مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/المساكين

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/المساكين

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1915



للنفوس الكبيرة وثَبات في شوط النبوغ تقطع في الوثبة الواحدة منها ما يقضى غيرها العمر في التعلق بأسبابه وبلوغ الغاية منه ولهذا لا يعجب النوابغ بأعمالهم بعض ما يعجب الناس من قدرتهم على هذه الأعمال، والنابغة هو الذي يستطيع أن يجعل كل سنة من عمره أو كل طائفة من العمر أثراً ظاهراً في التاريخ الذي يعاصره لأنه أحد الأفراد المعدودين الذين ينشأ من أدمغتهم هذا التاريخ.

على هذه القاعدة يجري نابغة الأدب العربي الشهير مصطفى صادق الرافعي فلا يكاد يصدر كتاباً حتى يأخذ في غيره فهو أبداً يبحث ويفكر وينظم وينثر كما تعرفه الأمة وإنما هي نفسه المضطرمة تحاول أن تبعث من أشعتها في الأفق لتظهر على الأرض قطعة من جمال السماء.

وقد وضع أخيراً كتاب المساكين - وهو تحت الطبع - يكشف به عن الحقيقتين الغامضتين في الحياة حقيقة الغني وحقيقة الفقر، لا يقرؤه الفقير حتى يرحم الغني ولا الغني حتى يرحم الفقير فكأنه مؤاخاة بين الخصمين المتنافرين في الإنسانية.

وقد أسند الكلام فيه إلى رجل اسمه (الشيخ علي) والشيخ علي هذا رجل أنعم الله عليه بالبلاهة والراحة والمَترَبة وليس في الأرض أشد منه على ذلك مرحاً واغتباطاً.

وسننشر في عدد آخر الترجمة الخيالية البديعة التي وضعها له الرافعي وربما نشرنا صورته.

والآن نقدم للقراء هذه القطعة من فصل عنوانه التعاسة - وأسعد الله قراءنا.

قال الشيخ علي:

وأنت يا بنيّ ما إن تزال تصبغ الدنيا بلون لا أدري كيف أسميه، فلا هو من وجوه أهل الحسد فأقول أصفر ولا من قلوب أهل البغض فأقول أسود ولا من صدور أهل الدم فأقول أحمر ولا من شيء أعرفه لأنه ليس شيئاً يسمى. وعلم الله أن من يهوي في جهنم سبعين خريفاً وعيناه تدوران في رأسه لا يبصر من حيث ابتدأ إلى حيث ينتهي شراً من وجه دنياك.

إنك يا بنيّ تصور الأرض لا أرضاً ولا ماءاً بل قلوباً ودموعاً وتراها لا دوَلاً ولا أمماً بل آلاماً وحوادث فكأن هذه الأرض العظيمة تحتاج إلى نارين من قلبك ومن الشمس وإلى نفحتين من خيالك ومن الفضاء وإلى قدرين من حزنك ومن الأبد. ومن ثم فلا عجب يا بني إن كان مركز الثقل فيها على وهمين: على محورها وعلى. . . ظهرك.

لقد أسرفت على نفسك الضعيفة وجعلت هذه الحصاة تحت مطرقة الزمن فما تزال رخواً منبعثاً مسترسلاً في اندفاق ولين، كأنك ترى رجل من العجين. وكم تقول لي (فلانن) وجاهه العريض، ودهره المريض، وانظر إلى (فلان) كيف جعله الكبر يذكر منا وينسى، وكيف أصبح من الغني وأمسى، (وفلان) كيف تمر من فُرَج أصابعه سفن الآمال، في تيار المال، كأن يده قنطرة على نهر الأقدار، أو جسر تعبره حظوظ السماء إلى أهل هذه الدار، أو (فلان) قبحه الله كيف سار شيطانه في إنسانه، وطول عمره في لسانه، وكثرة ماله في قلة إحسانه، وأخزاه اله فما برّ ولا نفع، بل تفرّق بالحرص على ما جمع، وطمع في كل شيء حتى في الطمع، (وفلان) الذي جمع وعدّد، وخلقه الله واحداً وهو في الرذائل يتعدد، وقد انتفخ كأنه شدق إسرافيل، وامتد كأنه يد عزرائيل، واستلقى كأنه فرعون على النيل، (وفلان) وما أدراك ما فلان: جبل شامخ والناس في سفحه رمال، ومجد باذخ ولا مجد لمن ليس له مال، وهو في أهل الغنى الألف والباء، وإن قيل في غيره (ابن نعمة) فهو في أهل النعمة أو الآباء، على رأس كأنه من الرجل ركن الكعبة الذي يتوجه عباد الغني إليه، وقامة كأنها لجاه صاحبها قطعة من المحور الذي تدور هذه الأرض عليه، وهناك أنف أما في السماء فله منزله، وأما في الأرض فعطسته زلزلة، ينفض الناس من رهبته نفضاً، ويفرش الوجوه من هيبته أرضاً، وكأنه في تلك الكبرياء ميزان معلق يرفع من ناحية ويخفض من ناحية، بل كأنه في ذلك الوجه القفر جحر للنحس تختبئ فيه الداهية.

