مجلة البيان للبرقوقي/العدد 18/تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 18/تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 6 - 1914


سعد زغلول باشا

نحن الآن إزاء تاريخ مصر الحديثة كله مجتمعاً في تاريخ رجل. بل نحن الآن حيال ترجمة الأمة مجتمعة في ترجمة واحد. وكأني بالقوة الأزلية تراعي وجوه الاقتصاد في خلق الناس وتوزيع ثروة العقول عليهم. فهي إذا شاءت أن تخلق عظيماً. أو أرادت أن تجود بعقل جبار. جمعت إليها آلافاً من العقول الإنسانية فدمجتها في عقل جبار عظيم. ولقد يمر الجيل فيعدو إلى القرن. والأقدار لا تزال تهيئ للأمة عقلاً مفرداً هائلاً يغنيها عن نصف عقولها. ويكون بمثابة الغذاء التاريخي لها. هذا ونساء الأمة في كل ساعة يحملن. وحبالاها في كل يوم يلدن. ومرضعاتها في كل لحظة يرضعن. وإنك لتقرأ إحصائية المواليد في الأسبوع الواحد. فترى العشرات والمئات قد خرجوا للعالم من منابت مختلفة. وأصلاب وترائب متباينة. فما يخطر ببالك أن سيكون من هذه الأدمغة الصغيرة عقل للأمة كبير. ثم انثن فاطلع إلى إحصائية الوفيات تجدها لا تزيد ولا تنقص عن تلك إلا شيئاً يسيراً. فمن ذلك تعلم أن الطبيعة تزيد على عدد الأمة في صبحها ما تنقصه منها في مغربها. لكي يطرد بها بقاء التوازن الحيوي في الأمة. ثم هن جاءك نبأ أمة الصين. وهل سمعت بتعدادها. وهل علمت أن قد مضي ما يربي على ألفي عام. والأقدار لم تصغ بعد من هذه الملايين العديدة رجلاً آخر على مثال كونفوشيوس. فكأنها لم تطبع من كونفوشيوس إلا نسخة واحدة.

فإذا ما أخرجت الأمة عظيماً. فكأنما لم تتسع في عهده إلا له وحده. وكأن روحه وعقله وأخلاقه ومميزاته عدسات تبصر منها أمته عقلها وأخلاقها ومميزاتها. وكأنه يجلو بصر كل منا، ويزيل عن عينيه حجاب الأنانية فلا ننظر إلا له ولعظائم فعاله. ولا تكون الأمة منه إلا كما يكون من الصبية إزاء معلمهم، إذ كانت الحياة تجري على قاعدة مدرسية بحتة. والناس يحترمون عظيمهم لأنه أبدع قالب يحاولون أن يصوغوا أنفسهم على نحوه ومثاله.

ونحن بني الدنيا نعيش ونتغذى من العظمة. ونحس في وجود العظيم بيننا أنا جميعاً عظماء. ونشعر في حضرة العقل الكبير أنا بجملتنا جمع عقلاء. لأنه ينبه منا خامد عقولنا. ويثير في قلوبنا هاجع حميتنا. ويوقد بين أضالعنا فاتر أرواحنا. ويكرهنا على أن نتناو كل عمل بعمله بحثاً وتفكيراً. ويريدنا على أن نتداول كل كلمة يقولها شرحاً وتفسيراً. ويطالبنا بأن ننهض لحسناته تحبيذاً وتفكيراً. لأن الناس يستحبون الحمية، وإن لم يكونوا هم مادتها. ويتطلبون الحرارة النفسية، وإن لم يكونوا هم أنفسهم نشأتها. ولا تقوى أعصاب الأمة إلا بالمصل الذي يحقنها به قادتها. ولا تشتد عضلاتها إلا بالحركات الرياضية التي يمرنها عليها رجالاتها، وكان خليقاً بقادة الشعوب أن يكونوا أعلم بطب النفوس، وأخبر بالأدوية النواجع التي توافق أمزجة شعوبهم.

هذا ولو لم تكن الجمعية التشريعية تضم بين أعضاءها صفوة رجال الأمة، وخلاصة مجموعها. لما رأيت من عرض الأمة فرداً واحداً متنبهاً متيقظاً. ولأسدل السبات ستره على الأمة والجمعية معاً. فلا تكون محاضر الجمعية إلا مواعيد نوم تبتدئ وتنتهي بدقات أجراس أول من ينام وأول من يصحو من أعضائها، وإذن لما سمعت في النوادي والمجتمعات والأسمار هذه الشروح القيمة. والتأويلات الجليلة. والاستنباطات الدقيقة والاستنتاجات الثمينة. والاقتراحات السديدة. والآراء الوجيهة. التي يلقاك بها القوم على اختلاف طبقاتهم. وتباين أقدارهم. وتعدد أوساطهم. ولما رأيت نبض السياسة على ما شهدت من قوة. وعاينت من ضربان وانتظام.

وهذه الروح السياسية القويمة: وهذا التطور الفلسفي الذي وثبت إليه الأمة: هما فيض من روح رجل عظيم: كان أكبر ثمرة جادت بها الأقدار على هذا البلد المجدب رجالاً: الخصيب زرعاً، المريع نباتاً: بل هو المادة الواسعة التي يتغذى منها تاريخ مصر الحديث: وهو الكوكب الإنساني الذي في كل قلب مصري منه وميض: وفي كل عقل مصري من سناه قبس وضياء. وفي كل نفس مصرية من وهجه شعاع ولألاء. ولا أحسب القارئ يعوزه بعد ذلك التفهيم. ولا ظنه بحاجة إلى زيادة الإيضاح والتبيين: - بلى: هو سعد زغلول باشا قائد الأمة اليوم: ووزيرها بالأمس: وقاضيها من قبل ذلك ومحاميها، بل هو أول محام راح في الأمة قاضياً: وأول قاض كان وزيراً: وأول وزير أضحى في هذا الجيل نائبا!.

وأنت فستقرأ في الصفحات الآتية تاريخه الحافل بالعظائم: وتعي ترجمته المترعة بالمحاسن والمكارم: فتتبين لنفسك كيف يكون العظيم في قوة الإرادة: وما قوة الإرادة إلا انتصار للقوة الإلهية الكامنة في الإنسان: وما القوى في إرادته إلا من يكون لنفسه قانوناً وشرعة ونظاماً: يعلم علم اليقين أنه إذا نزل على رأيك وحكمك: وعمل بأمرتك وإرادتك: وخضع لسيطرتك وسلطتك: عطل فيه الإرادة التي تحركه: وأفسد على الله الميكانيكية التي ركبها فيه لتسيره: وكأني بقوة الإرادة من النباتات التي قل ما تنمو في هذا الجو المصري، وندر ما تطلب في تربته: وإنك أن تظفر من القوم برجل قوى الإرادة. فكأنك ظفرت منه بمادة هذه القوة وعنصرها: ومن ذا الذي ينكر على صاحب هذا التاريخ أنه في طليعة من ذكت قوة إرادتهم: واشتد في نفوسهم الاستقلال في الرأي: وقليل هم.

ولا يغيب عنك قوة منطقة وسحر بيانه، وشدة عارضته: فكأنما يكسب قضيته في ذاكرته. قبل أن يقف لها في ساحة المحاجة والجدال: كما كان نابوليون العظيم يهزم عدوه فوق خريطته الحربية: قبل أن تضمه وإياهم سوح الحرب: وتجمعه بهم ميادين القتال.

ولد سعادة سعد زغلول باشا بناحية أبيانا من اعمال مركز فوه عام 1860: فهو اليوم في الحول الرابع والخمسين، ولكنك لو أشرفت عليه لرأيت ثم شيخاً أشيب يسند في حدود السبعين، وكذلك عظماء الرجال تذيب جسومهم تلك الحرارة المتأججة في أجوافهم وجنوبهم وكلما ازداد ضرام تلك الحرارة الروحانية. استمد وقوده من اللحم والدم. وأنت فلا ترى رجلاً نابغة إلا وجدته أبداً أكبر من عمره الحقيقي. حتى أنك لتلقى الشاعر العبقري - والشاعر أحر خلق الله روحاً، وأكثر علباد الله توهجاً - يبدو لك في مظهر الشيخ الوقور. وهو لا يعدو أن يكون شاباً في مقتبل العمر وحداثة الشباب. ولشد ما يخطئ الناس إذ يقدرون عمر الرجل العظيم كما يقدرون أعمار سائر البشر. كأنهم لم يعلموا أن دقيقة العظيم تعدل يوم غيره.

