مجلة البيان للبرقوقي/العدد 36/إيمان الملحدين

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 36/إيمان الملحدين

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 5 - 1917


خاتمة الشاعر هايني

لا يزال العالم حافلاً بالملاحدة، ولكنهم لا يزالون منتشرين في الأرض متفرقين في رحاب الدنيا، لا تجمعهم جامعة، ولا تؤلف بينهم وحدة، ولا يحتويهم معبد يعبدون فيه الصورة الجديدة التي يريدون أن يضعوها إزاء صور السماء، ولو اجتمعوا فرقة واحدة، والتأموا طائفة منظمة، لشهدت الأرض مرة أخرى حرباً مخيفة من حروب الأديان، ولحشد أهل الملل التي تحمل ألوية الأنبياء، وتعيش على شعائر السماء، كل قوة لقتالهم، وجاؤوا بكل سلاح لإبادتهم، ولكن المؤمنين والمتدينين يعتصمون بالصبر، ويرتضون وجود الملاحدة بينهم، لأنهم يعلمون أن الملاحدة لا يستطيعون لقلتهم ضراً، ولا يحدثون خطراً ولا ويلاً، وهم لا يكادون يظهرون في الجماعات إلا فرادى. ولا يخرجون إلا متباعدين، وقد تلتقي أنت في الطريق برج منهم وأنت تعلم في نفسك أن الإيمان راسخ في فؤادك وأن الدين هو قبلتك، فتشعر بشيء من الدهشة والفكاهة والروح عند رؤيته، وتروح تجيل البصر في هذا المخلوق الصغير الذي يهزأ بعشرة آلاف سنة من الدين، ويتطاول هذا القزم الضعيف، الذي لا يكاد يبلغ في طوله ركبة أحقر عفريت من عفاريت العالم الأسفل، إلى عرش الملكوت الأعلى، وتندهش أن ترى هذه الآنية الفخارية التي تتحطم من أقل عارض من عوارض الجو، تريد أن تنسى الصانع العظيم الذي أخرجها قالباً جميلاً من الطين، وقد يدخل عليك السرور كله أن تستمع إلى حديث هذا المتمرد الفار من الخدمة الإجبارية لله، هذا الجندي الضعيف الذي يريد أن يعصي أوامر القائد الجبار الذي يحرك خطواته في معركة الحياة، وإنك لتصغي إليه فتحس الإيمان الذي في فؤادك يريد أن يغضب ويخرج لمعارضته ومجادلته، ولكنك تعود فتشعر بأن هذا الملحد الذي أمامك خليق بالرحمة، قمين بالرثاء، لأنه في مرحلة قاسية من مراحل الفكر لا يستطيع أن يخرجه منها إلا الله نفسه، ولا يستطيع أحد إقناعه إلا الذي أرسل في فؤاده من قبل فكرة إنكاره، فتتولى عنه، وأنت حزين النفس لأنك لم تستطع أن تربط السلك الكهربائي بين فؤاده وفؤادك، حتى تصل إليه حرارة إيمانك، ونور يقينك، وأغرب ما في الإلحاد أنه لا يقع إلا عند أهل الفكر، ولا تجد جاهلاً في الملاحدة، لأن الجاهل لا يستطيع أن يناقش الإحساس العميق المؤمن الذي يجر في فؤاده، وحسبه أن يشعر بروح الله فيه وهو لا يريد أن يكذب الملايين الكبرى التي سبقته وعرفت منشىء الأكوان قبله، ولكن المفكر الملحد ليس إلا رجلاً مزهواً بنفسه، معجباً بفكره، مغتراً بقوته، وهو يأبى إلا أن يعيش على المنطق، ولا يقبل أي فكرة أو إحساس إلا إذا جاءت في قطار العقل، وإكسبريس المرئيات، كأن هذا العقل هو الذي اخترع نفسه، وكأنه هو الذي وضع الكواكب، وكأنه هو الذي سن القوانين التي يكره على الخضوع لها، وكأن هذا العقل هو الذي ينطفئ بنفسه عندما تأتي ساعة الخمود الأبدي على أن هذا الزهو الذي يعيش إلى جانب الإلحاد ليس بعد إلا زهواً إنسانياً، وهو لذلك قليل العمر، متغير اللون، ضعيف الأعصاب، مريض القلب، ولا يلبث أن يسقط مغشياً عليه عندما تريد الطبيعة أن تداعبه، ولشد ما يفرح المؤمنون عندما يرون ملحداً مؤمناً، لأنهم يعلمون إذ ذاك أن الطبيعة قد انتقمت لنفسها ولهم، والرجل الملحد ينتهي دائماً برجل أعمق إيماناً من الذي عاش دهره في الحياة مؤمناً، وإيمان الملحدين لا يزال إيماناً قوياً مؤيداً بالإعتراف. قائماً على الإذعان والإستسلام أشبه بإيمن الرجل بقوة عده الذي حطمه في المعركة تحطيماً، ونكل به نكالاً أليماً، ولكنه وا أسفاه إيمان متأخر، كثيراً ما يجيء بعد الأوان، لأنه أغلب ما يكون على فراش المرض، أو في اللحظة التي يتشاجر فيها الأحياء والملائكة على جثته فيظفر بها مندوبهم، وهو صديقنا عزرائيل الكريم وينهزم الأحياء باكين معولين.

