مجلة البيان للبرقوقي/العدد 3/فصول من كتاب الأبطال

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 3/فصول من كتاب الأبطال

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 11 - 1911



فصل من مقدمة الباب السادس

الذي عقده كارليل للكلام عن كرومويل ونابوليون بونابرت

وقد تعرض هنا مسائل خطيرة ومباحث معضلة يمنعنا من طروقها ضيق المجال. وإنما نذكر كلمة شبيهة بكلمة (بيرك) حيث يقول (إسناد القضاء إلى نخبة من القضاة يشتركون في إصدار الأحكام هو روح الحكومة) فكذلك نقول نحن أن خلاصة أعمال المجتمع الإنساني سواء سارت على طريق الخطأ أم على منهج السداد هو الاهتداء إلى أعقل رجال بلدك وأفضلهم وأحزمهم ثم تقليده الحكومة والسلطة وإعطاؤه الخضوع والطاعة حتى يستطيع بذلك أن يهدي الناس حسبما يلهمه عقله ويوحي إليه فؤاده وإنما إلى ذلك قصدت البرلمانات وخطبها ولوائح الإصلاح والثورات فرنسية وغير فرنسية. اهتد إلى أعقل رجال بلدك وأكفئهم وأرفعه إلى المكان الأعلى وبجله وأكبره تحرز لبلادك خير حكومة. وإنك إن تفعل هذا فقد بلغت المدى وكل شيء بعد ذلك فضول ولغو. فإن أعقل الرجل هو أيضاً أكرمهم وأبرهم وأرحمهم. وليس فوق نصحه نصح. وقول الإمام امام القول. وكل ما يأمرنا به فهو ولا شك أحكم وأليق وأعلى ما نستطيع أن نجده تحت قبة الفلك. وهو ما يجب علينا أن نأتمره ونصدع به مع الحمد والشكر! وتلك الحكومة هي الضالة المنشودة والغاية القصوى.

أقول الغاية القصوى والله يعلم أن الغايات تبلغ بالأمل. ولا تنال بالفعل وللأماني جياد سابحات تسبق وفد الرياح يرسلها الفكر في مضمار الوهم فتطير بأجنحة الرجاء إلى كل غاية أبعد منالاً من الثريا فإذا طلبت تلك الغاية بافراس العمل في ميدان الحقائق قامت العقبات. واعترضت النوب والآفات وسقطت الجياد أثناء المضمار طلحاً أنضاء جسرى من الجهد والإعياء. دامية السنابك من الحفا مهزولة الأعطاف من الأين والوجى. وكذلك تبقى الغايات من طعمة المنى سخرة الواقع كالخيال في المرآة يبيح العين ما يمنع الكف.

أو كالسماء وكل ما زينت به ... وكبعدها وكقربها من لاق

وأنا وإن استحال علينا أن نبلغ الغايات. فحسبنا أن نأخذ في سمتها أو نقع منها على مسافة ترضي وتسر! ولا يفعل أحد من الناس ما نهى عنه الشاعر الألماني (شلر) إذ قال (المرء تلقاء الحوادث ضعيف فلا يقس أحد منكم مجهوده النزر القليل بمقياس الكمال) ومن خالف هذا القول كان مريض العقل بداء السخط مأفون الرأي مصدوداً عن الحق. ولكن لا ينس المرء مع ذلك أن تجعل الغاية نصب العين فإنه لا يقوم عمود صلاح الدين والدنيا على أساسه ويستقر في نصابه حتى ينزل الإنسان قريباً من الغاية فإذا لم يتم له ذلك انهارت دعائم الصلاح وتقوض رواقه. ونحن نعلم أنه ليس في العالم بناء يمكنه أن يشيد جداراً فيجعله في أقصى درجة العمودية أي أن يجعل الزاوية الحادثة بينه وبين سطح الأرض تسعين درجة بالضبط لا تنقص درجة ولا تزيد درجة كلا! فهذا مستحيل علينا فكيف باستحالته عملياً! ولكن إذا لم يدن البناء بالجدار من هذه الغاية بعض الدنو فأحر بجداره أن تنهار أركانه. وينهدم جثمانه. نعم إذا استهان بقانون العمودية وطرح مقياسه ومعياره وجعل يراكم الطوب بعضه على بعض بلا نظر ولا حساب كيفما اتفق فأجدر به أن تسوء عقباه ويشقي فإنه قد أغفل أمره ونسي نفسه. ولكن قانون التوازن - ناموس الطبيعة - لم ينس أن يسري عليه وعلى بنائه. وما هي إلا برهة حتى يسقط هو وبناؤه فيرتدا كثيباً مشوشاً ومعهداً خرباً! -

وهذا هو أصل كل فتنة وتاريخ كل ثورة وحديث كل انفجار اجتماعي في الأزمان القديمة والحديثة أجل إنما سببها هو أنك وليت الرجل العاجز وجعلت غير الكفؤ على رؤس الأعمال! - الرجل الخسيس السافل الدنيء الكاذب. ونسيت أن هنالك قانوناً أو ضرورة طبيعية تستدعي تولية القادر الكفء وظننت أنه لا بأس عليك أن تراكم الطوب بعضه فوق بعض كيفما جاء واتفق بلا قاعدة ولا حساب. والرجل الكاذب إذا وليته كان جديراً أن يتخذ كل كاذب خبيث مثله ومن ثم يروح أمر الناس مختل النظام مبدد الشمل. تأكل جوفه الخيبة ويهدم أركانه الشقاء والبؤس. وترى الملايين من خلق الله قد اضطربت عليهم أمور دينهم ودنياهم واسودت في عيونهم ظلمات اللبس والحيرة فهم يمدون الأيدي استهداء ولا هادي ولا مرشد ويبسطون الأكف استعطاء ولا مانح ولا رافد. حينئذ ينفذ قانون التوازن حكمه وتسري نواميس الطبيعة وهي التي ما غفلت عن العمل طرفة عين. فتثور الملايين ويجن جنونهم. ويسقط البناء والبناء.

