مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/أفكار بليدة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/أفكار بليدة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1915



لمفكر بليد

هذا اسم كتاب بديع حلو الأماليح يمتزج فيه الجلد باللهو وتختلط الفلسفة فيه بالدعابة، يحتوي طائفة من الأفكار الجديدة والآراء الصائبة المستملحة، وقد اشتهر مؤلفه الكاتب الانجليزي الماجن جيروم. ك. جيتروم بأنه من أبدع الكتاب الفكاهيين في العصر الأخير، ونحن نقتطف منه قطعاً صالحة لتفكهة القراء.

1 - الغرور

إن الرجل الطيب في نظرنا هو من كان طيباً لنا، والرجل السيء هو الذي لا ينزل على ما نريده منه، والحق الذي يقال إن كل إنسان منا يحمل في قلبه عقيدة ثابتة راسخة، هي أن هذه الدنيا العريضة كلها بناسها وجماداتها ما خلقت إلا له وحده فرجال الأرض ونساؤها لم يخلقوا إلا ليعجبوا بنا وليشبعوا شهواتنا وليسدوا مطالبنا، وأنا وأنت أيها القارئ العزيز كل منا يعتقد أنه مركز الكون كله وقطب رحاه، فأنت - كما أفهم - جئت إلى هذا الوجود لكي تقرأني وتدفع ثمن ما قرأت، وأنا - في نظرك - لست إلا شيئاً أرسل إلى هذا العالم لكي يكتب لك شيئاً تقرأ. والنجوم لم تنتثر في صفحة السموات إلا لتجعل منظر السماء في الليل مبهجاً لنا جميلاً، وهذا القمر البازغ الحلو لم يطلع إلا لكي نتحاضن تحته ونقبل ونعانق ونشاغل.

وإني لأخشى أن نكون مثل ديك جارتنا إذ ظن أن الشمس تطلع كل صبح لكي تستمع لصيحاته، بل إن الغرور هو الذي يحرك هذا العالم ويسيره، وما أظن أنه عاش على هذه الأرض إنسان واحد لم يكن مغروراً، ولو وجد إذن لكان يكون رجلاً لا قبل لنا به ولا طاقة لأحد منا على احتماله، ولقد كان يكون ولا شك رجلاً طيباً جداً، رجلاً يوضع في زجاجة ويطاف به على الناس للفرجة والمشاهدة، رجلاً يوضع فوق قاعدة تمثال ونلتف به نرسمه كما يفعل التلاميذ في كراسات الرسم. نعم إنه ليظفر منا إذن بالاحترام ولكن لن يظفر بالحب، لن يكون عندنا الأخ الآدمي الذي نأخذ يده في أيدينا ونشد عليها في حرارة ود وحب، وذلك لأن الملائكة قد تكون في نفسها حلوة المحضر طيبة ولكنا نحن بني الموت لعلنا وأجدوها غير لذيذة العشرة ولا رقيقة السمر، بل إن الرجال الطيبين طيبة مج يشوبها شيء من نقائص البشر ثقال الظل ولا مؤاخذة، لأن عيوبنا ونقائصنا - هي التي تمزجنا بعضنا ببعض وتجعلنا نتواد ونتحاب، ونحن نتباين كثيراً في سجايانا ومحاسننا ولكننا مجتمعون مشتركون في مساوينا، فمنا البررة الأتقياء، ومن الأكرمون الأجواد، وقليلون فينا الأمناء، والأقلون بيننا الصادقون، ولكنا جميعاً والله الحمد مغرورون، والغرور هو ولا ريب من مراحم الطبيعة التي تؤلف ما بيننا وتقرب مسافة الفروق، فنحن بجمعنا من الهندي الفارس المزهو بحزامه ومنطقته إلى الجنرال الأوروبي المنتفخ تحت نجومه وأوسمته، ومن الصيني الفَرح بضفائره الصفراء إلى الحسناء المتكلفة تتحمل العذاب والآلام لكي تعجل خصرها أشبه بحلقة الكعكة، ومن المرأة الفقيرة تخطر في الشارع تحت مظلتها المتخرقة البالية إلى الأميرة وهي تتثنى في حجرة الاستقبال تجر وراءها ذيلاً يربي في طوله على أربعة أمتار، كلنا نعيش ونتشاجر ونجرح وندمى ونموت تحت علم الغرور المرفرف الخفاق.

