مجلة البيان للبرقوقي/العدد 35/صور هزلية

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 35/صور هزلية

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 4 - 1917



من أخلاق الناس

عمتي

جئت أصف لكم الآن غريبة من غرائب الدنيا لعلها تعد الثامنة بعد العجائب السبع، ولكن تمتاز عنها جميعاً بأنها عجيبة حية متنقلة، تأكل وتشرب، وأما الأهرام وأخواتها فعجائب صامتة ميتة جامدة، لا تأكل وإنما تحطم أسنان الزمن عندما يريد أن يعضها، ولا تشرب اللهم إلا من أفواه السماء، ولكنه لا يدخل في فمها، وإنما يدهن ظاهر جسمها دهناً، ولعل الملك المتولي شؤون الرعد في السماء، والقربي الخازن للماء المقدس الذي تغتسل منه الملائكة، عندما يصدر إليه الأمر بترك حبال القرب ليهبط ماؤها على أهل الأرض، يكتب على القرب الواقعة على الأهرام وأمثالها يستعمل من الظاهر!.

وأنا أخشى الآن أن يقع هذا العدد في يد كاتب من كتبة الفنادق فيدلي بأمر هذه العجيبة إلى النزلاء والسائحين والمنحدرين من العالم الجديد للفرجة فلا نلبث أن نرى بيتنا متحفاً من المتاحف، وأخشى أيضاً أن تصدق الحكومة فتكبس بيتنا بحثاً عن هذه الغريبة الطريفة، لكي تضمها إلى آثار مصر المعروفة.

إن عمتي، أو العجيبة الثامنة، تعيش الآن، على التقدير الجغرافي في المنطقة المعتدلة الشمالية، ولكنك لو وضعت مقياس فارنهايت عند قلبها، تجمد الزئبق في الحال لأن لها فؤاداً جليدياً مقتطعاً من ثلوج جرينلاند أو الأرض الخضراء فظاهرها يشاركنا في حرارة المنطقة المعتدلة ولكن باطنها مع الأسكيمو في برودة القطب، ولهذا أعد نفسي أكبر من الكبتن سكوت، وأعظم من الكولونل بيري، لأنني استطعت أن أصل إلى فؤادها، وأغرب ما في سياحتي القطبية أنني استطعت أن أتحمل العيش في جو بارد مثل هذا، لأنها تأبى دائماً إلا أن أعيش في قلبها!!

وأشد ما تظهر برودة فؤادها في معاملتها للأطفال، ولا أظن أن أجن أطفال الدنيا كلها يستطع أن يبقى على جنونه ساعة واحدة إذا جئت به إليها، وهي تكلم الرضيع الذي لم يحل الحول على تاريخ هبوطه إلى العالم كما تكلم رجلاً في الأربعين تهديداً ووعيداً وإنذاراً، وكثيراً ما سمعتها تخاطب طفلة لا تتجاوز سنها الأشهر في وجوب النظافة بكلمات وعبارات يدق علي أن افهم نصفها، ولا يكون من الطفلة إذ ذاك إلا الصمت من الدهشة والذهول، ولكنها تسمي هذا الصمت من الأطفال إدراكاً وفهماً، فتنظر إلينا وعلى وجهها كل هلائم الإنتصار والإبتهاج، ولا أظن أن أحداً منا نجا وهو في طفولته من أسلحتها وهي الششم والفلفل والويل للطفل الذي يمرض في بيتنا، إذا لم ينته في توه وساعته عن مرضه، ويفارق الفراش في يومه، وإلا رأى من أساليب مداواتها كل ضروب القسوة والعذاب، وكثيراً ما يخفي الأطفال مرضهم، ويذهبون إلى المدرسة في الصباح، وهم أحوج إلى النوم في السرير خشيةً من البعبع وأنا لا أدري لماذا لا تأخذها وزارة المعارف فتجعلها مفتشة في الكتاتيب، فننقذ سيدنا من المتاعب التي يعانيها من أولاد كتابه، وكثيراً ما فكرت في أن أفتح لها مدرسة، وأقيمها معلماً ولكني خشيت من قضايا الجنح التي قد يرفعها علينا بعض الآباء من جراء قسوتها في تربية أولادهم، ولعل الباعث الأكبر على هذا النظام الإسبارطي في التعليم هو أنه لا بلد لها ولا بنين، وقد رزقت مع ذلك طفلاً منذ ثلاثين عاماً أو تزيد، ولكنه أحسن إلى نفسه بالموت قبل عمره، لأنه تنبأ بلذة الشطة وآلام الششم والقطرة، وهي منذ وفاة طفلها تعتقد أن لها آثاراً عن كل طفل، وترة عند كل والدة، ولعلها تود لو يخرج الناس كباراً من بطون أماتهم حتى ينسى العالم لفظة أطفال فتزول من ذاكرتها ذكرى طفلها.

