مجلة البيان للبرقوقي/العدد 16/سر عظمة العرب

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 16/سر عظمة العرب

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 4 - 1914



بقلم الدكتور جوستاف لوبون

بينا نحن نقرأ في كتاب حضارة العرب. ذلك الكتاب القيم الذي أخرجه الفيلسوف البحاثة الدكتور جوستاف لبون. والذي يدأب اليوم في نقله إلى العربية الكاتب المشهور محمد أفندي مسعود. إذ عثرنا في أخريات صفحاته بمبحث ضاف يكاد يكون فلسفة الكتاب وزبدة مباحثه تناول في القسم الأول منه البحث في الأسباب التي عملت على عظمة العرب وارجع منها ما أرجع إلى القوانين البسيكو لوحيه وأحال ما أحال منها إلى النواميس الطبيعية والاجتماعية. وأفرد القسم الثاني للكلام على أسباب سقوطهم. فآثرنا أن ننشر في هذا العدد القسم الخاص بسر عظمة العرب وفي العدد الثاني القسم الآخر الخصيص بسر سقوطهم: قال الدكتور تحت العنوان المذكور سر عظمة العرب.

نختتم تاريخ حضارة العرب بإلقاء نظرة عامة نجمل بها القول على أسباب عظمة العرب وسر تدهورهم.

فأول عامل مهد السبيل لعظمة العرب وسؤددهم، هو الظروف التي فيها نبغوا، والزمن الذي فيه ظهروا، فإن للظروف عاملاً تمهيدياً يجري على الأفراد جريانه على الشعوب، وله في تكوينهما أكبر الأثر. وإن كثيراً من الصفات والمميزات لا تستطيع ظهوراً ولا رقياً إلا في ساعات مناسبة لها، وظروف موافقة لرقيها. ولا مراء في أن نابوليون ما كان ليصبح سيد أوروبا وعظيمها، لو كان ولد تحت لويس الرابع عشر، ولو كان محمد خرج إلى العالم في عصر عظمة الرومان وإقبال دولتهم وضخم قوتهم، لما استطاع العرب آخر الدهر أن يخرجوا من جزيرة العرب، بل ولأنكرهم التاريخ وظلوا في الخمول يضربون.

ولد محمد الزمان المقرر، والساعة الموافقة، وقلنا أن بظهوره تداعي العالم القديم، في جميع أرجائه، وجملة نواحيه، وما كان ليعوز عصبة النبي ورجاله إلا أن يلمسوا بنيان هذا العالم، فإذا هو أطلال بالية، ودمن عافية.

على أن هدم كيان أمة لا يكفي لتأسيس بناء مدنية، وإن في عجز البرابرة الذين خلفوا على المدنية الرومانية في المغرب، كما خلف عليها العرب في المشرق، الدليلا على صعوبة هذ الأمر ومشقته، وليس في مكنة الظروف إلا أن تذلل السبيل إلى إنشاء دولة جديدة، وأحداث مدنية طريفة، وينبغي أن يكون من وراء الظروف عوامل أخرى ضرورية نحن الآن آخذون في تقريرها.

ففي رأس هذه العوامل تأثير الجنس، وقد أثبتنا أن خير ما يشخص الأمة ويميزها أن يكون لها مقدار معين من العواطف والاستعدادات والأميال المشتركة، تتغلغل في أفرادها، وتسوق سعيهم وجهدهم إلى مطلب واجد، ومعنى فذ. ومجموع هذه العواطف المشتركة، الناشئة من تراكم الصفات المتوارثة، وأعني بها الخلق الأهلي، هو الوراثة عن ماض لكل من آبائنا وأسلافنا يد في إنشائه، ونحن كذلك نعمل على تكوينه لولدنا وأخلافنا، والخلق بالأهلي وإن اختلف في كل أمة، فقليل الاختلاف بين بنى الجلدة والواحدة، وأهل البلد الواحد.

ولا مراء في أن على هذه العناصر الأساسية للخلق الأهلي، يبني كل جيل، وينشئ كل عهد، ويشيد كل عصر، ولكن بنسبة هي من الضعف والقلة بحيث تحتاج إلى تصرم القرون والأجيال التي ينتج تكاثر هذه التطورات تغيراً محسوساً، وقد يبدو للناس في بعض الأحايين أن التربية والوسط والظروف تحدث بجملتها تغيرات سريعة، ولكنها في الحقيقة لا تلبث أن تزول، لأنها عرضية.

