مجلة البيان للبرقوقي/العدد 24/رجال الحرب

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 24/رجال الحرب


الفرد فون تيربتز

منشئ البحرية الألمانية

إذا أراد المؤرخ أن يضع تاريخاً صادقاً دقيقاً لتطور البحرية الألمانية وارتقائها، وتقدمها ونمائها، فلن تجد اسماً يضعه على رأس هذا التاريخ إلا اسم رجل واحد هو فون تيربتز. فإن لهذا الرجل الصلب العود المتشعب اللحية، السياسي الملاح، التيوتوني المعارف والسمت، الفضل الأكبر في نهضة ألمانيا إلى مصاف دول البحار. فهو وحده موجد أساطيل الإمبراطور.

وهم يسمونه في برلين (تيربتز الخالد) ذلك لأنه قد مضى عليه وهو في دفة الوزارة نحو من خمسة عشر عاماً، لم ينزل في خلالها عن مقعده ولم يعتزل أو يعزل عن منصبه، وليس في الوزارة الذين تقلدوا مناصب الوزارة من لم تزعزعه عن مكانه عواصف السياسة وأزماتها هذا الدهر الطويل اللهم إلا هو وبسمارك، فقد تقلد كثيرون من المستشارين مقاليد الاستشارة ثم تحملوا. وجاء كثيرون إلى وزارة الحربية ثم ذهبوا وتعاقب العديدون على كراسي الوزارة الأخرى ثم نزلوا، هذا وتيربتز لا يزال متربعاً في دسته منذ عام 1898 سائراً في سبيله البحري وخططه.

وليس تيربتز من أصل عريق، ولا هو من الذين يمتون إلى محتد شريف، بل على النقيض من ذلك نشأ من عامة الناس، لإسناد له الأهمية عظيمة، لا تعرف النصب ولا رأس مال له إلا قوة الإرادة وعلو المطمح، وكانت هي وحدها كافية لأن تنقله من بحار بسيط إلى إدارة قوى البحر كلها، فهو الرجل الأوحد في وزارة البحرية الذي يجمع بين أثوابه المهارة البحرية والنبوغ العملي والحذق في السياسة، حتى أن الصحف الألمانية والتقارير الحكومية تقرن اسم تيربتز ابداً باسم المستشار، وذلك لأن ألمانيا فقيرة بمستشاريها.

وتيربتز هو الذي جعل ميزانية البحرية الألمانية تتدرج من ستة ملايين من الجنيهات عام 1898 إلى ثلاثة وعشرين مليوناً عام 1913 وكانت سياسته وقوة شخصيته هي التي لعبت بعواطف الأمة، وسحرت رجال الرشتاغ، فرضوان بهذه الزيادة، وأقروا بتوسيع نطاق التقدم البحري، والإكثار من حشد الأساطيل.

ولد بعيداً عن البحر وشواطئه من أبوين فقيرين خاملين، فلم يكن في منشئه ولا في مظهره ما ينبئ عن أمير للبحرية وزعيم في السياسة، فلما كان في السادسة عشرة بعد الفراغ من المدرسة وتعليمها دخل تلميذاً متطوعاً في البحرية البروسية، وكانت يومذاك لا تتألف إلا من عدة سفائن صغيرة فلم يلبث غير أربعة أعوام حتى نال رتبة الملازم، ولما ناهز الخامسة والعشرين ظفر برتبة القائد البسيط، وفي هذا الموطن الصغير كان أول ما ظهر من مقدرة تيربتز المدهشة على الابتكار، وبوادر ما تجلى من عبقريته في سيطرة آرائه ومبادئه على آراء من فوقه ومن دونه، وفي هذا الموطن بدأ ذلك النبوغ العملي الذي كان الحجر الأساسي لحياته المقبلة ومنذ ذلك اليوم وهو قد اعتاد أن يمعن في التفكير والابتكار وسبق زملائه في البحرية وغير البحرية بسديد الآراء. وناضج الفكر، فكان يكتسب بذلك قلوب أشياع كثيرين، ويسحر الباب عصبة ليست بالقليلة، حتى لكأنما قد خلق هذا الرجل بطبيعته قائداً ومبتكراً، ولعل السبب الأكبر الذي جعل أزكى الرجال وأخصب الأذهان تلتف حوله وتقبل عليه يرجع إلى تمرده على الآداب البروسية القديمة، والتقاليد الحربية العتيقة، ونعني بها احترام السن وتبجيل الكبار، وكانا يريدان أن يسودا بين رجال البحرية وموظفيها، ولذلك سن قانوناً جديداً، هو أن الجدارة والأهلية هما الخليقان دون غيرهما بالاحترام والإكبار.

