفسه وأما الماء فهو على رب الدار بمنزلة الاجر والجص ولكن على المستقبل أن يسقيه ان كانت في الدار بئر أو كانت البئر قريبة من الدار باعتبار العرف ولكن المرء على المستقبل ولافرق بين المرء والزنبيل من حيث المعنى ولكن العرف معتبر فيها والى ذلك أشار بقوله لان عمل الناس بالكوفة على ذلك وان تكارى رجلا يعمل له يوما إلى الليل فهو جائز فيعمل له من حين يصلى الغداة إلى غروب الشمس لانه تكاراه يوما وأول اليوم من طلوع الفجر الثاني الا ان ما قبل الفراغ من الصلاة صار مستثنى ولانه يشتغل بالصلاة قبل أن يأخذ في العمل وآخر اليوم غروب الشمس بدليل امتداد الصوم إليه (قال) والعمال بالكوفة يعملون إلى العصر وليس لهم ذلك إلا أن يشترطوه لان العرف لا يعارض النص وقد نص عند العقد على يوم ولايكون له أن يترك العمل قبل غروب الشمس الا عن شرط ولو اشترط رب الدار على وضع الجذوع والهوادى وكنس السطوح وتطيينها وسمى ذلك فهو جائز لانه معلوم عند أهل الصنعة وان استأجره ليبنى له باللبن فعلى البناء بل الطين ونقله إلى الحائط الا أن يكون مكانا بعيدا فيكون بالخيار إذا علم ذلك لانه يلحقه زيادة ضرر لم يلتزمه بالعقد فان كان أراه المكان فلا خيار له

[ 52 ] لالتزامه ذلك القدر من الضرر وان استأجره ليبنى له حائطا بالرهص وشرط عليه الطول والعرض والارتفاع فهو جائز لان العمل بما سمى يصير معلوما عند أهل الصنعة على وجه لا يتفاوت والله أعلم بالصواب (باب اجارة الرقيق في الخدمة وغيرها) (قال رحمه الله واذ استأجر عبدا للخدمة كل شهر باجر مسمى فهو جائز) لانه عقد متعارف وقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم يباشروا ذلك فهو عمل مباح معلوم في نفسه فيجوز الاستئجار عليه وله أن يستخدمه من السحر الا أن تنام الناس بعد العشاء الاخيرة لان بمطلق التسمية يستحق ما هو المتعارف وابتداء الاستخدام من وقت السحر متعارف فمن يبتكر يحتاج إلى أن يسرج الخادم ويهيأ أمر طهوره ويرفع فراش نومه ويبسط ثوب تعبده وكذلك إلى ما بعد العشاء الاخيرة قد يجلسون ساعة خصوصا في زمن طول الليالى ثم يحتاج إلى خادم يبسط فراش نومه ويطوى ثيابه ويطفئ السراج فلهذا كان له أن يستخدمه إلى هذا الوقت وانما يخدمه كما يفعل الناس فما يكون اعمال الخدمة معلوم عند الناس يطلبون ذلك من المماليك والخدم ولا يكلفونهم فوق ذلك فكذلك في وسط الليل الاستخدام غير متعارف ولايكون له أن يكلفه ذلك ويكره له أن يستأجر امرأة حرة أو أمة يستخدمها ويخلو بها لقوله لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل فان ثالثهما الشيطان ولانه لا يأمن من الفتنة على نفسه أو عليها إذا خلا بها ولكن هذا النهى لمعنى في غير العقد فلا يمنع صحة الاجارة ووجوب الاجر إذا عمل كالنهي عن البيع وقت النداء وإذا استأجر العبد كل شهر بكذا ففي قوله أبى حنيفة رحمه الله الاول يطالبه بالاجر شهرا فشهرا وفي قوله الاخر يوما بيوم وقد بينا نظيره وان دفع عبده إلى رجل يقوم عليه أشهر مسماة في تعليم النسخ على أن يعطيه المولى كل شهر شيئا مسمى فهو جائز لانها استأجره ليتعلم عنده وتعليم الاعمال معلوم عند أهل الصنعة فيصح الاستئجار عليه عند بيان المدة وان كان الاستاذ هو الذي شرط للمولى أن يعطيه ذلك ويقوم على غلامه في تعليم ذلك فهو جائز لانه يستخدم الغلام ويستعمله في حوائجه واستأجره مدة معلومة بما سمى من البدل وتعليم العمل وكل واحد منهما يصلح عوضا عند الانفراد فكذلك عند الجمع بينهما وكذلك تعليم سائر الاعمال وتعليم الخط والهجاء والحساب

[ 53 ] فان شرط عليه أن يحذقه في ذلك فهو غير جائز لان التحذيق ليس في وسع المعلم فالمحاذقة لمعنى في المتعلم دون المعلم وان أراد أن يدفع عبده إلى عامل باجر مسمى سنة فاراد رب العبد أن يستوثق من الاستاذ فانه يؤاجر الشهر الاول بجميع الاجر الا درهما وباقى السنة بنفسه حتى إذا أراد الاستاذ فسخ العقد بعد مضى الشهر لا يتضرر مولى العبد بذلك ويمتنع الاستاذ من ذلك لما لحقه من زيادة الاجر (قال) وان أراد الاستاذ أن يستوثق جعل السنة كلها الا الشهر الاخير بدرهم والشهر الاخير ببقية الاجر وهذا العقد جائز لانهما عقدا عقدين كل واحد منهما في مدة معلومة ببدل معلوم وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يخالف الاجرين فيجعل أحدهما دنانير والاخر دراهم فهذا أقر إلى التوثق وانما قصدا بهذا التحرز عن جهل بعض الحكام كيلا يجعلوا عقدا واحدا لاتصال المدة بعضها ببعض واتحاد جنس الاجر وإذا دفع غلامه إلى عامل يعلمه عملا ولم يشترط واحد منهما على صاحبه أجرا أو دفعه على وجه الاجارة فلما علمه العمل قال الاستاذ لى الاجر وقال رب العبد لى الاجر فانى أنظر إلى ما تصنع أهل تلك البلاد في ذلك العمل فان كان المولي هو الذي يعطى الاجر جعلت عليه أجر مثله للاستاذ وان كان الاستاذ هو الذي يعطى الاجر جعلت على الاستاذ أجر مثله للمولى لان العقد كان مطلقا بينهما فيجب حملة على المتعارف ولان الظاهر شاهد لمن يوافق العرف قوله والبناء على الظاهر واجب حتى يتبين خلافه (قال) رضى الله عنه كان شيخنا الامام رحمه الله يقول العمل الذي يشترط للاستاذ فيه الاجر في ديارنا عمل المغازل فانه يفسد الحسب حتى يتعلم وكذلك الذي ينقب الجواهر وما أشبه ذلك من الاعمال الذي يفسد المتعلم بعض ما هو متقوم حتى يتعلم فإذا كان بهذه الصفة فالاجر للاستاذ ولو لم يكن الاجر مسمى عند العقد فيصار إلى أجر المثل فإذا استأجر الرجل غلاما في عمل مسمى كل شهر بكذا فالعقد لازم على كل شهر واحد لانه أضاف كلمة كل إلى مالا يعرف منتهاه فيتناول أدناه وكل شهر يستعمله فيه بعد ذلك فله الاجر فإذا دخل من الشهر الثاني يوم واحد واستعمله فيه فقد لزمته الاجارة في ذلك لوجود الرضى منهما دلالة وبعد لزوم العقد لا يكون له أن يخرجه الا من عذر وإذا أبق العبد من المستأجر فله أن يفسخ الاجارة لتعذر استيفاء المعقود عليه فان لم يفسخها حتى رجع العبد فالاجارة لازمة له فيما بقى من المدة لزوال العذر وقد بينا أن الاجارة في حكم عقود متفرقة فيما يفسخ العقد في بعض المدة لفوات المقعود عليه فذلك لايمنع لزومه فيما بقى من المدة. وإذا استأجر

[ 54 ] عبدا شهرين شهرا بخمسة وشهرا بستة فهو جائز لان كل واحد من العقدين يتناول مدة معلومة ببدل معلوم ثم الشهر الاول يجب فيه من البدل ما ذكر أولا ان كان ذكر الخمسة أولا ففى الشهر الاول يجب خمسة لانه لو اقتصر على المذكور أولا يتعين له الشهر الاول فلابد من أن يصرف المذكور آخرا إلى الشهر الثاني وان استأجر ثلاثة أشهر شهرين بدرهم وشهرا بخمسة فالشهران الاولان بدرهم لان الكلام المبهم إذا تعقبه تفسير فالحكم لذلك التفسير وانما بدأ بتفسيره بالشهرين الاولين بدرهم وان استأجره للخدمة بالكوفة فليس له أن يسافر به لان خدمة السفر أشق من خدمة الحضر فليس له أن يكلفه فوق ما التزم لان السفر شقة من العذاب فليس له أن يكلفه بمطلق العقد فان (قيل) هو في ملك منافعه ينزل منزلة المولى في منافع عبده وللمولى أن يسافر لعبده فلماذا لا يكون له أن يسافر بأجيره للخدمة (قلنا) انما يسافر المولى في منافعه بعبده لانه يملك رقبته وهو لا يملك رقبة أجيره وانما يملك منافعه بالعقد والمسمى في العقد استخدامه في الكوفة فلا يكون له أن يجاوز ذلك (ألا ترى) انه يزوج عبده لملكه رقبته ولا يدل ذلك أن له أن يزوج أجيره وان سافر به فهو ضامن لمولاه لانه صار غاصبا له بالاخراج والاستخدام لا على الوجه المستحق بالعقد ولا أجر عليه لان الاجر والضمان لا يجتمعان ولان المعقود عليه منافع العبد بالكوفة ولا يتصور وجود ذلك بعد اخراجه من الكوفة وان استأجره بالكوفة ليستخدمه كل شهر بأجر مسمى ولم يشترط الخدمة بالكوفة فهو على الخدمة بالكوفة أيضا وليس له أن يسافو به لان مطلق العقد ينصرف إلى المتعارف ولانه بالعقد يستحق الاستخدام فقط والسفر به وراء الاستخدام وهو يلزم مولاه مؤنة الرد فلا يكون ذلك الا عن شرط فان سافر به بغير اذن مولاه فهو ضامن ولا أجر عليه لما قلنا وليس له أن يضرب العبد فان ضربه بغير اذن صاحبه فعطب فهو ضامن ثم على قول أبى حنيفة رحمه الله ظاهر فقد بيناه في الدابة ان استأجرها انه لو ضربها فعطبت ضمن عنده ففى العبد أولى وهما يفرقان فيقولان العبد مخاطب يؤمر وينهى فيفهم ذلك ولايحتاج إلى ضربه عند الاستخدام عادة فلا يصير ماذونا فيه بمطلق العقد بخلاف الدابة فانها لاتفهم الامر والنهى ولا تتفاوت في السير الا بالضرب فيكون له أن يضربها ضربا متعارفا وان دفع الاجر عند غرة الشهر الاول إلى العبد فان كان المولى هو الذي أجره لم يبرأ من الاجر لان حقوق العقد في الاجارة تتعلق بالعاقد والعبد ليس بعاقد ولا مالك للاجر فالدفع إليه كالدفع

[ 55 ] إلى أجنبي آخر وان كان العبد هو الذي أجر نفسه فهو بريئ من الاجر لانه هو العاقد واليه قبض البدل بحكم العقد وله أن يكلفه كل شئ من خدمة البيت ويأمره أن يغسل ثوبه وان يخيط ويخبز ويعجن إذا كان يحسن ذلك ويعلق على دابته وينزل بمتاعه من ظهر بيت أو يرقى به إليه ويحلب شاته ويستقى له من ماء البئر فهذا كله يعد من الخدمة وما يكون من الخدمة معلوم عند الناس باعتبار العادة وفي اشتراط تسمية كل ذلك عند العقد حرج والحرج مدفوع وليس له أن يقعده خياطا ولافي صناعة من الصناعات وان كان حاذقا في ذلك لانه استأجره للخدمة وهذا العمل من التجارة ليس من الخدمة في شئ وليس على المستأجر إطعامه الا أن يتطوع بذلك أو يكون فيه عرفا ظاهرا فله أن يأمره بخدمة أضيافه لان ذلك من خدمته فالانسان يستأجر الخادم لينوب عنه فيما هو من حوائجه وخدمة أضيافه من جملة حوائجه وله أن يؤاجره من غيره للخدمة لان هذا مما لا يتفاوت الناس فيه عادة كسكنى الدار ونحوه ولان العبد عاقل لا ينقاد إذا كلف فوق طاقته وبعد الطاقة لافرق بين أن يستخدمه المستأجر الاول والثاني. وان تزوج المستأجر امرأة فقال لها اخدميني وعيالي فله ذلك لان خدمة العيال من حوائجه وانما يستأجر الخادم في العادة لذلك وكذلك المرأة ان كانت هي المستأجرة فتزوجت فقالت اخدمني وزوجي فلها ذلك لانه من حوائجها وهو أظهر فخدمة الزوج عليها فانما استأجرته لينوب عنها فيما يحق عليها وان استأجرت امرأة رجلا ليخدمها فهو جائز وأكره أن يخلو بها حرا كان أو عبدا لما فيه من خوف الفتنة وإذا استأجر الرجل أمرأته لتخدمه كل شهر بأجر مسمى لم يجز لان خدمة البيت مستحقة عليها دينا ومطلوب منها بالنكاح عرفا على ماروى أن النبي لما زوج فاطمة من علي رضى الله عنهما جعل أمور داخل البيت عليها وأمور خارج البيت عليه ولان الشرع ألزمه نفقتها لتقوم بخدمة بيته فلا تستحق مع ذلك أجرا آخر وان سمى وان استأجرها لترضع ولدا له من غيرها أو لترعى دوابه أو تعمل عملا سوى خدمة البيت فهو جائز لان هذا العمل غير مستحق عليها ولا مطلوب بالنكاح منها وان استأجرت المرأة زوجها ليخدمها فهو جائز لان خدمتها غير مستحقة على الزوج وقال في كتاب الاثار له أن يمتنع من الخدمة لانه يلحقه مذلة بأن يخدم زوجته وذلك عذر في فسخ الاجارة كالحرة إذا أجرت نفسها للظؤرة ولم تكن معروفة بذلك ولو خدمها كان له الاجر عليها وكذلك لو استأجرته يرعى غنمها أو يقوم على عمل لها فانه في ذلك كاجنبي آخر وان استأجر الرجل ابنه

