مجلة البيان للبرقوقي/العدد 27/الانحطاط

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 27/الانحطاط

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 5 - 1915



مقال مستفيض حار مؤثر تضطرم جوانبه اضطراماً كأنه نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة. . . . لكاتب مصري كبير لم يشأ أن يذكر اسمه، ألم فيه بجميع ضروب الانحطاط المستبد بأخلاقنا وآدابنا وجميع معاني الحياة اليومية التي هي قوام الأمم وسياجها والتي ينهد بناؤها ويتقوض دون الاحتفاظ بها والتفوق فيها، ونحن فأنا نعتقد صدق ما جاء في هذه الكلمة من الحقائق، وكل ما يؤخذ على الكاتب أنه صرح بالحقيقية التي قلما يجرأ كاتب عندنا أن يصدع بها وإذا اجترأ كاتب على ذلك في الندرة أصاب من القراء سخطاً عظيماً وعدوه كأنه اقترف جرماً كبيراً.

ليس في أحط شعوب الإنسانية الموحشة الضئيلة الإحساس من عوارض دناءة الحياة وبلادة الذهن والوجدان ما في هذا الجيل المجرم، المتحدر إلى الموت، المتطلب للفناء، هذا القطيع المتشتت المتقاطع الذي لا نخجل من أن ندعوه بالأمة، ونناديه في العرف بالشعب. وليس يه من مدلول كلمة الأمة إلا ضرب قاس من التهكم، ومعنى مر من السخرية. نحن نعيش في أكبر مظاهر المدنية، وننعم بأبدع مستخرجات الحضارة، ونتمتع بآخر ما وصل إليه ابتكار العقل الحي من وسائل الترف، ولكنا إذا استقصينا روح الحياة نفسها وجدنا أنا إنما نعيش في أكثف أحراش القارة المظلمة، وتتقاتل على الطعام بأشد مما يتقاتل عليه الزنج وأشباه الزنج من الحيوانات الدنيئة، ولقد ساد الانحطاط في حياتنا فلم يترك ناحية منها إلا استبد بها فنحن واجدوه في الأسرة والمدرسة وفي الحياة العملية وفي أساليب التهذيب وفي كل ما تمتد إليه أيدينا، وكذلك نعيش عيشة متكلفة خداعة دنيئة، بل لقد اكتسبنا من تسويد الانحطاط عدة من الطبائع الغريبة التي أبادت ضروباً من الأنواع الحيوانية الأولى، ونحن مهما احتلنا لمخادعة الطبيعة القاسية التي لا تشفق على كل عنصر غير صالح للأرض، ومهما موهنا ورأينا وارتدينا شمائل الأحياء وظهرنا في مظهرهم فإن معاني الانحطاط والتقهقر تعمل ولا ريب في صمت، وتقذف بنا إلى هوة العدم والفناء، وليس ثم من شيء أعجب من خصائص الأوساط المتقهقرة والبيئات المنحطة، إذ كنا نحصن أنفسنا بكل وسائل اللؤم والجبن، والجمود من أن يدخل على حياتنا الضعيفة دليل من دلائل الإصلاح والانتعاش والقوة، لأنا نخشى أن نفيق من لذة الانحطاط وتخديره وبهجته، ولذلك لا نفتأ نقاتل النهوض، ونحشد قوانا لمحاربة المفكر، ونبتكر أحط أساليب اللؤم لتأييد التأخر والتراجع والفساد، وأصبحنا لا نستطيع نرى دلائل الحياة القوية الناهضة تقترب منا أو تدنو من أنظمتنا وآدابنا وآرائنا ومبادئنا، ولا شك في أن مؤرخي الأجيال القادمة سيحارون في إيجاد اسم جديد لهذا الانحطاط المدهش المخيف.

وبعد فإنا آخذون في شروح مستفيضة نتناول فيها بعض فروع هذا الانحطاط، ونصدع بالحكم الأخير على هذا الجيل المتراجع المتقهقر، وكذلك أبى التاريخ إلا أن يسجل العار على هذا الشعب المسكين، ويعطي لأبنائنا صورة تامة لأبنائهم، وكذلك يشيع هذا الجيل إلى المقبرة. . . ويدرجه في صمت وحزن وألم. . . .