وجاءت سنة 1891 فخطا تيربتز بكفاءته إلى رئاسة محطة كيبل البحرية، وكانت كيبل مريض الأساطيل الألمانية ومثواها. وهناك سنحت له الفرص لإظهار براعته وقوة ابتداعه، فاهتم أول أمره بإنشاء النسافات وتحسينها والتمشي بها نحو الكمال، وإن قوة ألمانيا المعترف بها في هذا الفرع من البحرية هي نتاج دأب تيربتز ومهارته.

ولم يكن صعود الرجل من سطح السفينة إلى مقعد الوزارة لينجيه من مطاعن المنافسين والحاقدين، ولم يكن ليجعله بندوة من نقد الناقدين وشتم الشاتمين، ولكن فون تيرينز كان فوق الشتائم وفوق المطاعن فلم تنل منه شيئاً، بل كان يلقب بين رجال البحرية بالسيد.

وكان فون تيربتز لا يبرح ينظر إلى المستقبل بتلك العين الذكية الوقادة، فما كاد ينتهي من ذلك العمل الشاق العظيم، وهو تنظيم إدارة البحرية، واختيار الأذكياء والنوابغ لها، حتى توفر على إيجاد أسطول ألماني ضخم، يكون خليقاً بهذا الاسم، وكان التقدم الصناعي الألماني قد بلغ أشده، وانتهى إلى الغاية البعيدة، وكانت سفنها التجارية في البحر قد اتسع نطاقها وازداد، فوجد تيربتز أن الفرصة سانحة لنشر الروح الجديدة التي يريدها، وهو العمل على التأهب ببحرية كبرى، ووقع في سنة 1899 ما أعانه على مطلبه، ذلك أن سفينة بريدية من سفن الألمان وقعت في أسر سفينة حربية للإنكليز، وهنا وثب هذا الرجل فاستخدم هذه الحادثة بكل ما أوتي من قوة وبيان، وأبدى للأمة وريشتاغها أن هذه الحادثة تمثل الخطر الدائم الذي لم يبرح يحدق بالعلم الألماني الخفاق فوق سفن التجارة، ما لم ينشأ لحمايتها أسطول عظيم، وكان القانون البحري الذي سنته ألمانيا في سنة 1900 وليد ذهن تيربتز وقريحته، وكان من إقرار الريشتاغ عليه أن أعطى لقب النبل المتوارث، وهو كلمة فون كما ترى وأنزل إلى البحر أول سفينة حربية عظيمة تحمل ثلاثة عشر ألف طن، في سنة 1902 فرفع إذ ذاك إلى لقب أمير البحرية العام، وتوصل بإيقاد عواطف الشعب وإرسال الحمية في نفوس سواد النواب إلى سن المذكرة البحرية الإضافة القائلة بوجوب إنشاء الدريد نوط بين أربعة وستة في العام، فانعم عليه الإمبراطور بأسمى وسام في الإمبراطورية ذلك هو وسام النسر الأسود.

هذا وتيربتز من محبي إنجلترا والإنكليز، ومن عشاق كل ما هو إنكليزي، بل قد تعلم كل أولاده في إنجلترا.

والعزيمة الحديدية هي أكبر مزايا هذا الرجل، بل هي التي أنشأت البحرية الألمانية بل أنشأته، وهو الوزير الأوحد الذي لم يعتد الخضوع لذلك السيد الفرد، ولم يعرف الاعتصام بالاستكانة له والسكون، بل إن له لإرادة قاسية، وهو يعرف كيف ينفذها.