[ 56 ] ليخدمه في بيته لم يجز ولا أجر عليه لان خدمة الاب مستحق على الابن دينا وهو مطالب به عرفا فلا يأخذ عليه أجرا ويعد من العقوق أن يأخذ الولد الاجر على خدمة أبيه والعقوق حرام وكذلك ان استأجرته الام لان خدمتها أوجب عليه فانها أحوج إلى ذلك وأشفق عليه وان كان أحدهما استأجره ليرعيه غنما أو يعمل غير الخدمة جاز فان ذلك غير مستحق عليه ولاهو مطلوب في العرف وان استأجر الابن أباه أو أمه أو جده أو جدته لخدمته لم يجز لانه منهى عن استخدام هؤلاء لما فيه من الاذلال فلا يجوز أن يصير ذلك مستحقا له قبلهم بعقد الاجارة وكيف يستحق هو ولا يترك هو ليستخدم والده ولا الوالدة تخدمه ولكن ان عمل شيئا من ذلك فله الاجر لان بعد الاستخدام لو لم يوجب عليه الاجر كان معنى الاذلال فيه أكبر ولانا لم نحكم بصحة العقد في الابتداء لكن لا تصير خدمته مستحقة عليه وقد زال هذا المعنى حتى أقام العمل وان كان الابن مكاتبا فاستأجره أبوه لخدمته وأبوه حر غنى عن خدمته أو محتاج إليها فهو جائز لان المملوك لا يلزمه خدمة أحد من أقاربه سوى مولاه فهو في ذلك كأجنبي آخر ولان خدمته لمولاه ولاسبب بين المولى وبين المستأجر والمكاتب بمنزلة العبد مملوك حتى لا تلزمه نفقة أبيه الحر وان كان محتاجا فكذلك لا تلزمه خدمته وان كان الاب عبدا والابن حرا فاستأجره من مولاه ليخدمه بطل ذلك ولم يجز لان الابن ممنوع من اذلال أبيه وان كان عبدا ولهذا يعتق عليه إذا ملكه وفي استخدامه اذلاله ولا يلحقه الذل في أن يخدم ابنه وليس للمرء أن يذل نفسه فان عمل جعلت له الاجر لما قلنا فان كان الاب كافرا والابن مسلما أو الابن كافرا والاب مسلما فاستأجره لخدمته لم يجز لان خدمة الاب مستحقة على الابن دينا مع اختلاف الدين (ألا ترى) أنه يلزمه نفقته فهو كاستئجار ابنه للخدمة إذا كان موافقا له في الدين ويجوز الاستئجار للخدمة بين الاخوة وسائر الاقارب كما يجوز بين الاجانب بخلاف الاستخدام بملك اليمين فان ذلك يثبت بطريق القهر من غير أن يرضى به الخادم والقرابة القريبة تصان عن مثله فاما هذا عقد يعتمد المراضاة والاستخدام عن تراض لا يكون سببا لقطيعة الرحم بينهما فأن استأجر الذمي أو المستأمن مسلما لخدمته حرا أو عبدا فهو جائز ولكن يكره للمسلم خدمة الكافر لما فيه من معنى الذي وليس للمؤمن أن يذل نفسه ولكن هذا النهى لمعنى وراء ما به يتم العقد وان استأجر المسلم ذميا أو مستأمنا لخدمته كان جائزا ولكن لا ينبغى أن يستخدمه في أمور دينه من أمر الطهور ونحوه فربما لايؤدي الامانة

[ 57 ] فيه قال الله تعالى لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا أي لا يقصرون في الافساد من دينكم والله أعلم بالصواب (باب الاستئجار على ضرب اللبن وغيره) (قال رحمه الله وإذا استأجر الرجل رجلا ليضرب له لبنا في داره فان كان الملبن معلوما فهو جائز) لان العمل يتفاوت بحسب الملبن فإذا كان مجهولا فهذه الجهالة تفضى إلى المنازعة وبعدما كان معلوما فلا منازعة بينهما فان أسد لبنه المطر قبل أن يرفعه أو انكسر فلا أجر عليه لانه لا يصير العمل مسلما إلى المستأجر ما لم يصر لبنا فما دام على الارض فهو طين لم يصر لبنا بعد (ألا ترى) أنه لو ترك كذلك فسد وصار وجه الارض فان أقامه فهو برئ منه اللبان في قول أبى حنيفة رحمه الله وله الاجر وان فسد بعد ذلك وعندهما لاحتى يجف فإذا جف وأشرح فحينئذ له الاجر ومذهبهما استحسان اعتبرا فيه العرف واللبان هو الذي يتكلف لذلك في العادة ومثل هذا يصير مستحقا بمطلق العقد كاخراج الخبز من التنور وغرف القدور في القصاع يكون مستحقا على الطباخ عند الاستئجار في الوليمة وأبو حنيفة رحمه الله أخذ بالقياس فقال المستحق عليه يصير الطين لبنا وقد فعل فانه لما أقام من وجه الارض عرفنا أنه صار لبنا وخرج من أن يكون طينا فالطين ينتشر على وجه الارض ولان الاقامة لتسوية أطرافه وذلك من عمل اللبان فاما بعد ذلك الجفاف ليس من عمل اللبان والتشريح كذلك فانه جمع اللبن وليس بعمل ليخدمه في العين فهو كالنقل إلى موضع البناء وذلك لا يستحق على اللبان * توضيحه أن المستأجر قد ينقل اللبن إلى موضع العمل قبل أن يشرحه فلم يكن التشريح من المقاصد لا محالة بخلاف الاقامة فانه لا ينقله إلى موضع العمل قبل الاقامة فصار ذلك مستحقا له على اللبان لما عرف من مقصود المستأجر وهذا كله إذا كان يقيم العمل في ملك المستأجر فاما في غير ملكه ما لم يشرحه ويسلمه إلى المستأجر لا يخرج من ضمانه حتى إذا فسد قبل أن يسلمه إليه لم يكن له الاجر الا على قول زفر رحمه الله وقد بينا نظيره في الخياط والفرق بينما إذا كان يعمل في بيت نفسه أو في بيت المستأجر. ولو تكاري خبازا يخبز له لم يجب له الاجر حتى يخرجه من التنور وهذا على مذهبهما ظاهر وأبو حنيفة رحمه الله يفرق بين هذا وبينما سبق فيقول لابد من اخراج الخبز من التنور فالمستأجر لا يفعل ذلك

[ 58 ] بنفسه عادة ولا يستأجر لاجله غيره بخلاف التشريح بعد اقامة العمل فليس ذلك بمطلوب لا محالة لجواز أن ينقله إلى موضع العمل قبل التشريح * توضيحه أن الخبز لو ترك في التنور يفسد وما يرجع إلى الاصلاح صار مستحقا على الخباز وذلك في الاخراج من التنور ووزانة الاقامة في اللبن فأما اللبن بعد الاقامة لو ترك ولم يفسد فلا يستحق التشريح على اللبان الا بالشرط وان استأجره يضرب له لبنا بملبن معلوم ويطبخ له اجرا على ان الحطب من عند رب اللبن فهو جائز لانه استاجره لعمل معلوم من عند العامل بآلات المستأجر وان أفسد اللبن بعد ما أدخله الاتون وتكسر لم يكن له الاجر لانه لم يفرغ منه بعد فانه ما لم يخرجه من الاتون لم يتم عمله في طبخ الآجر فما لم يفرغ من العمل لا يصير مسلما إلى صاحبه ولو طبخه حتى يصح ثم كف النار عنه فاختلف هو وصاحبه في الاخراج فاخراجه على الاجير بمنزلة اخراج الخبز من التنور لانه لو تركه كذلك فسد وان انكسر قبل أن يخرجه فلا أجر له لان العمل لا يخرجه من ضمانه ما لم يفرغ منه وان أخرجه من الاتون والارض في ملك رب اللبن وجب له الاجر ويبرأ من ضمانه لوقوع الفراغ من العمل وتحصيل مقصود المستأجر بكماله وان كان الاتون في ملك اللبان فلا أجر له حتى يدفعه إلى صاحبه لانه ما اتصل عمله بملك المستأجر فلابد من التسليم إليه حقيقة ليخرج من ضمانه وإذا شق رجل راوية رجل فهو ضامن لما شق منها ولما عطب بما سال منها لم يستوعبها صاحبها لان المائع لا يستمسك الا بوعاء فشق الراوية بمنزلة صب ما فيها (ألا ترى) أن قطع حبل القنديل بمنزلة مباشرة الالقاء والكسر في ايجاب الضمان ولو صب ما فيها كان متلفا ضامنا لها ولما عطب بما سال منها لانه تسبب هو فيه متعديا بمنزلة حفر البئر والقاء الحجر في الطريق وكذلك ان كان شيئا يحمله رجل فشقه آخر فان حمله صاحبه وهو ينظر إليه فهذا رضاء بما صنع استحسانا لانه بعد العلم به لا يترك استئنافه الا راضيا بصنعه والرضاء بدلالة العرف يثبت كسكوت البكر عند العلم بالعقد ومن باع مجهول الحال ثم قال له اذهب مع مولاك وهو ساكت والصغير والكبير في هذا سواء لان وجوب هذا الضمان بمباشرة الاتلاف والصبي فيما يؤاخذ به من الافعال كالبالغ وإذا شق رواية رجل فلم يسل ما فيها ثم مال الجانب الآخر فوقع وانخرق أيضا فهو ضامن لهما جميعا لانه بمنزلة المباشر يصب ما في الرواية حين شقها وصب ما في احدى الراويتين يكون ايقاعا للاخرى بطريق ازالة ما به كان الاستمساك وهو تسبب منه لالقاء الاخرى وهو متعدى

[ 59 ] في هذا السبب فيكون ضامنا إلا أن يكون صاحبه قد مضى وساق بغيره مع ذلك فيكون ذلك منه دليل الرضى بفعله فلا ضمان عليه فيما يحدث بعد ذلك كما لو أمره في الابتداء حين فعل (قال) أرأيت لو شق فيه ثقبا صغيرا فقال صاحبها بئسما صنعت ثم مضى وساقهما فزلق رجل بما سال منه أكان يكون على الاول ضمان ذلك فلا شئ عليه من ذلك لوجود الرضاء من صاحبها حين ساق بعيره ولان فعل الاول قد انتسخ بما أخذ به الثاني من سوق البعير ونحوه وهذه المسألة ليست من مسألة الاجارات ولعل محمدا رحمه الله عند فراغه من هذا الكتاب ذكر هذه المسألة قياسا في هذا الموضع كيلا يفوت وقد جعل مثله في كتاب البحر حين ذكر بابا من الاجارات في آخر التجزى وقد بينا شرح ذلك ثم ذكر في نسخ أبى حفص رحمه الله زيادة مثله هنا (قال) إذا استأجر الرجل رجلا كل شهر بدرهم على أن يطحن له كل يوم قفيزا إلى الليل فهذا باطل الا أن يسمى له قفيزا ولكن يقول على أن يطحن لى يوما إلى الليل فحينئذ يجوز وأضاف هذا الجواب إلى أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وقد بينا قبل هذا في الكتاب أنه متى جمع بين المدة والعمل فالعقد فاسد عند أبى حنيفة رحمه الله وجائز عندهما وقد جمع هنا بين المدة والعمل ثم أجاب بفساد العقد عندهما فاستدلوا بهذا على رجوعهما إلى قول أبى حنيفة رحمه الله وقيل بل اختلف الجواب على قولهما باختلاف الموضوع فهناك ذكر ما هو المقصود من العمل بكماله فعرفنا أن ذكر المدة للاستعجال لا لتعليق العقد به فيبقى العقد على العمل سواء فرغ من العمل في تلك المدة أو لم يفرغ وهنا لم يذكر جميع مقصوده في العمل وانما استأجره مدة معلومة وشرط عليه في كل يوم من أيامه عملا لا يدرى أيقدر على الوفاء به أو لا يقدر فلابد من اعتبار المدة لتعليق العقد بها والعمل مقصود لابد من اعتباره أيضا وعند اعتبارهما يصير المستحق بالعقد مجهولا على ما قررنا لان باعتبار المدة المستحق هو الوصف الذي يجد به في المعمول وجهالة المستحق بالعقد مفسد للعقد والله أعلم بالصواب (كتاب أدب القاضي) (قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسي رحمه الله امالاء اعلم بان القضاء بالحق من أقوى الفرائض بعد الايمان بالله تعالى وهو من أشرف العبادات لاجله أثبت الله تعالى لادم عليه السلام اسم الخلافة فقال

[ 60 ] جل جلاله انى جاعل في الارض خليفة وأثبت ذلك لداود عليه السلام فقال عزوجل يا داود انا جعلناك خليفة في الارض وبه أمر كل نبي مرسل حتى خاتم الانبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون وقال الله تعالى وان احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) وهذا لان في القضاء بالحق اظهار العدل وبالعدل قامت السموات والارض ورفع الظلم وهو ما يدعو إليه عقل كل عاقل وانصاف المظلوم من الظالم واتصال الحق إلى المستحق وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ولاجله بعث الانبياء والرسل صلوات الله عليهم وبه اشتغل الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم وقد دل على جميع ما قلنا الحديث الذي بدأ به محمد رحمه الله الكتاب ورواه عن أبى بكر الهذلى عن أبى المليح عن أسامة الهذلى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كتب إلى أبى موسى الاشعري رضى الله عنه أما بعد فان القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة وما كتب عمر إلى أبى موسى رضى الله عنهما عند الناس يسمونه كتاب سياسة القضاء وتدبير الحكم وقوله أما بعد أي بعد الثناء على الله تعالى والصلاة على رسوله وهذه الكلمة علامة بها يعرف تحول الكاتب إلى بيان مقصوده من الكتاب وعد من فصل الخطاب قيل في تأويل قوله تعالى وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب الحكمة النبوة وفصل الخطاب أما بعد وقال قتادة الحكمة الفقة وفصل الخطاب البينة على المدعى واليمين على من أنكر وقوله فان القضاء فريضة محكمة أي مقطوع بها ليس فيها احتمال نسخ ولا تخصيص ولا تأويل فتفسير الحكم هذا بيانه في قوله تعالى آيات محكمات هن أم الكتاب ومنه يقال بناء محكم والفرض هو التقدير والقطع قال الله تعالى سورة أنزلناه وفرضناها وقوله سنة متبعة أي طريقة مسلوكة في الدين يجب اتباعها على كل حال فالسنة في اللغة الطريقة وما يكون متبعا منها فأخذها هدى وتركها ضلالة (قال) فأفهم إذا أدلى اليك الخصمان والادلاء رفع الخصومة إلى الحاكم والفهم اصابة الحق فمعناه عليك ببذل المجهول في اصابة الحق إذا أدلي اليك وقيل معناه اسمع كلام كل واحد من الخصمين وافهم مراده وبهذا يؤمر كل قاضي لانه لا يتمكن من تمييز الحق من المطبل الا بذلك وربما يجرى على لسان أحد الخصمين ما يكون فيه اقرار بالحق لخصمه فإذا فهم القاضى ذلك أنفذه وإذا لم يفهم ضاع واليه أشار في قوله فانه لا ينفع تكلم بحق ولانفاذ له وقيل المراد استمع إلى كلام الشهود وأفهم مرادهم فانهم يتكلمون بالحق بين يديك وانما يظهر منفعة ذلك لتنفيذ القاضى