إن من يفتش الآن المكاتب العامة والخاصة يلق بها أسفاراً ضخاماً. ومؤلفات جساماً.

تفيض في موضوع (حقوق الملوك المقدسة: ومعناه أن كل ملك مهما كان هو خليفة الله في الأرض قد ولاه الملك القدوس زعامة خلقه بعقد مقدس خفي فعقدت في رقاب العباد بيعته. ووجبت عليهم طاعته. واستحكمت في نفوسهم مهابته وخشيته) تلك هي عقيدة القرون الغابرة. ورأى آبائنا الأول. عقيدة دفنت معهم في قبورهم ورأي بان ببينهم. ومذهب عفت رسومه وطمس الدهر أعلامه ومجلدات كالقبور تبلى فيها أفكارها. وتنخر في أجوافها عظام محتوياتها. لا يزورها إنسان ولا يعوج بها مخلوق. وباطل لاح في ظلم الجهل ثم محا آيته نور اليقين. ودولة زور استقل نجمها ثم خوى واشمخر طودها ثم هوى. وأكذوبة أديل منها الحق. وإني مع ذلك لا أرى من كرم الطبع وشرف الشيمة أن نتبع ذلك الباطل المدبر لعناتنا. ونلحقه أهاجينا وشتماتنا. فحسبه هزيمته. وكفاه خزيه وفضيحته. بل أرى (ولا يعجب القاريء ولا يرع) أنه لا يحسن بنا أن نترك هذا الزور والمحال يمضي من غير أن نفتش أجزاءه ونفحص أنحاءه وأرجاءه. ونقلبه بطناً لظهر علنا نجد في ثناياه معنى من الحق وإن فيه لحقاً يجدر بنا وبسائر الناس ذكره. أما قول هذه المؤلفات أن أي إنسان تأخذه عينك من بين الناس وتمسكه يدك فتجعل على رأسه صفيحة من الذهب مكللة بالياقوت والزبرجد وتسميه ملكاً يرسل الله عليه في الحال شعبة من نوره ويمده بروح من عنده ويعمر فؤاده بأسراره القدسية ويؤهله في التو واللحظة لأن يحكم عليك حسبما تقتضي مشيئته فذلك حمق وخرافة وحسبه منا أن نتركه يبلي ويعفن في أجواف كتبه أو بعبارة أصدق أجواف قبوره. ولكني أقول - وهو ما عناه وأراده أرباب مذهب حقوق الملوك المقدسة وهو أنه يوجد في الملوك وفي جميع العلائق والمسؤوليات والسلطات التي تكون بين الولاة والرعية أما حق مقدس أو منكر شيطاني. لا بد من أحد هذين! إذ أنه من أفحش الخطأ والكذب ما قاله القرن السالف الكافر من أن هذه الدنيا آلة ومكينة. بل أن في الكون لألها وكل ما يجري بهذا العالم من حكومة وال وطاعة رعية بل كل عمل وحركة لا بد أن يبوء إما برضى وإما بغضب من الله. وأشرف ما يجري بين الرجل والرجل هو لا شك الحكومة والطاعة. والويل لمن يطلب من طاعة الناس ما لا يستحق ولمن يأبى أن يؤدي من الطاعة ما أوجبه الله عليه لزعيم أو أمير! بذلك يجري قانون الله المقدس مهما سنت شرائع البشر ونهجت نواميس الحكومات. نعم إن في كل دعوى يدعيها الرجل على أخيه إما حقاً مقدساً أو منكراً شيطانياً.

هذا أمر جدير بالنظر والتدبر. وخليق أن نذكره في جميع شؤوننا ولاسيما في أمر الزعامة والولاء أهم تلك الشؤون. وعندي أنه شر من مذهب حقوق الملوك المقدسة هو ذاك المذهب القائل أن العالم يدور على محور المصلحة الذاتية وتدبير الثورة وأنه لا معنى هناك مقدساً في تعاشر الناس وتخالطهم. وإني أكرر عليك قولي إنك إن تأتني بالملك القادر الكفء لأجعلن له عليَّ حقاً مقدساً. ولعل دواء أدواء الأمم في هذه العصور هو أن يوفقها الله بعض التوفيق إلى إيجد الملك الكفء وإن يلهمها طاعته والانقياد إليه إذا وجد! وإني أرى في الملك القادر - هادي الأمة في سبيل الأعمال الدنيوية - خلة الدين كذلك ومعنى القسوسية فهو أيضاً هادي الأمة في سبيل شؤونها الروحانية التي هي مصدر الشؤون الدنيوية فالملك لذلك رئيس الكنيسة أيضاً. ولندع بعد مذهب حقوق الملوك المقدسة يبلى في أجواف مؤلفاته أو قبوره لا نوقظ صداه ولا نستثير هامته.