على أن المميزات الأخلاقية والخصائص الفكرية لشعب من الشعوب هي كخصائص الأنواع ومميزاتها الطبيعية ثبوتاً ورسوخاً، ونحن نعرف اليوم أن خصائص الأنواع تنتهي على مر الزمان بالتغير والتحول، ولكن تغيرها نهاية في البطء حتى عدها علماء الطبيعة كأن لا تحويل لها ولا تبديل.

وقد حاولت في مؤلف لي أن أثبت أن ليس بقوة الذهن، وإنما بارتباط العواطف وتوحدها، يتألف الخلق، وما الخلق إلا الأساس الذي تبنى عليه الأمة، ومن ثم كان حقاً على من أراد أن يتوصل إلى شرح الأدوار التي يلعبها الأفراد والشعوب على مسرح التاريخ أن يبدأ بفحص خلقهم واستقرائه، فإن الحكم الذي أدلى به قيصر، ووسم به أبناء فرنسا الأولين، وهو حب الثورات، والميل إلى خوض غمرات الحروب، من غير داع ولا سبب، والاستسلام لأحداث الزمان ليشرح الحوادث التي وقعت لها في ماضينا.

وإن من السهل الرجوع إلى التاريخ للاستشهاد بأن نتائج الخلق تختلف تبعاً للظروف وإن المحاسن والمساوئ التي تنسب إليها عظمة أمة من الأمم في عصر من العصور ليصح أن تصبح منشأ سقوطها في عصر آخر. وفي حال العرب مثال لذلك، وإذا حللنا اختلاف النتائج تحليلاً وافياً دقيقاً، لكشف لنا هذا التحليل أن الأسباب واحدة، فقد يبدو لنا من أول وهلة أن بين اليوناني في عهد بريكلين. وبين البيزانطي في أخريات دولة الرومان هوة سحيقة. وبوناً شاسعاً، وذلك هو الواقع لو نظرنا إليهما من الوجهة الاجتماعية. على حين أن أساس الخلق فيهما لم يتحول ولم يتبدل. وإنما هي الظروف وحدها التي عدا عليها التحول والتبدل. فلما انتقلت نعومة اليوناني ورقته ودهاؤه الفلسفي وعذوبة لغته. إلى بيئة غير بيئته. ووسط غير وسطه وزمان غير زمانه. إذا هي قد راحت في البيزانطي غدراً خلاباً. ودهاء دينياً. وثرثرة حمقاء. وإن التفتيشي في القرون الوسطى. في طبائعه الجامدة الصلبة: واليعقوبي الحديث. في الحادة الوحشي. وطبائعه الثورية الهائجة. ليكادان يكونان جد مختلفين. على أننا لو أنعمنا النظر لحظة واحدة. لبدا لنا أن الثاني ليمت إلى الأول بلحمة القرابة والشبه. ولم يتغير فيهما إلا اسم العقيدة.

ويرتبط بهذه العناصر الأساسية لخلق الأمة. وهي في رسوخها وثبوتها كالفقار في الحيوانات الفقارية. طائفة من العناصر الثانوية. وهي في تباينها كالقامات والهيئات والألوان في تلك الحيوانات: على أنا لنصيب إذا قلنا أن الآراء والأذواق هي التي تتغير وتتحول. ولكن تغيرها لا يمس العناصر الأساسية لخلق الأمة. فإن هذه أشبه بالصخرة الصماء. تتقاذف فوقها الأمواج،. وتعتلج أبداً عليها اللجج. دون أن تزعزعها عن مكانها المسكين. وما أشبه الآراء والأذواق بأطباق الرمال. ومهيل لسباسب. وركام الخرزات. ومنثور الأعشاب. التي ترمي بها الأمواج فوق هذه الصخرة. لتنهض عليها وترتفع:

