مجلة البيان للبرقوقي/العدد 10/رسائل الفيلسوف سنيكا

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 10/رسائل الفيلسوف سنيكا

ملاحظات: بتاريخ: 6 - 2 - 1913



إلى صديقه لوسليوس

الرسالة السابعة

(في أنه ينبغي الابتعاد عن أخلاط الناس)

تقول لي ما الذي يجب علي تحاشيه واتقاؤه أقول لك تحاشى غوغاء الناس واتق أخلاطهم لأن الاختلاط بهم ليس وراءه إلا التأثير على أخلاقك، وإني أعترف لك بضعفي فإني ما اقتحمت مجالس هؤلاء إلا وخرجت بخلق غير الذي دخلت به ولا احتطت لنفسي احتياطاً إلا وأفسدت علي حيطتي مخالطتهم ولا طردت من نفسي رذيلة إلا وعادت إليّ من عشرتهم السوآى لأن حالنا كحال بعض الناقهين من أمراض طويلة وعلل مزمنة الذين قد يتعبهم الخروج وينتكسون إذا هم تعرضوا للهواء فنحن كذلك لأن نفوسنا قد تخلصت من عللها بعد طول عناء لا جرم يتبعها مباشرة أحد أسبابها أعني مخالطة الجمهور فيعاودها منه الداء الذي قد يكون شيء من جراثيمه كامناً فيقوى فينا ويزداد وما يزيده إلا الاختلاط بجمهور الناس الذين لا تزايلهم عادة تلك الأدواء النفسانية، لا شيء أضر على الأخلاق الطيبة من الفراغ والشغف بالألعاب لأنه قد يعقب التلذذ برؤيتها والسرور بمشاهدتها في الغالب التصاق كثير من الرذائل بنفوسنا دون أن نشعر بها أو أن نأبه لها فافهم ما أقوله جيداً واعلم أني ما شاهدت هذه الألعاب مرة إلا وعلق بنفسي شيء من مثل رذيلة البخل أو الطمع أو الميل إلى الشهوات فضلاً عما تجلب إلى النفس من قساوة القلب وسلب الفؤاد الرحمة والشفقة الإنسانية وما سبب ذلك إلا اختلاطي بغوغاء الناس فيها، لقد ساقني القدر إلى مشاهدة ألعاب الجنوب فذهبت إليها على أمل أن أرى ألعاباً سارة مسلية للنفس خالية من إراقة الدماء فخاب ظني وتبين لي أن ألعاب المصارعة كانت عندنا أمس أقرب إلى الرحمة والشفقة منها اليوم لأن أبناء هذا الجيل لا يرغبون إلا في إزهاق أرواح المتصارعين فلذلك ترى المصارع لا يستر جسمه ساترٌ ولا يقي بدنه الخطر واق فكل ضربة بين المتصارعين تحدث في أجسامهم جراحاً وتسيل أبدانهم دماءاً فما هذا أيفضلون هذه المناظر الدموية على تلك الألعاب اللطيفة العادية، ولم يرغبون فيها ويحبونها؟ وما هي إذا فائدة الخوذ والدروع والتروس وتعلم السلاح إذا كانت لأتقي الناس القتل؟ ولكنهم يعرفون في الألعاب اليوم مع الأسف شيئاً من ذلك ففي الصباح ترى المصارع المسكين معرضاً لافتراس الأسد والدببة وفي الظهيرة يدخل في مصارعة غيره من المتصارعين على تلك الحال البربرية المشتهاة للمتفرجين وهو على الحالين إن لم يقتل في أول النهار فلا يأتي عليه آخره إلا وهو مقتول وقاتله لا بد أن يلقى هو أيضاً حتفه وبالجملة فحظ كل هؤلاء المتصارعين في النهاية الموت هذا ما يريده ويولع به جمهور المتفرجين اليوم فلا يسرهم ولا يطرب نفوسهم غير ما تعمل النار والحديد فماذا يروقك أنت أيها المشاهد المسكين من تلك المشاهد وسماع قول الأخلاط للمتصارعين: اقتل خصمك، ألق عليه النار، انقض عليه بالضرب، لم هذا الإحجام على الانقضاض على الحديد لم هذا التحفظ في الإجهاز على خصمك، لم كل هذا الخوف من شرب كأس المنون وفضلاً عما تسمع من أمثال هذه العبارات في الحث والإغراء للإقدام على هذه الأفعال الوحشية تشاهد عصي الموكلين بأمر حفلة الصراع تدفع بالقسوة المتناهية هؤلاء المتصارعين التعساء إلى التعجل في لقاء الحتوف ومقابلة الموت الزؤام بصدورهم العارية وجراحهم الدامية وإذا ما انتهى فصل من فصول هذا اللعب فقد لا يفوت متفرجينا في الفترة التي بينه وبين الفاصل الذي يليه مشاهدة قتال بعض الناس من المتفرجين ورؤية دماءهم تهراق.