وحقاً إن التماس الرجل الكفء والحيرة في ذلك لمن أشق الأمور وأجسمها! وتلك هي آفة الأمم في هذه العصور والأزمة الحرجة. هذه أوقات ثورات. وإني أرى بناة شؤون الدنيا قد اطرحوا المقاييس والمعايير وأغفلوا قانون التوازن فانهار البناء بهم فإذا هم والبناء خليط أنقاض مشوش! وليست الثورة الفرنسة هي مبدأ هذا التهدم والسقوط بل لعلها الغاية والنهاية ولا نخطىء إذا قلنا أن المبدأ كان منذ ثلاثة قرون أي منذ نهضة لوثر. وكان داء العالم إذ ذاك تحول كنيسة الله أكذوبة ووقاحتها وصفاقة وجهها إذ تدعي لنفسها القدرة على غفران ذنوب العباد بالدرهم والدينار. وكان هذا مرضاً في الدين - داء في الروح والجوهر ومتى أدوى الجوهر واعتل الروح فأحر بالحسم والظاهر أن يفسد ويدوي - ثم تزداد فساداً ومرضاً. لقد كان الإيمان قد فني وباد وفاض الشك وتفشى الجحود والإلحاد. وطرح البناء معياره ومقياسه وقال لنفسه أي قيمة لقانون التوازن وأي فضل في الحساب والنظام. ضع الحجر على أخيه كيفما جاء واتفق ولا يعنيك أن نجشم النفس مراعاة قانون أو حساب! وكانت العاقبة يا للأسف كما تعلمون! -.

وإني لأتبين اتصالاً طبيعياً والتئاماً تاريخياً ما بين مقالة لوثر إذ قال للبابا أنت أيها الملقب نفسه البابا أفكاً وزوراً ما أنت بأب في الدين ولا والد لنا في الله. إنما أنت أكذوبة يعجز اللسان أن يجد بين الألفاظ المهذبة الرقيقة ما يليق بنعتك وصفتك! وبين صيحة الثورة الفرنسوية إذ علا بها ضجيج الثوار في قصر الإمارة يصيحون إلى السلاح: إلى السلاح. ولا يحسب الحاسبون أن هذه الصيحة الزعجة الجهنمية كانت شيئاً حقيراً أو باطلاً! كلا إنما كانت صوت الأمم النائمة هبت من رقاد كاد يخنقها أثناءه الكابوس - نعم صوت الأمم هبت من حالة بين الرقاد والموت. فبدأت تشعر أن الحياة شيء حق. وأن عالم الله ليس بمكينة تساس بالدهاء والمكر وتدبر بعلوم الاقتصاد والرياضة. نعم لقد هبت فأرسلت صيحة جهنمية - وإنما أتت جهنمية لأن طغاة الملوك وعتاة الحكام أبو ألا أن تكون كذلك. لقد هبت الأمم وقالت لا بد للأباطيل والأضاليل أن تنتهي ويخلفها نوع من الإخلاص كيفما كان. ولا بد لنا من عودة إلى الحق ولو جرت علينا أهوال ثورة فرنسية وجلبت على رؤسنا شر الفظائع وأشنع البلاء. هذه هي الثورة الفرنسوية - هي كما ترون حق ولكنه حق ملتفع في شواظ الجحيم ولظي جهنم! -.

وكان قد ذاع لدى جماعات كثيرة من أهالي إنكلترا أن الأمة الفرنسوية كانت في تلك الأوقات (أوقات الثورة) قد جنت. وإن الثورة الفرنسوية كانت صنفاً من الجنون تحولت فرنسا وفرق عظيمة من سكان المعمورة أثناءه مارستانا. ذلك كان رأي العدد العديد من الإنكليز وفلافستهم أن الثورة كانت حريق جون شب ثم خمد وأصبح الآن في عالم الأحكام والأوهام والقصص والعجائب. والنوادر والغرائب! فليت شعري كيف كان وقع الثورة الثانية - ثورة 1830 في نفوس هؤلاء الفلاسفة الذين حسبوا أن الثورة الأولى كانت فلتة جنون وبيضة الديك وإن حديثها أصبح كحديث الخرافات لا يكاد يصدق؟ ماذا كان شعورهم حينما رأوا فرنسا قد ثارت ثانية إلى السلاح تكافح كفاح المستميت تذبح وتُذبح. وكل ذلك لتؤيد الثورة الأولى وتحفظ آثارها وأجدادهم ويأبون إلا تمسكاً به وإصراراً عليه. هم لا يبرأون منه إلى الله. بل يعملون على حفظ أثره. واستنتاج ثمره. باذلين الدماء والأرواح في سبيل ذلك. ولعل في هذا الحادث (حادث الثورة الثانية) أكبر مصاب لأولئك الفلاسفة الذين أسسوا مبدأهم وشادوا مذهبهم على أن الثورة الفرنسوية فلتة جنون تبرأ منها فرنسا ولا يعود بها الزمن أبدا. نعم إن في ذلك الحادث نكبة لأولئك الفلاسفة حتى لقد ذاب قلب الأستاذ المؤخ الألماني نيبور كمداً وتقطعت نفسه حسرة لما بلغه نبأ هذا الحادث. ثم اعتل على أثر ذلك وقضى نحبه قتيلاً بداء الأيام الثلاثة (هو اسم ثورة 1830) وما هكذا تموت الرجال! ولست أشبه هذه الموتة إلا بموتة الشاعر الفرنسوي الكبير (راسين) الذي قتله أن لويز الرابع عشر تجهمه مرة ورمقه شزراً فياليت الأستاذ الألماني علم أن الكرة الأرضية صلبة جلدة وأنها طالما تحملت صدمات الدهر وضربات القضاء وأنه ليس من البعيد أن تعيش وتبقى وترى دائرة حول محورها بعد ثورة (الأيام الثلاثة) ولقد جاءت تلك الثورة الثانية لتعلم الناس جميعاً أن الثورة الفرنسوية لم تكن قط فلتة جنون ولكنها ثمرة حرة من ثمار هذا العالم - عالم الله. وإنها كانت حقاً يحسن بكل إنسان أن يعده حقاً لا باطلاً ولا جنوناً.

