مجلة البيان للبرقوقي/العدد 32/الرئيسان

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 32/الرئيسان


مستر لويد جورج رئيس الوزارة الإنكليزية - دولة الرئيس حسين رشدي باشا رئيس الوزارة المصرية

ليس هناك أشد أثراً في نفوس الناس من قراءتهم سير العظماء، وليس أروح للأفئدة من معرفة أسرار النبوغ، وأخلاق العبقريين، لأن كل إنسان، مهماأسف إلى الحضيض الأوهد، ومهما بلغ من الضعف ووناء الهمة، يريد أن يكون بين الناس عظيماً، ويود لو ارتفع إلى مصاف العظماء، فهو أبداً يسأل نفسه لماذا لم يترك له مقعد من مقاعد الإمارة والسلطان ولماذا يظفر غيره بمقاعد الوزارات ومنصات الحكم، وهو أبداً يأبى أن لا يعرف الأسرار الخفية التي هوت به إلى مهاوي الضعة والخمول، وعلت بغيره إلى سماء المجد والعلاء.

ولهذا كان الكلام عن العظماء بليغ الوقع من نفس الإنسان لأن صفات العظماء هي نماذج للناس، وكل رجل يريد أن يجد له نموذجاً جميلاً يحاول أن يحتذي حذوه، ويكمل منه ما يراه من نفسه ناقصاً مبتوراً

ونحن لذلك نرسم للناس هنا صورتين من صور العظماء، ونشرح لهم أسرار شخصيتين من كبار شخصيات العالم اليوم، ونقارن بين رجل يدير دفة دولة من أكبر دول الأرض، ورجل يرأس حكومة على صغرها لا تزال في أعظم خطب من خطوب التاريخ، رجل في أمة كبرى تريد أن تطفئ لهيب الحرب، ورجل يريد أن يبتعد بأمته الصغيرة عن منال الرحى الطاحنة، رجل عظيم في إنجلترة العظيمة، ورجل خطير في مصر الخطيرة، مصر المملكة الصغيرة في نفسها، الكبيرة في أهميتها، مصر - هذا اللولب الذي يحرك عجلة الحرب، والزنبلك الذي يجري لعبةالسياسة.

إن كل رجل في الحياة العمومية شخصيتين، شخصيته الأصلية، والشخصية التي يراها له إعجاب الأصدقاء والمحبين والأشياع والمنافسين، وكذلك شأن مستر لويد جورج، ودولة الرئيس حسين رشدي باشا، فهما لا يزالان عظيمتين في نفسيهما، عظيمين في نفوس الناس، ولعل ذلك يرجع من جهة إلى أنهما قد وئبا الطليعة في أشد مشاكل الحياة العمومية، وفي أعصب الأزمان، وإلى مزاجهما الطبيعي من جهة أخرى ولا نظن أن هناك رجلين يحملان في السياسة قلباً أنصع من قلبيهما، لأنهما في أحرج مواقف السياسة أشد السياسيين إخلاصاً، وأبعدهم عن الإحساس الشخصي، أو الغرض الذاتي، بل إنهما ليعدان الإح الشخصي شر العوامل الرجعية في السياسة، حتى لقد قال مستر لويد جورج يوماً إذا أنا وجدت الإحساس الشخصي يريد أن ينازع ضميري حطمت هذا الإحساس تحت قدمي تحطيماً.

ومستر لويد جورج يميل إلى الحدة في التعبير، والحمية في الأسلوب، وإنك لواجده في حجرته من دار مجلس العموم يحسو الشاي مع البرلمانيين، وهو في أشد لهجات الحديث، وأحر أساليب القول، ولعل المصريين كذلك يتبينون من تصريحات دولة الرئيس رشدي باشا حرارة في الأسلوب، وغرابة في اللهجة والتعبير، لأن رشدي باشا يضع جميع أعصابه في كل كلمة يقولها، وكل كلمة يكتبها، وإنك لتقرأ تصريحاته الخطيرة فكأنك تقرأ صفحة روحه ظاهرة للعين بينة، لأنه لا يستطيع أن يمنع الفيض الجياش المندفع من فؤاده، أو أن يمسك عليه إخلاصه المنحدر، وأنت تعلم أن الرجل المخلص هو دائماً رجل حاد المزاج، حار اللهجة لأن من أكبر أكبر أعراض الإخلاص الحرارة والتأثر، أما الرياء والكذب والخداع فتخفي نفسها دائماً وراء الهدوء والبرود والصمت والسكون.