فلما حبا إلى السابعة من عمره دخل مكتب القرية وظل به حوال خمسة أعوام. ثم شخص إلى دسوق لتجويد القرآن فجوده علي الشيخ عبد الله عبد العظيم. وكان أخوه الرجل الطيب الشناوي أفندي زغلول يومذاك رئيس مجلس مركز دسوق. ولم يلبث المترجم به في دسوق طويلاًَ بل جاء إلى القاهرة موطن عظمته ومهد شهرته ومعهد نباهته ودخل الأزهر ولبث يتلقي فيه العلوم خمس سنوات، وكان السيد جمال الدين الأفغاني حينذاك بالقاهرة، فلم يكد يستقر بصاحب الترجمة المقام في القاهرة حتى تعرف إليه وإلى تلاميذه أمثال المرحوم الأستاذ محمد عبده والهلباوي والباجوري والشيخ عبد الكريم سلمان فتلقي على الأستاذ محمد عبده القطب على الشمسية وبعض كتب في التوحيد وكان الأستاذ إذ ذاك من علماء الأزهر، ثم تعين بعد ذلك صاحب الترجمة محرراً في الوقائع المصرية وكان يرأس تحريرها الشيخ عبده وكان من بين كتابها ومحرريها الشيخ سلمان والسيد وفا زغلول شقيق نصر بك زغلول المحامي، وأقام في تحرير الوقائع سنة وبضعة أشهر يكتب بتوقيعه مقالات في الاستبداد والشورى والأخلاق وكان قبل تعيينه في الوقائع المصرية قد لخص كتاب ابن مسكويه وطبع منه أغلبه، وكان يكتب مقالات في جريدة مصر وكان يديرها ذلك الكاتب الحمي الأنف الألبي القلم أديب بك إسحق وكان بين الذين يتابعون تلك الجريدة من الكتاب سليم نقاش وكذلك كان يوافي بكتاباته صحف البرهان والمحروسة والتجارة وكلها كانت للمأسوف عليه سليم نقاش وكان الشيخ حمزة فتح الله يكتب إذ ذاك في صحيفة البرهان.

والقارئ يرى من ذلك أن المترجم به بدأ حياته العظيمة بشباه القلم وسنان اليراع يستنفد في جميع ما يكتب عصارة ذلك الذهن القوي بطبيعته الذي لا عون له إلا روح الزمن. ولا خلابة له إلا من روح صاحبه، وماذا أنت متصور من مبلغ سحر كاتب يكتب ليستمع لرنات براعته وتوقيعات قلمه أمثال أديب إسحاق ومحمد عبده وسليم نقاش ومن علمت من الفحولة الأعلام، ولعمري ما كانت الصحف وقتذاك كما ترى منها اليوم يتهجم على ميدانها التلميذ والسوقة والكاتب الفج والدعي والغبي والركيك حتى لا تكاد تقرأ في كثير منها بعد أحداث اليوم وأنبائه إلا موضوعات إنشائية لعلها نماذج المعلمين في المدارس. ولا تأخذ عينك بين أعمدتها وأنهارها إلا قصائد نسيب يصف فيها بعض هؤلاء الرصاصين وجه حبائب ولدن لهم في مخيلاتهم يشيبون بوجوه لهن سافرات - وإلى جانب هذه القصائد السافرة مقال مطول في وجوب الحجاب! - إلى آخر ما يقرع سمعك من كل مضحك مبكي.

ولا تعجب بعد ذلك إذ تعلم أن مقالات صاحب الترجمة في الوقائع والبرهان كانت من مهيئات الثورة ومضرماتها. فكأنما ألقت إليه الأقدار ذلك القلم الذي وضعته من قبل بين أنامل جان جاك روسو. فأقام به العالم وأقعده.

وعين المترجم به بعد تحرير الوقائع معاوناً في الداخلية ثم ناظراً لقلم قضايا الجيزة على أنه لم يلبث بذلك القلم إلا بضعة أسابيع حتى إذا فصلت الثورة العرابية. فصل من وظيفته. وكان انفصاله بتهمة أنه من تلاميذ الشيخ محمد عبده وأنه من المنتمين إلى المرحوم البارودي واكتفوا من عقابه بفصله.

ويجمل بنا أن لا ننسى تلك الحسنة الكبرى التي أسداها المترجم به إلى اللغة إذ كان يصحح ركيك المقالات. وقاسد الأساليب وعاثر العبارات، التي كانت تنتهي إلى الوقائع أيام كان من محرريها. فكان ذلك درساً عملياً لنشر اللغة، واتساع نطاقها. وإبرائها من ذلك الاضطراب العامي الذي يأبى أشباه العامة إلا أن تصاب اللغة منه بعدواهم. وكانت طريقته في ذلك أن ينشر الرسائل بنصها. ثم يجيء بعدها بما هو أصح منها لغة وأفصح سياقاً. حتى يتبين الصحيح من المعتل. وينكشف السليم من المختل. وحتى يعلم الذين في ألسنتهم مرض - لا زادهم الله مرضاً. إن بضاعتهم قد بان فسادها، وإن تجارتهم اللغوية قد وضح وكسها وكسادها - ونحن أن تعجب فعجب لهؤلاء الذين يأبى العرف اليوم إلا أن نسميهم من باب المجاز كتاباً وإنك لتشفق عليهم أن يبدو للناس عوارهم فتفتح لهم عبارة قد فسدت أو جملة ركت أو اصطلاحات أخلقت أو تراكيب ابتذلت على أنهم ما يزالون يريدونك على تهريب هذه المواد المحظورة ونشرها على حساب اللغة وحساب ضميرك ثم هم بعد ذلك ساخطون غاضبون لأساليبهم العصرية في حسبانهم وهي أن انتسبت إلى أي عصر لبرأ إلى الزمن كله من الانتساب إليها، وإذا أنت جئتهم من جانب النصخ والاستدارك تشفع بعضهم لك أنهم إنما يكتبون موضوعات علمية، فكأنما قد كتب على أبواب الموضوعات العلمية ممنوع دخول اللغة الصحيحة. . .

وما كان من تلك الطريقة المثلى التي سنها المترجم به إلا أن صحت لغة الدواوين من علتها وقامت نهضة مدهشة في مصالح الحكومة بلغ منها أن سواد الموظفين كانوا يهرعون إلى المدارس الليلية لتعلم اللغة العربية الفصحى.

ثم دخل في سلك المحاماة مع المرحوم حسين أفندي صقر وكان هذا رئيس قلم في نظارة الداخلية ثم فصل بسبب الثورة فانتقل صاحب الترجمة معه في المحاماة أمام المجالس الملغاة ولم تكن المحاماة في ذلك الحين شفوية بل كانت بتقارير تتبادل بين طرفي الخصوم أو وكلائهما، ثم إنهم بالاشتراك في جمعية سرية كان قد ألفها شخص فرنسي جاء من الجزائر واجتمع ببعض القوم في مصر فأقاموا منهم جمعية سرية سموها جمعية الانتقام، على أن هذه التهمة التي قرفوه بها والظنة التي أخذوه بأسبابها لم تكن لتروعه ولم تكن لترهبه لأن الرجل الكبير كالكرة المطاطية تقذف بها إلى الأرض وتأبى هي إلا سمواً وارتفاعاً ولا ترى النهم تروج إلا حيث يروج الكذب ولا يروج الكذب إلا حيث تذل النفوس وتفسد الطبائع والناس كما علمت يحبون التهم الحب كله ويخفون للظنون ويبتهجون. وهم لا يريدون فيها قضاة ولا يسألون عليها دفاعاً ولا يطلبون لها شهوداً ولا محلفين لأنهم يخافون أن يفسد التحقيق عليهم تلك اللذة النفسانية التي أحدثتها التهمة فيهم. فإذا ما برأ القضاة متهماً فاعلم أن في الناس الوفا لا يزالون يعتقدون بإدانة ذلك المتهم البرئ.

ولا جرم أن تكون التهمة التي تجنوها على صاحب الترجمة أفك أفاك وقرية مفتر وانتقام حقود. وهل كانت الطبيعة القوية الوثابة التي فطره الله عليها. لنستطيع أن تعمل ساعة واحدة في ظل المكامن والمخابئ. هذا ولم يكن لصاحب الترجمة معرفة بأحد من رجال هذه الجمعية ولا من أعضائها ولكن لما اكتشفت الحكومة أمر هذه الجمعية وقبضت على بعض زعمائها سنحت لبعض رجال الحكومة الفرصة لمطاوعة فعمدوا إلى الانتقام من أعدائهم فكأنهم لم يكتشفوا جمعية الانتقام إلا ليقيموا لأنفسهم مثلها!.