ما هذا الخرق والجنون أيتها الأمة الحمقاء أولا تعلمين أن مثل هذه الأعمال الوحشية قد يعود ضررها على القائمين بها ولكن اشكري للعناية الإلهية أن من تعلمه قساوتك قساوة لا يتعلمها فينبغي على كل حال أن يبتعد من معاشرة أخلاط الناس ذوو النفوس الضعيفة التي لم تتأصل فيها الفضائل الإنسانية وتستحكم الخيرات البشرية لأنها قد تكون سهلة الانقياد والاقتداء بما عليه الجمهور من الأحوال وأن تعاليم كبار الفلاسفة كسقراط وكاتون وليليوس وفضائلهم قد تتزعزع أركانها في النفوس من مخالطة ذوي الأخلاق الفاسدة والطباع السيئة من غوغاء الناس وهل في قدرة أمثالنا ممن لا يزالون مجدين عاملين على تهذيب نفوسهم وتزكيتها مقاومة سيل الرذائل الجارف الذي يبدو على رؤوس الأشهاد من الجمهور ويكون له من التأثير على النفوس ما له، لا جرم أن مثالاً واحداً في الإسراف أو الترف والشح قد يكون فيه من الضرر البليغ ما فيه وإن معاشرة إنسان واحد اشتهر بالترف والبذخ لتجلب على النفوس مصيبة الميل إلى السرف والنعيم وإن مجاورة غني واحد يظهر لنا كل يوم في زينة جديدة قد يثير أطماعنا وحسدنا وإن مصاحبة شرير واحد قد تجر على النفس من الفساد ما لا قبل لها بالخلاص منه فإذا كان كل هذا يصيبنا من معاشرة إنسان واحد فكيف لا يكون الخطر شديداً علينا من مخالطة جمهور غفير من الناس جمعت نفوسهم خصال الشر بأجمعها فيضطر المرء إما إلى بغضهم وكراهة معاشرتهم وإما إلى مجاراتهم والانتظام في سلكهم، أما أنا فلا أرضى لك سلوك أحد هذين الطريقين فلا أشير عليك بكراهة السواد الأعظم لأنهم ليسوا على شاكلتك كما لا أقر على مجاراة شرارهم في أخلاقهم وأفعالهم بل الذي أشير به عليك أن تعتزل الناس وتبتعد عن غوغائهم وتشتغل بنفسك ما أمكنك ذلك ولا بأس أن تعاشر من تجد في معاشرتهم ما يزيدك من خلال الخير وأن تخالط من تتوسم فيهم حبه والرغبة في تعلمه فتهديهم سبيله وترشدهم إلى مناهجه ولنعمت الحال في تبادل المنفعة والفوائد فالمرء قد يتعلم وهو يعلم وإنما أحذرك التطوح والشطط وألا يخدعك غرور نفسك فترغب في إظهار مقدرتك وعلمك على الملأ بالخطابة فيه أو القراءة عليه فإني لا أسمح لك بذلك ولا أجيزه إلا إذا كان المستمعون إليك على شاكلتك في الفضائل ورفعة النفس وهم مع الأسف قليل عنيدهم بل أن من قد يأتون إليك لتعلمهم هذه الحكمة على ما أنت عليه قد لا يزيد عددهم عن رجلين أو ثلاثة رجال ولقد تقول وعلام إذاً أجهد نفسي في التحصيل ومن ذا الذي أعلمه كل ما حصلت من العلم؟ أقول لتطمئن نفسك وليسكن روعك فإن تعلمك لم يضع عليك ولم يذهب سدى لأنك إنما تعلمت لنفسك على أني أخالف ما قررت آنفاً وإني لم أتعلم لنفسي وحدها بأن أسرد على سمعك ها هنا ثلاث حكم لا تخرج عن معنى ما قررت وها هي ذه: قال ديمقريطس: الواحد هو الكل لأن الكل لا يتركب إلا من الواحد أما الكلمة الثانية فإني أوافق عليها كل الموافقة مهما كان قائلها الذي لا يعرف وهي جواب سؤال سئل فيه عن تأليف دقيق وضعه وعني به عناية كبيرة فقيل له: لم عنيت كل هذه العناية بتصنيف هذا الكتاب الذي لا يقرأه إلا القليل من الناس ممن يفهمونه فأجاب على الفور: إني لا أريد إلا هذا القدر القليل من القراء بل قارئاً واحداً ليس بقليل ويؤثر عن أبيقور هذه الحكمة المشهورة التي ضمنها كتاباً بعث به إلى أحد رفقائه في طلب العلم قال: (هذا الذي أكتب به إليك إنما هو لك وحدك وليس للجمهور وأنا وأنت نكون مسرحاً عظيماً) فدقق أيها الصديق في فهم مغزى هذه الحكم يسهل عليك احتقار ما قد تفرح به نفسك ويطرب له فؤادك من ثناء الجمهور عليك وإطراءه إياك وما هو ثناء الجمهور؟ إنه لعمري ليس فيه شيء يزيد كثيراً في قيمة المرء ومكانته وإنما يزيد المرء قيمةً بل يزيده زينة نفسه فتحرى ذلك في نفسك واستمد الثناء عليك والمكافأة لك منك.