ومن ثم كان المرجع في الموازنة بين الشعوب هو البحث في العناصر الأساسية لخلقها الأهل. وقد وفينا هذه العناصر في خلق العرب حقها من الوصف فلا حاجة بنا الآن إلى ذكرها. بل نترك الآن ما قلناه عن قوة أذهانهم. . وحمية نفوسهم. وأميالهم الأدبية والفنية. مما لا تقوم المدينة بسواه. ولا تسموا الحضارة بدونه. ونقتصر هنا على ذكر ما يخص عاداتهم القديمة في الحرب. فإن في هذه العادات مثالاً بيناً على ما ذكرناه من قبل. وهو أن الاستعدادات والأميال المتشابهة قد تؤدي تبعاً للظروف إلى نتائج مختلفة بعضها عن بعض كل الاختلاف. فهذه عادات العرب في الحرب كانت مستمكنة من نفوسهم. متأصلة في أعراقهم. حتى لقد كانت جزيرة العرب قبل النبي ساحة حرب ما يبرد هنا وطيس. ولا ينفض قتال. فلما انضووا تحت دين واحد. وخضعوا لسلطان عقيدة عامة. إذا بهم قد صاروا ألباً واحداً على الأعجمي. فكانت عاداتهم الحربية سبباً من أعظم أسباب انتصاراتهم: حتى إذا دانت لهم الأعداء. وخضعت الرقاب. ولم يبق منهم من يساجلونه الحرب والقتال. عادوا إلى مطاوعة خلقهم الحربي ومتابعته. فشهروا رماحهم في وجوههم، وامتشقوا أسلحتهم على أنفسهم. فكانت طبائعهم التي ضمنت عظمتهم ومجدهم، هي نفسها التي أفضت إلى سقوطهم وتدهورهم.

ولا يفي من قولنا أن خلق الأمة قد يحدث تبعاً للظروف نتائج مختلفة جد الاختلاف، إن الظروف وحدها لا ينهض فوقها تطور الأمة بل إن من الظروف عوامل أخرى لها أثر مشهور في هذا التطور.

وفي طليعة هذه العوامل التي بقي علينا الآن بحثها، ذلك العامل الذي ألف بين شعوب العرب وقبائلهم وبطونهم، ودمجهم في أمة واحدة، وكانوا من قبل منقسمين متباعدين، وذلكم العامل هو الدين الذي جاب محمد، فقد أتى هذا الدين بالمثل الأعلى إلى قوم كانوا من قبل خلواً منه صفراً.

أجل. جاء هذا الدين بمثل أعلى يثير في قلوب عصبة المستمسكين به حمية تدفع بهم أجمعين إلى تضحية نفوسهم في سبيله.

ولقد سبق لي أن أعدت القول وكررت أن دين المثل الأعلى من أقوى العوامل على تطور الجماعات الإنسانية، وحسبك من قوته أن ينشئ للأمة عواطف عامة، وأماني مشتركة، وإيماناً حياً، فلقد كان المثل الأعلى في أمة الرومان عظمة روما. وكان عند المسيحيين الأمل في حياة أخرى حافلة بالمناعم والمباهج، وقد صور الإنسان العصري آلة له جديدة، على غرار الآلهة القديمة في عدم عصمتها، وإن كان يقيم لها التماثيل بحق. ويرفع لجلالها الدمى، وإن لهذه الآلهة لتاثيراً صالحاً. يكفيك منه أنه قد يوقف الجماعات الهرمة والشعوب المتدهورة عن الانحطاط والفناء حيناً من الدهر.

وما التاريخ إلا رواية الأحداث والأفعال التي قام بها الناس سعياً وراء المثل الأعلى. ولولا هذا المطلب لظل الإنسان عن بربريته. ولما كان له من المدينة نصيب. وانحطاط الأمة يبتدي يوم لا تملك الآم لنفسها مثلاً أعلى تحترمه بجملتها. يدفع كل فرد منها بنفسه في سبيل حمايته والذود عنه.

وقد كان المثل الأعلى الذي أنشأه محمد مثلاً دينياً من كل وجوهه. وامتازت الجولة التي أسسها العرب بهذه الميزة المنفردة. ذلك أنها كانت الدولة العظيمة الفذة التي قامت باسم الدين ومن الدين استخلصت جميع أنظمتها السياسية والاجتماعية.

ولكن أيكفي هذا العامل الأكبر. ونعني به المثل الأعلى. وتلك العوامل التي جئنا بها من قبل. لبيان عظمة العرب؟.

كلا. فنحن لم نستغرق في كل ما قلنا إلا لحظة واحدة. لقد قلنا تداعى العالم القديم. تاهبت لفتحه أمة حافلة بالصفات الحربية مجتمعة عصبة واحدة برباط دين عام بقي عليها أن تقوم بالفتح المبين. وأن تعمل فوق ذلك على حراسة هذا الفتح وحمايته.

