مجلة البيان للبرقوقي/العدد 11/نوابغ العالم

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 11/نوابغ العالم

ملاحظات: بتاريخ: 6 - 4 - 1913



ابن الرومي

(تابع)

بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

لا ريب إن كثيراً من فصول هذه الرواية الإنسانية قد استسر خبرها، وأمحى أثرها، وأصبح عند الله علمها، ولكن ذلك لم يغلل أيدي الناس عن التنقيب والبحث، ولم يحل بينهم وبين ما يرومون من تفحّص أخبار الإنسان، والمبالغة في استخبار آثار عنه، وإن كانوا بعدُ لم يتمكنوا من الحجة، ولم يجدوا رائحة الكفاية، ولا ثلجوا ببرد اليقين،. . ألا ترى الناس على عجزهم الظاهر، وقصورهم البادي عن الإفضاء إلى حقيقة الأمر لا يزالون يجمعون ما تصل إليه أيديهم من آثار أبطال العالم وعظمائه، وإن كانت في ذاتها تافهة لا قيمة لها ولا وزن، علّهم يستشفون منها نفوسهم، ويستجلون أحلامهم وهواجسهم؟، إلا أنا اليوم على قلة الوسائل، ونزارة الذرائع، وضعف الأسباب، أفطن لمعاني العظمة والبطولة في الإنسان وأشد إدراكاً، وأحسن في الجملة تقديراً لها من أسلافنا. . فإنهم وإن كانوا قد رفعوا أبطالهم إلى مراتب الآلهة، ومنزل الأرباب، غير أن الناقد المتأمل ليجد في عبادتهم هذه شيئاً من خشونة حياتهم، وشظف عيشهم، ولكنا اليوم وإن كنا لا نسكن عظماءنا جبال (أولمب) أو (ولهلا) ولا نعتقد أن الشمس من مظاهر (أو رمزد) غير أنا على ذلك ألطف حساً، وأصفى نفساً، وأصح نظراً، وأوسع إدراكاً، وأحسن انتفاعاً. .

وليس معنى هذا أن آباءنا كانوا لا يفطنون للعظمة والبطولة ولكن معناه أن صلتهم بعظمائهم ونسبتهم إليهم كانتا على غير ما ينبغي أن تكونا، ولو نحن أردنا أن نثبت ذلك من طريق البرهان القيم، والدليل المقنع، لا حوجنا ذلك إلى التطويل، وإلى تكلف ما لا يجب، وإضاعة ما يجب، ولكنا نستغني بالاختصار عن التطويل، وبالإجمال عن التفصيل، ثقة منا واستيقاناً بأنها مسألة يجلوها أيسر النظر، ويكشفها أهون التأمل.

الإنسان مطبوع على الإيمان بالعظيم إيمانه بالحياة، وليس ثمة ما يعين على احتمال الحياة، ويجلى من وحشتها مثل هذا الإيمان، لأن العظيم في كل عصر كوكبه اللامع، ونبراسه الساطع، وبدره الزاهر، وبحره الزاخر، وليت شعرى هل الناس لولا العظماء الأج النمال، أو تلال من الذباب؟؟

وكما أن الوردة لا يعييها أن تسطعك تفتحها، ويتثوّر إلى أنفك نسيمها، والجميل لا يشق عليه أن يتمثل لعينك حسنه، وترتسم في قلبك ملاحته، كذلك لا يرهق العظيم أن يسوغك من صفاته، ويضفى عليك مما أفاض الله عليه، وأسني له، وآثره به، ولكن ذلك لا يتهيأ حتى يكون بينه وبين الناس اتصال، وله إليهم انتساب وانتماء، وحتى يحس الناس أنهم واجدون عنده ما يحبون وبالغون منه ما يطلبون،. . فإن من الناس من يسدي إليك مالا حاجة بك إليه، أو يجيبك إلى ما لم تسأله، وهذا لا طائل وراءه، ولا ثمرة عنده، ولا خير فيه، وإنما العظيم من فطن إلى حاجة الناس فسدها، وأدرك مواضع الافتقار والضعف فراشها، ومن عرف موضعه وبلغ الناس ما في نفوسهم، وأمكنهم مما يطلبون. وليس يخطيء العظيم موضعه، أو يخفى عليه موقعه، لأنه كالنهر يحفر لنفسه مجراه، ويكوّن له ميلاً أينما تحدر، وأنت فإذا رجعت إلى نفسك ونظرت في تاريخ العصور التي ظهر فيها العظماء علمت علماً يأبي أن يكون للشك فيه نصيب، وللتوقف نحوك مذهب أن العظيم لا يظهر في عصر إلا إذا كانت الحاجة إليه ماسة، والافتقار إلى مثله شديداً، وأنه لو لم تلد آمنة محمداً لولده غيرها من نساء العرب، ولو لم يهرب شكسبير من بلده إلى لندره لنبغ من غيره هذا الشعر الذي تقرأ له اليوم، ولا يقنت أن العصر الواحد قد لا يسع أكثر من عظيم واحد، أو هو يسعه ويسع نقيضه في مذهبه، وعكسه في منزعه.