نعم. إن الغرور هو ولا شك القوة الدافعة التي تحرك الإنسانية وتجرها والملق هو الشحم الذي تدهن به عجلاتها، فإذا كنت تريد أن تغنم الحب والاحترام في هذا العالم فأنت خليق أن تملق الناس وتمتدحهم، إذن فأملق الرفيع والوضيع والغني والفقير والمغفل والعاقل والأحمق والرزين فأنت ولا ريب ظافر بحياة بين الناس حلوة راغدة أمدح فضائل هذا ونقائص ذاك، وحي كل إنسان وأمدحه على كل شيء، ولاسيما على ما لم يؤتَه وما ليس فيه، أمدح المشوهي الخلقة القباح الوجوه الملعوني الشبه بالجمال والرشاقة والحسن واستحسن من الحمقى ذكاءهم وأبد إعجابك من الوقحاء الأراذل لتربيتهم وكرم أدبهم، وإذ ذاك يرفعون دقة بصرك وذكاءك ولطافة ذوقك إلى السموات.

ثم إن للملق طرقاً مختلفة وأساليب عدة، وأنت ولا ريب حري بأن تتخذ لكل موضوع الأسلوب الذي يلبسه، فكثيرون يحبون أن يقدم الملق إليهم بالمعالق وهذا النوع لا يطلب شيئاً من البراعة والتفنن، وهناك جماعة من العقلاء يحبون أن يكون التملق لهم بالإشارة لا بالكناية والعبارات، وآخرون يحبون أن يكون ملفوفاً في غطاء من الشتيمة كأن تقول لأحدهم - يا لك من أحمق مغفل، إنك لترمي بآخر قرش معك لأول سائل يلقاك! - ثم إن هناك جمعاً غير هؤلاء لا يتذوقون الملق إلا إذا قدم إليهم عن يد رجل ثالث فإذا أراد أحمد مثلاً أن يستأسر لب علي - على شريطة أن يكون على هذا من هذه الماركة نفسها - فعلى أحمد أن يسر إلى أحد أصدقاء عليّ أنه يرى في علي هذا رجلاً بديع الخلق كريماً طيب القلب ويأخذ عليه إلا ما كتم عن هذا عن الناس ولاسيما عن صديقه علي، ولكن المتملق أن يحذر أن يكون هذا الوسيط الذي ألقى إليه الملق رجلاً موثوقاً به كتوماً وإلا خابت الحيلة.

وأما هؤلاء الأكياس الصلاب العود الذين يقولون لك أبداً إننا نكره الملق والمديح يا سيدي وإننا لا نسمح لمخلوق أن يتغلب علينا بالملق الخ. . الخ. . فلا تخفنك منهم هذه الطنطنة الحلوة. . . أمدحهم أملقهم فقط على فقدانهم حب الملق والمديح. ثم افعل بهم بعد ذلك ما شئت.

وأخيراً أن الغرور فضيلة. . . ولكنك تستطيع بكل سهولة أن تجيء بكراسة طويلة في ما قيل ضدها من الأمثال السائرة، ولكنها بعد عاطفة وثابة تدفعنا إلى المحامد كما تدفعنا إلى المذام، ثم أليست الآمال الكبيرة إلا ضرباً مهذباً من الغرور، ونحن نريد أن نظفر من الناس بالإعجاب والاستحسان أو بالشهرة كما تحبون أنتم أن تسموها، ومن ثم نكتب كتباً ممتعة طيبة ونرسم صوراً فخمة جميلة ونغني أغنيات لذة مطربة، ونكد ونتعب ونعمل بأيدينا وأجسامنا في المكتب والمعمل والمصنع.

