مجلة البيان للبرقوقي/العدد 13/عبد البهاء عباس أفندي زعيم البهائيين

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 13/عبد البهاء عباس أفندي زعيم البهائيين

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 13
عبد البهاء عباس أفندي زعيم البهائيين
ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1913


(*)

بين ظهرانينا الآن، وبمرأى منا ومسمع، رجل من نوابغ المشرق. بل من نوابغ العالم جميعاً. وبحسبه أنه زعيم طائفة كبيرة تعد بالملايين منثورة في مصر والفرس والهند وأوربا وأمريكا وأكثر أنحاء المعمورة تقدسه تقديس الأنبياء والمرسلين. وبحسبه كذلك أن الجرائد والمجلات في أوروبا وأمريكا، بَلةَ الكتب والأسفار وقفت له صفحات تنوه به وتشرح دعوته، وتجله إجلال الأبطال. ذلكم هو مولانا عباس أفندي الملقب بعبد البهاء زعيم البهائيين، وبطل الإصلاح الديني في هذا العصر بل سيد المصلحين.

منذ ثمان سنين سمعنا بأن في القاهرة عالماً فارسياً يسمى أبا الفضل هو قبلة طلاب العلم، وكعبة يحج إليها رواد العرفان. فبحثنا عن هذا الرجل حتى اهتدينا إلى منزله فوجدنا ثمة رجلاً مخطف البدن نحولاً، رَبعه لم يبلغ قصراً ولا طولاً، كهلاً ينيف على السبعين، ولكنه كابن الثلاثين قوة ونشاطاً، وحدة وذكاء. ورأينا بين برديه روحاً لو كنا ممن يقول بتناسخ الأرواح لقلنا أن تلك روح المأسوف عليه جمال الدين الأفغاني تناجينا بين أثوابه، وتخلب عقولنا بسحر بيانه وحلو خطابه. فملك الرجل علينا أمرنا، وصار لا يحلو لنا الجلوس إلا إليه، ولا الحديث والسمر إلا معه. وكلما زدناه خلطة وامتحاناً، زادنا أدباً وعرفاناً. وفي أثناء ذلك سمعنا بالباب والبابيين والبهاء والبهائيين. ولكن لا من ناحية أبي الفضل أفندي، بل من ناحية بعض المصريين الذين رأيناهم يذكرون البهائيين على غير هدى، ويقرفونهم بم هم منه براء، شأن الحمقى الممرورين الطائري العقول الذين لا يستطيعون الصبر على البحث والاستقصاء والتنقيب. فلفتنا ذلك إلى النظر في أمر هؤلاء البهائيين من وقتئذ. ثم ضرب الدهر من ضَرَباته وسافر أبو الفضل أفندي إلى أمريكا وأخذنا نحن نفتش عن كتاب عربي تعرض للقول على البهائيين، إلى أن عثرنا بتلك النبذة الصغيرة التي كتبها البستانيون في دائرة معارفهم تحت عنوان البابية ثم بكتاب تاريخ البابية للدكتور مهدي ثم بما كتبه المستشرقون مثل العالم الإنكليزي برون في كتابه تاريخ آداب الفرس، وفي كتاب له كبير وضعه باللغة الفارسية خصيصاً بالقول على البهائيين ثم بما كتبته الصحف والمجلات الإنكليزية والأميريكية. فما ذلك إلا شغفاً بمعرفة أمرهم من مصدره الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأن الناس في الغالب الكثير إما مفرّط وإما مفرِط، وإما متعصب لك وإما متعصب عليك.(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: البرقوقي لم يكن بهائيا، لكنه الانخداع (المؤقت) بكل مستجد يدعو إلى الإصلاح، كما حصل مع بعض الكتاب في مصر مع أتاتورك .. ثم عرفوا حقيقته.