قال الشيخ علي: وما أنت يا بني وهذه (الفلانات) وأمثالها؟ إن هؤلاء الناس بعض أعمال الله في أرضه فهو يخلقهم وينشئهم ويديرهم لتعلق طائفة من الأقدار بنتائج أعمالهم طرداً وعكساً فما أشبههم بدابة الطاحون تلزم دائرتها ولا تفتأ تدور إلى غير انحراف ثم هي لعلها تسمع الجعجعة تحسبها نشيد الاحتفال بها.

فهو قوم مسخرون وقد يسرهم الله لما خلقوا له فضربهم بالحرص والطمع ضربة جبار ولو نالت السماوات والأرض والجبال لأشفقن منها، وجاءهم الحرص بهذا المال أما الطمع فجاءهم بماذا جاءهم بماذا؟ يا بني؟ لو قلت بصدأ القلوب وهرم النفس ودناءة الطبع، لو قلت بكل ما في الحشرات من القذر وبكل ما في السباع من الضراوة وبكل ما في الدبابات من السموم لكنت عسى أن أقارب الوصف ولكن المعنى الذي يتلجلج في نفسي أكبر من ذلك كله. ولكني أقول لك يا هذا إن ثلاثة من المتشابهات يفسر بعضها بعضاً الحرص مع الطمع، ثم المال ورذائله، ثم ما في المعدة وما في الأمعاء. . .

أنحسب أن هذا العالم يحفل برجل من الأغنياء قد أجحف به الدهر وطحنته النوائب بأرحائها. وتركته الأقدار أسود الحظ لا بيضاء ولا صفراء؟ فلم لا يعدون الغني شيئاً دون المال ويحسبونه كل شيء مع المال؟ لعل الحقيقة أيضاً ذات وجهين في الناس.

المال. المال وحده لا غيره فنحن نحتاج إلى الغني صاحب المال كما نحتاج إلى بائع الملح. وما أشبهنا في إطرائه وفي الزلفي إليه بأطفال القرية إذ يتزلفون إلى بائع الحلواء التي تلف على العصا وإذ هو واقف بينهم بعصاه وحلوائه كأنه الهبل الأعلى. وهو من تعلم دس الثوب ترب اليد قذر التفصيل والجملة يصلح أن يكتب على وجهه متحب المكروبات المصري ولو رآه طبيب لجعل عصا الحلواء على رأسه تفاريق، ولكن أين لا أين الطبيب في هذا الاجتماع؟ كل أطباء الاجتماع ألسنة وأقلام ومحابر؟ أما اليد التي تزيل المنكر أو تغيره فلا أراها تمتد إلا من جانب الأفق ولا تعمل إلا بعون من الله وملائكته وقد انقضى عصر الأنبياء.

قال الشيخ علي: فإن لم يكن الغني إنساناً من الناس يواسيهم ويسعدهم ويتخذ من المال سبيلاً إلى أفئدتهم بالإحسان والمساعفة، ويأخذ لنفسه بقدر مالها ويعطي من نفسه بقدر ما عليها، وإن لم يكن وجهه عند قدمي الفقير وعند رأس المريض ولم يكن ذهبه عند دموع البائسين وعند أنفاس المحزونين ولم يكن اسمه في دعوات المحتاجين وفي ألسنة الشاكرين فقد أصبح عندي كأنه لا شخص له، وإن كان اسمه (فلان باشا) مثلاً فلا فرق بينه وبين صندوق من صناديق الحديد يسميه صانعه استهزاء (فلان باشا). . . .