1 - انحطاط الآداب

إن أكبر مقياس تقاس به روح الأمة وعقليتها ومبلغ ما يجري فيها من دلائل الحياة والإحساس هي مجموعة الآداب التي تتجلى في تواليفها وندواتها وصحفها وكل وجوه تفكيرها، وما كانت دراسة الآداب التي نعيش في أمة من الأمم إلا دراسة لحالتها الاجتماعية، هي بحث مستفيض في مقدار عقليتها وحيويتها، وليس الشاعر والكاتب والمفكر والخطيب إلا النبض الخفاق الذي تستطيع أن تلتمس فيه شعور الأمة أو خمودها، وليست قصيدة الشاعر إلا مظهراً من أكبر مظاهر الحياة للوسط الذي خرجت فيه، ولهذا كان التطور في الآداب هو في ذاته أكبر تطور في الاجتماع وكان العمل على النهوض بالآداب هو العمل على النهوض بالحياة، إذ كانت الحياة الإنسانية المتحضرة تعيش على الفكر أكثر مما تعيش على الخبز، وفي تهذيب الفكر تهذيب لأساليب العيش، وليس هناك أجدى على الأمة المتأخرة المتقهقرة من العمل على تغيير قيمة آدابها، لأن الآداب يجب أن تتجدد كالأزياء، يجب أن يقتل القوى منها الضعيف، ويخنق الصالح منها الفاسد، وليس في الحرب الخفية الناشبة بين الأدباء وأهل الفنون إلا أكبر عامل على تنقية الآداب ورقيها، لأن ما يجري على الناس من التنازع على الحياة يجري على آدابهم من التنازع للسمو والانتصار.

وأنت فلا تجد وسطاً من الأوساط ينحدر ويتقهقر إلا إذا قذف بالآداب - وهي خلاصة الماضي وروح الحاضر ومبلغ ما أخذ الناس من العقل والإحساس بالحياة - إلى هوة الغفلة والتهاون والاحتقار، وليس الفارق الأكبر بين المتحضرين وبين الذين يعيشون في طفولة الحياة إلا الجزء التفكيري في حياة المتحضرين، إذ كان المتحضر يعيش بروحه أكثر من معدته. وكان المتبربر رجلاً لا يضيره أن يغالب الحيوانات كلها على رزقها، وأن يفوتها في صلابة التركيب، ووحشية البدن، ولا يفوته أن يدخل في صف الفصيلة القوية الضخمة منها، وما كانت الأمة التي لا آداب لها إلا خليطاً من الأنعام يعيش في غفلة وذهول، ويمشي إلى العدم والانقراض.

ومن ثم فهل يكون الاقتراح الذي جاء أخيراً في شأن الآداب وأنصاف أهلها دليل حياة قوية تختلج في جسم هذا الوسط الخامد النائم. الذي جعل من الكتاب والآداب وكل ما يتعلق بأسباب التفكير شارة خجل ومعنى تافهاً ضئيلاً. . أترانا واجدين بعد هذا الركود الطويل والجمود القاتل أن العقل انتصر على الحماقات. وأن روح التطور والرقي غالبت قوة الانحطاط الذي ركمته فوقنا الأجيال المستطيلة المتلاحقة وأيدته العادات الحمقاء الفاسدة.

نحن قد قتلنا النبوغ وقضينا على فضيلة التفوق. . تلك هي خلاصة السلسلة الطويلة التي تلحقنا بالماضي وتربطنا به. . . حلقة متراخية من الآباء والأجداد. متلاشية فإنه ليس لها من الشأن إلا أن نذكره نحن ثم نصمت. . . وكذلك نؤرخ من أعمارنا طائفة من القرون مرت خرساء صامتة.

والآن. . . هل نعيش، وهل لنا سمات الأحياء ودلائل الوجود، وهل تجيش فينا حرارة الحياة وقوتها وأطماعها وكبرياؤها. . .

