مجلة البيان للبرقوقي/العدد 35/حديقة أبيقور

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 35/حديقة أبيقور

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 4 - 1917



نعود في هذا العدد فنقتطف ثماراً حلوة من حديقة أبيقور للكاتب الذائع الذكر أناتول فرانس.

فصل الجهل

لا أقول لكم أن الجهل هو الضرورية الأولى للسعادة بل أقول كذلك أنه شيء لا بد منه للوجود، لأننا لو عرفنا كل شيء لما استطعنا أن نتحمل الحياة ساعة واحدة، والباعث على احتمالنا الحياة هو مجرد أكذوبة. والحياة لا تغتذي الأمن عصارة الوهم.

فلو أننا ظفرنا بالحقيقة، وامتلكنا علم السماء، لهوت الحقيقة من بين أيدينا، وإذن لهبطت على العالم فدمرته تدميراً، وتقلص الكون أسرع من تقلص الظل، ولو سقط العلم الإلهي على الأرض لجعلها رماداً يذروه لريح في كل مكان.

لذة الألم

كنت أقرأ منذ أيام كتاباً لشاعر فيلسوف يريد أن يصور مجتمعاً من الناس خلوا من الفرح، متخلصاً من مادة الحزن، بعيداً عن عنصر الألم والقلق، ولكن كيف نحتمل أن نخرج من هذا العالم الذي ترى فيه الناس يتقاتلون ويحبون ويتألمون، فنحب حبهم، ونرضى بالألم معهم - هذا هو الفرح الحقيقي، وتلك هي اللذة الصادقة، لأن اللذة لا تزال في صميم الألم، كما يكون بلسم الجراح في جوف الشجرة الفينانة الكريمة.

إن قراءتي هذا الكتاب قد جعلتني أرتضي هذه الحياة الحزينة السوداء الأليمة. وأغرتني على الرضى بالناس والشعور بالرحمة لهم، بل قد أحسن إلي هذا الكتاب إذ حببني إلى الحقيقة وحضني من الوهم، فقد دلنا من مجتمعه الخالي من الشرور والآلام على أن أهله السعداء لا يشبهوننا وإنه من الحماقة الكبرى أن نفارق أرديتنا لندخل في أرديتهم، ونخف من حياتنا لنستبدلها بحياتهم.

لعمري ما أسوأها من سعادة،. . إننا إذا تجردنا من المشاعر تجردنا من الفن، وإذن كيف يكون من أمرهم. أنهم إذ ذاك لا يتذوقون الشعر الرهيب الفخم الرائع الذي يثير الخوف والبغض والحب، ولا الشعر الفرح البهيج الذي يضحك من شرور الناس، ويهزأ بنقائصهم، ويداعب آلامهم.

إن أهل ذلك المجتمع الخيالي عمى البصائر عن جلال هذا الشعر الذي لا يزال المادة المقدسة في الأرض، والعناصر الإلهي في العالم، وهذا المجتمع ليس لديه فرجيل وصحابة، وإنما لديه كل مخترعات العالم ومبتكراته، ولكن من يدري لعل بيتاً واحداً جميلاً من الشعر قد أحسن إلى العالم أكثر من كل علم المعادن ومستخرجاته.

يا له من تقدم. . . ويا لها من سعادة. هذا المجتمع المؤلف من المهندسين والمخترعين لا يحمل شيئاً من العواطف، ولا الشعر، ولا الحب، وا أسفاه. . . وكيف يعرفون الحب، إذا كانوا في ظلال السعادة يعيشون. إن الحب لا يزهر ولا ينمو إلا في كنف الألم والحزن. ثم ما هي أقسام العشاق والمحبين ونجواهم لحبائبهم إلا أن يقال عنها صرخات حزن، وصيحات عذاب فلقد صرخ شاعر يوماً وهو في ثورة من ثورات الحب وهو إلى جانب حبيبته لو كان في مكاني هذا إله من الآلهة لأصبح شقياً حزيناً معذباً. إن الآلهة يا فاتنتي لا تتألم، ولا تستطيع أن تموت لأجلك. .!.

إذن فمغفرة للحزن، ورضي بالألم، وصفحاً عن العذاب ولنؤمن بأنه من المستحيل أن تكون هناك سعادة هي أكبر من التي نملكها في هذه الحياة الإنسانية، الحلوة المريرة، الحسناء الدميمة، الخيالية الحقيقية، هذه الحياة التي تحوي كل شيء، وتضم كل الفروق والمتناقضات - هذه هي حديقتنا، ففيها يجب أن نعيش، وفيهل يجب أن نزرع ونحرث!