نحن نود أن نكون أغنياء، لا لكي ننعم بالراحة ورغد العيش ونعومة الحياة فهذه كلها يمكن أن تشتري بثمن بخس حسب الصنف والمقدار، وإنما لكي تكون بيوتنا أبر من بيوت جيراننا وأفخم رياشاً وأجمل مظهراً، ولكي تكون جيادنا وغلماننا أكثر عدداً من جيادهم وغلمانهم، ولنستطيع أن نكسو أزواجنا وبناتنا ثياباً ليست بالفخمة وإن كانت الثمينة الغالية، ولكي نؤدب المآدب الكبرى وإن كنا نحن لا نأكل من أطعمتها ما يساوي خمسة قروش، وبهذا نعين متاجر الدنيا ونصرفها، وننشر التجارة ونروجها على أهلها، ونمد في المدينة إلى أبعد حدودها وتخومها.

لا تسخطوا إذن على الغرور، ثم لا تسيئوا استعماله، وخير لكم أن تحسنوا القيام عليه، بل إن الشرف نفسه هو أبدع وجوه الغرور وأسمى نواحي الزهو. نعم إن الأدعياء مغرورون ولكن لا تنسوا أن الأكفاء والأبطال أيضاً مغرورون. إذن تعالوا أيتها الطواويس الصغيرة الحسناء نكن معاً مغرورين. هلموا نتعاون وننمي غرورنا. لنكن إذن مغرورين ولكن ليس بسراويلنا وفروع شعْرنا ولكن بالأفعال الكبار والمحامد العظام، وبالحق والجمال والطهر والشرف. تعالوا نزهى بأننا لا ننحني لأي أمر حقير خسيس، وإننا لا نقول لأحد كلمة قاسية ولا لفظة خشنة. دعونا نزهى بأنا نعيش قوماً مهذبين في وسط من اللصوص والإخساء والأشرار، ولنفخر ونعتز بأننا نفكر أفكاراً حلوة، ونعمل أعمالاً ونعيش عيشة باردة راغدة. .

2 - القناعة

إن أهل الطيبة والخير هم على الباطل - وهم أبداً كذلك عندي لأنني لم أتفق يوماً معهم في شيء - إذ يقولون أن الطمع من أكبر الشر. ولكن ماذا كان يكون أمر الدنيا بغير أهل الطمع أكثر الله منهم. إذن لما عدت أن تكون في رخوتها ونعومتها ولينها كعجين العجانة. ثم أليس أهل الطمع هم الخميرة التي ترفع العجين حتى يخرج منه خبز جيد صالح وبغير ذوي الأطماع لا ينهض العالم ولا ينمو ولا ينتعش.

باطل أن نكون من أهل الأطماع! يا حلاوتكم أهل الخير. .! أيكون أهل الأطماع على الباطل وهم بظهورهم المنحنية وجباههم المتصببة عرقاً يوطئون الطريق للإنسانية لتسير فيه جيلاً بعد جيل، وهم لا ريب يطلبون النفع لأنفسهم ولكنهم في طلبهم نفعهم يعلمون لنفعنا. لأننا مرتبطون ببعض حتى لا يستطيع أحدنا أن يعمل لخيره وحده دون خيرنا، إن النهر في تدفقه ومسيله متصاعداً فياضاً يدبر طواحين الدقيق ويسقي الزرع ويصل ما بين الأرض والأرض والبلد والبلد، وكذلك الرجل المطماع في إقامته تمثالاً لنفسه يترك أثراً صالحاً للجيل المنحدر بعده، وإن الإسكندر وقيصر قد حاربا لأغراضهما وأمانيهما بذلك قد مدا أنطقة من المدنية حول هذه الأرض، وإن ستيفنسن أراد أن يكسب له رزقاً طيباً فاخترع الآلة البخارية وشكسبير لم يكتب رواياته إلا لكي يملك بيتاً أنيقاً دافئاً لمسز شكسبير والشكسبيرات الصغار.