فصل آخر من مقدمة الباب الخامس

الذي عقد للكلام عن الكتاب جونسون وروسو وبارنز

كثرت الشكوى الآن مما يسمونه اختلال نظام المجتمع وكيف أن كثيراً من العوامل الاجتماعية تسيء أداء وظائفها. وكيف أن كثيراً من القوى العمرانية الشديدة تكدح في غير مكدح وتكد في غير مكد. وتلك شكوى لا شك في صحتها. ولكن من نظر جهة الكتاب والكتب وجدها أشد الجميع اختلالاً وفساداً بل أصل كل اختلال وفساد - وجدها كأنها قلب يصدر عنه ويرجع إليه كل اختلاط وتشويش في العالم! ولست أرى حالاً أنكر من سوء ما يجزى به الكتاب على جليل ما يسدونه إلى الملأ. ولو غمسنا القلم في هذا المبحث غمسناه في بحر لا قرار له ولكن لابد لنا أن نمس شاطئ الموضوع إذ كنا غير خائضين عبابه إتماماً للفائدة. وأسوأ ما كان من أمر هؤلاء الثلاثة الكتاب أنهم وجدوا عملهم في هذه الحياة ومركزهم ضرباً من الفوضى. والسائح إذا صادف طريقاً مذللاً ومنهجاً واضحاً مضي في سننه وأمعن في قصده. فإذا أصاب طريقاً مذللاً ومنهجاً واضحاً مضي في سننه وأمعن في قصده. فإذا أصاب عقبة لا تقتحم وسداً لا يفتح فجعل يطعن فيه يبغى نفاذاً فأحر به أن يظل من عمله هذا في مصاب جلل وأوشك أن تمر به فريسة بين مخالب الهلاك!

أدرك آباؤنا ما هنالك من الفائدة العظمى في خطاب الرجل للرجال وعظة المرء لأخوانه فأسسوا الكنائس والمساجد لذلك الغرض. فما من بقعة في العالم المتمدين إلا بها منبر يستطيع منه الرجل أن يعظ باللسان أخوانه في الله. وكانوا يرون ذلك من أهم الأمور وأنه لا خير في الحياة من دونه ولله ما كان اتقاه عملاً وأجمله مشهداً فأما الآن وقد ظهرت صناعة الكتابة والطباعة فقد طرأ تغير كلي على ذلك الأمر. أو ليس الكاتب الذي يضع كتاباً خطياً ليست خطبته قاصرة على هذا البلد أو ذاك رهينة بذلك اليوم أو هذا ولكنها خطبة لكل إنسان في كل زمان ومكان؟ وحقاً أنه من يخطئ في عمله فأوجب الواجبات على كاتب الكتاب أن يتوخى الصواب والسداد والخطب العظيم والطامة الكبرى أن الناس لا يحفلون البتة أصاب كتاب الكتب أم أخطأوا - وجد كتاب الكتب أم فقدوا. نعم قد يكون للكاتب شيء من الأهمية عند طابع الكتب الذي يرجو أن يربح مبلغاً من وراء مؤلفه. فأما عند خلافه فلا. كلا ولا يعبأ الناس من أين جاء ذلك الكاتب وأين يذهب وكيف وصل وكيف يمكن أن تسهل له طرق التقدم والاستمرار. وإنما يراه المجتمع كأنما هو إحدى الشواذ فيتركونه يهيم كالذي لا يدري أين هو.

أنا في أمة تداركها الل ... هـ غريب كصالح في ثمود

وصناعة الكتابة لا شك أكثر الفنون إعجازاً وأعجب ما أبدع الإنسان وحروف أو دين كانت أول عمل أتاه أول أبطال العالم. وليست الكتب في هذه الأوقات إلا من قبيل (حروف) أو دين والكتب حرسكم الله مستودع حكمة الغابرين وفيها تتجلى لنا أرواح العصور الماضية. والحقب الخالية. بعد أن فنيت أجساماً. وأصبحت أوهاماً وأحلاماً. ولا ننكر أن الجيش اللهام. والأسطول الضخم الجسام. والمرافيء والثغور. والمدائن والقصور. أشياء رائعة جليلة. ولكن ماذا مآلها وأين مصيرها؟ وإذا سألت اليوم عن أغا ممنون وبير كليس وينانهم رأيتها عهوداً تبكي وتذكر بعد أن كانت مشاهد تروع وتسر. ولم تنك عينك منها إلا دمنا عافيات. وطلولاً دارسات. ورسوماً داثرات. ومعاهد خربات كأنها صحف باليات تنشرها أيدي السحب السواكب وتطويها أكف الرياح الغرائب إذا نفشتها أقلام الهاطلات. مسحتها أنامل السافيات.

لأيدي البلى فيها سطور مبينة ... عبارتها أن كل بيت سيهجر

ولكن ماذا كان من أمر مؤلفات اليونان؟ هي اليوم عينها بالأمس. لم يغيرها الزمان. ولم ينكرها الحدثان ولا أبلتها العصور ولا أخلقتها الدهور. هذا وقد خلد الله اليونان بين أوراقها وصحفها. وأحياها في سطورها وحروفها. فكأنها لم تمت وإنما طوتها من تلك الكتب صناديق وخزائن. وأصبحت في تلك الأسفار ودائع ودفائن. والكتاب رعاكم الله فؤاد العالم يعي كل ما طرأ عليه من حوادث وآثار. وخواطر وأفكار. ووجدانات ومشاعر وفعال ومآثر ومشاهد ومناظر. فنعم تراث الأوائل للأواخر وتحفة الغابر للحاضر!