وكان من الذين استهدفوا لشره هذا الانتقام صاحب الترجمة وشريكه المرحوم حسين أفندي صقر. وتألفت لجنة لمحاكمتهما مع زعماء هذه الجمعية من بعض القضاة الأجانب الذين جيء بهم من بلجيكا للاشتراك في تشكيل المحاكم الأهلية تحت رئاسة قاض منهم يسمي فلمنكس وعضوية مسيو دهولس الذي كان مستشاراً في محكمة الاستئناف وانفصل عنها منذ زمن قريب. وحسين بك واصف - حسين باشا واصف الآن - والمرحوم حامد بك محمود ومحمود بك سالم. فلما تناولت اللجنة القضية وبحثتها تبين لها براءة صاحب الترجمة وشريكه وعجبت لإدخالهما في هذه التهمة النكراء. وأقرت بأن لا وجه تمت لإقامة الدعوى عليهما ولامت الحكومة على أنها مهما ظلما وعدواناً وأمرت بإخلاء سبيلهما للتو واللحظة، وقد لبثا في السجن سبعة أيام. على أن الحكومة لم تنفذ هذا الأمر بل أبقتهما 98 يوماً وحاولت نفيهما إلى السودان وأعد عثمان باشا ماهر المعروف بالسنيورة محافظ مصر وقت ذلك مشروعاً بذلك تقدم إلى مجلس النظار ولكن المجلس لم يقر عليه إذ لاحظ المرحوم فخري باشا ناظر الحقاقية إذ ذاك أن النفي المطلوب يعد ضربة للقضاة الأجانب الذين التجأت مصر إلى عونهم على توزيع وجوه العدل في هذا البلد ولاسيما أن القرار الذي أصدروه بأن لا وجه لإقامة الدعوى كان باكورة أعمالهم. ولكن على الرغم من هذه المعارضة ظل المترجم به رهن المحابس حتى رفعت ظلامته إلى المستر مكسويل وكان نائباً عمومياً أمام المحاكم الأهلية فأخذه العجب لذلك وأمر على الفور بإطلاق سراحهما فكان ما أمر.

وعاد المترجم به بعد أن ردت إليه حريته الشخصية إلى الاشتغال بالمحاماة مع شريكه وكان ذلك إبان افتتاح المحاكم الأهلية وكان أول من تقيد اسمه في محكمة مصر محامياً وكان ذلك عام 1884.

وانفسخ إذ ذاك المجال في قضايا الجنايات للقوة الخطابية وبدأ المحامي يدلي بدفاعه أما منصة القضاء ويبسط حججه بلسانه ويستنصر ببلاغه مذوده، وهنا تجلي للناس صاحب الترجمة يحمل تحت لسانه وفي تضاعيف صوته موهبة عظيمة الشأن جليلة القدر كانت حرارتها من قبل ذائبة في مداد قلمه، وإذا به ذلك الخطيب المفوه العظيم الذي إذا خطب الناس قاد آراءهم وقاد مع آرائهم إرادتهم، وإذا تكلم رفعهم فوق أنفسهم وأحدث فيهم قوة جديدة لم تكن تجري في شرايينهم وإذا أراد أن يهزم أفكار سامعيه، ويفتح أذهانهم نثر فيهم روحه فكلهم إذ ذاك قطعة منه لا تزال تنجذب إليه بقوة المغناطيسية المنطقية.

وكانت صناعة المحاماة في ذلك العهد على أسوأ حال وأحقر مكان وأحط قدر لا يلقي بنفيه في تيارها الكدر إلا الذين استهدفوا لسوء القالة وشين السمعة وخسران الكرامة وقد كان من ضعف ثقة القوم بأهل هذه الصناعة وخشية شرهم ورهبة ضميرهم وإذاهم أن لقبوهم بالمزورين ودعوهم بالأشرار أو ما هو في اصطلاحهم العامي المرازين ولكن المترجم به كان العامل على تطهير سمعة هذه الصناعة الإنسانية الكبرى وإعلاء كلمتها والنهوض بها من عثرتها والسمو بها من كبوتها ورد كرامتها عليها، ولم يكن ليخشى على مكانته الشخصية أن يصيبها شيء من سوء تلك السمعة إذ لا يضير الفيل العظيم أن يكون مركباً للملوك والعظماء وما كان في ذلك إلا كالشمس تنفذ بضيئها إلى الأماكن الوخمة والقيعان الوبيئة والمراتع المظلمة فتبدو رخمها وتقتل جراثيمها وتهتك حجاب ظلماتها وترسل في جوها مادة الحياة وتنشر في منافسها مادة الصحة.

ولبث يرفع من شأنها يرفعة شأنه ويطهر ذكرها بطهارة ذكره حتى عام 1891 إذ سمعت مكانتها واستوسق لها أمرها وشرفت سمعتها وما كاد هذا العام ينصرم ويقبل العام التالي حتى اختارته محكمة الاستئناف نائب قاض بها وبذلك كان أول محام في مصر رفع قاضياً، وقد كان لهذا التعيين نشوة ابتهاج وهزة جذل بين لدانة المحامين فلما كان اليوم الثامن عشر من شهر يوليه عام 1892 أقام له جلة المحامين وخبرتهم مأدبة كبرى في نزل حديقة الأزبكية. واشترك معهم في تلك الحفلة الكبرى رئيس محكمة الاستئناف في ذلك العهد أحمد بليغ باشا وإسماعيل بك صبري - إسماعيل صبري باشا - وكيلها، وأحمد حشمت بك - حشمت باشا - الأفوكاتو العمومي للمحاكم الأهلية. فلما انتظم عقد الحفل انبرى رأس شعراء هذا الجيل سعادة إسماعيل بك صبري - باشا - فقال:

إن تعيين حضرة الفاضل سعد أفندي زغلول عضواً في محكمة الاستئناف لدليل على أن المحاماة والقضاء إخوان رضيعا لبان، وغصتان صنوان، حتى لقد راقني أن أنمثل بقول أبي الطيب المتنبي:

هذي منازلك الأخرى نهنيها ... فمن يمر على الأولى يعزيها

ثم تلاه إسماعيل بك عاصم المحامي وإليك ما قال إما يعرف صلاح الأمة بصلاح الحكومة وإنما يعرف صلاح الحكومة بحزمها والحزم هو أن يوضع كل شيء في مكانه ويصرف في وجوهه وبابه أن تعطى الوظائف للخليقين بها انحطت وأية حكومة اتخذت ذلك الحزم قانوناً لها تقدمت وقد شاهدتا حكومتنا اليوم تعطي الوظائف في المحاكم الأهلية لمن هم أجدر بها وأصلح لها ولما كانت صناعتنا المحاماة مشتبكة مرتبطة بالقضاء فقد كان لنا جزيل السرور أن رأينا في محكمة الاستئناف الأهلية مثل سعادة رئيسها وحضرة وكيلها الفاضلين وبينا نحن منشرحو الصدر مثلجو الأفئدة لظهور هذا التطور والارتقاء في إصلاح خطة القضاء بانتخاب الأكفاء لها إذ رأينا الحكومة قد نشطت لحظة جديدة مثلى فانتقت من صناعة المحاماة أصولياً نابغة وهو حضرة سعد أفندي زغلول فعينته في محكمة الاستئناف ولم يكن قبل في صناعة دنيا فنقول اليوم أنه ارتقى ونهنئه على ارتقائه بل كان في مهنة شريفة سامية وكانت تفخر به وتزهى بجانبه فما كان من القضاء إلا أن نفسه علينا فضمه إليه من بين أظهرنا وكن ذلك دليلاً على انتهاج سبيل الإصلاح إذ كان سعد أفندي زغلول يصلح في الحقيقة لمنصب أرقى مما انتخب له وأسمى مكاناً.

وقد اجتمعنا نحن عصبة المحامين الليلة لنهنئ أنفسنا بانتخاب الحكومة لحضرة الفاضل في سلك القضاء ولنهنئ حضرته لأنه سيوجد مع رئيس اشتهر بصفات الكمال ومكارم الأخلاق وطهارة الذمة وحب الاستقلال وسعة العلم واعتذر إليكم أيها السادة لعجزي عن إبداء كل ما يختلج ضميري من الفرح والسرور الحقيقيين.

ثم وقف بعده المرحوم إبراهيم أفندي اللفاني فقال يا سعد وفي هذا اللفظ من معنى الإجلال والتعظيم ما يكفيني مؤونة المبال، فيا سعد قد عز علي القول في هذا المقام مع مالي من الأثرة والاختصاص بك والاحتفاظ بجليل فضلك إلى حد يحتبس معه لساني ويعجز عن الإفصاح والبيان، واقتصر الآن على أن أهنئك من قلب يخالطه الأسف عن انفصالك من بيننا، وقد كنت واسطة عقدنا وعلى قدر هذا الأسف تكون تهنئتنا على دخولك في سلك القضاء ولكن علام هل انتقلت إلى مقام تكون فيه أكثر ثراء وأوسع ديناً مما كنت فيه. كلا بل إلى مقام يحبس فيه رزقك على راتب زهيد فعلام إذن نهنئك - أم هل انتقلت إلى مقام تزاول فيه علماً لم تزاول أو تزداد سعة منه ووفراً وكنت فيه قصير الباع - كلا. . فعلام إذن نهنئك؟.

