مجلة البيان للبرقوقي/العدد 14/نوابغ العالم
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 14/نوابغ العالم
عبد الرحمن الداخل
مؤسس الدولة الأموية بالأندلس
وفردريك الأكبر
مؤسس الوحدة الألمانية
عبد الرحمن الداخل
أسلفنا في العدد السابع أن الأمير عبد الرحمن الأموي الذي أفلت من العباسيين ونهد إلى الأندلس سنة ثمان وثلاثين ومائة في خلافة أبي جعفر المنصور، وأسس الدولة الأموية الثانية بعد أن عثر الدهر بالأمويين في المشرق عثرته - نقول أن هذا الأمير بعد أن ذهب إلى الأندلس وظفر بولاتها ثبت قدمه في الملك واستوسق له الأمر واستقر بقرطبة، قال ابن خلدون: ومهد الدولة بالأندلس وأثل بها الملك العظيم لبني مروان وجدد ما طمس لهم بالمشرق من معالم الخلافة وآثارها واستلحم الثوار في نواحيها على كثرتهم هناك وقطع دعوة العباسيين من منابرها، وسد المذاهب منهم دونها وقضى سنة ثنتين وسبعين ومائة وكان يعرف بعبد الرحمن الداخل لأنه أول داخل من ملوك بني مروان إلى الأندلس، وكان أبو جعفر المنصور يسميه صقر قريش لما رأى ما فعل بالأندلس وما ركب إليها من الأخطار وأنه صمد إليها من أنآي ديار المشرق من غير عصابة ولا قوة ولا أنصار فغلب على أهلها وعلى أميرهم وتناول الملك من أيديهم بقوة شكيمة وامضاء عزم حتى انقاد له وجري على اختياره وأورثه عقبه، وكان يلقب بالأمير وعليه جرى بنوه من بعده فلم يدع أحد منهم بأمير المؤمنين تأدباً مع الخلافة بمقر الإسلامومنتدى العرب حتى كان من عقبه عبد الرحمن الناصر وهو ثامن بني أمية بالأندلس فتلقب بأمير المؤمنين على ما سنذكره لما رأى من ضعف خلفاء بني العباس بعد الثلاثمائة وغلبة الأعاجم عليهم وكونهم لم يتركوا لهم غير الأسم وتوارث ذلك بنوه واحداً بعد واحد. وكان لبني عبد الرحمن الداخل هذا بالعدوة الأندلسية ملك ضخم ودولة متسعة اتصلت إلى ما بعد المائة الرابعة. وعندما شغل المسلمون بعبد الرحمن الداخل وتمهيد أمره قوي أمر الجلالفة واستفحل سلطانهم وعمد ملكهم فرويلة بن أدفونش (ألفونس الكاثوليكي ملك استوري) إلى ثغور البلاد فأخرج المسلمين منها وملكها من أيديهم فملك مدينة لك وبرتقال وبورتور (إحدى مدائن البرتقال) وسمورة وقتشالة (كستيلية) وشقوبية وصارت للجلالقة حتى افتتحها المنصور بن أبي عامر آخر الدولة.
ولما استقر قدم الأمير عبد الرحمن بالأندلس أخذ في بناء المسجد الجامع والقصر بقرطبة وأنفق نحواً من ثمانين ألف دينار وبنى مساجد أخرى كثيرة.
قال ابن حيان: ولما ألفى الداخل الأندلس ثغراً قاصياً غفلاً من حلية الملك عاطلاً أرهف أهله بالطاعة السلطانية حنكهم بالسيرة الملوكية وآخذهم بالآداب. فأكسبهم عما قليل المروءة وأقامهم على الطريقة وبدا فدون الدواوين وعقد الألوية وجند الأجناد حتى اعترف له بذلك أكابر الملوك وحذروا جانبه وتحاموا حوزته ولم يلبث أن دانت له الأندلس واستقل له الأمر فيها.