وكما أن النبات يحول معادن الأرض غذاء صالحاً للحيوان، كذلك العظيم يتناول الطبيعة فيستخدمها ويجيء الناس منها برجعة صالحة، والطبيعة إذا صادفت كفؤاً حقيقاً بها، ووالياً مطيقاً لها. وناهضاً مستقلاً بأعبائها أضفت عليه ملابسها، وكشفت له عن نفائسها، وأما علت عن سرها الحجب، ونقت عنه معتلج الريب، وكانت له رائداً فيما يطلب، وهادياً حيث يؤم ويذهب، فإنما تفضح الطبيعة عن مضمونها، وتظهر مكنونها، لمن تعرف فيه القدرة على فهمها وتوسعها من معاريض رموزها، واستشفافها من وراء لئامها. وتظن فيه الإيفاء في الوفاء. وتستشعر فيه الأبرار في الحفاظ، فإن دقائق الطبيعة وأسرارها، وخصائص معانيها، ليست مبذولة لكل أحد، ولا مذللة لكل من يبسط لها كفها، أو يرفع إليها طره، ولكن لمن إذاً ما نظر كان وما ينظر شيئاً أحداً، فإن الشيء لا يعرفه إلا شبيهه، ولا يحيط به إلا ضريبه أو ما فيه منه شناشن، كما يعرف الحديد الحديد ويجتذبه إليه، والإنسان من طينة الأرض فليس ينسى منبته. أو تختفي عليه طينته وجرثومته والطبيعة كتاب مطوى تعلن منه في كل عصر صحائف يتلوها على الناس أناس هدوا إليها، ودلوا عليها، وكشف لهم عنها، ورفعت الحجب بينهم وبينها، وكما أن الماء إذا بلغت حرارته المائة لم يزده إلحاح النار شيئاً، واستوي عند هذه الدرجة كل ماء، كذلك لعظمة الإنسان غاية ليس وراءها زيادة لمتزيد، ولا فوقها مرتقى لهمة، يستوي عندها كل من بلغها.

ترى في كل عصر ثلاثة من العظماء أو أربعة يحاولون أن يبلغوا هذه الغاية ويرتقوا إلى هذه النهاية، والناس من حولهم يرمونهم بعيونهم، ويتبعونهم بأبصارهم، وهم مجدون في الأصعاد، مندفعون في التوقل، لا يكترثون لم نظر ولا لمن لم ينظر، ولا يبالون بما يعترضهم في سبيلهم، حتى تتعاظم أحدهم عقبة فيَهِن، ويتعلل بأن لو كان على الجهد مزيد لبلغه، ويثبط الثاني تعاقب الموانع، وتواصل العقل، فينكل عما شمر له، والناس بين مبتئس له عاذر، وضاحك به ساخر، ويمضي الآخران حتى تكتنفهما السحب، ويغيبا عن عيون الناس، وترمقهما النسور، ثم يشتد البرد، ويعظم الخطب، وتثور الرياح، وتهيج العواصف، ويتوعر المرتقى، وتنصدع الأرض فيهوي أحدهما، والمجد خوان وغرار، وينطلق الآخر متخطياً رقاب الموانع، مذللاً ظهور العوائق، بين بروق السحاب ورعودها، وثورة العواصف وهجودها حتى ينتهي إلى الغاية، ويبلغ النهاية، فيصافح كونفوشيوس، وبوذا، وموسى، وعيسى، ومحمداً، وهومر، وشكسبير، وابن الرومي وغيرهم ممن لا حاجة بنا إلى حصرهم.