بلى. نهنئك لأنك كنت تناضل عن الحق، وتحارب للإنصاف. وتجاهد للعدل. ولم يكن بيدك. فأصبحت والعدل اليوم بيدك يطالبك بحقه. إلا فلنشرب على سر استلامك زمام الحق ونصرته.

ثم وقف أحمد حشمت بك. حشمت باشا - النائب العمومي فقال: إخواني قد علمتم أن النيابة العمومية والمحاماة خصمان مختلفان. ولكن كل منهما يناضل عن الحق والإنصاف. ويجد لمحو عوامل الاستبداد والاعتساف. وقد كان حضرة الفاضل سعد أفندي زغلول من أشد أولئك الخصماء وأقواهم حجة ودفاعاً عن الحق وذوداً عن العدل. فأصبح اليوم في صف الحاكمين بين الخصوم. فحق للنيابة العمومية أن ترحب به فيصلاً يقضي بالحق كما عهدته في دور خصومه نصيراً له.

وانبرى في أثره عدة خطباء يزيدون عن العشرة. يعددون جميعاً حسنات المترجم به في المحاماة ومناقبه ومميزاته. حتى جاء دور ذلك الخطيب المصقع البليغ. والمحامي النابغة المنطبق. الأستاذ إبراهيم بك الهلباوي فوقف يقول إذا التمست من حضراتكم المعاذير وطلبت الصفح عن التقصير. فلي شفيع قائم بين أيديكم ألا وهو كوني أخطب الآن أثر ثلاثة عشر خطيباً. كلهم قد خلب الألباب. وأخذ بمجامع القلوب. ولكن لا أسألكم عذراً لأن موضوع خطب شخص كله فضائل ومهما قال الخطباء فبحر الفضل واسع لا تنفد مادته، ولست أقصد بمقالي إلى الأسف على فراق سعد أفندي زغلول لطائفة المحامين فأنا ما اجتمعنا هنا لتوديعه منها. بل لنهنئ هذه الطائفة التي يحق لها أن نفخر أعجاباً بما نالته بتعيينه من الشرف وعلو الشأن.

تقولون إن حرفة المحاماة شريفة وفضلها مقرر. وأقول كان ذلك لها ولكن على القرطاس. وفي القواعد الفلسفية. أما المشاهد فليس كذلك ما كان.

فمنذ تسع سنوات كانت أبعد عن اسم الشرف والفضل. وتعلمون أنتم أن المحاكم الأهلية حلت محل المجالس الملغاة التي كان أمامها محامون يسمون بوكلاء الدعاوي ليس صاحب السمعة فيهم الأمن كان أخبر بأغراض القضاة وأعرف بحاجاتهم. فكان ولا ريب هذا الفن ضائع الاعتبار بين أيدي طبقة مضيعة لشرفه خافضة لمكانته فلما تألفت المحاكم الأهلية لم يجسر أحد أن يسوق بنفسه ضحية لهذا الفن وذبحا إلا رفيقنا سعد أفندي زغلول فظل يعالج مرضه ويرتق فتقه ويقيم أوده. ويجاهد في سبيل إعلاء كلمته حتى أسدل الستار على كثير من فضائحه ومعايبه فأقدم إذ ذاك أرباب الشرف على الاحتراف به ولهذا كان سعي رفيقنا بادئ بدء جهاداً مستمراً. ولولاه ما استطاع أحد منا الاشتغال بهذا الفن الذي أصبحنا نعده اليوم فناً شريفاً ومهنة سامية عالية. فالفضل كل الفضل في سمو مكانتها لحضرة سعد أفندي زغلول فلذلك وجب علينا أن نهنئ المحاماة بانتقاله منها وارتقائه إلى منصة القضاء. فهو هو الذي صيرها أهلاً لأن يرتقي منها مثله إلى محكمة الاستئناف.

ومن الغريب أنه لما عرض تعيين حضرة صديقنا المفضال سعد أفندي زغلول عضواً في محكمة الاستئناف قال قائل إن حضرته على الرغم مما أحرزه من الفضل وسعة الإطلاع في القوانين لم تكن لديه شهادة ليسانسيه فلما بلغ هذا القول سعادة الفاضل رئيس محكمة الاستئناف أجاب بأنه إذا كان معترفاً بفضله وسعة إطلاعه في القانون أفلا يكون اضطلاعه بدراسة الشريعة الإسلامية الغراء شفيعاً له وقائماً مقام شهادة الليسانس. وهذه حجة دامغة ومقال رشيد. وهل من ينكر بعد هذا فضل حضرة سعد أفندي زغلول وقد عرف فضله كل مصري حتى أصبح الفلاح في زوايا القرى يعتمد على اسمه في مقاضاة خصمه إن كان محقاً. وتخور قواه وتهن عزيمته عند ذكر اسمه إذا كان مبطلاً. فهل مثل هذا الفاضل تكبر عليه وظيفة مندوب في قلم قضايا الحكومة وقد أكبرتها من قبل ذلك الأغراض. ثم كادت أن تكبر عليه وظيفة نائب قاض في محكمة الاستئناف وهي الوظيفة التي تحتفل اليوم لها. وأنتم يا حضرات الأخوان تعترفون في سركم وعلانيتكم بأنه أفضلنا وأجدرنا بالرقي واستلام زمام الحكم في أكبر مصالح الحكومة. فالمحاماة التي رفعها إلى ذروة الشرف لا تزال تطالبه بأن يتسم بها أعلى سنام الرعاية والاعتبار. وأن يمحو عنها ما بقي من رسوم الزراية والاحتقار حتى إذا طلب أحدنا فيما بعد إلى منصب أرقى مما نال اليوم لا يجد دونه معترضاً.

كلكم تعرفون يا حضرات المحامين أن القضايا كانت ترفع إلى المحاكم وفي كل مائة منها سبعون أو ما يزيد ترفع فيها المسائل الفرعية فتقبل لخطأ في الشكل وجهل بالطرق القانونية. فأصبحت وليس في المئة خمس قضايا مما تقبل فيها الفرعيات. ومرجع الفضل في ذلك كله إلى سعد أفندي إذ كان قدوة وأستاذاً للمشتغلين بصناعة المحاماة بل كان أستاذاً لكثيرين من القضاة. وهذه تقاريره الشرعية والعقلية محفوظة لدينا يرجع إليها كل من استبهم عليه أمر قانوني. فلم يعد بعد من حاجة إلى بقائه بيننا. فقد أتم دروسه علينا سواء من حيث الصدق والاستقامة وطهارة الذمة أو من حيث البلاغة والفصاحة أو من حيث المسائل القانونية الدقيقة المعضلة. فليت شعري لأي شيء نتأسف من فراقه. وليس بنا من حاجة إليه إلا ما يطلب منه في دوره الجديد.

أي مشكل قانوني أو أية حادثة قانونية أخذت بطبيعتها شكلاً من الأشكال والالتباس - وللحوادث طبائع تختلف حتى مع وحدة القانون - ولم نر مرجع الفضل في حله إلى حضرة الفاضل سعد أفندي زغلول؟. بل في أي وقت تنازعا في مبدأ قانوني وكان الحكم بين الفريقين غيره. أولم يكن الرجوع إلى آرائه في الأحكام السابقة إليه بسبيل هذا المبدأ. وانتقاله اليوم إلى سلك القضاء لا يحزننا بل يملأ صدورنا فرحاً واغتباطاً. إذ به تزول عنا بقية الوصمة التي لم تبرأ حرفتنا من عابها حتى الآن. فلو قال لنا قاض من القضاة بعد اليوم إن فيكم من لا يصلح لشيء أجبناه. بل إن فينا من شرف منصب القضاء.

فلما انتهى الأستاذ من هذه الخطبة البليغة. وانتهى الحضور من التصفيق والهتاف ودلائل الاستحسان والإعجاب. قام في أثره صاحب الترجمة يرسل بينهم ذلك الصوت العذب السحري وينثر فيهم ذلك البيان الجزل السحباني. يشكر لهم احتفالهم به وشهادتهم بفضله وإقرارهم بنبوغه وعبقريته بل إن شئت قل قطعة من اعترافاته وناهيك باعتراف العظماء، قال:

إخواني وسادتي - قد عهدتموني وليس من شيمتي الحسد، إذ ليس الحسد بنافع أحداً مطلقاً، كما أنه لم يكن من طبعي الافتخار، فأنا آمن بما عهدت فيكم من أن ترموني به. ولكني أرى نفسي اليوم على غير ما طبعت عليه، أراني حاسداً نفسي فخوراً بما أنا اليوم فيه. إذ كنت موضوع اهتمامكم ورهين عنايتكم. وكنت أود لو أني بينكن أهنئ غيري من بين صفوفكم، بما يناله عن جدارة واستحقاق.