وهي أشد الناس كراهية للحب وتندهش كل الدهشة أن ترى في العالم شيئاً يسمى غناء وموسيقى وخمراً. وأغرب ما أقصه من أمر كراهيتها للحب إنا نسكن في شارع شعري ساكن هو خير ما يرتاده العاشقون.

وكثيراً ما يختلف إليه الشباب وفتياتهم ليذوقوا من ثمرة الحب. وإنها لتبصر بهم يمشون في رفق وهدوء فلا تني تأخذ في اللقاء محاضرة طويلة تريد بها أن تثبت أن الحب لا يوجد في الدنيا وتحشد في سبيل ذلك حججاً وبراهين وتختلق حوادث وقططاً وتلفق كلمات وأموراً لا يستطيع أن يقف أمامها الفرد دي موسيه رئيس نقابة العشاق في العالم كله.

وعمتي تدعي الخبرة الكبرى بالطب وترجع نسبها إلى أبقراط، ثم تقول أن الله لم يخلق إلى الآن طبيباً يستطيع الإنسان أن يسلم إليه حياته ولو في أتفه الأمراض. ولا تتكلم عن الأطباء إلا كما تتكلم عن القتلة والجزارين وقطاع الطرق وهي لا تضن على الناس بنصائحها الطبية وتتنقل في منازل أقاربنا وأصدقائنا مدلية بالوصفات واللزقات والدهانات والمراهم وكل ما في جعبتها من أسلحة الموت، ثم تحرض الناس على أن لا يسمحوا لطبيب أن يدخل دورها وأن يكتفوا باتباع آرائها في علاج مرضاهم ولكن المرض لا يلبث أن يشتد بالعليل بفضل أدويتها ولا يجد إذ ذاك أهله مناصاً من استدعاء الطبيب وتكون عمتي بذلك قد أضافت عشر فوزيتات إلى حسابه قبل مجيئه. وأنا أنصح للأطباء أن يرشوها بمقدار من المئة من مجموع المبالغ التي يكسبونها بواسطتها، ولكني أخشى أن يزداد بهذه الطريقة عدد الوفيات في السنة فيكسب معهم الحانوتية والفقهاء والمكفنون والتربية وزملاؤهم.

وهي أجهل ما تكون بالقانون، ومع ذلك تدعي أنها لو امتنحت في الليسانس لكانت الأولى في الإمتحان، وهي كثيراً ما تقسم أن سعد زغلول لا يكسب منها قضية لو كانت هي التي ترافع إزاءه ولكنها بعد هذا أشد الناس خوفاً وفزعاً من مواقف القضاء والتحقيق ولشد ما ترتعد فرائص هذه الأستاذة القانونية لأبسط سؤال يلقى إليها في ساعة المحكمة لو دعيت إلى الشهادة وقد حدث أن وقعت سرقة في بيتنا إذ ضاع لأحد الساكنين في طابق من طباق منزلنا ثوب فألقى الشبهة على الخادم ورفع الأمر إلى الشرطة فأنفذت جاويشاً لتحقيق القضية فجاء الرجل وسألها شهادتها مع بقية الشهود فكان من تلعثمها ورعدتها واضطرابها ما خفت أن يظنه الجاويش دليلاً على أنها السارقة!!!