أو مازالت الكتب تأتي بالمعجزات كالتي زعموا أن حروف أودين كانت تأتيها؟ بلى حسبها أن فيها للناس دوافع ومحركات. وبواعث ومحرضات. ولن تعدم أحقر قصة واسخفها أثرها الحميد في قارئاتها ذوات الخرق والحمق من بنات الريف تفيدها بعد الزواج في ترتيب بيتها وتنظيمه ثم انظروا ما الذي شاد كنيسة سانت بول. هو كتاب التوراة الذي هو كلمة الرجل موسى الخارجي الطريد راعي الغنم في صحارى الطور! نعم لقد أقامت الكتابة في العالم دولة المعجزات وضمت الماضي والحاضر بأوثق العقد وأوكد الصلات ولاصقت بين الشرق والغرب. وصاقبت بين القطب والقطب. وجمعت بين طنجة وبكين في قرن. وألفت بين نوح ونابليون في زمن وغيرت للناس وجوه الأمور وصور الأعمال وجددت شأناً بعد شأن وحالاً بعد حال.

فانظروا مثلاً إلى التعليم وما أحدثت فيه الكتب من الأثر الجليل. وحسن التغيير والتبديل لقد كانت الجامعات قبل الكتب هي الطريقة الوحيدة لاقتناء العلوم واكتساب المعارف. نشأت الجامعة حين لا كتب تذيع وتنتشر وحين كان الرجل يريد الكتاب فيبذر الضياع والعقد. وكان ذو العلم إذا أراد أن يعطي من علمه لم يجد بداً من جمع الطلاب حوله فيلقيهم العلم فماً لفم فإذا كنت في ذلك الوقت فأحببت أن تعرف من العلم ما يعرفه ابلادرد لم يكن أمامك إلا أن تذهب إلى ابلادرد حتى لقد بلغ قصاد ابلادرد وحجاجه نحواً من ثلاثين ألفاً يحتشدون حوله ليستمعوا فلسفته وإذ وجد بهذا المكان هذا العديد المجمهر من طلاب العلم رآها العلماء الآخرون فرصة يحسن اعتنامها فمن وجد في نفسه الكفاءة لتدريس علم رأى ذلك المكان أحق الأمكنة بأن يذهب إليه فيعرض في سوقه سلعة علمه وهكذا لكما زاد فيه عدد المدرسين زاد عليه الإقبال من الطلاب والمعلمين معاً. وبعد ذلك أصبح المكان لا يحتاج إلا إلى التفات السلطان إليه ليجمع تلك المدارس المتعددة في مدرسة واحدة ثم يمنحها المباني والمير والمنح ويسميها جامعة. وهذا هو في نظري منشأ الجامعات.

ولكن انتشار الكتب وسهولة اجتلابها قلب الأمر قدماً لرأس. وذروة لأس. ومتى أوجدت الطباعة نسخت أمر الجامعات وعلوتها علواً مبيناً. إذ لا يصبح المعلم في حاجة إلى أن يجمع الطلاب حوله ليسمعوا منه وما هو إلا أن تطبع الكتاب حتى يتناوله من بأقاصي الأرض غنيمة بلا عناء ويرتشفه شربة بلا رشاء - هنيئاً مريئاً وهو متكيء على أريكته مرتفق فوق وسادته ليقلب فيه البصر. وينعم في معاينه النظر! ولا شك أن في الخطبة لمزيد خاصة. حتى لقد يحسن أحياناً بكتاب الكتب أن يخطبوا طلابهم أيضاً. وحسبكم ما نحن فيه الآن! وأرى أنه ما دام للمرء لسان فسيبقى للخطابة فضل لا ينكر وقيمة لا تحقر ومنطقة للكلام خلاف منطقة الأقلام. ولكن الحد الفاصل بين المنطقتين لم يعين حتى اللحظة ولم توجد بعد تلك الجامعة التي يفرض معها نفوذ قوة الكتب وتأثير سلطانها. ولا عرف بعد كيف تكون تلك الجامعة وما معالمها وحدودها. فإذا كنا مفكرين في ذلك فمثل هذه الجامعة لن تكون إلا كأقدم جامعة أعني أن يكون من شأنها تعليم القراءة - القراءة في مختلف اللغات والعلوم - أي تعليم مبادئ كل صنف من أصناف الكتب. ولكن مأخذ العلوم ومقتبسها هو الكتب أعينها! ومبلغنا في العلم متوقف بعد على ما نقرأ بأنفسنا مهما صنع لنا المعلمون وأجاد المدرسون نخرج من ذلك على أن خير جامعة في هذه الأوقات هي مجموعة كتب.