إخواني وسادتي - قد كنت أعرف من نفسي القدرة على البيان. وتقرير الحقائق، بل كنت أعتقد - ولو كنت مخطئاً في اعتقادي - أني على شيء من البلاغة والفصاحة واللسن، وما عهدت نفسي كالآن عيباً محصراً محتبساً عاجزاً عن القيام بما يجب لحضراتكم في بيان مقام الشكر لكم. وأراكم اختلفتم في الوجهة وتباينتم في الأسلوب وقد اتحدتم في المعنى واجتمعتم فماذا يسعني من أساليب البيان لأداء ما يحق لكل منكم، بماذا أشكركم وقد هجرت الكلام شهراً، ولولا أن مظاهر السرور على وجوهكم تدفعني للمقال - وإن لساني محض معبر عما يليه إحساسي الخالص ما استطعت الكلام الآن بعد أن اقتنعت من نفسي بأني عاجز عن مجاراة كل منكم في حلبة الفصاحة والبيان.

إخواني - أراني لا أزال واحداً منكم. وإن نهاية الشرف عندي أن تقبلوني كذلك لأنكم أنتم الذين تخدمون الحقيقة ولا زلتم تجدون في طلبها. ولم يكن من أمري إلا أن ضعفت عن مجاراتكم واجتثاث السير معكم في هذا الطريق المحمود فجلست وسرتم.

هذا ما دعاني لأن أكون قاضياً. بعد أن كنت معكم محامياً. استرحت بعد العناء. لا زراية يشرف المحاماة، لأنها حرفة إظهار الحق لمن تولى أمر القضاء بين الناس، وأرى أن أفخر حلي الشرف أني كنت بينكم زمناً طويلاً أسعى معكم في إظهار الحقائق، والله يعمل إني ما سعيت إلا لهذا المقصد الشريف. ولكني أشهد أنكم أشد مني عزيمة إذ قعدت وأنتم نهوض.

إخواني. إنني ما سبقت إلى اتخاذ فن المحاماة شعاراً إلا لأنها الحرفة التي تستلزم بسط آراء المشتغل بها على حضرات القضاة الفضلاء والأقران وجماهير العامة، فهي من ثم الحرفة الوحيدة التي تظهر فيها قيمة المرء في وسطه.

والحق أقول ما كنت بمستطيع أن أخالط من كانوا مشتغلين بهذا الفن يوم لبست شعاره. كما قال أحد إخواني أثناء كلامه وإني محدثكم الحديث.

أول ما هممت بالاشتغال بفن المحاماة وحدثتني نفسي بشأنها. نظرت فإذا من رزئت به من الذين كانوا عنوان سمعتها وذكرها. كأنهم الشوك يؤذي الناس ويعذبهم وذلك أنهم كانوا يسيئون إلى عباد الله بخيانتهم وزيغهم عن طريق الحق والهدى، ولذلك ترددت بادئ بدء ثم قلت في نفسي ما ضرك لو كنت وردة بين هاتيك الأشواك، ولو كنت الآن ما حدثتها هذا الحديث فمن حسن حظي أني أجبل البصر في هذا المحفل الحافل فلا أجد أثراً لذلك الشوك فلما استقر بخاطري أن القيام بالواجب خير للمرء حتى وإن كان يحرفه هي بأهلها من سقط المتاع أقدمت مستحصد العزم على الاشتغال بهذه الحرفة بين أولئك الذين عددتهم شوكا، والحمد لله إذ قد لفظهم الزمان لفظ النواة، وطهر الله مواضع نظرنا أن تقتحمهم في هذه الليلة.

إخواني لا أحب أن أخوض في حديث أولئك القوم ولكني أقول كما قال أحد إخواني إنه كان من أقصى واجبات تلك الشرذمة إرضاء خواطر أولئك القضاة الذين بحقهم الحق، وذهب بهم العدل.

ذلك ما أقول بصفتي محامياً بالأمس واليوم قاضياً لا يليق بي في الحالتين أن أكذب على نفسي وعلى غيري.

والذي حبب إلى الاشتغال بهذه الصناعة إني كنت مشتغلاً من قبلها بوظيفة من شأنها الإطلاع على أحكام المحاكم الملغاة التي كانت تنشر في الجريدة الرسمية يوم كنت عضواً في هيئة تحريرها، وكان من حظي أن عهد إلى أمر نقد تلك الأحكام، وتلخيص معانيها، ثم انتقلت من هذه الوظيفة إلى وظيفة ناظر قلم قضايا مديرية الجيزة. وهي كما تعلمون أشبه بوظيفة القاضي، إذ كان من خصائصه أن تصدر الأحكام في كثير من المواد الجزئية. فلما انفصلت من هذه الخدمة كما تعلمون وصفاً الجو من الأحداث لم يرق عيني أن أطرق باب أحد التماساً للرجوع في وظيفتي أو وظيفة غير هاوان كنت ممن يحب التواضع استغفر الله، بل إني رجوت من توسمت فيه الخير أن يساعدني لنيل وظيفة، فاعرض جهلاً منه غني ونأي بجانبه، فكبر عندي الأمر وازددت ميلاً إلى الأشغال بحرفة المحاماة وقلت لنفسي علام تحتمل يا سعد منه جهول، وما ضرك أن تكون مستقيماً بين مفسدين، بل ما ضرك أن تكون وردة بين الأشواك، فهان علي إذ ذاك أن احترف حرفة لم يكن فيها مناضل عن حق لوجه الحق.

هذا ما كان يحيط به حديث نفسي يوم أردت الاشتغال بحرفة المحاماة وأن في العالم الكوني وجوداً يحب صاحبه أن يشعر به، ذلك هو الوجود الإنساني. فكأن يخيل لي أن استقامتي في حرفة منيت بالفساد والضلال لابد من أن يعرف قدرها الوجود فأجتني ثمارها، وكنت لذلك أتوسم أن تأتي ظروف أحبها وتحبني.

إخواني - إنني اشتغلت بالمحاماة متنكراً عن أهلي وأصحابي وكلما سألني سأئل هل صرت محامياً أقول معاذ الله أن أكون كقوم خاسرين.

وجملة القول إني كنت أجتهد أن لا يعرفني إلا أرباب القضايا وإن كنت أجهل ماذا تكون العاقبة وقدر لي أني حبست في أول اشتغالي بهذه الحرفة ظلماً وعدواناً فنفعني مشروعي فيها وقد كنت أدافع عن الخصوم بالكتابة عن التقارير التي كانت تقدم إلى للإجابة على ما فيها من المسائل فانظروا إخواني في أمر محام كان يناضل عن الحق وهو منه سليب، وبعد أن انقضت مدة سحبني عدت إلى مزاولة هذه الصناعة لا أبقي بها غير الحقائق مطلباً - وكنت أحب أبدأ أن يحترمني القاضي فأحذر كل ما يؤدي إلى غير ذلك - ولعل سعادة الرئيس يذكر أنه لما كان بين أعضاء لجنة الامتحان التي طلبتني أمامها وسألتني ما هي واجبات المحامي. كان جوابي درس القضية جيداً - والمدافعة عن الحق واحترام القضاء.

سادتي تعلمون أن الحق صعب الاكتشاف وإن الحقيقة إذ تكون ضالة تتشعب طرق نشدانها علي الباحث ويعلم الله كم من ليال مضت ما كان أمرها عندي لا لأني كنت في عيش ضنك. ولا لأني قليل الميسرة. ولكن لأن الحقيقة ضائعة لا أجدها في طريق تشداني لها بين أناس عهدت إليهم أمانة ولا من يؤديها منهم لأهلها - كنت أرى القانون يكرهني على احترام القضاة وضميري يأبى الامتثال لاحترام كثير منهم فكنت أجمع بين الاحترام والتحقير ولا أستطيع التوفيق بين الظاهر والباطن - فأعجبوا أيها الأفاضل من مطبع غير مطيع - ولا جناح على لأن القوانين لا حكم لها على السرائر والضمائر - أقول الحق إني كنت أسأل من القاضي حقاً ومن النيابة واجباً فلا أجد هذا ولا ذاك - أما الآن فكلنا يعترف في سره وعلنه بأن القضاء ارتقى - والحق عنه مسؤول.

ومازلت إخواتي أعد نفسي محامياً عن الحقيقة التي أردنا المحاماة عنها جميعاً.

وإني شاكر فضلكم منشرح الصدر من كونكم عددتموني جوهراً شفافاً سطعت عليه أشعة العدل وأنوار الحق - فادعوا الله معي أن يؤيد روح الحق في بلادنا ويزيد في نشر الفضيلة والعدل.

هذا ما وسعه هذا العدد من تاريخ سعادة المترجم به. ولما كان هذا التاريخ قد يربى على مائة صفحة اضطرنا إلى نشره تباعاً في البيان.

