مجلة البيان للبرقوقي/العدد 13/حول المرأة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 13/حول المرأة



قام بين الجرائد المصرية ضجة جديدة حول تحرير المرأة ننتهزها نحن الآن فرصة للكلام على المرأة ومستقبلها، مع بيان مختصر عن حال النساء المسترجلات في انجلترة التي توافينا التلغرافات كل يوم عن مشاغباتهم للحكومة.

قد يتساءل الناس عند البحث عن حال المرأة ما هو مركز الأنثى مطلقاً في العالم الحيواني؟ وهذا ضروري لنعرف إذا كانت الطبيعة ترمي إلى تفضيل الذكر على الأنثى كناموس عام لها، أو هي الظروف فقط تفضل أحياناً الأنثى على الذكر في بعض الأنواع، وأحياناً أخرى تفضل الذكر على الأنثى.

بحث سير لانكاستر في هذا الموضوع، وخرج منه بأن الأنثى في الجملة أقوى وأكبر جثماناً من الذكر على عكس ما يعهده القارئ. وقد ذكر ضرباً من الأسماك بالغت الطبيعة في إظهار أنثاه على الذكر حتى صيرت الأنثى تزن ألف ضعف ما يزنه الذكر. وهناك نوع آخر من السمك يتضاءل فيه الذكر حتى يصير في حجم الخراطين على حين أن أنثاه تكبر إلى حد كبير.

وأنثى العقرب أكبر وأقوى من الذكر. فهي إذا شعرت أنها تلقحت منه انقضت عليه أكلته من رأسه إلى قدمه. وكذلك تفعل أنثى العنكبوت بذكرها. ولكنه أحياناً ينجو منها لأنه لا يكاد يشعر بانتهاء السفاد حتى يقفز عنها هارباً ناجياً.

وليست الحضانة وتربية الأولاد من واجبات الأنثى الطبيعية كما يتوهم بعض الناس ذلك.

فقد ذكر الجاحظ وحقق قوله العلماء الآن أن الظليم يرخم على بيض النعامة (يحضنه) كالدجاجة الرنقاء حين تسعى هي لمعاشها.

وجملة القول أن الطبيعة لا تؤيد من يذهبون إلى تفضيل الذكر على الأنثى في القوة الجسمية أو العقلية. أما في النوع الإنساني فالذكر أقوى من المرأة مطلقاً في القوة الجثمانية وهي أقوى منه نسبياً في القوة العقلية. لأن حجم دماغ المرأة بالقياس لجسمها أكبر من حجم دماغ الرجل بالقياس إلى جسمه.

وقد أثبت التاريخ أن الرجل كان القائم عليها في القرون الماضية مع شذوذ قليل ومثال ذلك أن في بعض القبائل الألمانية حكمت النساء الرجال حقبة طويلة من الدهر.

وكانت المرأة المصرية القديمة تنعم بكل حقوق الرجل على أن ذلك كان في عصر التمدن ولكن لا مراء في أن الرجل استعبد المرأة في كل زمن وحشيته وبربريته كما يفعل المتوحشون والمتبربرة الآن. فقد كانت المرأة ملكاً لرئيس الأسرة يتصرف فيها بيعاً وشراءً وقتلاً وعقاباً مثلما يتصرف في عبيده وأولاده وما ملكت يمينه.

وإذا نظرنا إلى المدنية الغربية الحديثة وجدنا أنها بدت بتحرير أفراد الأسرة التدريجي من سلطة الوالد.

فقد تحرر أولاد رئيس الأسرة من سلطته ثم تلاهم في ذلك العمال الذن يعملون في أرضه وتلا هؤلاء مواليه وتلا هؤلاء أخيراً المرأة.

وقد شاع النقاب والحجاب عند بعض الأمم الشرقية مثل العرب والروس. فلما أراد بطرس الأكبر قيصر روسيا أن يدخل المدنية بلاده التزم أن يحتم على أمته رفع النقاب إذ عده منافياً للمدنية في القرن السابع عشر. وبهذه المناسبة أقول أن بعض البرتقاليات ما برحن بعدُ يلبسن الحبرة غير منتقبات، وما زال الأسبانيول يحجبون المرأة عن ضيفانهم ويفردون لها مقاعد في دور التمثيل حتى لا تجالس الرجال. وهذا أثر من آثار المدنية الإسلامية الموروثة فيهم.