إن القانعين الراضين هم محمودون نوعاً ما. . هم يصلحون ليكونوا في هذه الدنيا ألواحاً ترسم فوقها الصور الفخمة العظيمة. وإني أعدهم إني لن أتكلم عنهم أبداً ما داموا معتصمين بالسكوت، ولكن بحق السماء لا تدعوهم يمرحون في الأرض - كما يحبون أبداً أن يفعلوا - صارخين إنهم الأسوة الحسنة التي يؤتسى بها والمثال الحق الذي يحتذى، لأني لا أراهم إلا كذكور النحل في الخلية الكبرى، والغوغاء في الشارع يتلكؤون وينظرون في الحوانيت إلى الذين يعملون ويكدون.

ثم لا تدعوهم كذلك يتوهمون - كما هي عادتهم - إنهم عقلاء وفلسفيون وإن من أكبر الحزم أن يكونوا راضين قانعين، فقد يكون الذهن القانع الراضي سعيداً في أي الأحوال كذلك الحمار الأورشليمي، والنتيجة من ذلك أن كليهما يوضع حيث تضعه ويرضى حيث تعامله.

فإذا كنت من الحماقة بحيث ترضى بالرضى والقناعة فبالله عليك لا تظهرها، ولكن تسخط مع المتسخطين ووسوس بالشكوى مع الشاكين وإذا استطعت، أن تعيش على القليل فلا تطلب إلا الكثير، لأنك إن لم تفعل فلن تظفر إلا بالقليل ولا بالكثير إذ ينبغي في هذا العالم أن تسير على المبدأ الذي يسيطر عليه المطالبون بالحق المدني في ساحات القضاء تعويضاً عن الخسائر التي لحقتهم إذ يطلبون عشرة أضعاف ما يظنون أنه يرضيهم، فإذا أحسست من نفسك أن مائة فلست بظافر إلا بعشرة.

وهذا ما وقع فيه المسكين جان جاك روسو، فقد حدد أوج سعادته الأرضية بأن تمني أن يعيش في بستان أغن وأن تكون إلى جانبه امرأة محببة وأن يكون له جاموسة. . . فلم يظفر حتى بهذه نفسها، فقد أحرز البستان، أو ما يجوز أن يسمى بستاناً، ولكن المرأة التي وجدها لم تكن محببة، ولكي تكون المصيبة تامة جاءت معها بوالدتها، ثم لم يظفر بالجاموسة، ولو كان روسو المسكين أقر في ذهنه أن يكون رب ضيعة واسعة في الريف وبيت حافل بالظباء العين ومعرض من البقر والجاموس، إذن لما عتم أن عاش لكي ينعم على الأقل بقطعة من الأرض، وبرأس واحد على الأقل من الماشية، ولعله كان واقعاً على ممر الزمن بأندر النادر. . . وهي المرأة المحببة حقيقة.

هذا وما أبلد ما تكون الحياة لهؤلاء القانعين الراضين، وما أثقل عبء الوقت على رؤوسهم وأكتافهم، ثم أية خواطر وأفكار بعيشك تجول في أذهانهم، إذا فرضنا أن لهم خواطر وأفكاراً، وما أظن إلا أن قراءة الصحف وتدخين اللفائف هي كما يلوح لي الغذاء الذهني الذي يزدرده سوادهم، وأما الباقون وهم أقل بلادة وخمولاً وفتوراً فيضيفون إلى هذه التوقيع على القيثار والكلام في حق الجيران! أفيقو إذن أيها الناس. . أفيقوا. . أفيقوا. أيتها السيدات، أيها السادة أفيقوا انهضوا يا رجال ويا أطفال ويا بنات، اظهروا براعاتكم وكفاآتكم وجربوا قواتكم ومجهوداتكم، أن معرض الحياة مفتوح ولعبة الحياة أبداً قائمة، أفيقوا يا سادة وضعوا أيديكم في أيدي رفقائكم الناس، إن لألعاب الحياة جوائز أيها الناس ومكافآت للجميع، والجميع يستطيعون أن يلعبوا ويتسابقوا، الذهب للرجل يا سادة والشهرة والمجد للشاب، والحب للعذراء، والراحة واللذة للأحمق، إذن أفيقوا، جوائز ومكافآت، القليلون يربحون وأما الباقون فيتمتعون بلذة السعي والكد.