فالمال آلة من آلات القتل لأنه يميت أكثر من أصحابه موتاً شراً من الموت - إلا من عصم الله - موتاً يجعل أسماءهم قائمة على ألواح من العظام ويرسلها كل يوم إلى السماء في لعنات لا عداد لها ثم يثبتها في التاريخ أخيراً لا بأعيانها ولكن بعددها أو كما تثبت الحكومة في كل سنة عدد المواشي التي نفقت بالطاعون. . . فهذا الشخص الميت وهو في الأحياء لا يبلغ نفسه على الحقيقة أكثر من مقدار حجمه من. من. . من جيفة حمار. . .

يا بني! ربما كان الرجل نبات نعمة الله لأنه سيكون حصاد نقمته فهذه منزلة من البؤس والخذلان يستعاذ الله منها. وكم رأينا من أناس تخصب أبدانهم حتى ليضيق بهم الجلد كدنةً وسمناً ويكاد أحدهم ينشق فرحاً ونشاطاً ثم لا يكون هذا الخصب الذي استمتعوا به شطراً من العمر إلا سبباً في أمراض مهلكة تستوفي الشطر الآخر فذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون.

وإن خطأ كبيراً أن تحكم لفلان من (فلاناتك) بمتاع الدنيا فإنك لا تدري أشر أريد به أم الخير وكيف تحكم على غناه بفقرك وعلى آماله بيأسك وعلى شخصه بظلك وعلى نهاره بليلك وعلى عمره كله وهو بعد حي لا تدري ما عسى أن يكون له فيما بقي؟ دعه حتى يستنفد أيامه المكتوبة ويستوفي أنفاسه المقدرة فلعل مصيبته قادمة في الغيب وكان غناه من مقدماتها وعلى قوة المقدمة تقاس قوة النتيجة. فإذا مات الغني ولم تعرف في مجموع عمره هما ولا غما يعدل بؤس الفقر فكفى حينئذ بالموت، وإنما الحياة مدة ستنقضي فسواء انقطع الخيط من أوله أو من وسطه أو من آخره فقد انقطع.

تقول لهم أن متاع الحياة ولو أنصفت لقلت أن لهم بؤسها الممتع. .! فإنهم يجمعون المال من طرق لا تؤتيه إلا نكداً ثم يرسلونه في طرق أخرى ليجمعوه أيضاً ثم يجمعونه ليرسلوه ثم يرسلونه ليجمعوه وهلم كما تدور دابة الطاحونة. وهب أنهم لا يألمون فإن يد الله قد غمزتهم من مكان قريب غمزة مؤلمة، وما أحسب الضجر من اللذات قد خلق إلا للأغنياء وحدهم وناهيك من بلاء يغمر النفس بالنعم صنوفاً وألواناً حتى يتنكر لها معنى النعمة فتراها وقد ثابر عليها الضجر متكرهة ولكن لا تريد الكراهة ومتسخطة ولا ترغب في السخط ومتألمة ولا تعرف مم ألمها ولا تبرح تتلمس نعمة لم يخلقها الله لتحدث منها لذة لم يعرفها الناس.

ولولا هذا البلاء وأنه ما وصفت لك لما أصبت على الأرض غنياً كهؤلاء الوارثين تضرب به كل لذة وجه أختها فتسلمه الواحدة إلى الأخرى ويجذبنه بكل حروف الجر: من الكأس وإلى القمار وفي الإسراف وعلى الفسق وللمنافسة وهكذا حتى تسلمه اللذة الأخيرة إلى الفقر.

ولو أن (ضجر اللذات) يصنع بكل الأغنياء هذا الصنيع لفسد الكون بيد أن الله أراد عمر أنه فجعل في طباع أكثر الأغنياء لؤماً خاصاً. لؤماً ذهبياً يكسر من سورة هذا الضجر كما يفتأ الماء البارد من الماء الحار حين يمتزجان.

فالقوم إما كريم يضجر فيسرف وإما لئيم يضجر فيمسك وكلاهما يجد لذته ويضجر من لذته. فلا تقل يا بني أن العصا لظهور الفقراء وحدهم فإن هناك السوط أيضاً وهو رتبة عالية فوق رتبة العصا ولذلك خص بشرفها. . الأغنياء.

وانظر إذن هل ترى الفرق بعيداً بين الضجر من شيء لأنه موجود وبين الضجر من ذلك الشيء لأنه غير موجود. بين عدم الشعور باللذة وبين الشعور بعدم اللذة. بين ألم الغني الذي لا تجده أبداً إلا على شك في أنه سعيد وبين ألم الفقير الذي لا تجده أبداً يشك في أنه تعيس؟.