مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/قطعة من كتاب رسائل الحب

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/قطعة من كتاب رسائل الحب

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 28
قطعة من كتاب رسائل الحب
ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1915



تأليف الكاتب الأديب عبد الرحمن شكري

(مقدمة)

إن العواطف لا الآراء هي القوة المحركة في الحياة ومن أجل ذلك ينبغي أن لا يكون أدب اللغة ألفاظاً ميتة بل ينبغي أن يكون كالكهرباء يسري في النفوس فيزيدها قوة.

إن أدب الأمة في دور قوتها يظهر لك صفات القوة التي في عواطف نفوس أفرادها ولكن أدب الأمة في دور ضعفها ميتة وتصنع فاتر ومن أجل ذلك كنا أحوج الناس إلى أدب يزيل عن نفوسنا ما يعلوها من صدأ الدهور ويقوي عواطفها.

هذا الذي دعاني إلى تأليف كتاب رسائل الحب وشرح عاطفته.

(رسائل الحب)

لقد رأيتك أمس أول رؤية فصرت أعتقد أن المعجز غير مستحيل الوجود لأني ما كنت أعتقد وجود مثل جمالك ولا مثل ما أحس به من الحب، لقد كان لي عينان فصار لي بعد رؤيتك ألف عين وكان لي قلب فصار لي ألف قلب وكان لي سمع فصار لي ألف سمع.

إن أسمع نبضات قلبي وكنت لا أكاد أحسها قبل رؤيتك وصرت أحس الدم يتدفق في عروقي وأسمع له خريراً وصرت أجد في الهواء الذي أنشقه حرارة الحب، آه أنت جميل مثل النجوم الزاهرة والأزهار الناظرة أنت جميل مثل ضوء القمر على صفحة الماء جميل مثل الفجر جميل مثل الشمس جميل مثل النسيم جميل مثل الغدير بل أنت أجمل من هذه الأشياء لأنك جمعت في شخصك جمال الشمس والقمر والماء والفجر والنهار فأنت عنوان جمال الطبيعة وآيتها الكبرى وما يدريك لعل هذه الكواكب المضيئة إنما تضيء كي ترى فيها لمحة من جمالك وهذه الأزهار إنما تنضر كي تعرف فيها طرفة من حسنك وهذا النسيم إنما يرق كي ترى فيه شيئاً من رقتك وهذه الطبيعة إنما خلقت كي تكون مرآتك.

إني أحبك في كل دقيقة من حياتي وفي كل نبضة من نبضات قلبي وفي كل نظرة من نظراتي وفي كل كلمة من كلماتي وفي كل حركة من حركاتي، أنا تمثال حبك تقرأ فيه آية الحب والولاء والشقاء واللذة والألم.

أنت كالزهر جميل وأخشى أن تقتلك لفحة من لفحا حبي فإن حبي مثل ريح السوء التي تذبل الأزهار وتذهب بنضارتها، لا تخف يا حبيبي فإن أستزيد بهذا القول من رحمتك وإشفاقك وأضحك فإن الحياة نكتة باردة غثة قبيحة جميلة يضحك المرء من برودتها وغثاثتها، اضحك فإن في ضحكك ألحاناً وأنغاماً، إني أسمع في كل ضحكك نغمة تهتز لها أوتار القلب فأسمع فيه تغريد العصافير وأنغام العود والمزمار وغيرها من آلات الطرب، إني أتمنى أن أنشئ من أنغام ضحكك أنغاماً تفوق أنغام بيتهوفن وفردي ووجنر.