الرسالة الثانية

(فيما ينبغي أن يصرف الحكيم فيه عنايته)

كتبت إلي تقول: تأمرني أن أعتزل الناس وأن أبقى بعيداً عنهم قانعاً بمسامرة ضميري راضياً بمناجاة وجداني فماذا أصنع إذاً بتعاليمك ونصائحك التي تحثني على أن لا أنقطع عن العمل حتى الممات؟ - أقول ما هذا الوهم أأنا في حالتي الراهنة بناء على اعتقادك هذا عاطل من العمل؟ إن الغاية الشريفة من عزلتي وانفرادي بمحض اختياري إنما هي لكي أتوفر على العمل الذي أنا بصدده حتى تعم فوائده الجمة الغفيرة من الناس حتى أني لأخصص شطراً من سواد الليل للعمل ولا آخذ راحتي من النوم إلا إذا غلبني النعاس وجعلت عيناي ما تبصران ما أمامي من القرطاس إلا بصعوبة وعياء منه وإني ما اعتزلت الناس وانقطعت عن الأشغال المادية حتى أشغالي الخاصة إلا لتوفر علي الأعمال العينية التي تفيد الأجيال القابلة فإني في الكتابات إنما أتحرى نفع هذه الأجيال وإفادتها ولها وحدها أدون النصائح والإرشادات المفيدة في مؤلفاتي عن تجربة وخبرة بالأيام مما أصابني من المحن والإرزاء التي وإن كانت لم تزل جراحها دامية إلا أنها قد التأمت وعرفت من التجاريم المنهج الواضح والصراط السوي في الحياة بعد أن ضللت سبيله ولحقني من متاعب الحياة ومغرراتها ما دفع بي إلى كشف الغطاء عنه للناس صائحاً فيهم (أيها الناس فروا من كل ما يخدع عوام الناس من حظوظ العالم ومظاهره التي تسوقها الحظوظ وتحاشوا خيرات عارية وسعادات باطلة وخذوا حذركم ولا تأملوا للأيام واعلموا أن مثلكم في الغرور كمثل الأسماك والظباء توضع لها الطعم في الشباك فتقع فيها فمنح الأيام ليست إلا مصائد للرجال فإذا أحببتم أن تعيشوا بسلام آمنين مطمئنين فلا تركنوا إلى متاع الدنيا الغرور وإلا أصابكم الفشل وبؤتم بالخسران والضلال المبين فأنا لعمرك أن يخيل إلينا أنا فيها الآخذون وما نحن إلا مأخوذون فزخرف الدنيا والانغماس في نعيمها ما هو إلا هوة سحيقة تسقطون فيها وهو نهاية المجد والسؤدد الذي تتوهمونه وإن المرء إذا انساق في تيار هذه الغرور الدنيوي تعذر عليه الوقوف فينبغي له للنجاة إما المقاومة أو الفرار من وجه المعترك لأن غرور الدنيا وزخرفتها لا يتحول فقط بل هو قد يسقط الناس ويسحقهم سحقاً وهاكم طريقة سهلة الاتباع في السلوك في الحياة وعلاجاً شافياً وافياً لإنقاذكم من غروركم إذ أنتم اتبعتموه نجوتم وذلك أن لا تكون عنايتكم بالأبدان إلا بمقدار ما يقتضيه سلامتها وحفظ صحتها وأن تعودوها الاخشوشان في العيش حتى لا يكون لها سبيل إلى الجماع وعصيان العقل فلا تنيلوها من الطعام إلا بمقدار ما يسد رمقها ولا من الشراب إلا بمقدار ما يبل ظمأها ولا من الكساء إلا بمقدار ما يقيها الحر والقرّ ولا من السكن إلا ما يدفع عنها الطوارئ والعاديات وسيان أن يكون هذا المسكن كوخاً حقيراً من أصول الشجر أو قصراً فخيراً مشيداً بالجص والمرمر المجزع لأن أصول النبات وغصون الأشجار تؤدي هذا الغرض أفضل مما تؤديه حتى لبن الذهب والفضة بل هي آمن منها في الحماية والوقاية فاسقط هذا النعيم كله من عينك ولا تتطلع إلى زخارف تافهة ليست في العير ولا في النفير من الشرف والزينة واعلم أن شرف المرء وزينته في نفسه فإذا هي عظمت وسمت ظهر له كل شيءٍ حقيراً في جانبها.