كان هنريك هايني، الشاعر الألماني الكبير. ملحداً في رأس الملحدين، وكان زعيم الشعراء المزاحين الماجنين، لأنه يأبى إلا أن يرسل النكتة ولو في أحرج مواقف الحزن والألم - وفي تلك اللحظة التي يجهد الإنسان ذاكرته الذابلة المضمحلة لتلاوة اسم من أسماء الله، ويحاول بكل قوى الدرجة الأخيرة من الصحو واليقظة أن يستعيد آية من آيات الكتب السماوية - كان هايني لا يزال على شفتيه غمغمة نكتة حلوة من نكته، وهذا خلق غريب يكاد يكون لا مثيل له في تاريخ المحتضرين، ولكن هذا الملحد المزاح الذي لم يشأ أن تفلت السماء من مزاحه ودعابته، هذا الشاعر المتهكم بكل من حوله، الهزاء بكل صفة من صفان الحياة - الضاحك من أعدائه، الساخر من أصدقائه عاد آخر أيامه فأذعن إلى القوة العظيمة التي تركته في سريره لا يبرحه - وذهبت بنور عينيه، وأرسلت المرض يأكل سلسلة فقاره، فأصبح مؤمناً بها، منهزماً إزاء جبروتها، وأغرب ما في الطبيعة المزاحية التي خلقتها معه، واكتفت منه بالإعتراف بها والإنقياد لسلطانها، وتركته يمزح ما شاء وهو مريض ويمجن ما أحب، وهو في الساعة الأخيرة من حياته، ولهذا كان إيمانه لا يزال ممزوجاً بالنكتة، مختلطاً بالدعابة، ولكن حسبه أنه إيمان فرح بهيج، بعد أن كان كافراً موحشاً قاسي المجون رهيب المظهر.

وتفصيل قصة هذا الشاعر أنه أقام في باريس ستة عشر عاماً من سنة 1831 إلى سنة 1847. وكان يعيش أبهج العيش، ويمرح في الحياة الباريسية. محبوباً مصفقاً له، معجباً به، يكتب تهكماته الحلوة، ويضع شعره العذب الجميل، ولكن ما كاد يحل عام 1847 حتى بدأ يشعر بدنو مرض السلسلة الفقارية، وقد لبث بعد ذلك سبعة أعوام محبوساً في سريره، سجيناً في فراشه من أثر هذا المرض المخيف، وآخر مرة خرج فيها من البت كانت في مايو عام 1848. وقد وصف ذلك فقال جعلت أجر نفسي بعد لأيٍ وجهد إلى متحف اللوفر، وقد كدت أسقط عياءً وضعفاً عندما دخلت القاعة الفخيمة حيث تجلس الآهة الجمال العزيزة، سيدة ميلو المحبوبة، فوق عرشها، فسقت نفسي وحملت ساقي إليها فجلست عند قدميها، وانطلقت أبكي بكاء مراسخينا يشفق الصخر منه، فنظرت إلي الإلاهة في رحمة ورثاء ورفق. ولكن في يأس وحيرة واضطراب في الوقت نفسه، ولعلها كانت تريد أن تقول لي ألا ترى أيها الإنسان المعذب أنني ليس لي ذراعان، فأحتضنك فيهما، ولهذا لا أستطيع أن أمد إليك يد العون! ومنذ ذلك التاريخ لم يخرج هذا الشاعر الجميل من بيته، في الطابق الأعلى من منزل باريسي، وأصبح هذا الرجل الجائع الذهن المتطلب معرفة علم الكون محبوساً في حجرة صغيرة، بعيداً عن مراقبة الحياة، رهين محبسين مظلمين، إذ كان مرضه العصبي قد عدا إلى عينيه فذهب بلمعة يمناهما، وكان يرفع غطاء الأخرى بإصبعه ليرى العالم الذي حوله. وكان الأفيون هو النعمة الوحيدة التي ترسل إليه النوم، وتبعث إليه طائف الراحة والسكون. ولكن الغريب من أمره أن مرضه لم يستطع أن يؤثر على نزعته الشعرية، أو يعدو على شيءٍ من بهجة روحه.