وخاطب عبد الرحمن قارله (شارل مارتيل) ملك الأفرنج وكان من طغاة الأفرنج بعد أن تمرس به مدة فأصابه صلب المكسر تام الرجولية فمال معه إلى المداراة ودعاه إلى المصاهرة والسلم فأجابه للسلم ولم تتم المصاهرة قال ابن حيان: وكان الداخل يقعد للعامة ويسمع منهم وينظر بنفسه فيما بينهم ويصل إليه من أراده من الناس: قالوا: وكان عبد الرحمن أصهب خفيف العارضين بوجهه خال طويل القامة نحيف الجسم له ضفيرتان أعور أخشم والأخشم الذي يشم ولما ذكر الحجاري أنه أعور قال ما أنشد فيه إلا قول امريء القيس:
لكن عوير وفي بذمته ... لا عور شأنه ولا قصر
قال ابن خلدون: وفي سنة ست وأربعين سار العلاء بن مغيث اليحصبي من أفريقية إلى الأندلس ونزل بباجة الأندلس داعياً لأبي جعفر المنصور واجتمع إليه خلق فسار عبد الرحمن إليه ولقيه بنواحي أشبيلية فقاتله أياماً ثم انهزم العلاء وقتل في سبعة آلاف من أصحابه وبعث عبد الرحمن برؤوس كثير منهم إلى القيروان ومكة فألقيت في أسواقها سراً ومعها اللواء الأسود وكتاب المنصور للعلاء فارتاع المنصور لذلك وقال ما هذا إلا شيطان والحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر أو ما هذا معناه.
وغزا عبد الرحمن بلاد الأفرنج والبشكنس ومن وراءهم ورجع بالظفر وكان في نيته أن يجدد دولة بني مروان بالمشرق فمات دون ذلك الأمل وكانت مدة ملكه ثلاثاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر، وكان موته في خلافة الرشيد وأمه أم ولد بربرية اسمها راح ومولده سنة ثلاث عشرة ومائة بدير حنا من أرض دمشق وقيل بالعلياء من تدمر ومات أبوه في أيام أبيه هشام سنة ثمان عشرة عن إحدى وعشرين سنة وكفله واخوته جدهم هشام وخلف عبد الرحمن من الولد عشرين منهم أحد عشر رجلاً وتسع إناث.
تلك هي ترجمة عبد الرحمن الداخل كما ذكرها ابن خلدون مع الحذف والزيادة والتقديم والتأخير. ومن وقف على ترجمة هذا الأمير العظيم تجلى له كالشمس في وضح النهار أنه من نوابغ العالم وأعاظم الرجال العصاميين الذين سودتهم نفوسهم، وأهابت بهم إلى العلياء هممهم. بقي علينا أن نصف حال الأندلس في عصر هذا الأمير والممالك الاسبانية التي كانت تجاوره وتناوئه العداء، وحال العرب الاندلسيين في ذلك الوقت وما ندر منهم من الأغاليط التي سببت ضياع هذا القطر الكبير من أيديهم بعد ذلك. وموعدنا العدد القادم إن شاء الله.
فردريك الأكبر
بقلم كبير كتاب الانجليز ومؤرخيهم اللورد ماكولي
3
وكتب الأمير فردريك كتاباً إلى معبوده فولتير في لهجة العابد، وأجابه فولتير بأجمل أسلوب وأحسن أدب، وتبع الرسالتين رسالات، وأن الرسائل التي دارت بينهما لتعد روساً نافعة لمن يريدون أن يمهروا في صنعة الملق. ويحذقوا فن الإطراء. ولم يكن ليضارع فولتير أحد في إهداء الأماديح. ولم يكن ليسبقه في تقديم التزكيات سباق. وكان يجعل لأماديحه أبداً طعماً شهياً منبهاً. يلذ الأفواه التي سئمت من جاف الثناء. وبرمت بأنماط المادحين.
ومن يد فولتير وحده يستطيع الأمير أن يزدرد سكراً كثيراً دون سآمة ولا ملل.
وكان الصديقان يتبادلان القصائد. ويتهاديان الموائد. ويتقارضان الطرائف. وهذا وفردريك يدفع بكتاباته إلى فولتير. وفولتير يصفق لها. معجباً بها. ويهتف لها مستحسناً. كأنما جمع الله راسين وبوسويه في واحد.
ومن بين منشآت الأمير كتاب له عارض به كتاب ماكيافلي. ونقد حججه. ونقض أدلته.
وتعهد فولتير لعابده أن يحمله إلى المطبعة. وسمياه ضد ماكيافلي فكان كتاباً ممتعاً. حمل المؤلف فيه على سيئات الأغتصاب والأنتهاب والأغتيال والأستبداد والحروب الغاشمة الظالمة. وخلاصة القول أن المؤلف أنكر المساوئ التي ما يبرح يذكر عليها اسمه. وما يفتأ يشهر لها بين الناس أمره.