وقد سارع البرقوقي إلي توضيح ذلك في العدد 14 (التالي لهذا العدد مباشرة) فقال:

«وهنا نقول أن بعضهم غاب عنه غرضنا من الكلام على أبطال العصر وزعموا أنا نقصد بكلامنا على زعيم البهائيين إلى الحوم حول نحلته ولم يريدوا أن يفهموا أنا إنما كتبنا وسوف نكتب عن الرجل كما كتبنا ونكتب عن فولتير ونيتشه وسبنسر وأرسطو وأفلاطون والفارابي وابن سينا وابن رشد وأضرابهم من رجالات العالم إن موافقين لنا في الدين وإن مخالفين. لأنا لسنا في هذا الباب بصدد من الدين وإنما بصدد من العظمة والنبوغ».

وعين الرضا عن كل عين كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا

وما زلنا بهذه الحال من الشغف والاستهتار (الولوع بالشيء لا يتحدث بغيره) إلى أن ابتسمت لنا الأيام وأديل لنا اليسر من الإعسار. وقدم حضرة زعيم البهائيين الأكبر عبد البهاء عباس أفندي المترجم به إلى وادي النيل. وقطعت جهيرة قول كل خطيب.

فكدنا نخرج من جلودنا فرحاً واغتباطاً بقدوم الرئيس الأكبر إلى بلدنا، وشغفنا كله بلقياه حتى أتاح لنا القدر أن حظينا بزيارته في الشهر الماضي بمنزله في رمل الاسكندية.

وقبل أن نصف هذه الزورة المباركة وما جرى من الحديث بيننا وبين جنابه. نمهد لذلك بذكر ما كتبته جريدة الكرونكل الانكليزية عن حضرة عباس أفندي إذا زار انجلترا في هذا العام واحتفل به العلماء الانكليز وأدباؤهم الاحتفال اللائق بمقامه الكريم - قالت الكرونكل.

نحن في زمان اشتد فيه الضجيج، وعلت الضوضاء من كل مكان. فلا تكاد تسمع فيه دعوة للكمال، إذ أصبحت الشعوب المتحضرة رهينة الهزاهز والاضطراب، يقدح في ساقها الجهاد في سبيل الحياة، وتُصميها سهام الخلافات ونبال المنافسات، وتنقض ظهرها أثقال الاستعدادات الحربية، ويؤودها جهاز القتال. وترى الأمم المتجاورة يرمق بعضها بعضاً شذراً. وتنظر خشية وحذراً. وعالم الصناعة كشجار الديكة ذاهلة أربابه. تدمدم من حولهم الاضطرابات، وتؤاذنهم بوعيدها الثورات، وفي بهرة هذا العراك وذاك الصراع اللجب يسمع نداء المعلم الروحاني يدعو إلى السلام العام.

ذلكم عباس أفندي الملقب بعبد البهاء، قد لفت الأنظار بسياحته في انجلترا إلى تلكم الحركة السريعة الانتشار التي تزداد نفوذاً وتنمو قوة لما جمعت بين كثيرين من أتباع الطوائف المتباينة، ووصلت بينهم على مبدأ الإخاء العام تؤلف بينهم عروة وثقى لا انفصام لها.

فالبهائية - كما شرحها المستر (ارك همند) فأبدع في شرحها، في كتاب صغير من سلسلة كتب (الحكم المشرقية) _هي كمال حي، هي الكاثوليكية الصادقة يتبعها المسلمون والنصارى واليهود والبوذيون، وليست مذهباً متفرداً بل هي مستجمع المذاهب ومستجمَها، تردها إلى أصولها، وتحيلها إلى صادق مبادئها - كما لها أن الله واحد، إله كل شعب ورب كل دين، ودعواهم فيها سلام.