ويختلف شأن المرأة اليوم باختلاف الأوساط فهي عبد رق لزوجها أو أبيها بين المتوحشين ولكن مقامها يرتفع شيئاً عند الأمم المتبربرة، فلها شيء من الحقوق المدنية في الصين. وفي بعض بلاد التبّت حيث يشيع الضماد - وهو أن تتخذ المرأة أكثر من زوج واحد في وقت واحد_ترأس الأسرة وتتصرف في متاعها وأملاكها تصرفاً تاماً دون تداخل من أزواجها. أما عند الأمم المتحضرة فيختلف مقامها ولكنها سائرة يراُ حثيثاً نحو الحرية وإليك مثلاً المرأة الانجليزية فأنها كانت حتى عام 1882 لا تستطيع التمتع بأملاكها بعد الزواج. لأن عقد الزواج كان يسلبها هذا الحق وينقله إلى زوجها وقد عاش الأوروبيون كل هذا الزمن الطويل وهم لا يقرون للمرأة بحق الملك وذلك بخلاف المسلمين لأن الإسلام نص على حقوق المرأة في الملكية. وفي سنة 1886 منحت حق الوصاية على أولادها وكانت محرومة منه من قبل.

وفي سنة 1884 اعترفت لها المحاكم بجواز تمنعها من الذهاب إلى بيت زوجها. وهذا الحق غير معترف به للمرأة المصرية مسلمة كانت أم مسيحية. وأقبلت المرأة الانجليزية على دخول الجامعات من نحو سنة 1850 ولاقت من الصعوبات في ذلك ما لاقت، لأن مجالس الجامعات كانت تأبى دخول النساء وإذا أجازت دخولهن حرمت عليهن الامتحان ونيل الشهادات. ولكن دأب النساء ومثابرتهن وحميتهن وإقبالهن على العلوم، رفع عن أعين هذه المجالس غشاوة الجمود، ودفع أعضاءها إلى الإقرار بحق المرأة في دخول الجامعة. ومن ذلك العهد كثر خريجات الجامعات في الأدب والفلسفة والعلوم والحرف كالطب وغيره.

والدافع الأكبر لإقبال المرأة على التفوق في العلوم والآداب والصناعات التي قامت تزاحم فيها الرجال اليوم ليس مجرد حب العلم أو الغيرة من الرجل ومزاحمته في صناعاته. بل الحقيقة أن الحالة الاقتصادية في القرن التاسع عشر هي التي نبهت النساء إلى وجوب نزولهن في ميدان أعمال الرجال ومزاحمتهم.

وذلك لأن المرأة كانت إلى ما قبل هذا القرن تصنع بيديها كل المصنوعات التي احتكرتها الآلات في القرن التاسع عشر. فكانت تنسج المنسوجات وتحيك الثياب وتطحن الغلات إلى غير ذلك من الأعمال التي كانت تعملها بيديها وتعيش منها وحرمتها منها الآلات في هذا القرن. فوجدت نفسها على أثر اختراع هذه الآلات وانتشارها خالية اليد لا عمل لها في الدنيا يملأ فراغها ويكسبها مرتزقاً. لأن أصحاب المعامل والآلات يستعملون الرجال في إدارتها وقليلاً ما يستخدمون النساء. فنشأ من هذه الحالة جماعات من النساء عاطلات من كل عمل حاقدات على المجتمع ناقمات عليه نظامه. ومن هنا تجد أن الحركة النسائية اليوم بالغة أشدها في البلاد التي كثرت فيها المعامل مثل انجلترة وأمريكا. ولا تجد لها أثراً ضعيفاً في البلاد الزراعية مثل هولاندة والمجر.

ففي انجلترة تطالب النساء بالمساواة التامة بالرجل في حقوقه وواجباته. يطلبن حق الانتخاب في البرلمان والتوظف في وظائف الحكومة.

وللمرأة حق الانتخاب للمجالس البلدية في انجلترة، وللبرلمان وحق التوظف في الحكومة في السويد والنرويج وفنلاندة. فمنهن الأن عاملات في مصلحة البريد والتلغراف في أكثر الأمم الأوربية، ومنهن قاضيات وطبيبات ومحاميات في الولايات المتحدة وفرنسا.

وبين فئة من نساء أوروبا المتعلمات حركة غريبة متناهية في التطرف. فأنهن لا يكتفين بمطالبة المساواة بالرجال، بل يطلبن إلغاء الزواج الشرعي إذ يعدونه أثراً من آثار عهد الاستبداد بالمرأة أولاً ولأنه لا يتفق مع شرف الحب ثانياً.

يقلن أن المرأة التي تربط نفسها بعقد شرعي مع زوجها مكرهة على المعيشة معه ولو لم تحبه. وهذا في رأيهن بيع صريح للعرض. أما إذا تزوجت زواجاً حراً فإنها تبقى مع زوجها ما دام الحب مكيناً بينهما، فإذا انفكت عراه انفصلا.