والملك الشيخ يبرم بين فترة وفترة بملهاة رينسبورغ ويضيق بين آونة وآونة ذرعاً بقصف وريثه وملاعبه. ولمنه كان متخاذل القوى. ضارع الجسم. قد ذهبت مرته. وحانت منيته. ولم يبق له من مباهجه إلا مبهجة واحدة وهي رؤية الأماليد من جنده. وطوال المناكب من عسكره. وهين على المبعد أن ينال قربته. وعلى المسيء أن يظفر بحظوته. إذا هما أتحفا الشيخ بجندي طويل. ومن ثم كان فردريك ابنه يوافيه بين حين وحين بهذه التحف. ويكثر له من تلكم الطرف.
ولقي الشيخ ربه في أوليات عام 1740 برباطة جأش وسمو نفس يليقان برجل أحفل فضلاً وأمتع عقلاً. وأصبح فردريك. وكان قد ناهز الثامنة والعشرين من سنه. ملك بروسيا ورأسها. ولم يفهم أحد في بادئة تتويجه معالم أخلاقه. ولكن لم يتلجلج في خاطر امرئ جلس إليه واستمع لحديثه وسمر في ناديه. أو كانت بينه وبين فردريك مراسلة. أن ينكر حفل نصيبه من الكفاءة. ومتع حظه من المقدرة. ولكن الحياة السهلة الشهوانية التي كان يتابعها. وحبه لذَّ المآكل وطيب الشراب. وميله إلى الموسيقى والسمر والحديث والأدب. جعلت الناس يعدونه امرأ شهوة ينبعث في أثرها بروحه وجثمانه. وأن ترنمه بمديح الأعتدال والسلام. وتغنيه بفضل الحرية والسعادة التي ينالها ذو العقل الكبير من إساد غيره. قد غررا ببعض القوم. وكان ينبغي لهم أن يكونوا بأمره أوسع علماً.
أما الذين أحسنوا الظن به فقد كانوا يتوقعون منه (تليماك) آخر. على غرار (تليمام) فنيلون. وتنبأ آخرون بأنهم على أبواب عصر جديد يضارع العصر المديسي. عصر تنتعش فيه دولة الأدب. وتزهر فيه دولة العلم. وتدول به دولة اللهو. ولم يشك إنسان في أن الصاعد أريكة الملك. المتبوىء عرش بروسية. مليك مطلق، له كفاءة حربية خارقة، ومقدرة في السياسة غير مألوفة، ومهارة في الصناعة غير معهودة، ولا خوف يساوره، ولا أيمان يطاوعه، ولا حدب يخالجه.
وأن موجدة فولستاف على تتويج صديقه القديم لم تكن أكبر من الموجدة التي لاقاها صحب فردريك وشربه، وكانوا من قبل ينظرون يوم تتويجه كأنه اليوم الذي يبدأ فيه تاريخ نعيمهم، وعظمتهم ونباهتهم، فلما متع النهار الذي كانوا به يحلمون، ونزلوا بالأرض التي كانوا يظنون أنها حافلة بأنهار من لبن، فياضة بأنهار من عسل ماذى إذ هم عند صحراء تسوخ في فدافدها القدم.
ولقد أهاب فردريك يوماً بأحد أصحابه ناهراً، كفاك مجوناً، وحسبك دعابة! وبدا لهم أن الملك الجديد يشبه أباه في كثير من الأمور، والحقيقة أن هناك فروقاً كبيرة بين الوالد وولده في حدة الذكاء وعظمة الفكر وسرعة الخاطر وحب الملاهي والمناعم والمذاكرة والإطلاع والمظهر والمخبر، ولكن أساسي أخلاقهما متشابهان متماثلان، وأن فردريك ليحكي والده في حب النظام والعمل والشح، ويشابهه في آرائه الحربية وزهوه وخيلائه، وحدثه واحتدامه، وتلهيه بإيلام الناس وإذلال أنوفهم.
وما كانت هذه في الوالد إلا عن سخف في الرأي وضعف في الفكر. وما كانت في فردريك إلا عن حكمة وحزم وسداد، وإليك المثل.
كان فردريك كأنداده الملوك الصيد في عنايتهم بتهذيب جيوشهم وتنظيم كتائبهم، ولكن هذه العناية لم تبلغ إلى حد الجنون، ولم تؤد به إلى فارط الأعطية التي كان يحبو بها طوال الجنود، وكان فردريك في الاقتصاد كما ينبغي لكل أمير أن يكون، ولكنه لم ير كوالده القصد في العيش، والحرص على المال، والغناء بفاسد الأطعمة، من أجل توفير ستة شلنات في العام أو تزيد.