المعلمون الثلاث ولد عباس أفندي في طهران من أعمال فارس في الثالث والعشرين من شهر مايو عام 1844، في نفس اليوم الذي أسست فيه الدعوة البهائية، فأول دعاتها ميرزا علي محمد، إذ كان المبشر بهذه الدعوة المنادي بهذه العروة ولكن لم تخرج دعوته من بلاد فارس. وكانت دعوته في الحقيقة دعوة إصلاح ورقي للإسلام، إذ استخرج أسمى تعاليم القرآن فنقاها مما علق بها مما ليس من الدين الصحيح في شيء، وأخرج للناس مبادئ دينه ترمي إلى توحيد عقائد الناس في الله والخلوص بالروح لى عبادته، على أن أصحاب السلطة جعلوا يضطهدونه وكذلك نَفِس عليه علماء الذين لاعتدائه على دائرتهم. أما الحكام فلازدياد نفوذهم على رعيتهم، فما كان ذلك إلا ليؤازر حركته ويعين دعوته، وأدى اضطغانهم عليه وظلمهم له إلى أن قتلوه وصلبوه وذبحوا من رجاله خلقاً كثيراً. وكان قتلهم إياه سبباً في ازدياد الحركة قوة وانتشاراً وفي سنة 1863 خلف الباب بهاء الله في القيام بالدعوة - شريف من الأشراف انجذب منذ حداثته إلى هذه الكمالات الدينية، إذ حملوا أعلامهم إلى جميع الممالك ونادوا بالمؤاخاة بين بني الإنسان، ولكن اشتد عليهم العسف فنفي بهاء الدين مع سبعين من أتباعه وسجنوا في محبسين عامين، وعلى الرغم من شدة التضييق عليهم وعسفهم فقد تدرعوا بالصبر واعتصموا بمكارم الأخلاق حتى رق لهم كل حاكم جديد تولى سجنهم. ولبث حضرة بهاء الدين في السجن أربعين عاماً قضاها في الكتابة والتعليم دون انقطاع ولا يأس ولا فتور. وفي سنة 1892 صعد إلى جوار ربه فخلفه أبنه الأكبر عباس أفندي معلم هذا الزمان. قالت سيدة انجليزية أقامت في منزله المبارك ثمانية أشهر: أن إعجابها بحضرة عباس أفندي وإكبارها لشأنه ومقامه كان يزداد يوماً فيوماً: أما صحة تلقيبه بعبد البهاء فقد أثبتته خدماته لبني الإنسان. أما حياته فكانت دليلاً واضحاً وبرهاناً جلياً على هذه الحقيقة وهي أنه على الرغم مما يحف بنا من الجهاد في سبيل الحياة والمجد والثروة والسلطة الدنيوية فالحياة الروحية مع ذلك ممكنة بل أمر واقعي مشهود. فلينظر الذين يصلون لملكوت الله في الأرض ليروا في عباس أفندي رجلاً ساكناً في هذا الملكوت شاعراً به يفيض من حوله سلام يعلو على مدارك إفهامنا.

أغراض البهائيين

ذلكم عباس أفندي وتلكم مكانته. أما تعاليم البهائية فهي ظاهرة وصوفية باطنية في آن واحد ولا جرم أنها تشبه من وجوه كثيرة ما كان ينبعث في العصور الوسطى من فرنسيس أُف أسبي من جمال الإحسان والخدمة العامة والنور. فها كم اليوم شيئاً من ذلك التأليف القريب بين الصفات الإلهية والخضوع الإنساني العظيم والقيام على الخدمة. فعباس أفندي ينهج في طليعة أتباعه طريقة تسمى عند بعض الناس طريقة الصوفية لكنهم أنّى ذهبوا يسيرون على طرق عملية، وإليكم مثلاً منها.

أن هذا المعلم لا يدعو إلى الرهبنة بل يأمر أتباعه أن يتعلم كلٌّ حرفة كما كان بولص يصنع الخبز ويحضهم على النظافة والصناعة والاقتصاد فآمالهم تسمو إلى ما في السماء وعقولهم لا تلهو عما في الأرض. وإننا نجتزئ بقول من أقوال حضرة عباس أفندي نفسه في أغراض البهائيين.