فتح الله بك بركات

عضو الجمعية التشريعية عن دائرتي فوه ودسوق والقسم البحري

من كفر الزيات التابعة لمديرية الغربية

إذا كان الدهر قد عصف بالأمة العربية بعد ذلك السؤدد والفخار. وذهب بظلها بعد أن بسطته على قرص الشمس وأشعة الأقمار. فقد أبى إلا أن ينثر أخلاف أهلها مع الريح، ويذرو بقية رجالها في مشارق الأرض ومغاربها، فلم يخسر العالم منهم إلا صفة الأمة، ولم يفقد إلا شخصية المجموع، وشاء التاريخ إلا أن يحشر من الشراذم القليلة من العرب، أو ممن ينتمون إلى العرب، أفراداً وأسرات، في كل بلد كان للعرب فيه أثر، وقطر كان لتلك الأمة فيه شأن وخبر، ليكونوا دلائل وبراهين على قديم ملكهم، وعناوين وفهارس لمجلدات تاريخهم، وهم وإن اندمجوا في أهل البلد الذي نزلوه، وامتزجوا بالقوم الذين نشؤوا فيهم، وخلف لهم من تزاوجهم ذراري وحفدة وسلالات، وأصبحت لهم مميزات الموطن الذي عاشوا فيه وعاداته، إلا أنك لتظفر بالعربي منهم، فلا تقرأ في صفحة وجهه إلا صفحات تاريخ العرب كله، ولا تطالع في أساريره إلا سلاسل مآثرهم ومدوناتهم، ولا تقع فيه إلا على شيمهم وخلاتهم، ولا تسقط منهم إلا على قوة إفهامهم، ورجاحة ألبابهم، وهو بعد متميز عن أهل وطنه، متفرد دون الوسط الذي يحوطه، متفوق على أفراد أمته، لأنه وإن فقد الروح الاجتماعية التي هز بها آباؤه عروش العالم، وفتحوا بتأثيرها بلدانه وأقطاره إلا أن فيه لا تزال الروح الطبيعية التي تجعل العربي أبداً إنساناً قوياً في كل شيء، ولا تزال سلالات العرب في كل بل يقوون كفاآت أهله بتزواجهم، ويدخلون عليهم من دمائهم، حتى ليدور الفلك مداره، وتنصرم القرون، وتنفرط الأجيال، وينتهي اليوم الأخير من عمر الدنيا، ولا يزال في العالم رجل يقول ها أنا ذا عربي.

نقول ذلك ونحن بصدد نابغة مصري الموطن والمولد، عربي الأرومة والمحتد، وإذا كانت كل أمة من الأمم إنما طرأت على الأرض التي انتحلتها واستوطنتها، وكانت السلالات البشرية قاطبة لا تكاد تعرف لها موطناً أصلياً تقول هذا موطني على الحقيقة لا على المجاز، فليس بعاب على المصريين أن يكون عظيمهم يرجع بنسبة إلى أصل غير مصري.

فلا يندهش الناس بعد إذ رأوا من فتح الله بك بركات ما رأوا من شدة الذكاء، وقوة العارضة، وحمية الأنف، والنضح عن الحقوق، والدأب في خدمة المجموع. إن نقول إن هذا النابغة المصري ينتمي نسبه إلى أبي بكر الصديق، فمن دمائه تجري روح ثلاثة عشر قرناً كاملاً، بل تكاد تكون روحه قطعة من روح الإسلام كله، تفيض جميع مميزاته النفسية وخلاله ووجداناته وأفعاله من طبيعة الدم الذي يسري في عروقه، فكل ما ترى من وجداناته أثر من آثار ذلك الفيض الذي نبع منه، بل هي صورة مصغرة من صورة روح الصديق رضي الله عنه، ولتجدن ماء الغدير الفياض في حلاوة مساغه وعذوبة مذاقه لا يختلف عن ماء النهر العظيم الذي فاض منه واستمد، وكل ما نرى من غيرته وحميته طليعة من طبائع مزاجه، يمدها قلب كبير، وروح حارة، وليس كأولئك الذين لا تكون الحمية فيهم والغيرة إلا نتيجة الظروف، حتى لا تكاد تفرق بين غيرتهم وبين انفعالاتهم، ومثلهم في ذلك مثل الجياد غير الصافنات إذا عرضت في السوق للبيع، وجرى بها سمارها شوطاً صغيراً، أظهرت نشاطاً وخفة، وأبدت عتقاً وكرماً، فإذا ابتاعها مبتاع، وانطلق بها: لم يجد أثراً لذلك النشاط الوقتي الذي شاهده.

ولد صاحب الترجمة في اليوم الخامس عشر من شهر شعبان عام 1282 بمنية المرشد. وكانت يومذاك تابعة لمركز دسوق، وهي الآن تتبع مركز فوه من أعمال مديرية الغربية، وأبوه عبد الله أفندي بركات، وكان إذ ذاك عمدة لمنية المرشد، ثم رفع بعدها إلى وظيفة مأمور مركز دسوق، وجده الشيخ عبد بركات، وكان من ذوي الثراء الطائل، والغني العريض، وكان موظفاً في عهد محمد علي الكبير، رأس الأسرة الخديوية، يشغل وظيفة كانت تسمى حينذاك ناظر قسم أو ما هو في معنى ذلك، وبدأ مقام هذه الأسرة بمنية المرشد منذ ثلاثمائة سنة، وقد نزحت إليها من البرلس، وتنمي إلى أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

فلما درج إلى الحول السابع، دفعه والده إلى كتاب البلد، شأن كل مصري حتى اليوم، فلبث في هذا المعهد الصغير حتى كان عام 1293 فأرسله والده إلى مدرسة رشيد الأميرية، وظل بها حتى أتم التعليم الابتدائي، ثم انتقل حوالي عام 1297 إلى مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بالإسكندرية. وكان ناظرها إذ ذاك عبد الله نديم. وبقي بها عاملاً كاملاً. وفي سنة 1298 دخل المدرسة التجهيزية يدرب الجماميز بالقاهرة ومكث بها حتى السنة الثالثة، وإذ ذاك ثارت الثورة العرابية، وقد تقدمت بوالده السن، وألفي الحاجة ماسة إلى المترجم به. ليقوم بإدارة مزارعه، ورعي شؤونه وتدبير ثروته، إذ كان أكبر أولاده، فانقطع عن الدراسة والمدرسة، وما كانت المدرسة يوماً معهداً للعظمة. ولا متخرجاً للنبوغ، وهل كانت روح النابغة لتذكو وهل كانت نفس العظيم لتنضج بين برامج المدارس وقيودها، وجدرها وحيطانها. ومحفوظاتها وقشور علمها. وما نفس النابغة إلا قبس من قبس الله. يريد مضطرباً واسعاً. ومكاناً طلقاً فضاء، وإلا عاد دخاناً يخنق الأنفاس. ويعمي الأبصار. بل كم أفسدت المدرسة من روح خصبة، وعقل قابل للنضوج. واستعدادات كبيرة، وما روح العظيم من المدرسة إلا في محبس.

وأقام صاحب الترجمة بعد ذلك ببلدة. وكانت المشاحنات والفتن والضغائن فاشية بين أهل البلد. سارية بين أسراته وعشائره، حتى كان بالبلد على صغره سبعة عشر محامياً يشتغلون بقضايا الخصومات الثائرة بين أهليها أمام المحاكم التي أنشئت إذ ذاك للفصل في أمثال هذه الخصومات والمشاحنات. وكانت أراضي أهل البلد في ذلك الحين مرهونة للمصارف البنوك للحكومة، واندفعوا في الفتن والمشاحنات وأمعنوا في المدابرة والمنازعة. حتى ضجت المديرية والمركز في أخريات عام 1886 ميلادية من هذا البلد وحال أهلية ففزعت الأهالي والحكومة إلى صاحب الترجمة يريدونه على أن يكون عمدة للبلد، وكان إذ ذاك في ريعان الشباب، لم يجز بعد الربيع الأول بعد العشرين. على حين أن القانون لم يكن ليبيح وقتئذ تعيين من هو في مثل سنه في منصب العمدة. وكان المترجم به لا يميل إلى إسناده إليه. لما كان يراه في ذلك الحين من عسف الحكام وبلوغهم من الإرهاف والاستبداد إلى الحد الذي لا يلتئم مع رجل يشعر بكرامة نفسه وشخصيته. ولكنه اضطر إلى قبوله. إذ رأى إلحاح الأهالي وإلحافهم. ووعود الحكام إياه بأنهم سيأخذون بالحسنى. ويجنحون إلى اللين والعرف. وكذلك ترى الرجل النابعة النابه. تبدأ شهرته حيث تبدأ مواهبه تظهر لقومه وأهل بلده. ولا تزال شهرته تنتقل من بلده إلى جوار بلده. ومن جوار بلده إلى البلدان القريبة منه وكذلك تروح في البلاد وتغدو حتى تعم الأمة جميعها.

