مجلة البيان للبرقوقي/العدد 23/ترجمة سعد زغلول باشا

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 23/ترجمة سعد زغلول باشا

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1914



الرجل البرلماني الكبير

ـ 3 ـ

نعود فنسترسل في ترجمة هذا الرجل العظيم الذهن. الكبير الروح، المتوثب الوجدان، ونعود فنأخذ في دروسنا الجليلة التي نستمدها من الحياة العظيمة، والشخصية الكبيرة، وما كانت حياة العظيم إلا الجزء الأكبر من حياة الإنسانية نفسها، ولو أردت أن تستخلص تاريخاً حياً حاراً لأمة من الأمم، فالتمسه في تراجم عظمائها وقائمة أبطالها، ولو أنت تجاوزت ذلك إلى حياة عامة أفرادها، وعادي رجالها، لما كان تاريخك إلا مذكرات يومية بطعام الأمة وشرابها، وشبعها وريها، وحيوانيتها وعجماواتها، وليست تراجم كبار الرجال إلا برامج سامية للجنس، وخططاً عاليه للنوع، هي أشد أثراً في تطور الإنسانية من الفلسفة والعلم، وابتكارات الذهن، ومخترعات العبقرية، لأن هذه لا تهذب نفوس الناس، ولا تطهر من أخلاقهم، ولا توقد من وجداناتهم، بل إن الفلسفة والعلم والآداب والمبتكرات في كل يوم تقتل نفسها، ويمحو اليوم منها ما يثبت الأمس، وأما حياة العظيم، فلا تني تخلق عظيماً مثلها أو أشد عظمة، وهي بعد مطهرة لدهماء الناس، مهذبة لأخلاقهم ووجوه الحياة عندهم، وما كانت حياة نابوليون إلا نسخة أخرى من حياة هنيبال أو الاسكندر، بل كم خلقت ترجمة نابوليون من نابوليون صغير، له روح نابليون العظيم ومشاعره، وليست له قوته، وليس له حظه.

تكلمنا فيما مضى عن نواح شتى من شخصية سعد زغلول باشا ومزايا عظمته ونحن اليوم ذاكرون شيئاً من قوة عزيمته، وقوة دأبه وإرادته، فمن ذلك أن المترجم به تعلم اللغة الفرنسية، وهو يكاد يجاوز الأربعين من سنه، ولم يلبث غير قليل حتى حذقها، وأتقن معرفتها، وبلغ من إلمامه بها، أن أدى الامتحان بها في علم الحقوق وهو قاض في الاستئناف، ونال بذلك شهادة الليسانسييه.

وأنت ترى من ذلك أن هذا الرجل الكبير كان ينزل عن منصة القاضي ليجلس مجلس التلميذ، وذلك لأن العظمة لا تخجل من أن تستخدم ما تحتها في سبيل كماليتها، وإن الشاعر العبقري لا يضيره أن يجالس البغي لكي يستعين بتحليل نفسها على الإبداع في قصيده وخواطره، والفيلسوف لا تسمو نفسه عن أن يماشي السكير لكي يدرس طبائعه وعوارضه، والبحاثة العالم لا يترفع عن أن يصحب السوقة ليكون مادة له في بحثه وتفكيره، والناس كلهم طلاب معرفة، وأشدهم في طلب المعرفة نوابغهم، لأن المعرفة، في التعريف الفلسفي، هي ضرب من القوة.

هذا ولقد كانت الإرادة القوية عاملاً من أكبر العوامل في تطور العالم وارتقائه، وازدياد وسائل المدنية وأساليبها ومستلزماتها، فهي التي رفعت الإنسانية من ظلمة الخمول وحمأة الانحطاط، هي كشفت العالم الجديد، وفتحت مجاهل العالم القديم، وظهرت على متن العالم الجليد هي ذللت الكيمياء الحديثة وأحماضها، وهي أخرجت مكتشفات الطب الجديد وجراثيمه وأدويته ومضاداته، وهي اخترعت عجائب الطيران ومدهشاته.

ولا أحسب الرجل الذي يحاول اختراق الطريق مسرعاً فتدهمه العجلات وكان يعجز عن بلوغ الجانب الآخر، لو لم تتعطل فيه قوة إرادته، فعطلت فيه قوة ساقيه، ألا ترى اللص الهادئ، يعدو والشرطي في أثره، وإذا به قد وقف بغتة عن عدوه، وكان سابقاً الشرطي بالمسافة البعيدة، ذلك لأن قوة الإرادة فيه قد اضطربت، فاضطرب لها مجموع جسمه.

إن أمام الإرادة القوية الوثابة لا تتطاول صعاب الأمور وعسيراتها ولا تستكبر عظائم الخطوب وجليلاتها، بل أن اجتياز نابوليون هضاب الألب وجباله، وثلوجه وشعابه، هو الذي علمه أن يقول أن كلمة مستحيل ليست في اللغة!.