ونحن رأينا كيف كانت فتوحات العرب. وكيف كانت غزواتهم. كيف خرجوا من بلاد العرب فانهزموا بادئ بدء إزاء وراث العظمة اليونانية الرومانية. فلم يهن بأسهم ولا تولت شجاعته. بل تعلموا من غالبيهم. وأخذوا عن هازميهم. حتى إذ أصبحوا من الوجهة الحربية أكفاءهم. ومضوا بعد ذلك في الوغى أقرانهم وأضرابهم. لم يعد هناك موضع للشك في فوزهم.

ذلك لأن كل جندي في جيش العرب كان على أهبة أن يهب روحه ومهجته في سبيل انتصار الفكرة التي كان يقاتل في الهيجاء ويجاهد تحت درعها. على حين كانت التضحية وبذل المهج والحمية والعقيدة قد أسلمت الروح في جيوش الروم منذ أمد مديد.

لقد كان من الجائز أن تطمس الانتصارات الأولى على أبصار العرب وتضرب على أعينهم. فتقودهم إلى التطرف شأن كل غالب. وحال كل منتصر فائز. ويحملهم فوق ذلك على أن يسيئوا معاملة المهزومين. ويكرموهم على اعتناق الدين الجديد الذي نهدوا النشرة في أرجاء العالم وفجاجة التي لم تخضع بعد لحكمهم. ولم تذل لصولتهم.

ولكن العرب أصابوا الحزم في تجنب هذا التألب الداهم. وتحامي هذه التهلكة الجلل. التي لم يعرف الصليبيون كيف يتجنبونها ويتفادون من شرها. يوم جاء دورهم فنفذوا إلى الشام.

فإن الخلفاء الراشدين فطنوا ببراعتهم السياسة التي أندر ما توجد بين أشياع دين جديد وصحابة عقيدة حديثة إلى أن الشرائع والأديان لا يتهجم بها على الناس. ولا تدخل عليهم بالعنف والإكراه. وقد شهدنا العرب في كل مكان دخلوه. وكل بلد فتحوه. في الشام وفي مصر وأسبانيا. يعاملون أهلها بالحسنى. ويأخذونهم بالعرف. ويداورونهم بأعظم اللين وأحسن الوداعة. تاركين لهم شرائعهم وقوانينهم ودياناتهم. غير ضاربين عليهم في مقابل السلم. الذي ضمنوه لهم والأمان الذي أحلوهم فيه. إلا أتاوة زهيدة. وحزبة طفيفة. كانت في أغلب الأحوال أقل من تلك الضرائب التي كانوا يرفعونها من قبل. ولم تشهد هذه الأمم فاتحين يوماً بهذا التسامح. ولا غالبين بهذا اللين وذاك الحدب. ولا عرفوا من قبل ديناً بهذه العذوبة وهذا اللطف.

وكان هذا التسامح وهذا اللطف. وإن تجاهلهما المؤرخون وبالغوا في إنكارهما، سبباً من أسباب السرعة التي بها امتدت فتوحات العرب. وداعياً من أهم الدواعي التي ذللت في كل مكان نشر دينهم وشرائعهم ولغتهم. ونحن نعلم أنها استقرت واشتدت أصولها بين الأمم التي اعتنقتها وسارت على هديها وأنها وقفت بعد ذلك حيال كل هجوم ونهضت إزاء كل غارة. وقام منارها بعدما ذهبت ريح العرب من مسرح العالم.

وأنت لا تجد هذه الحقيقة الرهيبة إلا في حال مصر. فإن الفرس واليونان والرومان الذين تسودوا عليها. وبسطوا فوق أرضها أروقة نفوذهم، لم ينجحوا يوماً في هدم مدينة الفراعنة القديمة. ولم يتوقفوا إلى إسقاطها وإقامة مدنياتهم على آثارها.

ثم ننتقل إلى أسباب أخرى غير تسامح العرب. وعذوبة سلطانهم. وحسن ملكتهم. وما رجع إلى ذلك من نجح دينهم وثبات الأنظمة التي استخلصت من هذا الدين. فنقول إن هذه الأنظمة كانت من السهولة بحيث توافق حاجات الطبقات المتوسطة في الأمم التي استكانت للعرب. فإذا حدث أن هذه الأنظمة لم تلائم كل الملائمة هذه الحاج. كانت العرب أعلم بتحويرها وتذليلها كما تقتضيه الضرورات. ولذلك ترى بين الأنظمة الإسلامية في الهند وفارس وبلاد العرب وبلاد المغرب ومصر فروقاً. هي في بعض الأحيان كبيرة. وإن كانت ترجع إلى قرآن واحد. وتائم بهدى كتاب فذ.