ومضى في منصبه ذاك حتى سلخ عام 1907. يصلح ذات بين القوم. ويرد الحزازات والضغائن ائتلافاً ومودة. حتى كان من أثر ذلك أن انفرط خمسة عشر عاماً لم ترفع فيها قضية واحدة لأحد من الأهالي إلى محكمة من المحاكم. لا بينه وبين آخر من أهل البلد نفسه. ولا بينه وبين الغير. وأخذ ينشر الأمن في بلده والتحاب والتواصل بين أهليه. وكان من ذلك أن ديون الأهالي سددت. واستخلصت أراضيهم من قيود الرهون. وحسنت حالهم. ونمت ثروتهم. وابتاعوا من أرض البلدان الأخرى المجاورة. وبلغت الثقة بينهم إلى حد أن الرجل منهم إذا احتاج إلى مال قليل أو كثير. افترضه من أخوانه. دون سند أو سفتجة أو شهود. وكذلك مضي يبت بين إخوانه العمد روح التضامن والائتلاف والتضافر حتى أضحوا جميعاً يداً واحدة مجتمعين فيما ينفعهم. متوانين على ما يوجب احترامهم وتوقيرهم.

وعند إنشاء لجان الشياخات وتأديب العمد والمشايخ منذ نيف وعشرين عاماً انتخب صاحب الترجمة عضواً نائباً عن مركز فوه في لجنة الشياخات بإجماع الآراء. وإن كان أحدث العمد سناً. فكان له في هذه اللجنة كثير من المواقف المشهودة حيان مديري هذه المديرية.

وكانوا هم أصحاب النفوذ والسيطرة على هذه اللجنة التي كانوا بطبيعة الحال يرأسونها. وكان هو الرجل الفذ الذي كان يخالف أميال المديرين وأهواءهم ونزعاتهم. غير مبال بسخطهم. ولا حافل يغضبهم. ولا مكترث بما يجلب عليه غضب أمثالهم.

وبقي بهذه اللحنة حتى نهاية سنة 1901. وكان يعاد انتخابه في كل عام. بإجماع الآراء. وانتخب في سنة 1899 في لجنة تعديل الضرائب بمركز فوه ونهض في ذلك بواجبه. حتى أن الضرائب المقررة على مركز فوه كانت أخف بكثير من سائر الضرائب المقررة على بلاد القطر. ولا يغيب عنك ما لاقى من المشاق. وعاني من الصعوبات في سبيل المحافظة على الصدق والأمانة في هذا التعديل.

وفي سنة 1902 انتخب عضواً لمجلس مديرية الغربية. فلم يستطع أن يظهر مواهبه وكفاءته. إذ كانت مجالس المديريات ضيقة الدائرة. لا تنعقد إلا مرة واحدة في كل عام. للتصديق بما تقرره نظارة الأشغال. وبقي عمدة إلى أوائل سنة 1908 إذ انتخب عضواً لمجلس شورى القوانين. وإذ ذاك جالت مواهبه العالية جولاتها. وتجلت كفايته الشخصية في أبهى مظاهرها. لأن الرجل العظيم لا يبدو عظيماً إلا في المواطن التي تجد عظمته فيها مجالاً واسعاً. ومنتدحاً براحاً. وأنت فلو جئت بديمو ستنيز اليوناني رب الفصاحة وملك الخطابة. ورأس البيان. فجعلته معلم صبية. إذن لما وجدت منه إلا رجلاً بسيطاً. ولا ألفيت لبلاغته أثراً. وما كان ليستطيع أن يظهر لا كل بيانه ولا بعضه. فلا جرم أن تكون كفاءة صاحب الترجمة في مجلس الشورى غيرها في مجلس المديرية. فليس من يقف مدافعاً عن حق فئة قليلة كمن يقف في جماعة ناضحاً عن حقوق الأمة جمعاء. ولعل الناس لم ينسوا بعد ما كان له من مواقف مشهورة. ومواطن مأثورة. مما لا يتسع المقام لذكره الآن.

وظل في مجلس الشورى حتى انفض في سنة 1911 وجاءت على آثاره الجمعية التشريعية فانتخب عضواً فيها عن مركزي فوه ودسوق وبعض بلدان من مركز كفر الزيات.

ولا يفوتنا أن نصف لك في بضع كلمات هيئة المترجم به وأخلاقه ومبادئه. إذ كانت الطبيعة تنم في الإنسان عن روحه، وتخرج للناس منها صورة دقيقة الحجم تطبعها فوق ملامح وجهه وهيأته ومعارفه وجميع أجزاء تركيبه الإنساني. وما آداب المرء إلا نتيجة ائتلاف إرادته النفسية ونظامه الجثماني، بل إن هي إلا آراؤه نفذت إلى يديه وقدميه ووجهه وجميع أجزاء جسمه. فقام بهذه الحركات التي اصطلحنا على تسميتها بالآداب.

فلو أنت طالعت المترجم به، لألفيت رجلاً خفيف اللحم، ربعة القوام، أسمر اللون، بشوشاً. وقد خط الشيب مفرقيه وشاربيه. ولو جدت إزاءك رجلاً نشيطاً حلو الحديث. طيب المحاضرة. ثم إذا أنت خالطته ومازجته وأنست إليه. رأيت منه أخلاقاً سامية. وصفات حرية بإعجابك خليقة بمديحك واستحسانك. وجملة هذه الأخلاق ثقته بنفسه. والثقة بالنفس من أخلاق العبقريين. لأن الرجل العبقري كوكب في نفسه لا يستمد من نور غيره. ويأتي بعد ذلك ميله إلى الجد. وصدوفه عن اللهو. فهو رجل عمل لا يجد اللذة إلا في قضاء عمله. وما عرفناه يوماً من جلساء القهاوي وروادها. أولئك الذين تزدحم بهم قارعات الطريق وأفاريزها. وأبهاء القهاوي وقاعاتها. حتى ليخال لك وهم مرصوصون بعد المغيب مصفوفون أنهم جاءوا يسمعون محاضرة أخلاقية. وكأن في كل قهوة خطيباً يخطب زبائنها. وأنه ليجول بخاطرك ساعة تشهد ذلك المحفل الحافل إن نصف بيوت المدينة قد خلت من رجالها وشبابها.

والمترجم به من أشد الناس حرصاً على الفروض الدينية وأدائها في حينها. لا تفوته فريضة، ولا يشغله عن صلاته شاغل.

والمبدأ الذي يسير عليه في جميع أعماله هو الانتصار للحق وتأييده أنى كان، والإخلاص للأمة، والعمل على تحقيق مطالبها في ظل السكون بعيداً عن لغط اللاغطين، بنجوة من هذا الاضطراب العصبي الذي تحدثه السياسة في أبعد الناس عنها. والذي يفسد على قادة الأمة أمرهم.

قليني باشا فهمي

أحد النواب عن المصريين الأقباط في الجمعية التشريعية

في كل أمة طوائف، وفي كل شعب نحل وعناصر، ولكل من هذه العناصر شخصية لا تظهر إلا إذا قام بمفرده، ولكنه يفقد في غمار العناصر الأخرى للأمة هذه الشخصية، ويكتسب بدلها شخصية المجموع الممتزج، كما يكون من المركبات الكيماوية ومخاليطها، فإنك ترى الماء مركباً كيماوياً من الهيدروجين والأكسجين، ولكل من هذين العنصرين مميزات وصفات شخصية، على أن ليس للماء المؤلف من اختلاطهما أدنى نصيب من تلك المميزات الفردية، فإذا انتقضت هذه الرابطة بين العناصر المتممة للأمة وانتكث السبب الذي يمسكها، وانحلت الآصرة التي تشدها أصبح أمر الأمة فرطاً، وأضحى فيها بدل مجموع واحد مجاميع كثيرة، وعوض أمة واحدة أمم متعددة. كلها يطالب بالامتياز في الحقوق الاجتماعية والمدنية، وكلها لا يتوخى فائدة المجموع الأمي. وإنما يتوخى فائدة عنصره. وإذ ذاك تصطدم المصالح وإذا اصطدمت المصالح ثار الخلاف، ولا يكون من مصير الخلاف، إلا تعطيل التطور الاجتماعي الذي تنشده كل جماعة إنسانية.

هذا وإن العنصرين المؤلفين لمجموع الأمة المصرية. هما العنصر الإسلامي وله الأغلبية. والعنصر القبطي وله الأقلية. ولا غنى لتركيب الأمة عن أحدهما. ولا يقوم المسلمون في الاعتبار المصري دون إخوانهم الأقباط. ولا قائمة للأقباط دون إخوانهم المسلمين. فمن ثم ينبغي أن يتوارى الاختلاف الديني أمام الوحدة المصرية، وينظر الفريقان إلى مصلحة مصر بنظرة المصري لا بنظرة المسلم ولا القبطي. لأن الوطن ليس بالمسجد ولا بالمعبد حتى تعتبر فيه الفروق الدينية.