وأما من جهة الكنيسة فالتغيير الحادث عليها من نشر الكتب تغيير تام. والكنيسة هي جماعة القسوس والأنبياء ذوي الهداية والإرشاد من يهدون بعظاتهم عباد الله الصراط المستقيم. وقد كان اللسان يوم لا كتابة ولا طباعة هو الأداة الوحيدة لبث النور والهدى. فأما وقد ذاعت الكتب فقد أصبح كل كاتب يلين من قلوب الناس ويأخذ بزمامها نحو الحق فذلك بطريق أمته وأمامها. وطالما قلت أن كتاب الجرائد والمجلات والرسائل والشعر والكتب هم في الحقيقة الكنيسة العاملة الفعالة في الأمم الحاضرة. وليست الكتب خطباً لنا فقط بل هي أيضاً ضرب من ضروب العبادة وبعضها تكون قراءته أحسن صلاة لله وتسبيح. أوليس المعنى الشريف يزفه إليك البليغ في رونق اللفظ المصقول يختال من صفاء السبك وإشراق الديباجة في أكرم حلة وأبهج خلعة فيمتزح بأجزاء النفس ويجري مع الروح حتى:

يظل سامعه لدناً مفاصله ... كأنما فترت أوصاله الكاس

يفعل بالنفس ما تفعله العبادة ولعل الكثيرين لا يعرفون في هذه الأوقات الفاسدة من أساليب العبادة إلا هذا الأسلوب. والشاعر الذي يريك من جمال الزهرة ما كان قبل غائباً عنك أليس كأنه أطلعك على مظهر من مظاهر قوة الله وعظمته وشعبة من ينبوع الجمال الإلهي الشامل وعلى سطر خطه القلم العلوي في صحيفة الكون فبدا مبيناً ناصعاً. جلياً ساطعاً. وكأنما غنى لنا نشيداً قدسياً فصدحنا معاً وإذا كان هذا شأن من يصف زهرة الروض فكيف الذي يتغنى لنا بمكارم أولى العزم ومآثرهم. ومناقب ذوي الفضل ومفاخرهم. مثل هذا كأنما يمس أكبادنا بجذوة من مجامر المحراب. ولعلها أشرف طرق العبادة.

وما الأدب إلا كشف وجلاء لأسرار بدائع الله أو ما يسمونه السر الجلي وقد عرف الأدب فيشتي بأنه البيان المستمر لما يكمن من أسرار الله في الأشياء الأرضية العادية. فإن أسرار الله ما برحت كائنة في كل شيء وما برحت تصادف من هذا الكاتب وذاك من يبرزها في هذه الصورة أو تلك في مقادير مختلفة من الوضوح ودرجات متفاضلة من البيان كل حسب ما وهب الله من الفضل هذا هو الذي ما زال ذووا المواهب اللدنية من الشعراء والكتاب والخطباء والمتكلمين يصنعونه عمداً أو عفواً حتى لقد تجد أن شعر بيرون لا يخلو من تلك الأسرار برغم ما قد امتلأ به من زوابع الحنق وصواعق القذف والانتقام ومعاسف الغل والحقد والضغينة على بني البشر. وهي (الأسرار) أيضاً كائنة في متواضع شعر بارنز ذلك الفلاح الذي كان يختلس القوافي من خلال حركات الفاس والمحراث - صاحب القصائد التي كانها أغاريد القنبرة صاعدة من أديم التراب. إلى أعلى ذوائب السحاب. والحقيقة أن كل غناء صادق هو عبادة كما أن كل شغل صادق هو أيضاً عبادة وما الغناء الصادق لو نظرت إلا صفة للشغل الجيد الحر وتمثيل موسيقى مطرب ومن أنعم النظر رأى هنالك قطعاً جمة من الأناشيد الكنيسية. والصلوات الدينية. طافية على مياه ذلك البحر الخضم الذي يسمونه بحر الأدب: فالكتب أيضاً كنيستنا.

ننتقل الآن إلى تأثير الأدب في الحكومة لقد كان البرلمان قوة عظمى تبرم أمور الرعية وتنقض وتعقد شؤون الأمة وتحل. وتصرف أعنة البلاد وتدبر. وتقطع أحكامها وتقرر. بعد طول الروية والنظر وإدمان التأمل والفكر. وإطالة المناقشة والمحاورة وإدامة المجادلة والمناظرة ولكن انظرو الآن أما ترون أن عمل البرلمان هذا يعمل الآن خارج البرلمان في طول البلاد وعرضها بواسطة المطبوعات من جرائد ومجلات. ورسائل ومؤلفات. وإن كان البرلمان لما يزل باقياً ولقد قال بيرك أن البرلمان ثلاثة أركان ولكن بمجلس مخبري الجرائد ركناً رابعاً أهم من تلك الأركان الثلاثة ولم تك كلمته هذه بالمجاز والاستعارة ولكنها عين الحقيقة. وقد أصبحت خطارتها اليوم أجسم منها يوم قالها بيرك. فالأدب هو برلماننا أيضاً. والديمرقراطية أيدكم الله رهن الطباعة التي هي من نتائج الكتابة. وما هو إلا أن تخترع الكتابة حتى تتبع الديموقراطية فالكتابة تنتج الطباعة الطباعة العامة اليومية كما نرى اليوم فيصبح كل ذي لسان بوقاً يسمع الشعب وقوة وفرعاً من أفرع الحكومة راجح الميزان عند وضع الشرائع والقوانين. وجميع تصاريف السلطة. ولا ينظر إليه من أي طبقة هو وماذا يملك وماذا يلبس. وإنما الأمر الجوهري هو أصاحب لسان. وأخو بيان. فيصغي إليه ويقبل عليه. هذا لا غيره الأمر الأساسي فالأمة محكومة بكل ذي لسان من أبنائها. وهناك الديموقراطية ولا مشاحة. ضف إلى ذلك أنه ما من قوة موجودة في الكون إلا وسيريكها الدهر يوماً ما فعالة معترفاً بسلطانها. فهي لا تزال تعمل في خفاء وتكد تحت غطاء تدافع العوائق والعوائق تدافعها وتصارع الموانع والموانع تصارعها. حتى يجلوها صبح اليقين من غياهب الشبهات. وتطلقها يد النصر من سلاسل العقبات. فتذهب في شعاب الحق كل مذهب. وتضرب في مناصي الاصلاح كل مضرب. ولا تستريح الديموقراطية حتى تبرز للعيان. ويصطلي شمسها كل إنسان.