وهو اليوم في الرابعة والستين، لا تزال تجري في عروقه حرارة الشباب وفضيلة النشاط، وهو رب أسرة، ووطني كبير الذهن يغلي بالوطنية، فلا غرو بعد ذلك إذا عد في طليعة منشئ ألمانيا الحديثة.

فون درعو لتز باشا

من بين نوابغ العالم الذين يحملون السيف في يد، والقلم البليغ في أخرى، وطبقت شهرتهم الخافقين في الدولتين، فون درعولتز باشا، فإن هذا الفيلد مارشال الشيخ كان يكون نابها بأدبه ومؤلفاته وإن لم يكن جندياً يخططه الحربية وتنظيماته، بدأت مقدرته الأدبية وهو فتى حدث، في ريعان العمر، وكان أول فرع في الأدب أحبه هو الروائيات، وضع في شبابه روايات غرامية، كان يبيعها ليعول بثمنها أماً أرمل فقيرة ثم أخذ يبدي براعته شيئاً فشيئاً، ويتنقل من الغراميات إلى الحربيات، حتى وضع بعد ذلك كتاب ليون غمبتا وجيوشه فعلاً بالكتاب صيته، ونبه ذكره، وكان هذا المؤلف الحربي يجور حول إنقاص مدة الخدمة الحربية في ألمانيا من ثلاث سنين إلى سنتين، وهذه الفكرة هي التي كان الحزب الاشتراكي في الريشتاغ يدعو إليها بعد ذلك. ويشتد في طلب العمل بها، واتهم جولتز أثر ذلك بأنه من أشياع الحريين وهي تهمة لا تليق بضابط يلبس أردية الحكومة، فعوقب من أجلها بإنزاله إلى رتبة دون رتبته، وانتشر الكتاب في سنة 1877 فأثار هزة كبرى بين أفراد الأمة، على أن الكتاب مهد الطريق إلى تحقيق هذه الفكرة فحققت بعده بستة عشر عاماً.

ولعل أحسن مؤلفات جولتز وأعظمها في العالم أثراً كتابه (أمة في السلاح) نشره عام 1883، وكان يومذاك في الأربعين، وهو كتاب رشيق حماسي متين الحجة، يرمي إلى وجوب الخدمة العسكرية الإجبارية، وقد ترجم الكتاب إلى بضع عشرة لغة، ووعته كلا حكومة في الغرب ودرسته، ثم اتبعه بمؤلفات أخرى اشتهرت شهرة الأولى، منها (حروب فردريك الأكبر) و (فن قيادة الجيوش) و (التاريخ الحربي لألمانيا في القرن التاسع عشر) وقد تجلى في هذا الكتاب الأخير من أكبر دعاة النظرية القائلة بأن الحرب هي المنشأ الوحيد لتقدم ألمانيا.

وقد اشتهرت أسلوب غولتز بالرشاقة والخفة والوضوح والمائية، حتى عد بذلك من أساطين رجال الأدب.

ودعي غولتز عام 1883 إلى تنظيم حربية السلطان عبد الحميد السابق وإصلاح فاسدها، وكذلك ظل حتى عام 1895، وجد الجنود العثمانية جمعاً مشتتاً مبعثراً، لا يحتوي غير رجال غفل، لا يعرفون أساليب القتال ولا شهدوا نظاماً.

ولو سمعت ما كان يجري حول هذا القائد منذ يوم وصوله الآستانة إلى يوم رحيله عنها، من المكايد والفتن والدسائس في عهد السلطان المخلوع، إذن لعجبت كيف استطاع فون جرجولتز، حتى في مدى الأثنى عشر عاماً التي لبثها، أن ينجز شيئاً من الإصلاح، فقد حاطه عبد الحميد بعدة من الجواسيس والعيون، يحولون بينه وبين كل سبيل، ويعرقلون له كل سعى، وحدث مرة أن جولتز نجح في استخلاص الأذن من السلطان بإقامة استعراض يمثل القتال، وما كاد يبدأ بذلك الاستعراض، حتى جاءه الأمر بالامتناع عن إتمامه، لأن عيون السلطان ألقت في أذنه أن السبب الوحيد في عمل هذا الاستعراض هو القيام بمؤامرة حربية عليه، ولم يسمح ذلك السلطان العصبي المستبد يوماً للقائد جولتز أن يترك جنوده في أيام التمرين يستعملون رصاصات الخرطوش، وما استطاع يوماً أن يجعل مدفعيته تستعمل في أوقات التجربة شيئاً من البارود، واشتريت بنادق موزر من ألمانيا لأجل الجنود العثمانية، ولكنها ظلت مكدسة في غرائرها مربوطة في أكياسها زهاء ست سنين في مخازن الآستانة، وهذه هي التأثيرات التي كان يعمل تحتها القائد جولتز.