وقد كان الفريقان والعهد ليس ببعيد يتقاطعان ويتجادلان، ويقيمان الجمعيات والمؤتمرات. ليقرر كل منهما حقوقه، ويعلن مطالبه، ويذيع رغائبه، وكأن حق المصري لابد أن يختلف باختلاف نحلته. ولكن أمد هذا التقاطع لم يطل. وكان من مساعي عقلاء العنصرين وكبار رجالهما، أن تبدل ذلك التقاطع وحده ووثاماً، وعاد ذلك التناكر تعارفاً وسلاماً. وأصبح المسلمون والأقباط اليوم على محض التحاب والصفاء.

نذكر ذلك ونحن بسبيل ترجمة نابغة من نوابغ المصريين الأقباط. ونابه من كبارنا بينهم هو أول من مشى بالسلام بين العنصرين. وأول من أصلح منهما ذات البين. ووفق بين القلوب، وهدأ من ثائرة الأقلام، حتى لا يدع أن يلقب فينا برجل السلام.

ولقد عطوفة صاحب الترجمة لستين عاماً خلون بعد الألف والثمانمائة، فهو الآن في العقد السادس من عمره، فبدأ علومه في مدارس الأقباط والفرنسيس، ثم دخل في خدمة الحكومة سنة 1875 فما زال يثب من منصب إلى منصب، حتى أخريات عام 1893 إذ أصبح مديراً لعموم الدخوليات - المكوس - ومراقباً عاماً لإدارة الأموال الغير المقررة في نظارة المالية، وكانت تشتمل إذ ذاك الدخوليات، في جميع أنحاء القطر والملاحة والأسماك والمعادن والكباري ودمغة المصوغات والضر بخانة ومصلحة الملح والإدارة العمومية لنظارة المالية ومجالس التأديب في جميع القطر، ثم اعتزل بعد ذلك خدمة الحكومة، ونحن فلا نريد أن نفيض في تفاصيل خدماته الرسمية فذلكم مشهور متداول. فليست هذه الدقائق ميزان شخصيته ونباهة ذكره، بل إن له من جلائل الأعمال ما يجعله خليقاً بالاحترام التاريخي. وحسبك مسعاه في الثورة العرابية فقد قام في تلك الظروف في أمنع حصن من الحزم والتبصر، ورأى السجون قد أقفلت أبوابها على أبرياء أخذوا بالظنة، فنهض بحركة جليلة، وبذل جهده لدى المغفور له سلطان باشا رئيس الحكومة في ذلك الحين. حتى أطلق المئات من الوجهاء والأعيان من ظلمات السجون.

ونذكر لعطوفته مساعيه في جمعية الهلال الأحمر إذ بذل لها من ماله ووقته ووقف نفسه لهذا العمل الإنساني الجليل. ومثوله الأخير بين يدي جلالة السلطان. وموقفه في المشروع الاقتصادي الذي قامت به لجنة زراعة الدخان، إذ اقترح عليهم العمل تحت إشراف لجان مسؤولة فكان قوله القول الفصل.

ولما توترت العلاقات بين الأقباط والإكليروس واشتد بينهما الخلاف في مسألة المجلس المالي، وشق على كبار الأقباط وأعيانهم حل هذه المشكلة المعضلة، قام عطوفته منفرداً وأعانه اللورد كتشنر في وضع لائحة جديدة لإعادة المجلس الملي موفقاً في بنوده وفقره بين الأقباط وغبطة البطريرك، وكان من نتيجة ذلك أن أعيد افتتاح المجلس بعد أن كان منفضاً سنين عدة، ونظر في الأعمال المرجأة المتأخرة ونشر السلام لواءه على الأكليروس والأقباط.

وهو من حائزي رتبة روملى كلربك، ولا تعطي هذه الرتبة عادة إلا إلى رؤساء النظار، ولا يحملها في مصر إلا القليون، ومن الأوسمة التي حازها من الحكومة المصرية لما عاناه في خدمتها من كد وأنفق من مجهودات، الوسام المجيدي الأول، وهو أكبر وسام يعطي في هذه الديار، وقد نال عدة أوسمة من الحكومات الأجنبية.

وقليني باشا فهمي رجل ديموقراطي الملبس والمعيشة، يقيم في مصر سبعة أشهر وفي أوروبا خمسة، ومشتاه في حلوان. وهو ذو ثروة متوسطة. وهو من أكبر الأسرات في مديرية المنيا. وجده الماسوف عليه يوسف عبد الشهيد بك. وكان من أقران المرحوم سلطان باشا وشريعي بك.

وبه فرط ولوع بالأسفار. وشدة شغف بالسياحات. ساح في فرنسا وإنجلترا. وإيطاليا والنمسا والمجر وألمانيا وسويسرا وروسيا وزار تركيا واليونان وبلغاريا ورومانيا وهو من المصريين الأفذاذ الفذين قاموا بالسياحة في الجزائر وتونس وإليك صورته وهو في زي المغاربة.

وأنت لو رأيت صاحب الترجمة إذن لرأيت رجلاً حاضر الذهن. قوي الفكر، رقيق الشعور، يخيل إليك أنك تقرأ في أسارير وجهه مكنون سريرته. وأنك لتجد منه استئناساً وتعاين بشراً ورقة وخلابة. فإذا ما سا

أوروبا خمسة، ومشتاه في حلوان. وهو ذو ثروة متوسطة. وهو من أكبر الأسرات في مديرية المنيا. وجده الماسوف عليه يوسف عبد الشهيد بك. وكان من أقران المرحوم سلطان باشا وشريعي بك.

وبه فرط ولوع بالأسفار. وشدة شغف بالسياحات. ساح في فرنسا وإنجلترا. وإيطاليا والنمسا والمجر وألمانيا وسويسرا وروسيا وزار تركيا واليونان وبلغاريا ورومانيا وهو من المصريين الأفذاذ الفذين قاموا بالسياحة في الجزائر وتونس وإليك صورته وهو في زي المغاربة.

وأنت لو رأيت صاحب الترجمة إذن لرأيت رجلاً حاضر الذهن. قوي الفكر، رقيق الشعور، يخيل إليك أنك تقرأ في أسارير وجهه مكنون سريرته. وأنك لتجد منه استئناساً وتعاين بشراً ورقة وخلابة. فإذا ما سايرته وبادلته الرأي وقارضته الحديث يقنت ساعتذاك أنك في حضرة عظيم يضطرك إلى احترام رأيه والتسليم به. وإن تذهب معه المذهب الذي يريد. وقد يبدهك بالحجة. ويبغتك بالبرهان فلا ترى وجهاً لمنازعته القول ولا تفارقه إلا وأنت مطمئن الرأي موفور الإقناع. قوي الفكر. ذلك لأن للقوة عدوى سريعة الظهور. فكل ما يجعلنا أقوياء في الرأي والروح والوجدان يزيد في قوتنا، ويفتح أمامنا أبواب العمل، ويبسط قبالتنا ميدان الفعل. ونحن بني الناس مدينون لكل قلب كبير. وعقل عبقري. ولسان عذب. وروح متقدة. ونحن لا نستمد شيئاً من المجتمعات. وإنما من تلك الأرواح الرقيقة والقلوب الشريفة التي تخرجها لنا القوة الألهية بين عديد ما تخرج في كل يوم من تلك القوالب الإنسانية المعتادة التي لا يفترق بعضها عن بعض إلا في أحجامها وأشكالها واختلاف تركيبها.

وإنه ليتبادر إليك في لغة حديثه إذا أنت جلست إليه معان جمة ما شئت من أدب وعلم وفضل واستمكان وإن من الناس من يحاجك كأنك خصمه فلا يزال يعطيك من صخبه وشدة جدله. حتى تقوم من حضرته وأنت لحديثه كاره ولكن الأناة والتؤدة والقول العذب اللين من شأن الرجل العظيم. وهذا ما نشعر به في حديث صاحب الترجمة وإنك لتصغي إلى قوله وهو يتدفق متدبراً متئداً فيخيل إليك أنه يتناول من ذاكرة حافلة مترعة وليس بمرسل القول للعفو والساعة. وهذه خلة كانت ولا تزال نصيب راجحي العقول موفوري الحجي.

أما عن مبادئه وخطته في الجمعية التشريعية فإن عطوفته يذهب إلى وجوب العمل المطمئن الهادئ والتفاهم المبني على حسن الثقة فالتشريع لا يكون بالمخاصمة والتحمس والمنابذة. ويرى أن حسن التفاهم بين الأمة والحكومة سيأتي بالفائدة العامة للبلاد وأهليها لأننا إذا ظننا بالحكومة سواء واعتقدت فينا سوء النية ظللنا متنافرين. كل يعمل على معاكسة الآخر ولا يخفى ما في ذلك من الضرر الذي يعود على الأمة ونحن نقول إن عطوفته ممن يهمهم أن يخرجوا من المسائل التشريعية بنتيجة تجري المنفعة والربح للأمة.