[ 61 ] إياه ثم أس بين الناس معناه سوبين الخصمين فالتأسي في اللغة التسوية قال قائلهم - فلولا كثرة الباكين حولي * على اخوانهم لقتلت نفسي - وما يبكون مثل أخى ولكن * أعز النفس عنهم بالتأسي وفيه دليل أن على القاضي أن يسوى بين الخصوم إذا تقدموا إليه اتفقت مللهم أو اختلفت فاسم الناس يتناول الكل وانما يسوى بينهم فيما أشار إليه في الحديث فقال في وجهك ومجلسك وعدلك يعنى في النظر إلى الخصمين والاقبال عليهما في جلوسهما بين يديه حتى لا يقدم أحدهما على الآخر وفي عدله بينهما وبالعدل أمر وحكى أن أبا يوسف رحمه الله قال في مناجاته عند موته اللهم ان كنت تعلم انى ما تركت العدل بين الخصمين الا في حادثة واحدة فاغفرها لي قيل وما تلك الحادثة قال ادعى نصراني على أمير المؤمنين دعوى فلم يمكني أن آمر الخليفة بالقيام من مجلسه والمحاباة مع خصمه ولكني رفعت النصراني إلى جانب البساط بقدر ما أمكنني ثم سمعت الخصومة قبل ان أسوى بينهما في المجلس فهذا كان جورى ليعلم أن هذا من أهم ما ينبغى للقاضي أن ينصرف إليه في العناية لما أشار إليه في الحديث فقال لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك والحيف هو الظلم قال الله تعالى أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله فإذا قدم الشريف طمع في ظلمه وانكسر بهذا التقديم قلب خصمه الضعيف فيخاف الجوز وربما يتمكن للشريف عند هذا التقديم من التلبس ويعجز الضعيف عن اثبات حقه بالحجة والقاضي هو المسبب لذلك باقباله على أحدهما وتركه التسوية بينهما في المجلس ويصير به متهما بالميل أيضا وهو مأمور بالتحوز عن ذلك بأقصى ما يمكنه (قال) البينة على المدعى واليمين على من أنكر وهذا اللفظ مروى عن رسول الله وعد من جوامع الكلم على ما قال صلوات الله وسلامه أوتيت جوامع الكلم واختصر لى اختصارا وقد أملينا فوائد هذين الحديثين في شرح كتاب الدعوى (قال) والصلح جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما وهذا أيضا مروي عن رسول الله وفيه دليل جواز الصلح واشارة إلى أن القاضى مأمورا بدعاء الخصمين إلى الصلح قد وصف الله تعالى الصلح بأنه خير فقال عزوجل والصلح خير وذلك دليل النهاية في الخيرية ويستدل الشافعي رحمه الله بظاهر الاستثناء في ابطال الصلح مع الانكار (قال) هو صلح حرم حلالا وأحل حراما لان المدعى إذا كان مبطلا فأخذ المال كان حرام عليه والصلح يحل له ذلك

[ 62 ] وان كان محقا فالصلح يكون على بعض الحق عادة وما زاد على ذلك إلى تمام حقه كان أخذه حلالا قبل الصلح حرم عليه ذلك بالصلح وكان حراما على الخصم منعه قبل الصلح أحل له ذلك بالصلح ولكنا نقول ليس المراد هذا ولكن المراد تحليل محرم العين أو تحريم ما هو جلال العين بان وقع الصلح على خمر أو خنزير أو في الخصومة بين الزوجات صالح احدى المرأتين على أن لايطأ الاخرى أو صالح زوجته على أن يحرم أمته على نفسه فهذا هو الصلح الذي حرم حلالا أو أحل حراما وهذا باطل عندنا (قال) ولا يمنعك قضاء قضية بالامس راجعت فيه نفسك وهديت لرشدك أن تراجع الحق فان الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل وفيه دليل أن إذا تبين للقاضي الخطأ في قضائه بأن خالف قضاؤه النص أو الاجماع فعليه أن ينقضه ولا ينبغى أن يمنعه الاستحياء من الناس من ذلك فان مراقبة الله تعالى في ذلك خير له والى ذلك أشار عمر رضى الله عنه حين ابتلى بالحديث في الصلاة الحديث إلى أن قال كدت ان أمضى في صلاتي استحياء منكم ثم قلت لان أراقب الله تعالى خير من أن أراقبكم فمن ابتلى بشئ من ذلك فليراقب الله تعالى وهذا ليس في القاضى خاصة بل هو في كل من يبين لغيره شيئا من أمور الدين الواعظ والمفتى والقاضي في ذلك سواء إذا تبين له أنه زال فليظهر رجوعه عن ذلك فزلة العالم سبب لفتنة الناس كما قيل إن زل العالم زل بزلته العالم ولكن هذا في حق القاضى أوجب لان القضاء ملزم وقوله الحق قديم يعنى هو الاصل المطلوب ولانه لاتنكتم زلة من زل بل يظهر لا محالة فإذا كان هو الذي يظهر على نفسه كان أحسن حالا عند العقلاء من أن تظهر ذلك عليه مع اصراره على الباطل ثم (قال) الفهم مما يتلجلج في صدرك وقد بينا تفسير هذه اللفظ وفي تكراره مرة بعد مرة بيان انه ينبغى للقاضى أن يصرف العناية إلى ذلك خصوصا إذا تمكن الاستيفاء في قلبه فانه عند ذلك مأمور بالتثبت ممنوع عن المجازفة خصوصا فيما لانص فيه من الحوادث واليه أشار في قوله ما لم يبلغك في القرآن والحديث وفيه بيان أنه لا ينبغى للمرء أن يتقلد القضاء مختارا الا إذا كان مجتهدا وأقرب ما قيل في حق المجتهد أن يكون قد حوى علم الكتاب ووجوه معاينه وعلم السنة بطرقها ومتونها ووجوه معانيها وأن يكون مصيبا في القياس عالما بعرف الناس ومع هذا قد ابتلى بحادثة لا يجد لها في الكتاب والسنة ذكرا فالنصوص معدودة والحوادث ممدودة فعند ذلك لا يجد بدا من التأمل وطريق تأمله ما أشار إليه في الحديث فقال اعرف الامثال والاشتباه

[ 63 ] وقس الامور عند ذلك فهو دليل جمهور الفقهاء رحمهم الله على ان القياس حجة فان الحوادث كلها لا توجد في الكتاب والسنة بخلاف ما يقوله أصحاب الظواهر ثم (قال) وأعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما نرى وهذا هو طريق القياس أن ترد حكم الحادثة إلى أقرب الاشياء معنى ولكن انما يعتبر السنة في المعنى الذي هو صالح لاثبات ذلك الحكم به ثم (قال) أجعل للمدعى أمدا ينتهى إليه فان أحضر بينة آخذ بحقه والا وجهت القضاء عليه فان ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر وفيه دليل على أن القاضي عليه أن يهمل كل واحد من الخصمين بقدر ما يتمكن من اقامة الحجة فيه حتى إذا قال المدعى بينتي حاضرة أمهله ليأتي بهم فربما لم يأت بهم في المجلس الاول بناء على أن الخصم لا ينكر حقه لوضوحه فيحتاج إلى مدة ليأتي بهم وبعد ما أقام البينة إذا ادعى الخصم الدفع أمهله القاضي ليأتي بدفعه فانه مأمور بالتسوية بينهما في عدله وليكن امهاله على وجه لا يضر بخصمه فان الاستعجال اضرار بمدعي الدفع وفي تطويل مدة امهاله اضرار بمن أثبت حقه وخير الامور أوسطها وقوله فان أحضر بينته آخذ بحقه والاوجهت القضاء عليه ان كان مراده دعوى الدفع فهو أوضح لانه إذا عجز عن اثبات ما ادعي من الدفع وجه القاضي إليه القضاء ببينه المدعى وما لم يظهر عجزه عن ذلك لا يوجه القضاء عليه لان الحجه انما تقوم عليه إذا ظهر عجزه عن الدفع بالطعن والمعارضة وان كان مراده جانب المدعي فمعنى قوله وجهت القضاء عليه ألزمته الكف عن أذى الناس والخصومة من غير حجة وقوله فان ذلك أجلى للعمى لازالة الاشتباه وأبلغ في العذر للقاضى عند من توجه القضاء عليه لانه إذا وجه القضاء عليه بعد ما أمهله حتى يظهر عجزه عن الدفع انصرف من مجلسه شاكرا له ساكتا وإذا لم يمهله انصرف شاكيا منه يقول مال إلى خصمى ولم يستمع حجتى ولم يمكني من اثبات الدفع عنده ثم قال والمسلمون عدول بعضهم على بعض وقد نقل هذا اللفظ عن رسول الله وهو دليل لابي حنيفة رحمه الله على جواز القضاء بشهادة المستور قبل السؤال عنه إذا لم يطعن الخصم وصفة العدالة ثابتة لكل مسلم باعتبار اعتقاده فان دينه يمنعه من الاقدام على ما نعتقد الحرمة فيه فيدل على انه صادق في شهادته فالكذب في الشهادة محرم في اعتقاد كل مسلم قال في خطبته عدلت شهادة الزور بالاشراك بالله تعالى ثم قرأ فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور ثم قال الا مجلودا حدا قيل المراد من ظهر عليه ارتكاب كبيرة باقامة حد تلك الكبيرة عليه فالحدود مشروعة في ارتكاب الكبائر وبظهور ذلك عليه

[ 64 ] تنعدم العدالة الثابتة ما لم تظهر توبته وانزجاره عنه وقيل المراد المحدود في القذف وقد ذكره في بعض الروايات الا مجلودا حدا في قذف فهو دليل لنا على أن المحدود في القذف لاتقبل شهادته وان تاب وان العدالة المعتبرة لاداء الشهادة تنعدم باقامة حد القذف عليه كما أشار الله تعالى إليه في قوله ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ثم قال أو محرما عليه شهادة زور فانه إذا عرف منه شهادة الزور فقد ظهر منه الجناية في هذه الامانة ومن ظهرت جنايته في شئ لا يؤتمن على ذلك ولانه ظهر منه ارتكاب الكبيرة على ماروى ان النبي قال أكبر الكبائر الاشراك بالله تعالى وعقوق الوالدين ألا وقول الزور فما زال يقول ذلك حتى قلنا ليته سكت ثم (قال) لو ظننا في ولاء أو قرابة أي منهما بسبب قرابة أو ولاء وهو الموالات فهو دليل على أن شهادة الوالد لولده لا تكون مقبولة وهو دليل لنا على أن شهادة أحد الزوجين لصاحبه لا تقبل فالزوجية من أقوى أسباب الموالاة وهو مما يجعل كل واحد منهما مائلا إلى صاحبه وقد أشار إلى نفس الولاء والقرابة انهما لا يقدحان في العدالة ولكن إذا تمكنت التهمة حينئذ يمتنع العمل بالشهادة حتى قيل في معناه إذا ظهر منه الميل إلى مولاه وقرابته في كل حق وباطل حتى يؤثره على غيره وهو تفسير القالع بأهل البيت كما ذكره في الحديث المرفوع ثم (قال) فان الله تعالى تولى منكم السرائر يعنى أن المحق والمبطل ليس للقاضي طريق إلى معرفته حقيقة فان ذلك غيب ولا يعلم الغيب الا الله تعالى ولكن الطريق للقاضي العمل بما يظهر عنده من الحجة واليه أشار في قوله ودرأ عنكم بالبينات يعنى درأ عنكم اللوم في الدنيا والاثم والعقوبة في الاخرة وهو معنى الحديث المروى عن رسول الله قال القضاء جمرة فادفع الجمر عنك بعودين يعنى شهادة الشاهدين ثم قال اياك والضجر والقلق وهما نوعان من اظهار الغصب فالقلق الحدة والضجر رفع الصوت في الكلام فوق ما يحتاج إليه والقاضى منهى عن ذلك لانه يكسر قلب الخصم به ويمنعه من اقامة حجته ويشتبه على القاضي بسببه طريق الاصابة وربما لا يفهم كلام أحد الخصمين عند ذلك (قال) والبادى بالناس يعنى اظهار البادين بكثرة الخصوم بين يديه واظهار الملال منهم والمراد البادي بما يسمع من بعض الخصوم مما لا حاجة به إليه فقد يطول أحد الخصمين كلامه ولكن لا ينبغى للقاضي أن يظهر البادي بذلك ما لم يجاوز الحد فإذا تكلم بما يرجع إلى الاستخفاف بالقاضي أو يذهب به حشمة مجلس القضاء فحينئذ يمنعه عن ذلك ويؤديه عليه ثم (قال) والتنكر للخصوم وهو أن يقطب وجهه إذا تقدم إليه

[ 65 ] خصمان فان فعل ذلك مع أحدهما فهو جوز منه وان فعله معهما ربما عجز المحق عن اظهار حقه فذهب وترك حقه (ألا ترى) إلى قوله تعالى ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ثم قال في مواطن الحق التى يوجب الله تعالى بها الاجر ويحس بها على الذخر يعنى في مجلس الحكم فالحلم وترك الضجر والقلق واظهار البشر مع الناس محمود في كل موضع وفي مجلس القضاء البشر وطلاقة الوجه أولى بعد أن يكون فعله ذلك لوجه الله تعالى كما قال فانه من يخلص نيته فيما بينه وبين الله تعالى ولو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس والى نحوه أشار في قوله من أخلص سريرته أخلص الله علانيته ثم قال ومن يتزين للناس بما يعلم الله منه خلافه يسبه يعنى إذا راآ بعمله والمرآة مذمومة حرام على كل أحد وهو في حق القاضى آكد لانه غير محتاج إلى ذلك وانما يفعل المرء ذلك عند حاجته ولانه يقلد القضاء ليكون خليفة رسول الله فيما يحكم به بين الناس فينبغي أن يكون أشبه برسول الله وهو كان أبعد الناس عن المرآة والنفاق وقوله يسبه الله أي يفضحه الله تعالى على رؤوس الاشهاد قال النبي من راآ راآ الله به ومن سمع سمع الله به ثم قال فما ظنك بثواب غير الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته معناه أي ان المرائى بعمله يقصد اكتساب محمد أو منال شئ مما في أيدى الناس وما يفوته به إذا ترك الاخلاص من ثواب الله تعالى فالعاقل إذا قابل ما هو موعود له من الله تعالى عند التقوى والاخلاص بما يطمع فيه من جهة الناس ترجح ما عند الله تعالى لا محالة وذلك عاجل الرزق كما قال الله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب والمغفرة والرحمة كما قال الله تعالى ان رحمة الله قريب من المحسنين أي المتقين المخلصين فالحديث من أوله إلى آخره دليل على ان للقاضى أن يستشعر التقوى فيما يفعل فهو ملاك الامر قال ملاك دينكم الورع وقال التقى ملجم وعن عامر قال كتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى معاوية رضى الله عنه أما بعد فانني كتبت كتابا في القضاء ما لم آلك ونفسي فيه خيرا وفيه دليل ان الامام ينبغى له أن يكتب إلى عماله في كل وقت يوصهم وقد كان معاوية رضى الله عنه عامله بالشام فكتب إليه في القضاء بهذا الكتاب وبين أنه لم يقصر بل بالغ في اكتساب الخير لنفسه وله ثم ان عمر رضى الله عنه قال الزم خمس خصال يسلم لك دينك وتأخذ فيه بافضل خطك إذا تقدم اليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة واليمين القاطعة فهو الطريق للقاضى الذي لا يعلم الغيب فمن تمسلك