وهنا شبهة ضعيفة عسى أن يتعلق بها متعلق ممن لا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، ولا يفوتون أطراف بنانهم، وهي أن يدعي أني قد أسرفت في القول، وجاوزت الحد فيما زعمت من أن للعظمة غاية لا مزيد عليها، ولا متجاوز وراءها، وأن من بلغها من العظماء متكافئون في المزية لا فاضل بينهم ولا مفضول. وهي شبهة سائرة على الأفواه، وإنما دخل الغلط على الناس فيها من جهة حسبانهم أن العظمة تقاس كما تقاس الأرض طولاً وعرضاً وتحد كما تحد الدار شرقاً وغرباً، وخلطهم بين ما يحتمل النسبة والقياس وما لا يحتملهما، ونسيانهم أن الشاعر الفحل مثلاً لا يخمل أخاه الفحل، إذا أخمل العالم العالم، وأنه وإن كان كل روائي مديناً (لهومر) إلا أن هذا ليس بمانع أن يدرك شأوه أحد من غير أن يزري به، كما أزري (جاليليو) بدائنه (متزو) وكما أزري (كبلر) (بجاليليو) و (ديكارت) بالجميع وإنما كان هذا كذلك لأن العلم لا يقف عند حد، ولا يطمئن إلى حال فهو أبداً في تقدم، ولعل خير الكتب العلمية أحدثها، فالجديد منها ينسخ القديم، والمتأخر من العلماء يبني على ما أسس المتقدمون، ويشيد على ما وضع الأولون، والأصل في كل شيء أن يزيد ويقوى ويتقدم، ولكن جمال الشعر في أنه ليس قابلاً لشيء من ذلك، لأنه ابن الإرادة، ولأن العلم اكتسابي والشعر وحي وإلهام، فإن امتريت في هذا فأرجع البصر في القرون الخالية هل ترى شكسبير غض من دانتي، أو دانتي من هومر؟ وليس معنى هذا أن الشعر جامد لا يطرأ عليه تغير، ولا يلحقه تحول، وإنما معناه أنه يتحول ولا يتقدم، فإن شعر أبي تمام غير شعر المتنبي وإن كانت الأغراض واحدة، ولا الثاني بعد لا يفضل الأول ولا الأول الثاني. .

ولكن ما عسي دهشة صولون تكون إذا علم أنّا لا نعتمد اليوم في حساب السنة على القمر، أو زينون إذا رآنا نسخر من قوله أن الروح مقسمة إلى ثمانية أجزاء، أو أفلاطون وهو من تعلم إذا قيل له أن ماء البحر لا يشفى كل داء، أو أبيقور إذا علم أن المادة تتجزأ إلى مالا نهاية له من الأجزاء، أو أرسططاليس إذا قيل له أن خامس العناصر ليس له حركة كروية، لأنه ليس ثمة عنصر خامس، أو أيمنيد إذا علم أن اختلاط الشاء والنعم بيضائها بسودائها وتقديم بعضها قرباناً للألهة لا ينفع من الطاعون ولا غيره، أو كريسباس إذا قيل له أن الأرض ليست سطحاوان الكون ليس مستديراً محدوداً، وأن لحم الإنسان خير طعام للإنسان، وأن الأب لا ينبغي أن يتزوج من ابنته، وأنه رب كلمة لا تقتل الحية ولا تذلل الدب، ولا توقف النسور في الجو، وأنه وإن كان سيف (جوبتر) مصنوعاً من خشب السروفليس يجب من أجل ذلك أن لا يصنع النعش منه، وأن العنقاء لا تعيش في النار ولا في غيرها، وأن الهواء لا يحمل الأرض كما تحمل العربة الأثقال، وأن الشمس لا تشرب من البحر ولا القمر من الأنهار، وأنه لا يعرف شيئاً وإن كان أهل (أثينا) قد نصبوا له تمثالاً نقشوا عليه:

إلى كريسباس الذي يعرف كل شيء.

أما في الشعر فالأمر على خلاف ذلك، لأن الآتي لا يفوق الفائت، ولكن يبلغ شأوه، ولا خوف على متقدم من متأخر، فإن المتنبي لم يخمل اسم النابغة، ولا صغر المعري قدر البحتري، ولا أنزل الشريف من رتبة ابن هانئ، ولا ابن الرومي من بشار، ولقد أعجبتني كلمة كتبها (جويتى) إلى معاصره (شيلر) قال:

لقد عادت النفس فحدثتني أن أجعل قصة (وليام تل) ملحمة شعرية، ولست أخشى على من روايتك، ولا بأس عليك مني ولا بأس عليَّ منك.