ومن العلماء من يوافق على هذا الرأي، وقد ألف جرانت ألن في هذا المبدأ - وكان من دعاته - روايته المرأة التي فعلت.

ومنذ نحو أربع سنوات قرأت في جريدة انجليزية إعلاناً هذه مجمله فلان وفلانة تزوجا اليوم زواجاً حراً وبدآ المعيشة معاً في دار واحدة.

هذا مبلغ ما وصلت إليه الحركة النسائية في العالم المتمدن، فما هي العبرة التي نستخرجها من هذه الخلاصة؟

قبل البحث في ذلك يجب أن نبحث فيما إذا كانت الأسرة الأوروبية أسعد حالاً من أسرتنا، وفيما إذا كانت المرأة هي السبب الوحيد أو أحد الأسباب التي تدعو إلى ذلك.

أما عن المسألة الأولى فحسبنا دليلاً على ذلك أن عدد وفيات الأطفال أقل مما هو عندنا بكثير كما تثبت ذلك إحصائيات حكومتنا عن وفيات القاهرة. وبيوتهم أنظف من بيوتنا. والطلاق غير شائع بينهم شيوعه بيننا.

وقد تكون سعادة الأسرة في غير ذلك ولكن وجودها أرجح في هذه الشروط مما لو فشي الموت بين الأطفال وقذرت دورنا وكثر الطلاق بين الأزواج كما هي الحال بيننا.

والمرأة الأوروبية هي سبب هذه السعادة. فهي على شيء من العلم تعرف به كيف تجمع بين جدران دارها كل مستلزمات الصحة فتقتل الأمراض وتزول منها. ويصبح بيتها بما فيه من ترتيب ونظام مبهجة زوجها وداعية سروره فلا ينفر سارباً إلى (القهوات والبارات) كما نفعل نحن الآن. وقلة الطلاق عندهم ليست ناشئة من الدين كما يتوهم البعض بل من حسن تخير الرجل لزوجته وتخير المرأة لزوجها قبل الزواج وذلك بفضل التزاور.

وحجاب المرأة عندنا يمنع استيفاء هذه الشروط. فضلاً عن أن ذلك يضر بالمرأة نفسها لأن جسمها يحتوي على عضلات تحتاج إلى كثرة التمرين لكي تبقى سليمة صحيحة. فعضلات جسمها تضعف وتهن لقلة حركتها إلا بين جُدُر الدار، ودماغها يقف عن النمو لقلة ما يشغله من الأعمال العقلية، وأن إغفال وظيفة عضو في الجسم يعود بالضعف عليه.

ودليل ذلك أن الحشرات التي تعيش في الأمكنة المظلمة لا ترى في الضوء.

والديدان التي تعيش في أمعاء الإنسان لا تأخذ طعامها بفيها وتهضمه بأمعائها بل تمتصه بجلدها ويذبل جهازها الهضمي ويزول بالتدريج.

والأعضاء الأثرية التي في الإنسان الآن تدل على صدق هذه النظرية. فإن الزائدة الدودية هي بقية أثرية من المعي الذي كان يهضم الأطعمة النباتية وأصبح الآن ضئيلاً عاطلاً لا عمل له. لأن الإنسان استغنى عنه باستعماله المأكولات اللحمية المطبوخة. وما يحل بالمرأة من الضرر الناشئ من الحجاب يحل بأولادها أيضاً تبعاً لناموس الوراثة وأولادها إناثاً وذكراناً هم أفراد الشعب فالضرر إذن عائد على الشعب بأسره من جرّاء الحجاب.

ولقد خبط الكتاب وهرفوا في مسألة الحجاب. قام الرجعيون منا يؤيدونه بدعوى أن الدين الإسلامي يأمر به.

والحقيقة أن الحجاب ليس منشؤه الدين بل هو ناشئ من حاجات بيولوجية وفسيولوجية سيكولوجية. فإنه من العادات التي فشت قديماً بين أمم المنطقة الحارة من قبل أن تدين بأديانها الحاضرة. وإذا كان الحجاب قد تعدى هذه الأمم إلى أمم المناطق الباردة فإنما كان ذلك عن طريق التقليد لا غير ولذلك لم يطل عمره عندها كما حدث في روسية.