[ 66 ] به سلم له دينه ونال أفضل الحظ من المحمدة في الدنيا والثواب في الاخرة فمعنى اليمين القاطعة للخصومة والمنازعة ثم قال وأدن الضعيف حتى يشتد قبله وينبسط لسانه ولم يرد بهذا الامر تقديم الضعيف على القوي وانما أراد الامر بالمساواة لان القوي يدنو بنفسه لقوته والضعيف لا يتجاسر على ذلك والقوى يتكلم بحجته وربما يعجز الضعيف عن ذلك فعلى القاضى أن يدني الضعيف ليساويه بخصمه حتى يقوي قلبه وينبسط لسانه فيتكلم بحجته ثم قال وتعاهد الغريب فانك ان لم تعاهده ترك حقه ورجع إلى أهله فربما ضيع حقه من لم يرفع به رأسه قيل هذا أمر بتقديم الغرباء عند الازدحام في مجلس القضاء فان الغريب قلبه مع أهله فينبغي للقاضى أن يقدمه في سماع الخصومة ليرجع إلى أهله وقد كان رسول الله يأمر بتعاهد الغرباء وقيل مراده ان الغريب منكسر القلب فإذا لم يخصه القاضي بالتعاهد عجز عن اظهار حجهته فيترك حقه ويرجع إلى أهله والقاضى هو المسبب لتضييع حقه حين لم يرفع به رأسه ثم قال وعليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن ذلك فصل القضاء وفيه دليل أن القاضي مندوب إليه أن يدعو الخصوم إلى الصلح خصوصا في موضع اشتباه الامر وبه كان يأمر رسول الله فيقول ردوا الخصوم كى يصطلحوا فان فصل القضاء يورث بينهم الضغائن وعن شريح رحمه الله أن عمر رضى الله عنه كتب إليه أن لا يشار ولا يضار ولا يبيع ولا يبتاع في مجلس القضاء ولا ترتشى ولا تقضى بين اثنين وأنت غضبان أما قوله لا يشار منهم من يروى بالشين قالوا المراد المشورة أنه لا ينبغى للقاضى في مجلس القضاء أن يشتغل بالمشورة وليكن ذلك في مجلس آخر فانه إذا اشتغل بالمشورة في مجلس القضاء ربما يشتبه طريق الفصل عليه وربما يظن جاهل أنه لايعرف حتى يسأل غيره فيزدرى به وقد وقع مثل هذا لعمر رضى الله عنه في حادثة بيناها في المناسك والاظهر بالشين لا يشار معناه لا يشار أحد الخصمين لان ذلك يقصر قلب الخصم الاخر ويلحق به تهمة الميل من حيث ان خصمه يظن أنه فيما يشار بصابعه على رشوة ولذلك لا يشار غير الخصمين في مجلس القضاء لان مجلس القضاء يجمع الناس ومشارة الاثنين في مثل هذا المجلس تؤدى إلى فتنة الآخرين قال إذا كان القوم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فان ذلك يحرفه وقوله لا يضار من الضرر أي لا يقصد الاضرار بالخصوم في تأخير الخروج ولا ينغص الخصوم في استعجاله ليعجز عن اقامته حجته وفي رفع الصوت عليه أو في أخذه يسقط من كلامه ان زل فلمجالس القضاء من المهابة والحشمة ما يعجز كل

[ 67 ] أحد عن مراعاة جميع الحدود في الكلام فإذا لم يعرض القاضى عن بعض ما يسمع كان ذلك منه مضارة والقاضى منهى عن ذلك وفيه دليل على أنه لا يشتغل بالبيع والشراء في مجلس القضاء لان بذلك ينقص حشمة مجلس القضاء ولانه مجلس اظهار الحق وبيان أحكام الدين فلا ينبغى أن يخلط به شيئا من عمل الدنيا وقوله لا يرتشى المراد الرشوة في الحكم وهو حرام قال الراشى والمرتشي في النار ولما قيل لابن مسعود رضي الله عنه الرشوة في الحكم سحت قال ذلك الكفر انما السحت ان ترشو من تحتاج إليه امام حاجتك وفي قوله ولا تقضي بين اثنين وأنت غضبان دليل على أن القاضي ينبغى أن لا يشتغل بالقضاء في حال غضبه ولكنه يصبر حتى يسكن ما به فانه مأمور بان يقضى عند اعتدال حاله ولهذا ينهى عن القضاء إذا كان جائعا أو كظيظا من الطعام أو كان يدافع الاخبثين لانه ينعدم به اعتدال الحال فكذلك بالغضب ينعدم اعتدال الحال وربما يجري على لسانه في غضبه مالا ينبغي أن يسمع الناس ذلك منه وربما يتغير لونه على وجه لا ينبغى أن يراه الناس على تلك الصفة أو إذا ظهر به الغضب عجز صاحب الحق عن اظهار حقه بالحجة خوفا منه ولهذا قلنا يقوم أو ينحى الناس عن قربه حتى يسكن ما به وهذا إذا كان يعتريه ذلك في بعض الاوقات فان كان ذلك من عادته وذلك نوع من الحدة التى قال فيها رسول الله انها تعترى خيار أمتى فلا يكف عند ذلك عن القضاء لانه يلتبس به عقله ويشتبه عليه وجه القضاء بخلاف ما يعتريه من الغضب في بعض الاوقات وعن عمر رضى الله عنه أنه دعا قاضيا كان بالشام حديث السن فقال له بم تقضى قال أقضي بما في كتاب الله تعالى قال فإذا لم تجد في كتاب الله تعالى قال أقضى بما قضي رسول الله الحديث وفيه دليل على أنه يجوز أن يقلد القضاء من هو حديث السن إذا كان عالما فقد كان عمر رضى الله عنه أكثر الناس نظرا في ذلك ثم قلده مع حداثة سنه وبعث رسول الله عتاب بن أسيد رضى الله عنه إلى مكة قاضيا وأميرا وكان حديث السن ويحكى أن المأمون قلد يحيى بن أكثر قضاء البصرة وكان ابن ثمان عشرة سنة فطعن بعض الناس في ذلك لحداثة سنه فكتب إليه المأمون كم سن القاضى فكتب في جوابه أنا على سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله وكان عمر رضى الله عنه بلغه مثل هذا الطعن في مثل هذا القاضى لحداثة سنه فامتحنه بالعلم فقال بم تقضى قال أقضى بما في كتاب الله تعالى وأصاب في ذلك لان كتاب الله تعالى امام

[ 68 ] المتقين انزل للعمل به قال فإذا لم تجد في كتاب الله قال أقضى بما قضي به رسول الله وأصاب في ذلك أيضا قلنا في رسول الله أسوة حسنة وقد أمرنا باتباعه والاقتداء به قال فإذا لم تجد ذلك فيما قضى به رسول الله قال أقضى بما قضي به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقد أصاب في ذلك أيضا فقد أمرنا بالاقتداء بهما بعد رسول الله اقتدوا باللذين من بعدى ابى بكر وعمر رضى الله عنهما وقال النبي عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ قال فإذا لم تجد ذلك في قضائهم قال اجتهد رأيى وأصاب في ذلك فالقاضي مأمور بأن يجتهد رأيه فيما لانص فيه وهو دليلنا على جواز العمل بالقياس فيما لانص فيه فاجتهاد الرأى هو القياس يرد حكم الحادثة إلى أشباهها مما هو منصوص وإذا جاز اجتهاد الرأى في باب القبلة عند الاشتباه وانقطاع الادلة وفي المعاملات من الحروب وغير ذلك فكذلك في القضاء فلما أصاب في جميع ما أجاب قال له عمر رضى الله عنه أنت قاضيها أي أنى لا أعز لك عن القضاء مادمت على هذه الطريقة وفيه دليل أن الامام إذا علم من حال من قلده انه صالح لذلك ينبغى أن يقرره على العمل ولا يعزله بطعن بعض المتعنتين ما لم يتبين له شئ مما لا يحمد من السيرة منه وعن أبى مسعود رضى الله عنه قال لقد أتي علينا زمان لسنا نسأل ولسنا هنالك ثم قضى الله تعالى ان بلغنا من الامر ما يرون قيل هذا إشارة منه إلى زمن رسول الله فقد كان الوحى ينزل وكان عليه الصلاة والسلام يبين لهم فكانوا لا يحتاجون فيه إلى ابن مسعود رضى الله عنه وغيره وقيل بل مراده الاشارة إلى زمن أبى بكر وعمر رضى الله عنهما فقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم متوافرين في ذلك الوقت وما كان يحتاج إلى ابن مسعود رضى الله عنه وقيل هذا منه إشارة إلى حال صغره وجهله وانما قصد بهذا التحدث بنعمة الله تعالى حيث رفعه من تلك الدرجة إلى ما بلغه إليه لانه قال هذا حين كان بالكوفة وله أربعة آلاف تلميذ يتعلمون بين يديه حتى روى أنه لما قدم على رضى الله عنه بالكوفة وخرج إليه ابن مسعود رضى الله عنه مع أصحابه حتى سدوا الافق فلما رآهم على رضى الله عنه قال ملات هذه القرية علما وفقها قال فمن ابتلى منكم بقضاء فليقض بما في كتاب الله تعالى وفي هذا إشارة إلى ان التحرز عن تقلد القضاء أولى فقد عده ابن مسعود رضى الله عنه من البلوى نقوله فمن ابتلى منكم وهو اختيار أبى حنيفة رحمه الله فانه تحرز

[ 69 ] عن تقلد القضاء بعد ما حبس وضرب لاجله مرارا حتى قال بعض أصحابه رحمهم الله لو تقلدت نفعت الناس فنظر إليه شبه المغضب وقال لو أمرت أن أقطع البحر سباحة اكنت أقدر على ذلك وكانى بك قاضيا ومن اختار تقلد القضاء قال هذا اللفظ من البلاء الذي هو نعمة قال الله تعالى وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا وانما أراد من أنعم الله تعالى عليه بهذه الدرجة فليقض بما في كتاب الله تعالى وبذلك كان يأمر رسول الله فيقول انى تارك فيكم الثقلين كتاب الله تعال وعترتي أهل بيته الاقربون والابعدون فان تمسكتم بهما لم تضلوا قال فان لم يجد ذلك في كتاب الله تعالى فليقض بما قضى به رسول الله وبذلك كان يأمرهم رسول الله حين قال لابي رواحة رضى الله عنه في حادثة أما كان لك في أسوة فقال أنت تسعى في رقبة قد فكت وأنا أسعى في رقبة لم يعرف فكاكها فقال انى لاأرجو أن أكون أخشاكم لله قال فان لم يجد ذلك فيما قضى به رسول الله فليقض بما قضى الصالحون يعنى أبى بكر وعمر رضى الله عنهما كما جاء في الحديث إذا ذكر الصالحون فحيعلا بعمر قال فان لم يجد فليجتهد رأيه ولا يقولن انى أرى وأنى أخاف وفيه دليل على أن للقاضى أن يجتهد فيما لانص فيه وانه لا ينبغى أن لا يدع الاجتهاد في موضعه لخوف الخطأ فان ترك الاجتهاد في موضعه بمنزلة الاجتهاد في غير موضعه فكما لا ينبغى له أن يشتغل بالاجتهاد مع النص لا ينبغى له أن يدع الاجتهاد فيما لانص فيه ثم بين طريق الحق في ذلك بقوله فان الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى مالا يريبك وهذا اللفظ مروى عن رسول الله رواه الحسن رحمه الله وفيه بيان أن المجتهد إذا لم يترك الاحتياط في موضع الريبة فهو مؤدى لما كلف أصاب المطلوب باجتهاده أو أخطاء وهو ما نقل عن أبى حنيفة رحمه الله كل مجتهد مصيب والحق عند الله واحد أي مصيب في طريق الاجتهاد ابتداء وقد يخطي انتهاء فيما هو المطلوب بالاجتهاد ولكنه معذور في ذلك لما أتى بما في وسعه وذكر عن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال قال لي رسول الله حين بعثنى إلى اليمين بم تقضي يا معاذ قلت بما في كتاب الله تعالى قال عليه الصلاة والسلام فان لم تجد ذلك في كتاب الله تعالى قلت أقضى بما قضى به رسول الله قال فان لم تجد ذلك فيما قضى به رسول الله قلت أجتهد رأيى فقال صلوات الله عليه وسلامه