ولكن قوة الرجل ودأبه العظيم وصبره الطويل، كل ذلك ساعده على أن لا يرحل عن تركيا إلا وقد أسس لها جيشاً وإدارة حربية ومدرسة عسكرية ومصلحة طبوغرافية، ووضع كذلك لها الخطط الحربية لقتال جيرانها والدفاع عن بيضتها حيال دول البلقان.

فلما كان عام 1909، وقد وضعت تركيا الفتاة السلطان عبد الحميد عن العرش، وأعلنت الدستور، دعى جولتز بعد فراق أربعة عشر عاماً إلى الرجوع إلى تركيا وتنظيم الجيش الجديد، ولكنه اعتذر، على أنه قضى في العام التالي زهاء شهرين في الآستانة بين تلاميذه وأصدقائه القدماء، وقفل إلى ألمانيا راجعاً وهو يتوسم الخير في العصر الجديد.

ولما انهزمت تركيا في حرب البلقان الأخيرة، جعل بعض القوم في برلين وألمانيا يرمون جولتز باشا بالنقص، وينسبون إليه جريرة هذه الهزيمة.

هذا الجندي الشيخ، قد أوفى على السبعين، وكان في حرب سنة 1866 ملازماً ثانياً وقد تفتت عظم كتفه اليسرى في تلك الحرب من إحدى القنابل، ثم جعل يرتقي من مرتبة إلى مرتبة حتى فاز بلقب الفيلد مارشال وبوسام النسر الأسود، وهو يرجع نسبه إلى أسرة جولتز وقد نبغ له جد ارتقي إلى رتبة المارشال في عهد لويس الرابع عشر، وهو رقيق المظهر مشرق الطلعة، على حين أن له قلباً من الصخر وإرادة من الحديد، لا تحفل بشيء ولا تكترث، وأكثر مزايا شخصيته الإعراض عمن فوقه من الناس والتعطف والتودد لمن هم دونه، ووظيفته الحربية تستلزم حضورة إلى البلاط في (التشريفات الرسمية) ومن امتيازاته فيها أن يحمل سيف الإمبراطور.

خوف الإمبراطور من الأمراض

بينا يسير الإمبراطور في ساقة الجيش اليوم، لا تراه يتخلى عن أطباء بلاطه لحظة واحدة، فهو يخاف اغتيال المرض له، خوف قيصر الروس من غيلة سكين الفوضوي فإذا ما أصاب الإمبراطور ولو يسيراً من برد، لم يلبث أن يأوى إلى فراشه ويدعو إليه أطباءه، تاركاً العناية بكل شيء سوى صحته، وإذا كان في رجال حاشيته من يتألمون من إصابة البرد رأيتهم يحذرون جد الحذر من أن تظهر عوارض السعال عليهم وهم في حضرته، ولو عجز أحدهم مرة عن إمساك سعاله، وهو بين يدي الإمبراطور أذن لما كان نصيبه إلا الطرد من لدنه، وعليهم أن يستعملوا مناديلهم وراحهم، ويتحصنوا من السعال وراء أكفهم، حتى لا يبدو هذا العارض أمام الإمبراطور.

وقد اعتاد في برلين أن لا يخرج للرياضة إلا في رداء كثيف، يسخن على النار قبل أن يشتمل فيه، فإذا كان في حلقة الكرة، راح يلعب مع رجال بلاطه وأصدقائه وهو في ردائه هذا المحمي بينا ترى اللاعبين في لباس اللعب، والعرق يتصبب من عوارضهم وأكسيتهم.