وسبب ذيوع الحجاب بين أمم المناطق لحارة أن الفتيات في هذه الأمم يدركن سن البلوغ الجنسي قبل أن تنضج عقولهن. أي وهن في الثانية أو الثالثة عشر من عمرهن. فتتنبه شهواتهن الجنسية قبل أن يكون لهن من عقولهن رادع يردعهن عن الوقوع في أشراك الشهوة. فأصبح من دواعي بقاء هذه الأمم أن يحجبن بناتهن عن الخروج والاختلاط بالرجال حتى يحفظن فروجهن. ولذلك لم ينتشر الحجاب في أوروبا مطلقاً إلا عند الأتراك والأندلسيين.

ولهذا أيضاً تزيد حرية المرأة كلما قربت من القطب الشمالي وتقل بقربها من خط الاستواء.

فليس الدين إذن هو منشأ الحجاب. وكل ما فعل أنه شرط لهذه العادة شروطاً تخفف مما عساه أن ينشأ عنها من الإضرار بالمرأة.

ونظامنا الحاضر يزيل حاجتنا إلى الحجاب، لا لأن الطبيعة البشرية تغيرت بل لأن القوانين الحاضرة تكفل بعقاب من يهتك عذراء عقاباً ليس وراءه عقاب.

ثم أن تربية البنت التي يرى لزومها حتى أنصار الحجاب تستدعي مخالفة مبدأ الحجاب إلى ما بعد سن البلوغ لأن البنت تضطر فيه أحياناً للذهاب إلى المدرسة في كل يوم إلى أن تبلغ الخامسة عشر أو السادسة عشر. وهذه هي السن التي قلنا أن الطبيعة دفعت الإنسان في أدوار همجيته إلى سن الحجاب فيها للبنات.

ولا بد أن القرئ قد أدرك الآن أن الحجاب قد اخترع لصيانة لبنت لا لصيانة الأن عدم لزومه للمرأة ظاهر لأنها كاملة العقل ولأنها متزوجة. فليس هناك خطر عليها من شهواتها. بل على العكس قد تتنبه شهواتها الجنسية أكثر بواسطة الحجاب لما ينجم عنه من الإنفراد والوحدة وخلو اليد من العمل.

والمعروف أن الاستنماء عند الذكور هو إحدى عادات الوحدة والراحة. فيجب إذن أن نخاف على المرأة من حجابها ونعده مثيراً لشهواتها الجنسية أكثر مما لو سمح لها بالخروج والاختلاط والاشتغال في الهواء الطلق بين مختلف الأعمال التي تفتح للأعصاب منفذاً تصرف فيه قواها.

وإذا صح ما ذكره مؤرخو العرب من أن النساء كن يجالسن الرجال وأن أحد الخلفاء منع ذلك صدقت نظريتنا من أن الحجاب كان يقصد به في الأصل صيانة البنت ل المرأة الراشيدة.

ونحن كدنا نعكس الغرض من الحجاب. فبينا نحجب نساءنا وهن الراشدات، إذ نسمح لبناتنا بالذهاب إلى المدارس سافرات.

والسبيل المعقولة لمعاملة نسائنا هي منحهن الحرية التامة وهن أزواج راشدات مثل أترابهن الغربيات. ومراقبة طبائعهن وهن صغيرات، فيمنعن من الاختلاط مع الشباب بين سني العاشرة والخامسة عشر مثلاً. ولكن مراقبتهن لا يجب أن تصل إلى ملازمتهن البيت ولا يخفى أن ما تحتاج إليه بنات الوجه البحري من الرقابة أقل مما يحتاج إليه بنات الوجه القبلي لأن اختلاف الطبائع يستدعي اختلاف المعاملة. فمن بين البنات من تصل إلى سن البلوغ عندنا وهي في الحادية عشر، وبينهن من لا تصل إلى هذه السن إلا بعد أن تجوز السادسة عشر.

وقد زرت أيام كنت بانجلترة مدارس يعلم فيها الفتيان والفتيات معاً في حجرات واحدة يجلس فيها الفتى بجانب الفتاة بغير ماريبة تمر بخاطر المعلم. ويبقيان كذلك إلى سن الخامسة عشر. والغرض من هذا الاختلاط أن تدمث أخلاق الفتيان وتشذب، وتخشن أخلاق الفتيات قليلاً وترجل. حتى إذا تزوجا في المستقبل لم تكن فرجة الخلاف في الأخلاق بينهما متسعة.

وأني أذكر هذه قصد إثبات تأخر سن البلوغ عند الغربيات وخلاف طبائعهن لطبائعنا. فإن مثل هذه المدرسة المختلطة لا تنجح أبداً عندنا.

وأعوذ فأبرئ الدين الإسلامي من الحجاب وأقول أنه أصبح غير لازم لمجتمعنا المصري.

سلامة موسى