مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/الطلاق

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/الطلاق

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1915



تمهيد

أحب شيء إلى الإنسان حريته والمثل الأعلى للحياة أن يكون الإنسان مطلق السراح لا يصده عن أغراضه صاد. ولو تقطعت الأوصال الاجتماعية وعاش كل إنسان في عزلة لتمتع الناس بنصيب وافر من الحرية لا يعوقهم شيء غير العقبات الطبيعية وما يعتو نفوسهم وجسومهم من النقص والفساد، ولو كان الزواج لا يهم غير الزوجين لترك كل إنسان وشأنه في الطلاق، متى أحب امرأة وأحبته تزوجا، ومتى دَبّ بينهما الشقاق أو مال قلب كل منهما عن الآخر أو انتفت بينهما عاطفة الحب افترقا ولكان الاقتران الحر خير كفيل لسعادة النوع الإنساني.

الحب عماد العائلة والأساس الذي يجب أنا يبني عليه كل زواج، وعلى قدر حرارته وفتوره يكون نصيب الزوجين من السعادة والشقاء، غير أنه يشيخ مع الزمن ثم يلحقه الموت فيفنى، ومهما اشتد كلف الزوجين فسيتلاشى حبهما طال الزمن أو قصر، ويحسن بهما حينذاك أن يفترقا ليبحث كل منهما عن عشيق يسكن إليه.

قد لا تتفق أخلاق الزوجين ويشجر بينهما الخلاف وتصبح الحياة سلسلة نزاع يفوت معها غرض الزواج، وما أشد تعرضنا لهذا الخطر لما في الخطبة عندنا من المقامرة بالمستقبل والمقامر على حافة الإفلاس إن لم يدركه حسن الحظ هوى به سوى البخت إلى حضيض الشقاء، ودين القمار لا يلزم المدين كذلك زواج القمار لا يرتبط به الزوج الذي لو أراد ألقى حبل زوجته على غاربها، فالطلاق والحال هذه خير دواء لفوضى الزواج ومتى كان الزواج فوضى فأخلق بالطلاق أن يكون فوضى.

هذا هو ملخص ما يقول حماة الطلاق تأييداً ولكنه قول بعيد عن الصحة، ومنشأ الخطأ عدم الاعتداد بالتاريخ في تعليل الأمور والاعتقاد بأن القوانين صنع الروية والعقل، والحقيقة أن الضرورات والطقوس والعادات والأوهام والخرافات هي الموجدات للقانون بفعل الأجيال فيها وتأثيرها عليها وصياغتها إياها في قالب كيماوي. فيجب إذن على من يحب الوقوف على حقية قانون أن يرجع إلى نشأة هذا القانون ويعرف تاريخه فإن وجد العناصر المكونة له باقية على حاله لم تتغير حكم بأنه صالح وإن رأى أنها اندرست حكم بأنه ضار يجب العدول عنه إلى قانون آخر يتفق والعادات الحديثة.

وإذا رجعنا إلى العصور القديمة نجد أن الزواج كان ضرباً من ضروب الرق إذ كان الرجال لا يتزوجون إلا من النساء اللاتي كانوا يسبونهن من القبائل الأخرى أو من اللائي كانوا يشترونهن، وما زال لكل من هاتين الطريقتين في الزواج أثر بيننا وأن كان هذا الأثر ضعيفاً، ففي بعض القرى إذا خرجت عروس لقرية أخرى ففي الغالب يحدث شجار بين القريتين كأن أهل الزوج يحاولون سبي المرأة فيدافع عنها أهلوها، وما حفلة الزفاف في بعض القرى ولدى البدو وما فيها من ضرب على الطبول وسباق خيل كراً وفراً ولعب بالحطب وطلقات البارود وإحاطة العروس برجال أشداء إلا تمثيل للحفلة التي يدخل بها المنتصر دياره بالغنائم والأسرى، والمهر الذي يدفعه الزوج لزوجته أثر لشراء النساء ليكن زوجات. والمهر في عرف الفقهاء ثمن لبضع المرأة، وكما ينعقد الزواج بالإيجاب والقبول ينعقد أيضاً بلفظ البيع والشراء.

