مجلة البيان للبرقوقي/العدد 25/الإسلام والآداب

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 25/الإسلام والآداب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1915



في رأي الدكتور جوستاف لوبون

لا نظن أحداً من القراء لا يعرف من هو الدكتور جوستاف لوبون صاحب كتاب سر تطور الأمم وروح الاجتماع وكثير من المؤلفات الفلسفية الجليلة. وهذا الفصل منقول من كتابه حضارة العرب وهو كتاب قيم جليل يهم الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً أن يقفوا على آرائه فيه ومن ثم أخذنا على أنفسنا أن ننقل في البيان تباعاً أطيب ما في هذا الكتاب وسننشر كلمة اليوم دون تعليق عليها اتكالاً على فطنة القراء.

يقول الدكتور جوستاف لوبون إن التعاليم الأخلاقية التي جاء بها القرآن هي صفوة الآداب العالية وخلاصة المبادئ الخلقية الكريمة فقد حض على الصدق والإحسان والكرم والعفة والاعتدال ودعا إلى الاستمساك بالميثاق والوعد والوفاء بالذمة والعهد وأمر بحب الجار وصلة الرحم وإيتاء ذي القربى ورعي الأرامل والقيام على اليتامى ووصى في عدة مواضع من آية أن تقابل السيئة بالحسنة. . . تلك هي الآداب السامية التي دعا إليها القرآن وهي لا تكاد تختلف وآداب الإنجيل في شيء.

ولكن البحث في الآداب التي يحض عليها كتاب من الكتب ليس من الأهمية من المكان الكبير فأنك لا تكاد تقع من الأديان الإنسانية على دين لم تكن المبادئ الأخلاقية التي جاء بها سامية عالية وإنما الحقيق بالأهمية الكبرى من البحث في حال شغب من الشعوب هي الآداب العملية التي يسير عليها لا الآداب التعليمية المدونة في الكتب المحفوظة في الأذهان إذ قد دلت المشاهدات والاستقراآت إن ثمة فرق بينا بين إلا أن الآداب العملية والآداب التعليمية في جميع النحل والشعوب.

إن من بين العوامل المختلفة التي تعمل على تكوين الآداب ونشوئها هي المصلحة المشتركة وتأثير الوسط والرأي العام والطبقات العلية في الأمة والشرائع القانونية والتربية وعقلية الأمة وغير ذلك من العوامل وليس للأديان في تكوين آداب الأمم إلا أثر ثانوي ضعيف.

وقد شهدنا أن الأديان القديمة كأديان المصريين الأقدمين والآشوريين والكلدانيين والإغريق والرومان لم تسن شيئاً من الآداب ولم تتعرض للأخلاق ولا تجد فرائض وتعاليم من الآداب إلا في نحل الهند وفي الأديان التي جاء بها موسى وعيسى ومحمد على أن هذه الأديان الأخيرة لم تضع آداباً جديدة ولا اشترعت حدوداً من الأخلاق حديثة وإنما عمدت إلى عدة من الآداب الموجودة في الأمة فأمدتها بشيء من القوة وكفلت لها شيئاً من الضمانات وجملة هذه الضمانات أمل الثواب وخشية العقاب في حياة أخرى آجلة ولكنها في الوقت نفسه سهلت الظفر بالمغفرة فرفعت عن الخوف من العقاب ذلك الأثر الذي كانت ستحدثه في قلوب السواد الأعظم من الناس.

وفضلاً عن ذلك أن الباحث لا يعوذه إلا أن يضرب في الأرض ويدرس الناس على حقائقهم خارجين عن دائرة كتبهم وتعاليمهم حتى يعرف أن الدين مستقل عن الآداب كل الاستقلال إذ لو صح أن بينهما أسباباً وتلازماً حقيقياً لكان أكبر الأمم تمسكاً بالدين أكبرها حظاً من الآداب. ولكن ذلك في الحقيقة خلاف ما هو واقع فإن أسبانيا والروسيا وهما أشد ممالك الغرب استمساكاً بشعائر الدين لا تزال آدابها في مستوى منحط ضعيف ومن ذلك يتقرر أن الباحث في حالة الآداب عند أمة من الأمم لا يصح أن يتلمسها في دين الأمة أو يتوخى أسبابها من نحلتها على أنني أكرر القول أن الأديان جميعاً تحتوي مبادئ من الآداب عالية وأنها لو اتبعت لرجع إلى الأرض عصرها الذهبي لكن طريقة إتباع هذه المبادئ تختلف باختلاف الوسط والزمن والجنس وغيرها ولذلك نرى لكل أمة من الأمم المشتركة في دين واحد آداباً تختلف عن آداب شريكتها اختلافاً كبيراً وهذا ينطبق على الأديان جميعها ومن بينها الإسلام فإن آداب القرآن سامية عالية ولكن كان فعلها مختلفاً جسد الاختلاف تبعاً للشعوب والأوساط والعصور والأجيال فقد كانت آداب العرب في صدر الإسلام وأوائل عصوره أسمى كثيراً من آداب الأمم المعاصرة لها وفي طليعتها الشعوب المسيحية وقد كان عدلهم واعتدالهم وإحسانهم وسماحتهم في معاملة الأمم المهزومة واحترامهم لشعائرها وطقوسها وتلك الشخصية الفروسية التي طبعوا عليها كل ذلك كان حقيقياً بالإعجاب خليقاً بالدهشة والإجلال بل كانت على نقيض آداب الأمم الأخرى ولاسيما الشعوب الغربية في عصر الحروب الصليبية.