لقد كنت أستمد وحي الشعر من الهواء والماء والضياء وغير ذلك من مظاهر الطبيعة ولكني صرت أستمده من حبيك الذي صار لي بمكان الهواء والماء والضياء فهو الهواء الذي أنشقه والماء الذي أروى به ظمأي والضياء الذي يملأ عيني، إن حبك هو عندي حجر الفيلسوف الذي ما مس معدناً خسيساً إلا جعله نفيساً وكذلك حبك ما مس نفساً خسيسة إلا جعلها نبيلة، إن حبك ليريق ضياءه على ظلمات عيشي وظلمات نفسي كما يريق القمر ضوءه على الماء فيضيء ذلك النور أمواج العواطف التي تتضارب في صدري، إن حبك يسري فيّ مسرى الكهرباء في الأجسام، إن حبك هو العين التي أبصر بها واليد التي أبطش بها والسلاح الذي أصول به والعزيمة التي أناهض بها الأمور، آه ما أتعس الحياة لولا الجنون جنون اللذة والألم جنون الحب والبغض جنون العواطف والمطامع جنون الأمل واليأس والثبات والجبن والجود والبخل، يا حبيبي أنت سبب من أسباب الجنهون، إن الله لم يخلقك عبثاً، إن الله خلقك كي يزين بك الحياة ويجعلك سبباً من الأسباب التي تثير العواطف وتستفز المطامع وتبعث الجنون وتوحي بالشعر، إن حبك قد علمني الرحمة ولكنه علمني أيضاً القسوة وقد علمني الشجاعة ولكنه علمني الجبن وعلمني الأمل ولكنه أيضاً قد علمني اليأس وقد بلغ بي جنون اللذة ولكنه بلغ بي جنون الألم، إنك لا يمكنك أن تعرف مقدار جمالك لأن ذهنك لا يقدر أن يحيط به كما أن البصر لا يمكنه أن يرى من أول الفضاء إلى آخره، إنك لو عرفت مقدار جمالك لأصابك الجنون وسكرت منه وقمت ترقص سكراً وجنوناً، أنت جمعت في شخصك بين جمال السماء والأرض وجمال الجنة والنار وجمال الحياة والموت وجمال الخير والشر وجمال الصحة والسقم وجمال الصباح والمساء وجمال الليل والنهار، أنت جمعت في شخصك بين جمال الملائكة وجمال الأبالسة بين الجمال الإلهي المقدس والجمال الذي يحرك الشهوات، أنت جمعت في شخصك بين جمال الأطفال والفتيان والفتيات والرجال والنساء، أنت جمعت في شخصك بين جمال البرق في السحاب وجمال المصباح بين الأشجار وجمال النجم في السماء وجمال الحريق الهائل والشرارة الصغيرة وجمال الفكر وجمال العاطفة وجمال التقوى والورع وجمال الخالعة، أنت جمعت في شخصك جمال الأشكال كلها والمطاعم اللذيذة والأشربة الحلوة المسكرة وجمال الفواكه وجمال الأزهار وجمال الأشعار والآداب وجمال سائر الفنون الجميلة، أنت جمعت في شخصك طرفة من كل شيء جميل، سمعته أو قرأته أو رأيته أو فكرت فيه أو هفا إليه قلبي ونبضت له أوتاره فأنت تارة مثل الربيع عليل النسيم كثير التغريد وتارة مثل الصيف المكسال ذوي اللفحات والحر الذي يغلي له الدم في العروق، ومن أجل ذلك أشعر بحبك كما أشعر بالصيف، وتارة أنت مثل الخريف الكثير الثمار، ولكنك أحياناً كالشتاء البارد القلب من عواطف الحنان والرحمة والحب، أنت كالسراب فالسراب جميل مثلك مطمع مثلك ولكنه مثلك يغر ويخدع.

سأوحي إلى البلابل بأشعاري وأرسل الطيور المغردة إلى نافذة غرفتك في الليالي المقمرة التي تروق فيها الأحلام فتمتزج في روحك أحلام الصيف التي تراها في نومك أو يقظتك بأشعاري التي هي مثل أحلام الصيف وأناشيد البلابل التي هي مثل أشعاري وأشعة القمر الفضية التي تشبه أناشيد البلابل ولكن خيراً من ذلك كله سحر جمالك الذي هو أجل من أشعار الغزل والنسيب وأحلام الصيف وأناشيد البلابل وأشعة القمر الفضية فاذكرني في أحلامك فإني ليس لي نصيب من يقظاتك وأرسل إلي في تلك الأحلام شعاعة من أشعة نور وجهك كي تضيء ظلمات نفسي وظلمات عيشي وإذا قرأت في شعري شيئاً يسرك فاعلم أنه مستمد من جمالك وإذا رأيت فيه ما لا يسرك فاعلم أنه من نظم تلك الساعات من عمري التي لم تضئها شعاعة من أشعة نور وجهك فإن نفسي في تلك الساعات كظلمات فوقها ظلمات تجري في سمائها السحب التي تحمل الويل والدمار ومن تحتها لج متلاطم كله أشلاء ورمم وبين السحب واللج رياح هوج تعوي عواء الثكلى المجنونة وأكثر حياتي مثل هذه العاصفة لولا ما يضيؤها أحياناً من أشعة نور وجهك ما يتاح لها أحياناً من السكينة الكاذبة الخادعة التي هي أشبه الأشياء بالسكون والكاذب الذي يأتي قبل العاصفة وينذر بها.

انظر إلى النجوم فإني أنظر إليها عسى أن تلتقي روحاناً هناك في لحظة من تلك اللحظات البطيئة التي نرسلها إليها، إني أحب النجوم وأحب الليل وسكونه وجلاله، إني أحب أن أقف وحدي أنا والليل فأحس كأن الليل مخلوق حزين كبير الروح واسعها عظيم القلب وإنما سكون الليل وإطراقه إطراق المفكر الذي ينظر في الكون وأحواله وما يعتوره من التغيير، أيتها النجوم أما بعتورك حزن أو ملال، يا عيون الليل أما آن لليل أن يفيق من حزنه وتفكيره وإطراقه، أيتها العيون النعسانة أنت تطلين من سمائك علينا فتقع لحظاتك على ما نعانيه من الآلام والجرائم والمصائب، أيتها العيون أبريقك بريق القسوة والغلظة أم بريق الحزن والرحمة وأنت ماذا يهمك يا حبيبي من بريق النجوم وسواد الليل أنت أخو الفجر الباسم والعصافير المغردة والضياء والأزهار فانتهز فرصة جمالك وامرح فإن الدنيا جميلة بك ولا تفكر في جمال الحياة فإن من كان يضيء لنا الحياة بجماله خليق أن تكون الحياة في عينه جميلة.