وهذا صحيح لأن الشعراء لا يركب بعضهم أكتاف بعض ولا

يدفن بعضهم بعضاً ويمشي ... أواخرهم على هام الأوالي

وليس الأصل في الشعر التقليد والحكاية والطبع على غرار من سبق، إذ لو كان هذا كذلك لاستوجب ذلك أن يظهر الفحول من مثل هومر وشكسبير وابن الرومي في آخر العصور ولا في أولها، ولكنك ترى الشعر في جاهلية الأمم وبداوتها كالشعر في حضارتها، لطف تخيل، ودقة معنى، وسداد مسلك، وقصداً للغاية، لأن شاعرية الإنسان لا يلحقها نقصان، ولا يعروها فتور في عصر من العصور، كالبحر، وليس يزيد البحر صوب الغمام، ولا يضيره احتباس الغيث، وأنت فلا يغرنك ما ترى من الكلال في الأوقات، والضعف في الأحيان، فإن المدّ في جهة يستلزم الجزر في أخرى،. . وكما أن البحر إمّا جاش يبثك ما في صدره مرة واحدة، ويفيض لك بجميع سره موجه الملتطم، وأذيه المصطفق، ولجه المربد، وثَبَجُه المغبر، كذلك يستريح إليك الشعراء بمكنون سر النفس الإنسانية، وباطن أمرها، ويفرشونك ظهرها وبطنها، في كل عصر، وكتتابع الأمواج تتابع الشعراء: تسكن الإلياذة فتثور (الرومانسيرو) ويرسب الإنجيل فيطفو القرآن، وتأتي بعد نسيم النواسى زوبعة ابن الرومي وبعد صبا البحتري صرصر المعري،. . . ورب مستفسر يقول إذا كان هناك كذلك أفليس كل واحد صورة معادة لمن سبقه وهذا خطأ وهو أيضاً صواب فإن الشعراء جميعاً أشكال متشابهون على أنهم بعد يتفاوتون التفاوت الشديد، فالنفس واحد، والأصوات مختلفة، والقلوب متطابقة، والأرواح متباينة، وكل شاعر يطبع الشعر بطابعه ويسمه بميسمه.

كذلك الرياح نسيم وعواصف، وصرصر وحرور، وهي بعد كلها رياح،. . والأيام سبت وأحد واثنين ولكل يوم حوادثه ومميزاته وهي بعد كلها أيام، والشعراء هومر وفرجيل وشكسبير وابن الرومي والمتنبي ولكل صفته التي تميز بها وهم بعد كلهم شعراء وكلهم هومر وكلهم شكسبير وكلهم ابن الرومي.

وبعد فأنا كما يعلم القارئ مما أسلفنا عليه القول في صدر كلامنا على البطولة لا نرى رأي كارليل الذي بسطه في كتاب الأبطال وعبادة البطولة حيث يقول هذه حقائق كان الأقدمون أسرع إلى إدراكها منا نحن. . . . . . . . كانوا بدلاً من اللغو واللغط في شأن الكائنات ينظرون إليها وجهاً لوجه والروع والإجلال حشو قلوبهم أولئك كانوا أفهم لآيات الله في كونه وأدرك لسر الله في عبيده - كانوا يعرفون كيف يعبدون الطبيعة وأحسن من ذلك كيف يعبدون الإنسان!.

بيد أننا لم نذهب إلى أن الأقدمين كانوا أضعف منا إدراكاً للعظمة والبطولة ولا أقل فطنة لمعانيهما ولا أبطأ حساً، وإنما قلنا إنا أحسن تقديراً لهذه المعاني منهم، وأقل غلواً وأدق استشفافاً لها واستبطاناً لكنهها وهذا مالا ينكره علينا كارليل في كتابه الذي أشرنا إليه، فإن الناظر في كتاب الأبطال يعرف من تبويبه وتنسيق فصوله كيف تطور معنى البطولة كما تطور كل شيء في العالم، وكيف أن الإنسان كان في بادئ الأمر يعبد الأبطال ثم عرف أن الألوهية ليست للإنسان، وهنا مسألة عجيبة الأمر لطيفة المأخذ وهي أن الأنبياء هم أول من صرف الناس عن عبادة الناس وصححوا أخطأهم في ذلك وكسروا من غلوائهم وأقاموهم على طريقة هي لا ريب أمثل وأفضل، ثم أدرك الناس بعد ذلك أن البطولة ليست قاصرة على الأنبياء وأنهم لم يختصوا بها وحدهم دون غيرهم وأنه رب قسيس كلوثر هو في المنزلة الأولى بين الأبطال ثم فطنوا إلى أن الأنبياء والقساوسة ليسوا كل العظماء وأن الشاعر عظيم والفيلسوف عظيم والملك عظيم، فهل يدعي بعد ذلك أحد أنّا اليوم لسنا أوسع من الأقدمين مجال فكر وأبعد مرمى نظر وأننا لسنا أفطن للعظمة في جميع مظاهرها؟ ثم ألست ترى كيف أن الأقدمين كانوا يتوجهون إلى العظماء بقلوبهم دون عقولهم وإنّا نتوجه إليهم بقلوبنا وعقولنا معاً!

وبعد فإن مجال الكلام ذو سعة، ونحن نخشى أن يطول عنان القول ويمتد بنا نفس الكلام فنخرج عما قصدنا إليه ولحسبنا هذه المقدمة الوجيزة. وإن كنا لم نستوعب فيها أطراف الموضوع وأغراضه المتشعبة ولكنا حريون أن لا نمتحن صبر القارئ وأن ندخره لما يأتي،. .