وإنا لنشفق أن يكون فردريك مثل أبيه نزاعاً إلى الشر. وميلاً إلى الأذى، ولكن ذكاء فردريك أعانه على أن يظهر ميله إلى الشر في سبل قواصد وأشكال متقنة.
ولبث قومه وجيرانه في شك من أمره حتى وقعت بعد ذلك أحداث، تجلى فيها صادق خلقه وظهر للناس ما خفي من دخيلته، وبدا لهم ما احتجب من سريرته، إذ لم يكد يمر على ولايته بضعة أشهر حتى لقي ربه شارل السادس، إمبراطور جرمانيا، وآخر أسرة النمسا من الذكران.
لم يعقب شارل السادس ولداً، وكان قبل وفاته في بأس من تخليف أبن يكون وريثه في الملك. فمن ثم جعل كل همه أن يضمن لأبنته تيجان أسرة هابسبورغ وأرائكها فأصدر لذلك قانوناً جديداً، وسن شرعة حديثة، في وراثة الملك، طبق ذكرها الآفاق، كفل بها لأبنته الأرشيدوقة مارية تريزة، زوجة فرنسيس لورين، حق الخلافة على أملاك آبائه الأولين.
ومكث وزراء النمسا وأساطين ساستها يعملون لمقصد واحد، هو تحقيق توليتها، فلم يتركوا أميراً يعلمون أن له حقوقاً تتأثر بتحقيق هذا القانون إلا استخلصوا منه تنازلاً، وارتضى القانون الشعوب والإمارات التي تنزل على سلطان النمسا وتدخل في حوزتها واجتمعت انجلترة وفرانسة وأسبانية وروسية وبولونية و (بروسية) والسويد ودانيماركة وولايات جرمانيا، على أن يكفلن جميعاً تحقيق هذه المعاهدة، وهكذا عهد بحمايتها إلى شعوب العالم المتحضر، وهكذا اتعد ملوك أوروبا، وتعاهدوا على ميثاق يجب أن يحفظوه وأبرموا عهداً لا ينبغي لأمثالهم أن ينكثوه.
وما كان مركز مارية وسجاياها إلا لتثير في قلب كل رجل كريم الرحمة واعطف والنجدة والإعجاب، وكانت قد بلغت الرابع والعشرين ربيعاً، يزينها الجلال. وتحف من حولها العظمة، وكانت حسنة المعارف قسيمتها، وسيمة الطلعة رقراقتها، حلوة الملامح عذبتها، ناعمةالجرس، مستملحة الأغاريد، جميلة المختلق، كريمة الخلق.
وكانت عفة الثوب، طاهرة الجيب، ما في زواجها لوم ولا عتب، تزوجت من رجل أحبته، وكانت قبل أن يحول الموت بينها وبين أبيها، توشك أن تضع وليداًن فكان فقد الوالد وأعباء الملك وزراء تنوء بحمله وهي في نفاسها وضعفها فشفها من ذلك الحزن وانتابها الأسى، واصفرت وجنتها وذبلت وردتها ولم يكن يجمل بها أن تبتئس، بعد ما ظهر لها أن العدل والإنسانية ورعى الذمم ووفاء العهود ستظهر جميعاً كلمتها وتسأل حقها ومكانتها، وأن العهد استخلصته في رهبة وسكون سيوفي لها في دعة واطمئنان.
وكتبت انجلترة وروسية وهولاندة وبولونية أنهن قائمات على عهدهن، مستمسكات بمواثسقهن، وقال وزراء فرنسة مثل ذلك، ولكن سيدة المجر لم تر في الملوك أخف من ملك بروسية إلى نصرتها ومودتها.
على أن ملك بروسية، مؤلف (ضد ماكيافلي) لم ينشب أن اجتمع رأيه على الخنث بمؤكد أيمانه، ونقض مغلظ أقسامه، وحزم أمره لسرقة الحليف الذي استؤمن عليه، وسلب الخليص الذي استنصر له، وإلقاء أوربة جمعاء في غمرات حرب دموية. طويلة الآماد، ذهابة بالطارف والتلاد، ولا مطمع له إلا أن يوسع عليه أرجاء سلطانه ويمد في أكناف مملكته، ويرى أسمه في الصحف منشوراً، ويقرأ خبره في الأسفار مسطوراً.
واعتزم أن يؤلف جيشاً عرمرماً في خفية وسكون قبل أن تعلم الملكة بخدعته، وتتهيأ لمناجزته، وتتخفف للقائه، يدفع به على فتح سيلزيا، ليجمع إلى أرضه، تلك الولايات الغنية، المريعة الجناب.
(يتلي)