على أننا إذا جارينا الناس فنسبنا للدين من التأثير ما ينسبون له عادة لوجب علينا أن نقول إن آداب القرآن كانت أسمى بكثير من آداب الإنجيل. إذ كانت الأمم الإسلامية على آداب أرقى كثيراً من آداب المسيحيين ولكن ما قررناه من استقلال الآداب عن الأديان يثبت فساد استنتاج كهذا فلئن كانت هذه الآداب سامية في بعض العصور فقد انحطط انحطاطاً كبيراً في غيرها فإن سيادة الأتراك المتراخية والمتسلطة والنظام السياسي الذي بسطه فوق الممالك التي تحتها وضعاً كثيراً من آداب الشرقيين فإن مملكة تكون فيها أهواء الوالي وجنده وصنائعه وهي القانون الفذ والشرع الذي لا حول عنه ولا مرد حيث يكون كل فرد هدفاً لعسف ألف طاغية صغير لا هم لهم ولا مطمع إلا في الغنى والثراء حيث لا عدل يبتغى ولا نصفى ترتجى وحيث لا تستطيع أن تظفر بشيء إلا بقوة الذهب وسلطان المال نعم أن مملكة تعيش في جو كهذا يروح الفساد فيها عاماً شاملاً وعند ذلك لا تستطيع أن تقع فيها على أثر من الآداب أو شبه أثر ومن ثم أصبحت آداب الشرقيين بحكم الضرورة والقهر في مستوى منخفض منحط وإن كان القرآن بريئاً من هذا الانحطاط كما أن الإنجيل بريء من الانحطاط الأخلاقي المشهود بين الشعوب المسيحية التي تعيش تحت هذا النظام.

وما تقدم يكفي لإظهار ضعف أساس ذلك الرأي السائد اليوم في الغرب وهو أن الدين الإسلامي هو الذي أفضى ببعض شعوب الشرق إلى حد بعيد من الانحطاط الأخلاقي الذائع اليوم بينها وهذا الرأي يقوم على سلسلة من الأغلاط والأكاذيب هي أن القرآن هو الذي سن تعدد الزوجات وإن مذهب القضاء والقدر الذي يزعمون أن القرآن بثه هو الذي أدى بالناس إلى البلادة والخمول وإن محمداً لم يفرض على شيعته إلا شعائر بسيطة يسهل الاستمساك بها والقارئ المتتبع لما كتبنا يعرف إلى أي حد من الخطأ والفساد تجري هذه الآراء فقد أثبتنا أن تعدد الزوجات وجد في الشرق كله قبل أن يخرج محمد إلى العالم بعدة من القرون وإن القرآن لم يكن أشد قدرية من أي كتاب ديني آخر ولئن كان العرب قدريين بطبائعهم فإن عقيدة القضاء والقدر لم تؤد بهم كما يزعمون إلى البلادة والخمول وهم قد أسسوا بنياناً من الدولة شامخاً وأثبتنا كذلك أن المبادئ الأخلاقية التي جاء بها القرآن تعادل في سموها وكمالها ما جاءت به الكتب الأخرى ولو صح أن القرآن هو الذي حط من المسلمين لارتقبنا من أولئك الشرقيين الذين لم يكونوا بطبائعهم قدريين ولم يأخذوا بتعدد الزوجات أمثال مسيحيي الشرق أن يكونوا بنجوة من هذا الانحطاط ولكني لا أعرف من البحائين الذين درسوا الشرق من لم يجد نفسه مضطراً للاعتراف بأن آداب هؤلاء المسيحيين الشرقيين في مستوى أقل بكثير من مستوى آداب المسلمين.

ونقول في ختام هذا البحث أن آداب القرآن في سموها ورقيها كآداب أي دين آخر وأن الأمم التي دانت له أظهرت الأمم التي تعيش تحت شرائع المسيح مستوى من الآداب متحولاً متغيراً وذلك تبعاً للعصور والأجناس وتبعاً للعوامل الأولية في نشوء الآداب.

ولكن النتيجة الكبرى التي يمكن أن نستخرجها من كل ما قلنا هو التأثير العظيم الذي أحدثه القرآن في الشعوب التي خضعت لشريعته فقلما ترى من الأديان ديناً أحدث شبيه ذلك السلطان الذي بسطه الإسلام على النفوس والدولة التي شادها فوق الأرواح بل ليس في الأديان جميعاً ما ثبت سلطانه واستقام كالإسلام فإن القرآن لا يزال إلى اليوم قطب الحياة في الشرق وملاك أمرها وإنا لنجد تأثيره في أتفه فروع الحياة وأقلها ولئن كانت دولة العرب لم تعد ترى إلا في كتب التاريخ فإن الدين مؤسس تلك الدولة لا يزال حياً ممتداً منتشراً ولا يزال ظل النبي من أعماق قبره يسود متملكاً على تلك الملايين العديدة الساكنة أفريقية وآسية والمترامية بين مراكش والصين والمنثورة بين البحر الأبيض وخط الاستواء.