أو ما يزال في كل شيء دليل على أن خير ما في طاقة امرئ أن يصنع وأعجب الأشياء طرا وأثقلها في النفوس وزناً. وأخفها على الأسماع حسناً. وألطفها في النفوس مكاناً. وأقلها في العقول رجحاناً هو كتاب لله تلك الرقع الواهية المرقشة المتون بلمع المداد الأسود أي جليل من الأمر لم تأت وأي شيء لم تصنع ولن تصنع! ولا غرو فهل كانت تلك الرقع مهما حقر ظاهرها إلا أشرف نتائج الذهن البشري؟ هي فكر الإنسان - الفضيلة الحرة التي بها يصنع كل شيء. وجميع ما يفعل الإنسان ويحدث إنما هو ثوب فكرة. وجسم روحه رأي من آرائه فمدينة لندن هذه بجميع ما بها من منازل ودور. وحلل وقصور وعدد وآلات وكنائس وبيعات وحركة وصخب. وجلبة ولجب - ما كل هذه إلا فكرة أو مليون فكرة ألف شملها نظام فصارت واحدة. ما هي الأروح فكرة جسيمة قد تجسدت في الطوب والحديد والخشب والتراب والدخان والقصور والبرلمانات والمركبات والمصانع وسائر ما تنظر من الأشياء وما من طوبة صنعت إلا وقد أعمل بعض الرجال فكرته كيف يصنعها وما نسميه قطعاً من الورق عليها لمع من الحبر إنما هو أطيب مظهر للفكر البشري. فلا عجب أن يكون أنشطها وأكرمها.

وقد طالما أقر الناس بفضل الكتاب وخطارة شأنهم في العصور الحديثة واستعلائهم على الكنيسة والبرلمان والجامعات وغيرها ولكنه إقرار لم يشفعه عون ولا مساعدة. وعسى أن يكون قد آن للعواطف أن تخلي مكانها للإمدادات المادية. وإذ كنا نقر ونعترف بأن للكتاب على المجتمع النعم الغراء والمنن البيضاء. وإنهم يحدون به في سبيل التقدم ويسمون به مراقي المدينة فما بالنا إذن نتركهم في أسوأ حال من نكد الحياة وجحد العيش. من أمرهم في حيرة عشواء وضلالة عمياء ويقيني أن كل شيء فيه فضيلة قوة خفية فسيحسر يوماً ما لثامه ويميط قناعه ويسفر لنا ناصع الصورة. واضح الغرة بين الإشارة جهير الصوت. فأما إن يلبس أناس زي الادب والكتابة ويقبضون أجرها. ويتضور من الجوع الكاتب الحقيقي صاحب الخير والمنفعة فما ذلك بعدل وإنما جور وعسف. ولكن رد هذه المظلمة لن يكون وآاسفاه. إلا بعد الجهد الجهيد. والزمن المديد! وكم دون ذلك من مشكلات ومعضلات الله وحده المعين على حلها.

فإذا سألتموني ما هو أحسن نظام تجعل عليه حالة الكتاب في العصور الحديثة وما هي خير طريقة لتنظيم شؤونهم واستمرارها تكون على تمام مطابقة لمركزهم ولمركز المجتمع: استقلت من الإجابة على هذ1 السؤال لقصور مبلغ عقلي عنه. وأنها لمعضلة لو تتابعت عليها عدة عقول راجحة لما استطاعت لها حلا تقريبياً فكيف بعقل واحد؟ نعم ولا أحب أن أحد يقدر أن يقول ما هو أحسن نظام لأمر الكتاب فأما إذا سأل سائل ما هو شر نظام وأخبثه قلت هذا الذي هو كائن اليوم - هذا الخلط السائد والفوضي المستحكمة. وما أبعد ما بيننا وبين نظام صالح طيب.

وثمت شيء لا يفوتني ذكره وهو أن هناك غير أمر العطايا المالية أمراً أهم وأعظم إلا وهو إجلال الكتاب وتقديسهم وهو أمر كان معدوماً في القرن الثامن عشر - قرن الجحود والكفر. فأما هبة العطايا وترتيب الرسوم فهي على ضرورتها في بعض الأحيان قلما تقربنا وحدها من النظام المطلوب لحالة الكتاب. وإني لأحد الذين أسأمهم كثرة ما يلغط به من سلطان المال وفضله على كل شيء. بل أني أحد القائلين بأنه لا ضير على الحر أن يكون فقيراً وأنه يجب أن يكون من الفقر محك لأذهان الكتاب ومعيار لقيمهم وأقدارهم. وقد أوجدت الكنيسة النصرانية فرق الشحاذين من رجال أبرار قدرت لهم الشحذ والتسول ورأت الكنيسة أن ذلك من أسباب نشر روح الدين وتأييده. وهل أسست النصرانية نفسها إلا على الفقر والحزن والاضطهاد والصلب وسائر أصناف الغم والمهانة؟ ولنا أن نقول أن من لم يعرف هذه الأشياء فيتعلم منها درسها الذي لا تقدر قيمته فقد فاته من فرص التعليم أثمنها. ومن أسباب التقويم والتثقيف أمتنها: ومن فوائد التربية والتهذيب أكرمها وأحسنها. ولم تكن الشحاذة والحفاء ولبس المسوح وشد الحبال في الأواسط بالشيء الجميل أو الجليل في أعين الناس حتى جمله وشرفه مزاولة الكرام له وإتيان الجلة الأشراف إياه.