لقد تعاقب علينا خمسون عاماً ونحن نعمل أعمال المتحضرين، ونطبع أنفسنا على غرارهم، لنا صحافة وأدب ومدرسة ومعهد، ونشأ فينا أديب، وراح منا أديب، وقام كاتب وتولى كاتب، ولكن أين نحن من حياة النهوض والسمو والقوة، بل لقد قتلنا النبوغ، وطبعتنا الحياة المتقهقرة بغرائز المتقهقرين الكامنة في أعصابنا، فقد شئنا إلا أن يكون لنا مظهر الجماعات العاملة المتمدنة، ولم نكن ندري بأننا نستر لؤم الطبيعة المتكسبة البلهاء وراء أنظمة وطقوس كاذبة. . . أردية من الزور والتمويه والباطل نسميها آداباً، وما كنا لنخجل من أن نجعل من الأديب والكاتب ما يجعل الزنج من الكهنة والسحرة والعزامين، كنا ولا نزال نتطلب رقياً أدبياً ثم لا نفتأ نقتل في الأدباء كل فضيلة طيبة، فنرسلهم شرداً ونطاردهم ونعسفهم، ونريدهم على اللؤم، وكذلك أنشأنا من المفكرين والأدباء طائفة من المسترزقة، وكذلك عشنا بمعد المتمدنين وعقول البرابرة.

ثم هم يريدون الآن أن يعمدوا إلى المدرسة ليتخذوا من التلاميذ وطلاب النجح زعماء تفكير وآداب عقلية راقية، وكأنهم لم يعملوا أن المدرسة قل ما تخرج رجلاً واحداً متفوقاً في صناعة من الصناعات، نعم بذلك ستكثر المدارس من عداد المتعلمين والناجحين في الحياة، ولكنها لا تعمل مطلقاً لتهذيب الفنون وخلق النبوغ، أو ليس تطلبنا من المدارس نوابغ الأدباء والكتاب إلا كتطلب الأمم من حكوماتها نوابغ السياسيين ومهرة القواد والحاكمين، في حين أن أرقى الحكومات لا تستطيع أن تخلق سياسياً عظيماً واحداً، وأن الحكومات كلها ليست إلا عمل أفراد نوابغ، هم منحة الطبيعة، وخلاصة التقدم الذي لا ينهض على الأنظمة المشترعة الموضوعة، ولكنه نتاج عقليات كبيرة، وأذهان مفكرة، وإرادات عاملة، ومبادئ قوية، وهل كانت المدارس إلا حظائر مهذبة لتربية النوع الإنساني، وإعداده لأن يعيش ويفتن في أساليب المعيشة، ثم تجود الطبيعة لا المدرسة بفرد واحد فيغير على كل وجوه التهذيب في الأمة فيمسخها. . أن النابغة أكبر من الأمة كلها. . . أكبر من القرون والشرائع والمبادئ والمدارس. . . هو الخلود.

أنريد أن نتطلب العظمة التاريخية من بين تلك الجدران التي يسمونها المدارس، وفي الأمة ذلك الوسط الفسيح الكبير نوابغ تقتلهم غباوة الشرائع وجهل القوانين وغفلة الأمة وتجعلهم دواعي الرزق ومطالب الكسب مغمورين مضيعين، ثم لا نظفر من وراء كل هذه المجهودات المتكلفة العمياء إلا خسارة التاريخ نفسه، يقولون أن الطبيعة ضنانة علينا بالنوابغ ولكن لمّ لا يقولون أن معاملتنا للنوابغ هي نفسها تعجيز للطبيعة واستئصال للنبوغ. . إننا نرتقب ظهور الرجل الذي قد يكون مظنة الخير فلا نزال نغري به حتى نلحقه في زمرة العدادين والحاسبين ونسجل اسمه بين القعدة والمتكسبين، وكذلك في خمسين عاماً لم نستطع أن نظفر برجل فاضل كبير، لأن مبادئنا لم تكن على شيء من الفضل، ولم تكن فيها قوة السمو وفضيلة العظمة. . .