والآن وقد بلغنا بك حيث انتهى العرب من فتح العالم. فلم ننته بعد من بحثنا الذي أخذناه على أنفسنا. لأن عصر هذا الفتح لم يكن إلا وجهاً واحداً من وجوه تاريخ عصبة النبي ورجاله. ولم يقف أمر العرب عند فتح أقطار الدنيا وغزو ممالكها. بل لقد أسسوا مدينة جديدة لا دخل فيها للعوامل المتقدم ذكرها. فلا بد أن يكون لها نمت دواع وأسباب.

هناك سببان قاطعان جازمان. يؤول إليها أصل هذه المدينة الجديدة. أولهما الوسط الجديد الذي وجد فيه العرب. وثانيهما استعدات فرائحهم وإفهامهم.

فأما الوسط فقد ذكرناه لك آنفاً وصفناه. وقلنا ما كاد العرب يخرجون من مهامه جزيرتهم وينسلون من فدافد أرضهم. حتى ألفوا أنفسهم إزاء بدائع المدينة اليونانية الرومانية. وما كان أغربها لعيونهم وأشدها أخذاً بمجامع أفئدتهم فلما تبينوا تفوقها الذهني. كما تبينوا من قبل تفوقها الحربي. جاهدوا في مضاهاتها. ودأبوا في مساواتها ومجاراتها.

ولكن مجاراة مدينة مستبقة متفوقة ينبغي لها بادئ بدئ روح قابلة خصبة. إذ حسبك بياناً لصعوبة هذا العمل تلك المجهودات المضيعة الخائبة التي حشدها البرابرة زهاء قرون وأجيال لانتحال آثار المدينة اللاتينية والانتفاع بها. وما كان العرب بحمد الله أمة بربرية. وما كانوا قوماً همجيين. ونحن وإن كنا لم نعلم ما كان من مدينتهم في العصر الذي تقدم عصر محمد، حين إذ كانت بينهم وبين سائر الأمم رابطة المتاجرة. فقد أثبتنا لك إنهم كانوا يوم ظهر النبي فيهم على رقى في الأدب بالغ. ومعلوم أن العالم أو الأديب إذا جهل كثيراً من الأشياء أعانته استعداداته الذهنية على استظهارها ووعيها. وكذلك استعان العرب على فهم العالم الجديد في أعينهم. الطريف لأنظارهم. بنفس الحمية التي جاؤوا بها إلى فتحه. وعين الأريحية التي أقبلوا بها لغزوه.

ولم يأت العرب في بحث هذه المدينة التي ألفوا أنفسهم بغتة إزاءها. بشيء من مؤثرات الخرافات التي انقضت ظهور البيزنطيين دهراً طويلاً وأثقلت كواهلهم أمداً مديداً. ولذلك كانت حرية أرواحهم. وخلوصها من قيود الخرافة. وأسار الأوهام سبباً من أسباب ارتقائهم السريع. وكثيراً ما يحدث في حياة الشعوب إن تأثير الماضي قد يفيد الأمة دهراً. ويؤتيها من لدنه خيراً. ثم لا يعدو بعد ذلك أن يستبد بها. ويجعلها تنزل على حكم الخرافات الماضية. ويحول بينها وبين كل تقدم ورقي.

وإن الاستقلال الطبيعي الذي نشأت عليه أرواح العرب. وتصورهم وابتكارهم. لتتجلى في تلك البدائع الجديدة التي أحدثوها. وقد أبنالك أن العرب لم تلبث طويلاً إن وسمت عمارتها وفنونها. وفي نفس الوقت علومها. بذلك الطابع الشخصي الذي يتبين في أعمالها وآثارها من النظرة الأولى. ولما كانت الفلسفة النظرية التي جاء بها اليونان قل ما تلتئم مع طبيعة أرواحهم. لم يأخذوا عنها إلا النزر القليل وكان أحب الأشياء إلى نفوسهم الفنون والعلوم والأدب وقد وصفنا لك الرقي الذي كان على أيديهم في هذه الفروع المختلفة. بما فيه الكفاية والغناء.

تلك هي الأسباب الهامة التي تؤول إليها عظمة العرب. فهلم الآن نبحث في سر تدهورهم.