وليس موضوع الشحاذة من أغراض هذا الكتاب ولكن من ذا الذي لا يقول بأن كاتباً كجونسون لم ينفعه الفقر وتفده الفاقة؟ ولقد كان مثله جديراً أن يعلم أن المال أو النجاح كيفما كان لم يكن الغرض الذي يسعى ليدركه. وكان ملياً أن يعرف أن فؤاده لم يخل مما قد جبلت عليه سائر القلوب من الكبرياء وحب الذات بجميع شعبه وفروعه. وأنه من أوجب الواجب اقتلاع هذه الأغراس اللئيمة من تربة النفس. ثم اذكروا أن بيرون مع غناه وشرف نسبه كان أقل فائدة وأصغر مأثرة من بارنز مع فقره وضعة نسبه. وما يدرينا أنه إذا وجد في المستقبل البعيد ذلك النظام المنشود كان الفقر لا يزال ركناً من أهم أركانه وكان الكتاب - أبطالنا الروحانيون - لا يزالون طائفة من الشحاذين متاحاً لهم العوز والتكفف حتى يجنوا مافيهما من كرائم الثمرات وينتفعوا بهما انتفاع غيرهم باليسار والغني؟ ولا أنكر أن الطيب الكثير يبلغ بالمال. ولكن ما يبلغ بالفقر أطيب وأكثر: وإنما علينا أن نعرف حد المال فنقف عنده ونعلم أن ما زاد على ذلك فضول حقه الرد والرفض.

هذا ولو فرضنا وجود الامدادات المادية والرسوم المالية فأنى لنا بمعرفة الكاتب الكبير الذي يستحقها؟ أنه لا بد قبل ذلك من أن يجوز الامتحان اللائق. وأرى أن الحياة الأدبية - تلك التي كلها فوضي يتلاطم موجهاً ويتصادم لجها. هي نوع من الامتحان وما زال هناك عنصر من الحق في قولهم أن الجهاد في سبيل الصعود من وهاد الطبقات السفلى إلى ذرى الطبقات العليا هو من الأمور التي لا بد من بقائها لما يترتب عليها من استمرار رقي العالم. إذ أنه ما زال يولد في الطبقات السفلى من ينبغي أن يكون في أرفع المازل وأسمى الطبقات. ولكن كيف ينظم ذلك الجهاد؟ هذه مسألة المسائل فأما أن يترك هذا الجهاد كما هو الآن رهناً بمحاسن الصدف فكلما أفلح فيه كاتب من عصابة خاب الباقون أو نجا واحد من ألف هلك في الطريق بعد التسعمائة تسعة وتسعون. ويترك مثل بارنز يجود بروحه ولا يجود عليه إنسان بدرهم ومثل جونسون يزجى الوقت بين الثؤباء والمطواء في حجرته ينطبق عليه قول القائل:

نلوم على تبلدها قلوباً ... تلاقي من معيشتها جهاداً

إذا ما النار لم تطعم وقوداً ... فأوشك أن تمر بها رماداً

حتى إذا شرع يكتب راح وهو من دفعة العمل وعجلته مع البخس والوكس كأنه في مضمار أو كأن يديه يداً عائم يكافح التيار. ويترك مثل روسو على جمر الأعسار والاحتقار يتململ ويقذف بشرر الكلم اللذاع فيؤجج الثورات الفرنسوية - هذا وايم الله شر النظام أسوءه. فأما النظام إلا حسن فهيهات منه نحن وإني لنا به الآن!

بيد أنه لا شك هناك في أن ذلك النظام آتٍ يحمله المستقبل البعيد في جوفه جنيناً في رحم الزمان الآجل وهذا ما أجرأ على أن أتنبأ به لأنه لا يكاد الناس يرون فضل الشيء حتى يأخذوا في تسهيله وتزجيته. وتنظيمه وترقيته. ثم لا يستريحون أو يروه قد بلغ منتهى ما يستطيعون أن يبلغوا به وقد قلت أنه ليس في سلطات الكنيسة والحكومات بأنواعها سلطة تستحق أن تقارن بدولة الأقلام. وقد قال الوزير بيت وقد سئل أن يكتتب بشيء من المال للشاعر الأكبر بارنز الأدب سيد نفسه يدبر زمامها ويسوسها وليس في حاجة إلى الناس قال المستر سوذى نعم هو سيد نفسه يسوسها ويدبر زمامها. وهو أيضاً سيدك يسوسك ويأخذ بخطام أنفك إذا أنت لم تلتفت إليه وتعرف له قدره!.

وما معظم الضرر بواقع على الكتاب فإنهم أفراد وجزء ضئيل جداً من الجسم الكلي. وفي جهدهم أن يجاهدوا ويكابدوا. حتى يظفروا أو يموتوا فيعذروا. ولكنه يهم المجتمع أن يضع شهبه ومصابيحه في الذرى والغوارب وحيث ترى فتهدي. أم يجعلوها تحت أقدامهم ويبددوا جوهرها الساطع شرراً يستطير في حيث لا مقتبس ولا متنور ويعرضوا أنفسهم بذلك لما قد عساه يحدث من الحريق وقد حدث والنور هداكم الله هو رأس المنافع وأصل الحياة وأول حاجات المجتمع وآخرها. وإن دنيا يتقدمها النور لجديرة أن تظفر في حربها مع الدهر وتكون للإنسان أحسن دنيا. وعندي أن مرض الفوضي الكتابية هو أصل سائر الأمراض فداوه تشف المجتمع من كل داء به وعلة.