[ 70 ] الحمد لله الذي وفق رسول رسوله وفيه دليل على أن الامام إذا أراد أن يقلد الانسان القضاء ينبغى له أن يجربه فان رسول الله لما فعل ذلك بمعاذ رضي الله عنه مع انه كان معصوما فغيره بذلك أولى فكان هذا منه على وجه التعليم لامته ثم حمد الله تعالى حين ظهر من التجربة كما تفرس فيه وهكذا ينبغى للامام إذا بلغه عن عامل له ما يرضى به ان يعد ذلك نعمة من نعم الله تعالى عليه فليقابلها بالشكر وفيه دليل جواز اجتهاد الرأى والعمل بالقياس فيما لانص فيه من العلماء رحمهم الله من يقول جواز العمل بالقياس والاجتهاد بعد رسول الله وما كان يجوز ذلك في حياته لان الوحى كان ينزل وهو كان يبين لهم ما كانوا يحتاجون إلى الاستنباط في ذلك الوقت والحكم يثبت بالنص مقطوعا به فلا يصار إليه في غير موضع الضرورة والصحيح عندنا ان كان ذلك جائز لهم في حياته كما بعده وحديث معاذ رضى الله عنه يدل عليه فان لم ينكر عليه رسول الله في قوله بين يديه اجتهد رأئى ولما قال لعمرو بن العاص رضى الله عنه أقض بين هذين قال أقضي وأنت حاضر أو جالس قال نعم قال على ماذا أقضى قال على أنك إن اجتهدت فاصبت فلك أجران وان اخطأت فلك أجر واحد فقد جوز له الاجتهاد بحضرته وقد كان يشاورهم (ألا ترى) أنه شاورهم في أسارى بدر وأشار أبو بكر رضى الله عنه بالفداء وأخذ به رسول الله وشاور السعدين رضى الله عنهما يوم الاحزاب في صلح بنى فزارة على بعض ثمار المدينة وأخذ بما أشارا به ولما أشار إليه أسيد بن خطير في النزول عند الماء يوم بدر أخذ برأيه في ذلك وكان صوابا وينبنى على هذا الفصل الاختلاف بين العلماء رحمهم الله في أنه هل كان يجتهد فيما لم يوح إليه فيه فمنهم من يقول كان ينتظر الوحى وما كان يفصل بالاجتهاد والصحيح عندنا أنه كان يجتهد وما كان يقر على الخطأ بيانه أنه لما شاور أبا بكر وعمر رضى الله عنهما في حادثة قال قولا فانى فيما لم يوح إلى مثلكما وقال للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت تقضيه فقالت نعم قال فدين الله أحق وهذا قول بالاجتهاد وقال عليه السلام لعمر رضى الله عنه في القبلة أرأيت لو تمضمت بماء ثم بحجته أكان يضرك وقال في بيان الصدقة على بنى هاشم أرأيت لو تمضمضت بماء أكنت شاربه فهذا ونحوه دليل أنه كان يقضي باجتهاده وما كان يقر على الخطأ فقضاؤه يكون

[ 71 ] شريعة والخطأ لا يجوز أن يكون أصل الشريعة فعرفنا أنه ماكان يقر على الخطأ وبيان ذلك في قوله تعالى عفى الله عنك لم أذنت لهم الاية وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال إذا كان في القاض خمس خصال فقد كمل وان كان فيه أربع ولم يكن فيه واحدة ففيه وصمة وان كان فيه ثلاث ولم يكن فيه اثنين ففيه وصمتان وهذا عبارة عن النقصان والوصم كسر يسير وفوقه القصم ونظيره القنص بالانامل وفوقه القبض باليد وفوقه الاخذ وهو التناول قال فقال قائل ماهى يا أمير المؤمنين قال علم بما كان قبله وهو إشارة إلى مابينا في حق المجتهد قال ونزهة عن الطمع وهو مأخوذ من النزاهة فمن يتحرز عن شئ يقال هو يتنزه عن كذا والاظهر وتزهد عن الطمع من الزهادة فكل الفتنة للقاضى في طمعه فيما في أيدى الناس ولما امتحن عليا رضى الله عنه قاضيا قال له بم صلاح هذا الامر قال بالورع قال فيما فساده قال بالطمع قال حق لك أن تقضى فينبغي للقاضى أن يكون منزها عن الطمع ليأمن الفتنة ويخلص عمله لله تعالى قال وحكم عن الخصم يعنى ان يحكم في بعض ما يسمع من الخصوم مع قدرته على منعه وهو معنى قوله عمر رضى الله عنه لا يصلح لهذا الامر الا اللبن من غير ضعف القوى من غير عنف قال واستخفاف باللائمة معناه لا ينبغى للقاضى فيما يفصل من القضاء أن يخاف اللائمة من الناس فانه إذا خاب ذلك يتعذر عليه القضاء بالحق والى ذلك أشار الله تعالى في قوله ولا يخافون لوم تلائم وهذا لانه لابد أن ينصرف أحد الخصمين من مجلسه شاكيا يلوم القاضى مع أصدقائه على ماكان منه واليه أشار شريح رحمه الله حيث قيل له كيف أصبحت قال أصبحت وشطر الناس على غضبان فإذا تفكر القاضى واشتغل بالتحرز عن اللائمة يتعذر عليه فصل القضاء قال ومشاورة أولى الرأى وفيه دليل على ان القاضي وان كان عالما فينبغي له أن لا يدع مشاورة العلماء وقد كان رسول الله أكثر الناس مشاورة لاصحابه رضى الله عنهم يستشيرهم حتى في قوت أهله وإدامهم قال المشورة تلقح العقول وقال ما هلك قوم عن مشورة قط وكان عمر رضى الله عنه يستشير الصحابة رضوان الله عليهم مع فقهه حتى كان إذا رفعت إليه حادثة قال ادعوا إلى عليا وادعوا إلى زيد بن أبى كعب رضى الله عنهم فكان يستشيرهم ثم يفصل بما اتفقوا عليه فعرفنا أنه لا ينبغى للقاضى أن لا يدع المشاورة وان كان فقيها ولكن في غير مجلس القضاء على مابينا ان الاشتغال بالمشورة في مجلس القضاء ربما يحول بينه وبين

[ 72 ] فصل القضاء ويكون سببا لازدراء بعض الجهال به وعن مسروق قال لان أقضى يوما بالحق أحب إلى من ان أرابط سنة فان مسروقا ممن يقدم تقلد القضاء على الامتناع عنه وقد كان السلف رحمهم الله في ذلك مختلفين وابتلي مسروق بالقضاء ومن دخل في شئ فانما يروي محاسن ذلك الشئ وقد بينا طريق أبى حنيفة رحمه الله في ايثار التحرز عن تقلد القضاء وانما قال مسروق ان القضاء يوما بالحق أحب إلى من أن أرابط سنة لما في اظهار الحق من المنفعة للناس ودفع الظلم عن المظلوم واتصال الحق إلى المستحق ومنع الظالم عن الظلم واليه أشار النبي في قوله عدل ساعة خير من عبادة سنة وقال لان يقام حد في أرض خير من أن تمطر السماء فيها أربعين صباحا وعن علي رضى الله عنه قال القضاة ثلاثة فاثنان في النار وواحد في الجنة فأما اللذان في النار فرجل علم علما فقضى بخلافه ورجل جاهل يقضي بغير علم وأما الاخر أتاه الله علما فقضي به فذلك في الجنة ولا شبهة في حق من قضى بخلاف ما علم فانه أقدم على النار عن بصيرة وكتم ما علم من الحق فكان فعله كفعل رؤساء اليهود وفيه نزل قوله تعالى عزوجل ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات وقال الله تعالى وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون وأما الجاهل فما كان ينبغى له أن يتقلد القضاء ويلتزم اداء هذه الامانة لانه لا يقدر على ادائها الا بالعلم ففى التزام مالا يقدر على القيام به ظلم نفسه وبعد التقلد لاضرورة له إلى القضاء بغير علم لتمكنه من أن يتعلم أو يسأل العلماء ويقضى بفتواتهم فلهذا جعله في النار حين قضى بغير علم والذي قضى بعلمه أظهر الحق بحكمه وأنصف المظلوم من خصمه فهو في الجنة ومثل هذا لايعرف الا بالرأى فانما يحمل على أن عليا رضى الله عنه كان سمعه من رسول الله ولكنهم فيما يسمعون ربما يرفعون وربما يرسلون وعن أبى مسعود رضى الله عنه قال يجاء بالقاضي يوم القيامة وملك أخذ بقفاه ثم يلتفت فإذا أقبل أدفعه دفعة في مهواة أربعين خريفا وأهل الحديث يروون هذا الحديث يجاء بالقاضي العدل يوم القيام ليعلم أن حال من يعدل إذا كان بهذه الصفة فما ظنك في حال من يجوز في قوله وملك آخذ بقفاه إشارة إلى ما يلقى من الذل يوم القيالة وان كان عادلا في قضائه في الدنيا فانما يفهم من الاخذ بالقفاء في عرف الناس الاستخفاف والذل وقيل في تأويله أنه وان كان عادلا فقد نال بعض الوجاهة في الدنيا بسبب تقلد القضاء فلهذا له في الاخرة لما نال من الجاه في الدنيار بطريق هو طريق العمل للاخرة ومعناه قوله أدفعه في مهواة أربعين خريفا أي

[ 73 ] دفعه على وجه في النار كما قال الله تعالى يوم يسحبون في النار على وجوههم وكان المراد من هذا أن من نافق وأظهر ما يعلم الله منه خلافه فقد كان قصده من ذلك حفظ ماء وجهه يلقى في النار على وجهه ولا يستقر الا في قعر جهنم هو المراد من قوله في مهواة أربعين خريفا وهذا بيان في قوله تعالى ان المنافقين في الدرك الاسفل من النار قال وبلغنا عن رسول الله أنه قال من ابتلي أن يقضي بين اثنين فكانما يذبح نفسه بغير سكين والحصاف رحمه الله يروى هذا من ابتلى بالقضاء فكانما ذبح بغير سكين وفيه بيان التحريز عن طلب القضاء والتحرز عن التقلد فكل عاقل ممتنع من أن يذبح نفسه بغير سكين فينبغي أن يكون تحرزه عن طلب القضاء بتلك الصفة فذكر المثل من النبي كان للتقريب من الفهم (قال) رحمه وكان شيخنا الامام رحمه الله يقول لا ينبغى أحد أن يزدرى بهذا اللفظ كيلا يصيبه ما أصاب ذلك القاضي فقد حكى أن قاضيا روى له هذا الحديث فازدرى به وقال كيف يكون هذا ثم دعا في مجلسه بمن يسوى شعره فجعل الحلاق يحلق بعض الشعر من تحت ذقنه إذ عطس فأصابه الموسى فالقى رأسه بين يديه قال ومن ابتلى أن يقضى بين اثنين فلينصفهما في الكلام والنظر ولا ينبغى له أن يرفع صوته على احدهما مالا يرفع على الآخر وقد بينا فائدة هذا اللفظ وما يؤمر به للقاضي من التسوية وعن عامر أن أبى بن أبى كعب وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما اختصما في شئ فحكما زيد ابن ثابت رضى الله عنه فأتياه في منزله قال زيد رضى الله عنه هلا أرسلت إلى يا أمير المؤمنين قال عمر رضى الله عنه في بيته يؤتى الحكم وفي هذا بيان أنه كان يقع بينهم منازعة وخصومة ولا يظن كل واحد منهم سوى الجميل وانما كان يقع ذلك عند اشتباه حكم الحادثة عليهم ويتقدمون إلى القاضي لطلب البيان لا للقصد إلى التلبيس والانكار ولهذا كان القاضى يدعي مفتيا وفيه دليل جواز التحكيم فقد حكما زيد ابن ثابت رضى الله عنهما وانما حكماه لفقهه فقد كان مقداما معروفا فيهم بذلك حتى روى أن ابن عباس رضى الله عنهما كان يختلف إليه وأخذ بركابه لما أراد أن يركب وقال هكذا أمرنا أن نصنع بفقهائنا فقبل زيد رضى الله عنه يده وقال هكذا أمرنا أن نصنع بأشرافنا وفيه دليل على أن الامام لا يكون قاضيا في حق نفسه فعمر رضى الله عنه في خصومة حكم زيد ابن ثابت رضى الله عنه وفيه دليل على أن من احتاج إلى العلم ينبغى له أن يأتي العالم في منزله وان كان وجيها في الناس ولا يدعوه إلى نفسه فان وجاهته بسبب الدين فيبقى ذلك له إذا عظم الدين والذهاب

[ 74 ] إلى منزل العالم عند الحاجة إلى علمه من تعظيم الدين ولما استعظم ذلك زيد رضى الله عنه قال هلا أرسلت إلى يا أمير المؤمنين قال في بيته يؤتى الحكم وتأويل استعظام زيد رضى الله عنه أنه خاف فتنة على نفسه بسبب الوجاهة حين أتاه عمر رضى الله عنه في منزله وظن أنه أتاه زائرا وما أتاه محكما له راغبا في علمه فلهذا استعظم ذلك (ألا ترى) ان عمر رضى الله عنه بين له انه أتاه للتحكيم فقال في بيته يؤتى الحكم فأتى زيد لعمر رضى الله عنهما بوسادة وكان هذا منه امتثالا لما ندب إليه رسول الله في قوله إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وقد بسط رسول الله لعدى بن حاتم ردأه حتى أتاه ولكن عمر رضى الله عنه لم يستحسن ذلك منه في هذا الوقت فقال هذا أول جورك وفيه دليل وجوب التسوية بين الخصمين في كل ما يتمكن القاضي منه وما كان ذلك يخفى على زيد رضى الله عنه ولكن وقع عنده ان الحكم في هذا ليس كالقاضي وان الخليفة في هذا ليس كغيره فبين له عمر رضى الله عنه ان الحكم في حق الخصمين كالقاضي (قال) وكانت اليمين على عمر رضى الله عنه فقال لابي ابن كعبر رضى الله عنه لو أعفيت امير المؤمنين من اليمين فقال عمر رضى الله عنه لا ولكن احلف فترك له ابى رضي الله عنه ذلك واهل الحديث يروون ان عمر رضى الله عنه قال لزيد رضى الله عنه وهذا ايضا يبين ان على الحكم أن يتحرز عن الميل إلى أحد الخصمين صريحا ودلالة وان مجلس الشفاعة غير مجلس الحكومة ثم فيه دليل على انه لا بأس للمرء ان يحلف إذا كان صادقا فقد رغب عمر رضى الله عنه في ذلك مع صلابته في الدين وان تحرز عن ذلك فهو واسع له ايضا كما روى ان عثمان رضى الله عنه امتنع عن ذلك وقال أخشى أن يوافق قدر يمينى فيقال اصبت بذلك ففيه دليل ان اليمين حق المدعي قبل المدعى عليه يستوفى بطلبه ويترك إذا ترك (ألا ترى) أن أبيا رضي الله عنه ترك له ذلك وبيان هذا فيما قاله رسول الله للمدعى ألك بينة فقال لا فقال ألك يمين وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال لا أحد الا في اثنين رجل اتاه الله مالا فهو ينفقه في طاعة الله ورجل أتاه علما فهو يعلمه ويقضى به ومعناه الحسد يضر الا في الاثنين فيكون في ذلك بيان ان الحسد مذموم يضر الحاسد الا فيما استثناه فهو محمود في ذلك وهذا ليس بحسد في الحقيقة بل هو غبطة والغبطة محمودة فمعنى الحسد هو ان يتمنى الحاسد ان تذهب نعمة المحسود عنه ويتكلف لذلك ومعنى الغبطة ان يتمنى لنفسه مثل ذلك من غير ان يتكلف ويتمنى ذهاب ذلك عنه وهذا في أمر الدنيا غير مذموم ففى أمر الدين