ومستر لويد جورج رجل صريح، وأكبر أعدائه المواربة والنفاق، وهو أجرأ الناس على قول جميع ما يجول في نفسه، وهذه المزية المحمودة هي من أكبر صفات الرئيس رشدي باشا فهو لا يمتنع عن إبداء رأيه الصريح الخالص في أخشن مواطن السياسة وأعظم المسائل المتعلقة بشؤون الحكومة لأنه يؤثر أن يفقد الدنيا بأسرها على أن يفقد قطعة صغيرة من ضميره، ويرى أن المنصب على خطورته لا يتطلب أن يخسر صاحبه وجدانه من أجله، وهو يعلم أن الحياة - وإن ارتفع الإنسان إلى مقاعد الملوك - لا تستحق أن يعيش الرجل يوماً واحداً وضميره محبوس في أدراج مكتبه مع الخاتم الذي يوقع به على أوراق الحكومة ومكاتباتها.

هذا والرئيسان يميلان إلى التواضع، فقد روى مستر أوكونور العضو البرلماني المشهور عن مستر لويد جورج ما يأتي: هو لا يحب المجتمعات بل يأخذه منها الملل، وتعتريه السآمة، وإذا أراد يوماً أن يتمتع بمساء جميل، جمع إليه أصدقاءه، وصرف أكثر الليل مصغياً أكثر منه محدثاً، وهو يجنح إلى البعد عن أنظار الناس والاختفاء عن عيون الجماهير، وقد شهدته يوماً في أشد الاضطراب إذ رأى جمعاً من الناس ينظرون إليه بشغف عند خروجه من إحدى المآدب، وقد سمعته مرة وقد ألفى نفسه في مطعم صغير بباريس، بنجوة من مرأى الناس ومسمعهم، يبدي دلائل الراحة والرضى أن أصبح بعيداً عن أبصار الجماهير وتحديقاتهم، - وهذه الصفات تنطبق كل الانطباق على الرئيس رشدي، فهو رجل متواضع جناح إلى العزلة، متباعد عن الكلفة والأبهة، وكثيراً ما شوهد يمشي على قدميه، غير محتفل بالمظاهر الرسمية، ولا مكترث بأبهة الرآسة، لأنه يعلم أن تلك الأبهة المصطنعة، والكبرياء المتعمل، والنفخة الجوفاء التي يعمد إليها كثير من الحكام وأهل السلطة ليست إلا دليلاً بيناً على نضوب قلوبهم من نبعة العظمة الحقيقية، لأن العظمة الصادقة ليست في المظهر، ولكنها في الصميم، والعظمة تعلن عن نفسها ولو كانت في الأطمار والأثواب البالية، ولو رأيت نابليون يوماً في ملابس الخادم الذي يشتغل في بيتك لظل يروعك ويكرهك على الوقوف أمامه خاشعاً متهيباً، كما لو رأيته في لباس الإمبراطورية، ولقد كان ابن الخطاب في ردائه وثوبه الشطرنجي أشد روعة وجلالاً مما لو جئت إليه بأفخر بدلة من ديفس براين نعم لأن العظمة تطل عليك من عينيه، وتهجم عليك من وجهه، وتصدمك من كلامه ومشيته، ومن النور المنبعث من كل ناحية من النواحي.

وجملة القول، إذا كان مستر اوكونور عضو البرلمان قد قال عن لويد جورج إنه إذا لم يستطيع هذا الرجل أن ينتصر لإنجلتره وينجح الإنكليز فلن يوجد رجل بعده يستطيع ذلك إلى الأبد، فما أجدرنا أن نقول نحن أيضاً أنه لا يوجد غير الرئيس رشدي باشا، يستطيع أن يسمو في تاريخ العالم الحديث بمكانة مصر والمصريين!!