فمن جعل مذل هذا النصح نصب عينيه وعني بتقريب أمثاله لإرشاد الخلف ألا يعد عمله في اعتبارك مساوياً في النفع تولي القضاة بين الناس والنظر في أمورهم ووضع الأختام في ذيول الوصايا أو العمل في مجلس الشيوخ ومساعدة أرباب المصالح فكن على ثقة أيها الصديق أن هؤلاء الذين قد تدل الظواهر أنهم عاطلون عن العمل إنما هم الذين يعملون جلائل الأعمال وإنهم يشتغلون بما تحوي الأرض وتشمله السماء وقد آن لي أن أختم هذا الكتاب ولكن لا بد لي من دفع ما فرضت على نفسي من الأتاوة اليومية وهي حكمة مستقاة من بحر أبيقور قال: كن عبداً للحكمة تكن حراً جد الحرية وليس في هذه العبودية ذلة أو عذاب بل فيها السرور والبهجة لأنه من يخضع للحكمة ويتمسك بأهدابها ويستقيم لأوامرها يفك عنه ربقه في الحال فخدمتها هي الحرية ولعلك تقول ما الذي يدعوك لترك حكم فلاسفتنا وتفضيل حكم أبيقور على سواها فأجيبك ولم لا تقول أنها للجمهور وليس لأبيقور، وكم من حكم ومعاني سامية طرقها كثير من الشعراء فضمنها الحكماء حكمهم أو غفلوا عنها وكان يجب ألا يغفلوها هذا فضلاً عما في رواياتنا التمثيلية من حكم ورقائق شعرية، وكم من أشعار حكمية تلوكها ألسنة الرواة والقصاص وكم من درر غوال حوت أشعار مثل الشاعر بوبليوس حرية بأن يترنم بها في أعظم أمكنة التمثيل دون الاستجداء بها على قارعة الطريق لما فيها من نفائس الحكم الجديرة باختيار الفيلسوف ولأذكرن لك بيتاً واحداً يدخل في موضوع هذا الكتاب وقد بين فيه ذلك الشاعر أنه لا ينبغي لنا أن نحفل بعطايا المصادفات لأنها ليست لنا قال:

والعطايا من الجدود عوار ... والعوار مصيرها للمعير

واذكر أنك ضمنت هذا المعنى بيتاً لك فقلت:

وهل للمرء في الدنيا نصيب ... إذا كان الزمان إلى سواه

ولا أغفل أيضاً عن ذكر هذا البيت وقد كشفت فيه الغطاء عن مبلغ حظنا من العالم فقلت:

وما نمنح من الخيرات جماً ... فإن الدهر مرجعه إليه

وهذه بضاعتك ردت إليك ليس لي فيها شيءٌ

صالح حمدي حماد