[ 75 ] أولى أن يكون محمودا والذي ينفق ماله في طاعة الله تعالى يكتسب الآخرة بدنياه والذي يعلم ويقضى به بالحق يكتسب المحمدة في الدنيا والثواب في الآخرة فمن يتمنى لنفسه مثل ذلك يكون محمودا على هذا المعنى فاما الحسد المذموم فهو ما قيل الحاسد جاحد لقضاء الواحد فهو أن يتكلف لذهاب ذلك عنه ويعتقد ان تلك نعمة في غير موضعها واليه أشار رسول الله في قوله لاينجو أحدكم من الحسد والظن والطيرة قيل وما المخلص من ذلك فقال إذا حسدت فلا تبغ أي لا تتكلف لازالة النعمة عن المنعم عليه وإذا ظننت فلا تحقق وإذا نظرت فلا ترجع وعن سوار بن سعيد قال شهدت أنا ورجل عند شريح رحمه الله بشهادة ففيه صاحبي عن حجته أي عجز عن اظهار حجة وغفل عن ذلك فقلت له أتفسد شهادتى ان أعربت عنه فقال لافاعربت عنه فقضى له وانما قال هذا لان من يكون خصما في حادثة لاتقبل شهادته في تلك الحادثة فخاف إن أظهر حجته صاحبه أن يجعله خصما ويفسد شهادته فبين له شريح رحمه الله انه لا يصير خصما بهذا القدر إذا لم يوكله صاحبه به بل هو متبرع فيما يظهر من حجة صاحبه وليس فيه أكثر من أن يعين المدعى وما حضر مجلس القاضى الا لتعيين المدعى وتوصله إلى حقه فلا يفسد به شهادته وعن سوار قال اختصم قوم عند شريح رحمه الله فذكرت له ذلك فقال ما رأه فهم وسأذكر ذلك له الليلة فذكر ذلك له فقال ما فهمت فمرهم أن يرجعوا لى فرجعوا إليه فقضي لهم وفيه دليل على انه ينبغى لمن وقف على خطأ القاضي في قضائه أن ينبهه ولا يجاهره بذلك مراعاة لحشمته ولكنه يأمر أقرب الناس منه ليخبره بذلك في حال خلوته وفيه دليل ان القاضى إذا تبين له خطأ في قضائه ينبغى له أن يظهر رجوعه عن ذلك ولا يمنعه الاستيحاء عن الناس من ذلك ولا الخوف فالله تعالى يحفظه من الناس والناس لا يحفظونه من عذاب الله تعالى وعن مكحول قال لان أكون قاضيا أحب إلى من أن أكون خازنا يعنى أن خازن بيت المال عامل للمسلمين والقاضى كذلك الا ان الخازن يحفظ على المسلمين مالهم والقاضى يحفظ عليهم دينهم وتمكن الخازن من المال خوف الفتنة على نفسه بسببه أكثر من تمكن القاضى فلهذا آثر القضاء وقد بينا ان المتقدمين فيه من كان يؤثر تقلب القضاء على الامتناع منه وعن شريح رحمه الله قال ما شددت على لهواة خصم أي ما منعته من اظهار حجته وما قويت أحد الخصمين على الاخر بتلقين شئ قط ولهذا بقى في القضاء مدة طويلة وعن علي رضي الله عنه أنه أضاف رجلا فلما مكث اياما

[ 76 ] قرب إليه في خصومة فقال له علي رضى الله عنه أخصم أنت فقال نعم فقال علي رضى الله عنه ان رسول الله نهانا أن نضيف الخصم إلا أن يكون خصموه معه وفيه دليل أنه لا بأس للامام أن يخص بعض الناس بالضيافة إذا لم يكن له خصومة وانه لا ينبغى له أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر لان ذلك يكسر قلب الخصم الآخر ويلحق به تهمة الميل ولا بأس بأن يضيفهما جميعا لان تهمة الميل تنتفى عنه إذا سوى بينهما وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله لعمرو بن العاص رضى الله عنه اقض بين هذين قال أأقضى وأنت حاضر أو جالس قال صلوات الله عليه وسلامه نعم قال على ماذا أقضى قال سلام الله عليه على انك ان اجتهدت فاصبت فلك عشر حسنات وان أخطأت فلك حسنة وفيه دليل لاهل السنة رحمهم الله المجتهد يصيب ويخطئ وعليه دل قوله تعالى ففهمناها سليمان والفهم هو اصابة الحق فقد خصه بذلك ففيه دليل على انه معذور وان أخطأ وهذا إذا لم يكن طريق الاصابة بينا هو مثاب على اجتهاده فان أصاب المطلوب بالاجتهاد فله ثواب الاجتهاد وثواب اظهار الحق بجهده وهو معنى قوله فلك عشر حسنات وان أخطأ فله حسنة على اجتهاده إذا كان مصيبا في طريق الاجتهاد وان لم يصب المطلوب بالاجتهاد وعن عمر ان بن حصين رضى الله عنه قال قال رسول الله ان الله تعالى مع القاضى ما لم يخف عملا يشدده للحق ما لم يرد غيره وهذا في كل عامل يبتغى بعمله وجه الله تعالى فالله تعالى يعينه على ذلك ويوفقه قال الله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وقال لعبد الرحمن بن سمرة رضى الله عنه لا تسأل الامارة فانك ان تعطيها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أمنت عليها ثم هذا الوعد للقاضى ما لم يظلم عمدا فالحيف هو الظلم فإذا اشتغل به كله الله إلى نفسه وكذلك إذا أراد بعمله غير الله تعالى قال فيما يأثر عن الله عزوجل أنا أغنى الشركاء عن الشركة فمن عمل لى عملا وأشرك فيه غيرى فهو كل لذلك الشريك وانا منه برئ قال وينبغى للقاضى أن ينصف الخصمين في مجلسهما وفي النظر اليهما وفي المنطق أي يسوى بينهما فالانصاف عبارة عن التسوية مأخوذ من المناصفة ففى كل ما يتمكن من مراعاة التسوية فيه فعليه ان يسوى بينهما في ذلك الا مالا يكون في وسعه الامتناع منه من النهى فعليه أن يظهر حجة أحدهما فهو غير مأخذ بذلك لما روى أن النبي كان يستوى في القسم بين نسائه ثم يقول اللهم هذا في

[ 77 ] ما املك فلا تؤاخذني فيما لاأملك يعنى من الميل بالقلب إلى عائشة رضى الله عنها ولا ينبغى أن يرفع صوته على أحدهما مالا يرفعه على الآخر لان التسوية بينهما في ذلك ممكنة وتخصيص أحدهما برفع الصوت عليه تجر تهمة إليه وهو مكسر القلب من يرفع صوته عليه ولا ينطلق بوجهه إلى أحدهما في شئ من المنطق مالا يفعله بالآخر لانه يزداد به قوة وجراءة على الخصم ويطمع أن يميل بالرشوة إليه ولا ينبغى له أن يشد على عضد أحدهما ولا يلقنه حجته فان ذلك نوع من الخصومة وبين كونه قاضيا وخصما منافاة وهو مكسر لقلب الخصم وسبب لجر تهمة الميل إليه وهو انشاء الخصومة وانما جلس لفصل الخصومة لا لانشائها وينبغى له أن لا يشترى شيئا ولا يبتع في مجلس القضاء لنفسه لانه جلس للقضاء فلا يخلط به ما ليس من القضاء ومعاملته لنفسه في شئ ولان الانسان فيما يبيع ويشترى يماكس عادة وذلك يذهب حشمة مجلس القضاء ويضع من جاهه بين الناس وفي قوله لنفسه إشارة إلى أنه لا بأس بأن يفعل ذلك في مجلس القضاء ليتيم أو ميت مديون فان ذلك من عمل القضاء وانما جلس لاجله ومباشرة ذلك في مجلس القضاء يكون أبعد عن التهمة منه إذا باشره في غير مجلس القضاء ولا بأس بأن يبيع ويشترى لنفسه في غير مجلس القضاء عندنا ومن العلماء رحمهم الله من كره ذلك للقاضى ويروون في ذلك حديثا أن النبي قال لا يبيع القاضي ولا يبتاع ولان العادة أن الناس يسامحون في المعاملة مع القضاء بين أيديهم خوفا منهم أو طعما فيهم فيكون من هذا الوجه في معنى من يأكل بدينه والمقصود يحصل إذا فوض ذلك إلى غيره ليباشر على وجه لا يعلم أنه يباشر ولكنا نقول نستدل بما روى أن النبي اشترى سراويل بدرهمين الحديث فقد باشر رسول الله الشراء لنفسه وكان رؤساء القضاء والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم كانوا يباشرون ذلك بأنفسهم حتى ان أبا بكر رضى الله عنه بعد ما استخلف حمل متاعا من متاع أهله إلى السوق ليبيعه ولانه بعد تقلد القضاء يحتاج لنفسه وعياله إلى ماكان محتاجا إليه قبل التقلد وبأن تقلد هذه الامانة لا يمتنع عليه معنى النظر لنفسه والقيام بمصالح عياله وتهمة المساحة موهونة أو هو نادر فلا يمتنع عليه التصرف لاجله ولان ذلك إذا لم تكن مباشرة هذا التصرف من عادة القاضي في كل وقت فأما إذا كان ذلك من عادته فقلما يسامح في ذلك فوق ما يسامح به غيره وتأويل النهي ان صح في مجلس القضاء ولا يسار أحد الخصمين بشئ لان ذلك يجر إليه تهمة الميل وينكسر بسببه قلب الآخر

[ 78 ] وبه ينتقص حشمة مجلس القضاء فلا ينبغى أن يشتغل به وإذا تقدم إليه الخصمان فهو بالخيار ان شاء ابتدأهما فقال مالكما وان شاء تركهما حتى يبتدآه بالمنطق وبعض القضاة يختار السكوت ليكون الخصم هو الذي يبتدئ بالكلام لان القاضى إذا ابتدأهما كان ذلك منه تهيجا للخصومة وانما جلس لفصل الخصومة لا لتهيجها ولكنا نقول الرأى في ذلك إليه فحشمة مجلس القضاء قد تمنعهما من الكلام ما لم يبتدئ القاضى بالكلام فإذا كان بهذه الصفة كان له أن يبتدئ فيقول مالكما وما تقدم إليه الا بعد المنازعة والخصومة بينهما فلا يكون هذا اللفظ منه تهيجا للخصومة ولكن لا يكلمهم بشئ آخر سوى ما تقدم لاجله فان ذلك يذهب حشمة مجلس القضاء ولهذا لا يسلمان عليه إذا تقدم بين يديه مع أن السلام سنة فان تكلم صاحب الدعوى أسكت الآخر واستمع من صاحب الدعوى حتى يفهم حجته لانه إذا تلكما معا لا يتمكن من أن يفهم كلام كل واحد منهما قال الله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ولان تكلمهما معا نوع شغب وبه ينتقص حشمة مجلس القضاء قال ثم يأمره بالسكوت بعد ذلك ويستنطق الاخر وظاهر هذا اللفظ يدل على أنه يستنطق الاخر وان لم يسأل المدعى ذلك واختياره بعض القضاء انه لا يفعل ذلك الا عند سؤال المدعى ولكنه إذا نظر في دعواه فان لم تكن صحيحة يقول له قم فصحح دعواك لان بالدعوى الفاسدة لا يستحق الجواب وان صحت الدعوى قال أخبرتني فماذا أصنع فان قال أريد جوابه فسأله عن ذلك حينئذ يستنطق الاخر والاصح عندنا انه يستنطق الاخر وان لم يلتمس المدعى ذلك لانه ما تقدم بين يديه وما أحضر خصمه إلا ملتمسا لذلك فلا يحتاج بعد ذلك إلى التماس الاخر فان سأله فاقر بحقه أمره بالخروج من حقه وان أنكر قال للمدعى سمعت انكاره أو هو منكر فما نقول فإذا قال حلفه يطلب المدعى بعد ان سأله بينة ولا يسأله ذلك ما لم يطلب يمينه لانه نوع تلقين ولا ينبغى للقاضى أن يلقن أحد الخصمين حجته ولكن إذا طلب يمينه فحينئذ جاء أوان الاستحلاف إذا لم يكن للمدعى بينة حاضرة فسأله عند ذلك أكل بينة ولا ينبغى للقاضي أن يقضي الا هو مقبل على الحجج مفرغ نفسه لذلك لان القضاء أمر مهم فلا يتمكن من النظر فيه ومباشرته لما التزم ما لم يفرغ نفسه لذلك عن سائر الاشغال فإذا دخله هم أو غضب أو نعاس كف عن ذلك حتى ذهب ذلك لان اعتدال حاله زال بما دخله فالهم يغلب على القلب حتى لا يجد شيئا آخر معه فيه مساغا والغضب كذلك والنعاس كذلك فالناس لا يفهم بعض ما يذكر عنده (ألا ترى) ان النبي صلى الله عليه

[ 79 ] وسلم قال إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد فلا يدري لعله يريد أن يدعو فيسب نفسه ثم يقبل على القضاء وهو متفرغ له مستمع غير معجل للخصوم عن حجتهم لان الاستعجال يضر بالخصوم كما ان ترك النظر فيما يقيم من الحجة يضر به فكل واحد منهما من نوع الشر والاضرار وقد روينا ان القاضي لا يشار ولا يضار قال ولا يخوفهم فان الخوف مما يقطع حجة الرجل يعنى ان الخائف يعجز عن اظهار حجته وينبغى أن يكون القاضى مهيبا يحتشم منه ولكن لا ينبغى أن يكون مخيفا للناس يخافونه فان ذلك يمنعهم من اظهار الحق بالحجة والاصل في ذلك ماروى ان النبي صلى صلاة الفجر بمسجد الحيف فرأى رجلين لم يصليا معه فقال على بهما فأتى بهما وفرائصهما ترتعد فقال لا تخافا فانما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد الحديث فان (قيل) أليس انه ذكر في سيرة عمر رضى الله عنه ان الناس كانوا يهابونه حتى قيل لابن عباس رضى الله عنهما لم لم يذكر قولك في القول لعمر فقال كان رجلا مهيبا فهبته أو قال خفت درته (قلنا) هذا لا يكاد يصح فان عمر رضي الله عنه كان ألين من غيره في قبول الحق وكان يشاورهم وربما كان يقدم قول ابن عباس رضى الله عنهما في الاخذ عند الشورى على قول بعض الكبار من الصحابة رضوان الله عليهم ثم كون القاضى مهيبا غير مذموم عندنا وانما المذموم أن يتكلف لتخويف الخصوم إذا تقدموا بين يديه ولم ينقل ذلك عن عمر رضى الله عنه ولا عن غيره وان كان خير القاضى أن يقعد عنده أهل الفقه فتعدوا عنده فربما يحتاج إلى ان يستشيرهم وقد روينا ان عمر رضى الله عنه كان يفعل ذلك وربما يخفى عليه بعض ما يقف عليه غيره من اهل الفقه فينبهه عليه وربما يحتاج إلى ان يشهدهم فيكون اهل الفقه والصلاح عنده من نوع الاحتياط فان دخله حصر في قعودهم عنده أو شغله ذلك عن شئ من أمور المسلمين جلس وحده لان طباع الناس في هذا تختلف فمنهم من يمنعه حشمة الفقهاء مما يريده من فصل القضاء ومنهم من يزداد قوة على ذلك والمقصود هو النظر للمسلمين فإذا كان هو ممن يدخله حصر بحضرة الفقهاء جلس وحده ولكن انما يتمكن من ذلك إذا كانت معروفا بالفقة والعدالة فبالفقه يؤمن غلطه وبالعدالة يؤمن جوره ولا ينبغى للقاضى ان يتعب نفسه في طول الجلوس لان بذلك يزول اعتدال الحال وقد بينا أنه لا ينظر في الحجج الا عند اعتدال الحال قال فانى اتخوف عليه ان يضر ذلك بنظره في الحجج والخصوم يعنى إذا أتعب نفسه ربما لا يفهم بعض كلام الخصوم وربما يضجر بسببه على بعض