لا تسمحوا لأنفسكم أن تنم بكلمة على أحد ولو كان عدواً لكم ولتسكتوا من ينم لكم على عيوب غيركم، ولتتحلوا بالصدق والوقار، ولتملؤا صدوركم بالآمال. كونوا مرهماً لكل جرح، وماءً عذباً لكل ظامئ ومائدة سماوية لكل جوعان، ومرشداً لكل باحث، وغيثاً لكل حارث، ونجماً في كل أفق، ونوراً لكل مشكاة، ومبشراً لكل نفس مشتاقة إلى ملكوت الله.

هذا مبدأ من مبادئ البهائية السامية فلا تطرف في الزهد ولا تعذيب للنفس أملاً في أوهام التنعم في الآخرة بل حال سرور ورياضة للنفس على الخدمة والمساعدة والتضحية وآخر دعوى البهائيين قولهم، اللهم ارحمني من نفسي.

السياحة الروحية

أما الطريقة الصوفية فيجب الأخذ بها وهذا يفسر بالسياحة في الأودية السبعة التي شرحها وفسرها المستر همند وهذا العدد الرمزي عام. فكما أننا نصعد مع دانتي درجات الطهارة السبع ونخلف في كل درجة إحدى خطايانا المميتة فأننا كما يرشدنا بهاء الله في كتاباته نمر في سير ترقينا بالأودية السبع التي أولها وادي البحث يركب فيه السائح مطية الصبر باحثاً عن الله جل شأنه فيجب أن ينشده في كل مكان حتى في التراب فهو في كل شيء. ثم يصل إلى وادي الحب ومطيته التضحية فيلزمنا أن نتناسى أنفسنا ونطرحها ظهرياً. فالحب الأناني لا يعد حباً وهكذا نستمر فوق تلال هذا الوادي المفرقة حتى نبلغ وادي المعرفة الإلهية فنخرج من الشك إلى اليقين، من تيه الآمال الدنيوية إلى الحكمة الربانية. فهذه الأودية الثلاث درجات يعرفها كل من سار في الرحلة الروحانية في كل زمان. أما الوادي الرابع فيتميز بائتلافه مع آمال البهائيين. وادي الوحدة الإلهية. ولما كانت أغراض الناس مختلفة متباينة حق علينا أن نعترف بالوحدة الإلهية الموجودة في كل الوجود وأن نتحقق بمجرد وجودنا اتحاد الإنسانية وهذه - الوحدة الإلهية.

وإذا تم ذلك استنارت أمامنا ظلمات الطرق وسهل حزنها فيصل السائح إلى وادي الرضا حيث كل شيء سار جميل ويجد طالب السعادة فيه ثوابه ويلي ذلك وادي الحيرة حيث تتحلى فيه المظاهر الأولى على حقيقتها وتخلص الأفكار من الأوهام والخرافات التي كانت تحوطها وينبلج الحق فنعترف به مع الخشوع والذهول اللذين يظهران على الطفل لو أوتي عقلنا وننظر إلى معجزات الكون التي عميت عنا أبصارنا على تقدم أعمارنا ثم نبلغ أخيراً وادي الفقر حيث نوقن أن كل مجد دنيوي تالد وطريف وكل شرف وفخار وحلية ونعمة ما هي إلا أسماء سميناها واتبعناها ما أنزل الله بها من سلطان. وفي ذلك أيضاً تظهر روح البهائية قريبة جداً من روح فرنسيس. إذن فلا شك في أن العقائد البهائية ليست جديدة في ذاتها ولا حديثة في تفاصيلها بل أقدم عهداً من شم الجبال ولكن تطبيقها في هذه الأيام المضطربة الكثيرة الضوضاء واللجب والجلبة تجعلها جديدة. فهلا يسمع العالم ذلك الصوت العالي المنادي بالمساواة المطلقة. والمؤذن بالأخوة الروحانية العامة هلا سمع العالم نداء الأنبياء؟

هذه هي كلمة جريدة (لندن كرونكل) عن البهائيين وزعيمهم الأكبر المقيم اليوم في رمل الإسكندرية - عباس أفندي الملقب بعبد البهاء_وسنأتي في العدد القادم على وصف زورتنا لهذا الرئيس الديني الكبير وما جرى من الحديث بيننا وبينه إن شاء الله.