ولما كان الزواج مرتبطاً بالطلاق ارتباطاً متيناً وقد أبنَّا أن الزواج كان نوعاً من الرق فمن المعقول أن ينفرد الرجل بالطلاق دون المرأة كما انفرد السيد بالعتق دون العبد والطلاق كالعتق تسريح للمرأة وتمليكها حريتها أما الآن فقد تغيرت الحال وأصبح مركز المرأة الاجتماعي أحسن نوعاً وفقد الزواج صبغة الرق والاستعباد وصار عقداً لا يتم إلا بالإيجاب والقبول كبقية العقود الأخرى، وإتباعاً لهذا التطور لا يستحسن بقاء الطلاق على حاله وإرخاء العنان لشهوات الرجل كلما عاف امرأته نبذها كما ينبذ نعله القديم بل يجب أن يكون بحال تتفق وأخلاقنا وعاداتنا الحاضرة.

على أن ذبول الحب وحده غير كاف لتبرير الطلاق فإن طول المعاشرة وإن يطفئ من شعلة الوجد إلا أنه ينشئ بين الزوجين جملة عواطف لا تقل قوة وصلابة في شد أزر العائلة، إذ بعض مضي زمن من الزواج بألف الزوجان بعضهما البعض ويعتاد كل منهما معاشرة الآخر وتندمج مصالحهما في مصلحة واحدة فيتعاونان في المشورة والعمل ويأتمن كل منهما الآخر على سره ويخلصان النصيحة وجملة القول يتحول الوجد إلى عاطفة أخرى لذيذة، عاطفة الصداقة والصحبة، وما أعز على النفس من فراق صديق حميم فما بالك إذا كان هذا الصديق ربة بيتك وشريكتك في أطفالك.

لا شك عندنا في مشروعية الطلاق وضرورته للهيئة الاجتماعية ولكن لا شك أيضاً في أنه من كبريات المصائب التي تنزل بالعائلة فيفصم عراها ويدك أركانها ويفك روابط الألفة والوداد ويغرس بين الناس بذور الحقد والضغينة فلا يحسن الالتجاء إليه إلا إذا استفحل الشقاق بين الزوجين واستحال التوفيق بينهما، ألا ترى أن الجراح لا يقدم على بتر عضو مريض إلا إذا استعصى الداء ويئس الطبيب من معالجته وخاف على بقية الجسم من الهلاك. وإذا لم نتقصد في الطلاق جهد الاستطاعة اختل ميزان الأمة واعتلت صحتها، وإذا لم يكن الجراح ماهراً أنزل بمرضاه مصائب جمة وأودى بحياة كثيرين منهم. ولو كان الطب مباحاً لجميع الناس يحترف به من أراد وإن كان جاهلاً لفتكت الأمراض بالنفوس وحصد الجهل حياة كثيرين من الأقوياء. ومتى كان الطلاق فوضى يقع بمجرد صدور لفظه من أي إنسان بقصد وبغير قصد فأخلق بالأمة أن تكون هزيلة القوى مفككة الروابط.

الطلاق شر عوامل الفساد وتحليل للعائلة. والعائلة للأمة بمثابة الخلاية للجسم الحي. وإن يكن في الخلاية قوة تدفع بها عادية الفساد عن نفسها غير أنه يستحسن اتقاء الخطر قبل وقوعه واستئصال جذوره قبل أن تنمو وتشتد. والقوة الحافظة لكيان العائلة الأطفال وتحاب الزوجين وتقاربهما في الأخلاق والمشارب. ولكن السآمة وإتباع الهوى وضعف الأخلاق والوقوع في حب شخص غريب عوامل حرب وتفريق إن لم نقطع عليها طريقها ولم يقلم الشارع من أظفارها فإنها قد تتغلب على عوامل الألفة وتقتلع الروابط العائلية فتذر العائلة أنقاضاً وتمسي الأمة واهية القوى.

يقول أحد الفقهاء الطلاق سم قليله دواء وكثيره قتال وأول ما يقتل نفوس الأطفال ينتزعهم من أحضان أمهاتهم ويلقبهم بين مخالب الضرات فينشبن فيهم أظفارهن. ويمزقن قلوبهن الصغيرة ويقتلن أخلاقهن الطاهرة بما يرهقن به أجسامهن من الضرب المبرح والكلام القارص وسوء الغذاء وقذارة الثياب وحقارتها. ولا أضر على الأفراد والأمم من تربية الذل والإرهاق ولا أدعي إلى الجبن والكذب من القسوة مع الأطفال.

والحسد أشد ما يكون بين الأقارب وكلما دنت القرابة ازداد سعيراً فهو بين الأخوة فيما لو وجدت أسبابه على قمة غليانه، وهل يثير الأحقاد مثل التفرقة في المعاملة؟ يشقى أولاد المطلقة وينعم أولاد الأخرى.

(لهذا الموضوع بقية)