[ 80 ] الخصوم وهذا أيضا في المدرس كذلك واليه أشار النبي في قوله أن النفس تمل كما تمل الابدان فابتغوا لها ظرائف الحكمة وان ابن عباس رضى الله عنهما كان إذ أمل من بيان أنواع العلم قال لاصحابه اخصموا أي خوضوا في ديوان العرب فتذكرا شيئا من الملح قال ولكنه يعقد في طرفي النهار أو ما أطاق من ذلك لان عمل القضاء عبادة فالاولى أن يجلس له في طرفي النهار قال الله تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار ولان اعتدال حال المرء يكون في طرفي النهار عادة أو ما أطاق من ذلك لان الطاعة بحسب الطاقة ولكن لا ينبغى أن يتبكر للخصومة قبل طلوع الشمس فقد كان شريح رحمه الله إذا ابتكروا قبل حضوره قال أتتظلمون بالليل فعرفنا أن ذلك غير محمود للقاضى (قال) وينبغى للقاضى أن يقدم النساء على حدة والرجال على حدة لان الناس يزدحمون في مجلسه وفي اختلاف النساء مع الرجال عند الزحمة من الفتنة والقبح مالا يخفى ولكن هذا في خصومة يكون بين النساء فاما لخصومة التى تكون بين الرجال والنساء لا يجد بدا من أن يقدمهن مع الرجال وأن يجعل لكل فريق يوما على قدر ما يرى من كثرة الخصوم فلا بأس بذلك لانه إذا تركهم يزدحمون على ما به وربما يقتتلون على ذلك وفيه من الفتنة مالا يخفى فيجعل ذلك مناوبة بينهم بالايام ليعرف كل واحد يوم نوبته فيحضر عند ذلك والحصاف رحمه الله ذكر في أدب القاضي أن الاولى أن يجعل ذلك على الرقاع فيجزئ الخصوم اجزاء ويكتب باسم كل فريق رقعة ثم يخرج الرقاق على الايام للسبت والاحد إلى آخره وذلك حسن ولكن محمدا رحمه الله اختار في الكتاب أن يقدم الناس على منازلهم الاول فالاول ولا يتبدئ بأحد جاء قبله غيره والى هذا أشار النبي في قوله سبقك بها عكاشة وهذا لان الذي جاء أولا استحق النظر في حجته ان لو كان القاضى جالسا عند ذلك فتأخر جلوس القاضى لا يغير استحقاقه ولا يبطل بحضور غيره فلهذا تقدمه عملا بقوله تعالى ويؤت كل ذى فضل فضله قال ويضع على ذلك أمينا من قبله يقدمهم إليه لانه لا يتمكن من يعرف ذلك بنفسه لكثرة أشغاله وفيما يعجل القاضى عن مباشرته يستعين بأمين من أمنائه وينبغى أن يبتكر ذلك الامين إلى باب مجلس القاضى ليعلم منازل الناس في الحضور فلعلهم يكذبون في ذلك أو أن يلبسون عليه وانما يجعل على ذلك أمينا لا يطمع ولا يرتشى فان ذلك من عمل القضاة فكما لا يطمع هو فيما يقضى فكذلك

[ 81 ] ينبغى أن يكون أمينه قال رحمه الله وكان شيخنا الامام رحمه الله يقول قد جرى الرسم في زماننا أن البواب على باب مجلس القضاء يأخذ من كل خصم قطعة ليمكنه من الدخول والقاضى يعلم ذلك ولا يمنعه منه وفيه فساد عظيم فليس لاحد أن يمنع أحدا من دخول المسجد ولا من أن يتقدم إلى القاضى في حاجته فهو يرتشى ليكف ظلمه عنه ويمكنه مما هو مستحق له والقاضى يعلم ذلك ولا يمنع منه فهو بمنزلة مالو علم أن أمينه يشرب الخمر أو يزنى على بابه فلا يمنعه عن ذلك وان رأى أن يجعل الغرباء مع أهله المصرف فعل وان رأى أن يبدأ بهم فلا يضره ذلك بعد أن تكون الغرباء غير كثير فان كثروا في كل يوم فشغلوه عن أهل المصر قدمهم على منازلهم مع الناس وقد بينا أن الغريب على جناح السفر فربما يضر التأخير به وقبله مع أهله فإذا لم يقدمه القاضى ربما ترك حقه ورجع إلى أهله وقد أمر بتعاهد الغريب تعظيما لحق غربة رسول الله فلهذا كان له أن يقدم الغرباء ولكن بشرط أن لا يضر بأهل المصر ضررا فانهم جيرانه وانما يقلد القضاء لينظر في حوائجه فإذا كان تقديم الغرباء يضر بأهل المصر قدمهم على منازلهم عملا بقوله لاضرر ولاضرار في الاسلام ولا بأس بان يشهد القاضى الجنازة ويعود المريض فقد كان النبي والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم بعده يفعلون ذلك ولان هذا من حق المسلم على المسلم قال للمسلم على المسلم ستة حقوق وذكر في الجملة أن يشيع جنازته ويعوده إذا مرض ولا يمتنع عليه القيام بحقوق الناس عليه بسبب تقلده القضاء ولا بأس بأن يجيب الدعوة الجامعة فذلك من السنة قال من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم قال ولا تجب الدعوة الخاصة الخمسة والعشرة في مكان لان ذلك يجر إليه تهمة الميل بأن يقول أحد الخصمين ان فلانا في دعوة فلان كلم القاضى وهو نائب عن خصمى وصانعه على رشوة ولان اجابة الدعوة الخاصة مما يطمع الناس به في القاضى فعليه أن يحترز عن ذلك وأصح ما قيل في الفرق بين الدعوة الجامعة والخاصة ان كل ما يمتنع صاحب الدعوه من ايجاده إذا علم ان القاضي لا يجيبه فهو الدعوة الخ‍؟ صه وان كان لا يمتنع من ايجاده لذلك فهو الدعوة العامة لانه عند ذلك يعلم أن القاضى لم يكن مقصودا بتلك الدعوة وانما يمتنع من اجابة الدعوة الخاصة إذا لم يكن صاحب الدعوة ممن اعتاد ايجاد الدعوة له قبل أن يتقلد القضاء فان كان ذلك من عادته قبل هذا فلا بأس بأن يجيب دعوته واليه أشار في قوله

[ 82 ] ولا بأس بأن يجيب دعوة ذى القرابة لان هذا بين القربات ليس من حوالب القضاء عادة ولاصدق في ذلك كالاقارب إذا كان ذلك معروفا بينهم قبل تقلد القضاء ولا ينبغى له أن يضيف أحد الخصمين الا أن يكون خصمه معه لما روينا من نهى النبي عن ذلك (قال) ولا يقبل الهدية وقبلو الهدية في الشرع مندوب إليه قال نعم الشئ الهدية إذا دخلت الباب ضحكت الاسكفة وقال الهدية تذهب وجر الصدر أو وعر الصدر وقال تهادوا تحابوا ولكن هذا في حق لم يتعين لعمل من أعم‍؟ ل المسلمين فأما من تعين لذلك كالقضاة والولاة فعليه التحرز عن قبول الهدية خصوصا ممن كان لا يهدى إليه قبل ذلك لانه من جوالب القضاء وهو نوع من الرشوة والسحت والاصل فيه ماروى أن النبي استعمل ابن للثينة على الصدقات فجاء بمال فقال هذا لكم وهذا مما أهدى إلى فقال في خطبته ما بال قوم نستعملهم فيقدموا بمال ويقولون هذا لكم وهذا مما أهدى إلى فهلا جلس أحدكم عند حمش أمه فينظر أيهدى إليه أم لا واستعمل عمر رضى الله عنه أبا هريرة رضى الله عنه فقد بمال فقال من اين لك هذا قال تناتجت الخيول وتلاحقت الهداية قال أي عدو الله هلا قعدت في بيتك فنظر أيهدي اليك أم لا فأخذ ذلك منه وجعله في بيت المال فعرفنا أن قبول الهدية من الرشوة إذا كان بهذه الصفة ومن جملة الاكل بالقضاء ومما يدخل به عليه التهمة ويطمع فيه الناس فليتحرز من ذلك الا من ذي رحمه محرم منه فقد كان التهادى بينهم قبل ذلك عادة ولانه من جوالب القرابة وهو مندوب إلى صلة الرحم وفي الرد معنى قطيعة الرحم وقطيعة الرحم من الملاعن فأما في حق الاجانب قبول القاضى الهدية من جملة ما يقال إذا دخلت الهدية من الباب خرجت الامانة من الكوة ولا ينبغى له أن يخلو في منزله مع أحد الخصمين كما لا يسار أحد الخصمين ولا بأس بأن يقضى في منزله وحيث أحب لان عمل القضاء لا يختص بمكان ولانه في كونه طاعة لا يكون فوق الصلاة وقد قال جعلت لى الارض مسجدا وطهورا فاحسن ذلك وأحب إلى أن يقضى حيث تقام جماعة الناس يعنى في المسجد الجامع أو غيره من مساجد الجماعات لان ذلك يكون أبعد عن التهمة ولانه يتمكن كل واحد من أن يحضر مجلسه عند حاجته ولا يشتبه عليه موضعه ولايحتاج إلى من يهديه إلى ذلك من الغرباء كان أو من أهل المصر ولا يقضي وهو يمشي ويسير على الدابة فانى أتخوف عليه من

[ 83 ] ذلك الزلل لانه عند ذلك لا يكون معتدل الحال فيكون قبله مشغولا بما هو فيه من المشى أو السير فلا يتفرغ بالنظر في الحجج ولانه نوع من الاستخفاف وهو مأمور بان يصون قضاء عن أسباب الاستخفاف ظاهرا وباطنا ولا بأس بأن يقضى وهو متكئ لان التكاءه نوع جلسة كالتربع ونحوه وطباع الناس في الجلوس تختلف فمنهم من يكون التكاؤه أروح له واعتدال حاله عند ذلك أظهر والاصل فيه حديث أم سلمة رضى الله عنها في الرجلين الذين اختصما بين يدى النبي الحديث إلى أن قال وكان متكئا فاستوى جالسا فقد نظر في خصومتهما حين كان متكئا فعرفنا انه لا يأس بذلك وينبغى له أن يقضى بما في كتاب الله فان أتاه شئ لم يجده فيه قضى فيه بما أتاه عن رسول الله فان لم يجده فيه نظر فيما أتاه عن أصحاب رسول الله ورضى عنهم فقضي وقد بينا هذا فيما سبق والحاصل انه إذا صح له قول عن واحد من المعروفين من الصحابة رضى الله عنهم قضى به وقدمه على القياس لقوله أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتهم اهتديتم ولان فيما يبلغه عن الصحابي رضى الله عنه احتمال السماع فقد كانوا يسمعون من رسول الله ثم يفتون به تارة ويرون أخرى وفيه أيضا احتمال ترجيح الاصابة في نفس الرأى فقد وقفوا لما لم يوقف غيرهم بعدهم فان كانوا اختلفوا فيه تخير مدة أقاويله أحسنها في نفسه وليس له أن يخالفهم جميعا ويبتدع شيئا من رأيه لانهم لو اجتمعوا على قول لم يجز لاحد أن يخالفهم فإذا اختلفوا على أقاويل محصورة فذلك إجماع منهم على أن الحق لا يعد مما قالوا فلا يجوز لاحد أن يخالفهم ويبتدع شيئا من رأيه ولكنه يختار أحسن الاقاويل في نفسه لانهم لما اختلفوا ولم تجر المحاجة بينهم بالرواية فقد انقطع احتمال السماع وتعين القول بالرأى فتعارض أقاويلهم كتعارض الاقيسة وعند ذلك على القاضى أن يصير إلى الترجيح ويعمل بما ظهر الرجحان فيه فكذلك عند اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم يصير إلى الترجيح فان لم يبين له وجه الترجيح فله أن يعمل بأى الاقاويل شاء لان بالتعارض لا تنعدم الحجة في أقاويلهم فينغى أن يعمل بأحسنها في نفسه ويكون ذلك عملا منه بالحجة فان لم يجده في ما جاءه عن أحد منهم اجتهد رأيه في ذلك وقاسه بما جاء منه ثم قضي بالذي يجتمع رأيه عليه من ذلك ويرى أنه الحق لانه مأمور بفصل القضاء والتكليف بحسب الوسع والذي في وسعه اجتهاد الرأى عند انقطاع سائر الادلة عنه فيشغل به إذ كان من أهله كمن اشتبه عليه القبلة عند انقطاع الادلة والاصل فيه قوله تعالى

[ 84 ] اعتبروا يا أولى الابصار والاعتبار رد الشئ إلى نظيره فالعبرة هو البيان قال الله تعالى ان كنتم للرأيا تعبرون والبيان يرد الشئ إلى نظيره فان أشكل عليه شاور رهطا من أهل الفقه فيه وكذلك ان لم يكن من أهل الاجتهاد فعليه أن يشاور الفقهاء لانه يحتاج إلى معرفة الحكم ليقضي به وقد عجز عن ادراكه بنفسه فليرجع إلى من يعرف ذلك كما إذا احتاج معرفة قيمة شئ فان اختلفوا فيه نظر إلى أحسن أقاويلهم وأشبهها بالحق فأخذ به كما بينا عند اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم الا ان هنا ان رأى خلاف رأيهم فان استحسن وأشبه الحق قضى بذلك لان اجماعهم لا ينعقد بدون رأيه وهو واحد منهم ولان رأيه أقوى في حقه من رأى غيره فلو قضى برأيه كان قاضيا بما هو الصواب عنده وإذا قضى برأى غيره كان قاضيا بما عنده انه خطأ وقضاؤه بما عنده انه هو الصواب أولى وان لم يكن من أهل اجتهاد الرأى ليختار بعض الاقاويل نظر إلى أفقههم عنده وأورعهم فقضى بفتواه فهذا اجتهاد مثله ولا يعجل بالحكم إذا لم يبين له الامر حتى يتفكر فيه ويشاور أهل الفقة لانه مأمور بالقضاء بالحق ولا يستدرك ذلك إلا بالتأمل والمشورة وقال التأني من الله والعجلة من الشيطان والاصل في الباب حديث الشعبي رضى الله عنه قال كانت القضية ترفع إلى عمر رضى الله عنه وربما يتأمل في ذلك شهرا ويستشير أصحابه واليوم يفصل في المجلس ما به قضية وحديث ابن مسعود رضى الله عنه في المفوضة معروف فانه ردهم شهرا ثم قال أقول فيه برأيى فان يك صوابا فمن الله ورسوله وان يك خطا فمنى ومن الشيطان الحديث فعرفنا انه ينبغى للقاضى أن يتأنى ويشاور عند اشتباه الامر وإذا قضى بقضاء ثم بدا له أن يرجع عنه فان كان الذي قضى به خطأ لا يختلف فيه رده وأبطله يعنى إذا كان مخالفا لنص أو لاجماع فالقضاء بخلاف النص والاجماع باطل وهو جهل من القاضى وفي الحديث ردوا الجهالات إلى السنة فان كان خطأ مما يختلف فيه أمضاه على حاله وقضي فيما يستقبل بالذي أدى إليه اجتهاده ويرى انه أفضل لان القضاء الاول حصل في موضع الاجتهاد فنفذ ولزم على وجه لا يجوز ابطاله والاصل فيه ماروى ان عمر رضى الله عنه كان يقضى في حادثة بقضية ثم ترفع إليه تلك الحادثة فيقضي بخلافها فكان إذا قيل له في ذلك قال تلك كما قضينا وهذه كما يقضى وقال الشعبي رحمه الله حفظت من عمر رضى الله عنه في الحد سبعين قضية لا يشبه بعضها بعضا وبهذا يتبين ان الاجتهاد لا ينقص باجتهاد مثله ولكنه فيما يستقبل يقضى بما أدى إليه اجتهاده وأصله في التحرى للقبلة وذكر عن شريح

[ 85 ] رحمه الله انه كان يقضى بالقضاء ثم يبدو له فيرجع عنه ولا يرجع فيما كان قضى به يعنى في المجتهدات كان إذا تحول رأيه بنى فيما يستقبل على ما أدى إليه اجتهاده ولم ينقص ماكان قضى به وفيه دليل أن التابعي إذا أدرك من الصحابة رضى الله عنهم وسوغوا له الاجتهاد معهم فان رأيه يعارض رأيهم لان شريحا رحمه الله كان قاضيا في زمن عمر وعلي رضي الله عنهما ثم كان يبنى القضاء على رأيه ولا يرجع اليهما فيما كان يبدو له وقد سوغوا له ذلك حتى كان عليا رضى الله عنه يقول له قلى يا أيها العبد ألا تنظر وقد رجع ابن عباس رضى الله عنهما إلى قول مسروق رحمه الله في مسألة نحر الولد وعن عامر قال كان رسول الله يقضي بالقضاء فينزل عليه القرآن بخلافه فيمضى ما قضى به ويستأنف القضاء وفي هذا دليل على انه كان يقضى باجتهاده في ما لم يوح إليه فيه وقد بينا انه كان لا يعجل بذلك ولكن كان ينتظر الوحي فإذا انقطع طمعه عن الوحي فيه قضى باجتهاده وصار ذلك شريعة ثم ينزل القرآن بخلافه بعد ذلك فيكون ناسخا له ونسخ السنة بالكتاب جائز عندنا ونظيره أمر القبلة فانه بعد ما قدم المدينة كان يصلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم انتسخ ذلك بالامر بالتوجه إلى الكعبة وكان يستأنف القضاء بالناسخ ولا يبطل ما قضى به لان النسخ ينهى مدة الحكم ولا يبين أنه لم يكن حقا قبل نزول الناسخ واستدل بهذا الحديث على ما تقدم من المجتهدات فانه لا ينقض ماكان قضى به الا أنهما يفترقان من حيث أن الرأى لا ينسخ الرأى وعن أم سلمة رضى الله عنها عن النبي انه قال انكم تختصمون إلى ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشئ من مال أخيه بغير حق فانما أقضى له بقطعة من النار معنى قول اللحن أفطن وأقدر على البيان فاللحن في اللغة هو الفطنة وفيه دليل لمن يقول ان بقضاء القاضى لا يحل ماكان حراما فيكون حجة لمحمد رحمه الله في مسألة قضاء القاضى في العقود والفسوخ وأبو حنيفة رحمه الله يقول المراد الاملاك المرسلة والمراد بيان الوعيد لمن يدعى الباطل ويقيم عليه شهود الزور فالوعيد يلحقه بذلك عندنا وان كان الملك يثبت له بقضاء القاضى بسببه قال وأكره للقاضى أن يفتى للخصوم في القضاء كراهة أن تعلم الخصوم قوله فتحترز منه بالباطل لحديث شريح رحمه الله حين سأل عن مسألة الحبس قال انما أقضى ولست أفتى وقد كره بعض الناس للقاضى أن يفتى في المعاملات أصلا وقالوا يفتي في العبادات وكره بعضهم أن يفتى في مجلس القضاء وقالوا لا بأس به في

[ 86 ] غير مجلس القضاء لان كل واحد من الامرين مهم فإذا جمع بينهما في مجلس يخاف الخلل فيهما والاصح انه لا بأس بان يفتى في المعاملات والعبادات في مجلس القضاء وفي غير مجلس القضاء فقد كان رسول الله يفتى ويقضى والخلفاء رضى الله عنهم بعده كذلك وللقضاء فتوى في الحقيقة إلا أنه ملزم وانما الذي يكره له أن يفتى للخصم فيما خاصم فيه إليه لما قيل ان الخصم إذا وقف على رأيه ربما اشتغل بالتلبيس للتحرز عن ذلك فلا يفتوى له في ذلك حتى تنقضي الخصومة وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال اختصم رجلان إلى رسول الله واحدهما عالم بالخصومه والاخر جاهل بها فلم يلبسه العالم ان قضى له رسول الله فقام المقضى له وقعد المقضي عليه فقال يارسول الله عليك السلام والله الذي لا اله غيره ان حقى لحق فقال علي بالرجل فأتى به فاخبره بالذي حلف عليه فقال يارسول الله ان شئت عاودته الخصومة فقال عليه الصلاة والسلام عاوده فعاوده فلم يلبسه أن قضى له فقام المقضى له وقعد المقضى عليه فقال والله الذي لا اله الا هو الرحمن الرحيم الذي أنزل عليك الكتاب بالحق ان حقى لحق يعلم ذلك نفسه فقال علي بالرجل فأتى به فاخبره فقال ان شئت عاودته فقال عليه السلام لا ولكن اعلم ان من اقتطع بخصومته وجد له حق امرئ مسلم فانما يقتطع قطعة من نار فقال الرجل ألحق حقه فكان النبي متكئا فجلس وقال من اقتطع بخصومته وجد له حق امرئ مسلم فليتبوأ مقعده من النار قال أبو هريرة رضى الله عنه فكانت هذه أشد من الاولى وفيه دليل على انه لا ينبغى للقاضى أن يكف عن القضاء مخافة تلبيس بعض الخصوم عليه فقد كانوا يفعلون ذلك عند من كان ينزل عليه الوحى وهو معصو؟ وفيه دليل أنه لا بأس للمرء أن يحلف مختار فقد حلف الرجل مرتين من غير أن طلب ذلك منه ولم ينكر عليه رسول الله ذلك وفيه دليل على ان القاضي إذا ارتاب في شئ من قضائه ينبغى له أن يتثبت في ذلك ويحتاط (ألا ترى) أن النبي أمره بالمعاودة حين حلف المقضى عليه أن حقه حق وكان ذلك احتياطا منه وفيه دليل ان مال الغير لا يحل للغير بقضاء القاضي فقد ذكر رسول الله الفطين في الوعيد الثاني أشد من الاول كما قاله أبو هريرة رضى الله عنه وهذا لان حرمة مال المسلم كحرمة نفسه قال سباب المسلم فسق وقتاله كفر وحرمة ماله كحرمة نفسه فكما أن من قصد قتل

[ 87 ] المسلم بغير حق فجزاؤه ما قال الله تعالى فجزاؤه جهنم خالدا فيها فكذلك إذا قصد أخذ ماله بالباطل والتلبيس (قال) وينبغى للقاضى أن لا يلقن الشاهد ولكن يدعه حتى يشهد بما عنده فان كانت شهادته جائزة قبلها وان كانت غير جائزة ردها ولا يقول له اشهد بكذا فان هذا تلقين وهو قول أبى حنيفة رحمه الله ومحمد وقال أبو يوسف رحمه الله لا رأى بأسا أن يقول أتشهدا بكذا وكذا وانما قال هذا حين ابتلي بالقضاء فرآي ما بالشهود من الخبر عند أداء الشهادة بالحق فان المجلس القضاء هيبة وللقاضي حشمة ومن لم يعتاد التكلم في مثل هذا المجلس يتعذر عليه البيان إذا لم يعينه القاضى على ذلك وأداء الشهادة بالحق من باب البر قال الله تعالى وتعاونوا على بالبر والتقوى وأمرنا باكرام الشهود قال أكرموا الشهود فان الله تعالى يحيى بهم الحقوق وهذا القدر من التلقين يرجع إلى اكرامه بأن يذكر ما يسمع منه فيقول أتشهد بكذا لما لم يسمع منه فهو التلقين المكروه وفي مذهبه نوع رخصة والعزيمة فيما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله لان القاضى منهى عن اكتساب ما يجر إليه تهمة الميل وما يكون فيه اعانة أحد الخصمين إما صورة أو معنى وتلقين الشاهد لا يخلو من ذلك ورد لم يجز له أن يلقن المدعى مع أن الدعوى لا تكون ملزمة فلان لا يجوز له أن يلقن الشاهد أولى ولان عادة بعض الناس أن المحتشم إذا لقن أحدهم شيئا ترك ماكان قصد التكلم به وتكلم بما لقنه تعظيما له فلا يأمر القاضى أن يفعل الشاهد مثل ذلك فيدع ماكان عنده من الشهادة ويتكلم بما لقنه القاضى والتلقين تعليم والقاضى انما جلس لسماع الشهادة وفصل القضاء بالشهادة لا لتعليم الشاهد فلهذا أكره له أن يلقنه ولا يضر القاضى أن يقدم الشهود جميعا أو واحدا واحدا لان الثابت بالنص اشتراط العدد والعدالة في الشهود وبذلك يظهر جانب رجحان الصدق فالتفريق بينهم في المجلس يكون زيادة والقاضى لا يتكلف لها الا أن يرتاب في أثرهم فعند ذلك عليه أن يحتاط لقوله دع ما يريبك إلى مالا يريبك ومن الاحتياط أن يفرق بينهما الا أنه لا ينبغى له أن يتعنت معهم فان التعنت يخلط على الرجل عقله وان كان صحيحا في شهادته ولان الشاهد أمين فيما يؤدى من الشهادة ولم يظهر خيانته للقاضى فلا يتعنت معهم وقد أمرنا باكرامهم الا أنه إذا اتهمهم وفرق بينهم فلا بأس أن يسأل كل واحد منهم أين كان هذا وكيف ومتى كان فهو من باب الاحتياط ودفع الريبة لامن باب التعنت وان اختلفوا في ذلك اختلافا يفسد الشهادة أبطلها وان كان لا يفسدها أجازها ولا يطرحها بالتهمة والظن فان الظن لا يغنى من الحق شيئا

[ 88 ] قال إذا ظنت فلا تحقق فما لم يعلم منهم سواء أو يسمع منهم عند السؤال اختلافا مفسدا لشهادتهم لم يمنع من القضاء بالشهادة بمجرد الظن وإذا لم يطعن الخصم في الشاهد فلا ينبغى أن يسأل عنه في قول أبى حنيفة رحمه الله ولكنه يقضى بظاهر العدالة الا أن يظعن الخصم وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يسأل عنهم وان لم يطعن الخصم وقيل هذا اختلاف عصر وزمان فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يفتى في القرن الثالث وقد شهد فيه رسول الله بالصدق والخيرية بقوله خير الناس قرنى الحديث وكانت الغلبة للعدول في ذلك الوقت فلهذا كان يكتفى بظاهر العدالة وهما أفتيا بعد ذلك في القرن الذي شهد رسول الله على أهله بالكذب بقوله ثم يفشوا الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد وكانت الغلبة في ذلك الوقت لغير العدول فقال لابد للقاضى أن يسأل عن الشهود وحجتهما أن اشتراط العدالة في الشاهد للقضاء بشهادته ثابت بالنص قال الله تعالى اثنان ذوى عدل منكم وقيل السؤال عنهما صفة العدالة محتملة فيهما والشرط لا يثبت بما هو محتمل * توضيحه ان على القاضى أن يصون نفسه عن الفضاء بشهادة الفاسق فقد أمر بالتثبت في خبر الفاسق فانما يسأل عن الشهود صيانة لقضائه فلا يتوقف على ذلك على طلب الخصم ولان كان ذلك لحق الخصم فليس لكل خصم يبصر حجته فربما يهاب الخصم الشهود فلا يجاهر بالطعن فيهم والقاضى مأمور بالنظر لكل من عجز عن النظر لنفسه (ألا ترى) انا في الحدود يسأل عن الشهود وان لم يطعن الخصم لهذا المعنى فكذلك في الاموال وأبو حنيفة رحمه الله استدل بظاهر الحديث المسلمون عدول بعضهم على بعض فهذا من صاحب الشرع تعديل لكل مسلم فتعديل صاحب الشرع أقوى من تعديل المزكى ثم العدالة هي الاستقامة يقال للجادة طريق عدل وللبيان طريق عدل جائز وقد علم القاضى منهم الاستقامة واعتقد وذلك يحمله على الاستقامة في التعطاطى فعليه أن يتسمك به ما لم بظهر خلافه فهذا دليل شرعي فوق خبر مزكى وانما يعتمد هذا الدليل إذا لم يطعن الخصم فأما بعد طعنه يقع التعارض لان الخصم مسلم ودينه يمنعه من أن يجازف بالطعن فيهم فللتعارض وجب على القاضى أن يسأل حتى يظهر المرجح لاحد الجانبين بخبر المزكى فأما في الحدود يسأل وان لم يطعن الخصم احتيالا للدرء وقد أمر بدرء الحدود لان الحدود ان وقع فيها غلط لا يمكن تداركه وبظاهر العدالة لا تنتفي الشبهة ففيما يندرئ بالشبهات لا يكتفي بذلك فأما المال مما يثبت مع