قال يصف نفسه إذ ذاك هل أنا حقاً أعيش، وهل أنا موجود. . .، لقد ذبل جسمي وتلاشى، حتى لست الآن إلا صوتاً. وفراشي قد أعاد إلي ذكري قبر الساحر مرلين، الواقع في غابة بريتانيا تحت السروات الباسقات التي تحلق رؤوسها في الهواء كلهب خضراء متطولة في بهرة السموات. وا حزناه. يا صديقي مرلين إنني أحسدك على هذه الأشجار الناضرة، والنسيم البليل الذي يهز أغصانها وأفانينها، إذ لا شجرة ناضرة تنثني حول قبري أو وسادتي التي أضطجع فوقها في باريس، وإذ لا أسمع أبداً غير دحرجة العجلات ومطارق السنديان، وخفقات المعازف والعيدان، قبر ولا سكون، وضريح ولا راحة، وموت ولا مزايا الموتى وحقوقهم - ومنذ زمن طويل جاؤوا فأخذوا القياس لإعداد أكفاني وصندوقي، وتدوين اسمي في دفتر الوفيات. ولكني أموت بكل بطء، حتى أصبحت عملية موتي مملة لي ولأصدقائي ولكن صبراً يا صحابتي. كل شيء سينتهي، وستجدون يوماً الخميلة التي طالما لعبت أمامكم فيها عروسة مزاحي قد أقفلت أبوابها!.

وهنا بدأت ثورة الإيمان تهب في فؤاده، ولعل ذلك راجع إلى شدة وطأة المرض، لأن كل لذعة من لذعات الألم تغسل قطعة من الإلحاد عن قلبه، وكل عضة من عضات العذاب تأخذ بين أسنانها جزءاً من طبقات الشك، وكذلك استطاعت الآلام أن تهضم كل فؤاده، ثم خلق الله له فؤاداً غيره، ولكنه أراد إلا أن يكون قليل المقام في جثمانه، فلم يلبث أن أخذه إلى جواره.

قال هايني: - ماذا يفيدني من أن يتوج الشباب المفتونون بحبي، والعذارى المعجبات بي تمثالي الرخامى بأكاليل الغار، وتيجان الزهر، وأنا أرى يد الممرضة العجوز المهزولة تطرد الذباب عن وجهي وعيني، وماذا يغني عني أن تكون جميع ورود شيراز تعبق شذاها، وترسل أنفاسها وبخورها حولي. لا أشم بخوراً ولا عبقاً، غير رائحة المناشف الدافئة الموضوعة عن رأسي. أواه. . إن تهكم الله يحطمني: إن مؤلف الكون العظيم. أريستفانيس السماء قد أجمع نيته وحشد كل قوته على أن يفضح أريستفانيس الأرضي الصغير. إن أحسن مداعباتي وأبدع أمازيحي لم تكن إلا تجارب صغيرة لتعلم فن التنكيت، إذا هي قورنت بنكته ومداعباته، أنا دونه في صناعة المزاح وصغير بجانبه في فن السخرية!!.

فماذا يقول المؤمنون عن هذا المؤمن الجديد الذي يعترف بضعفه واستخذائه ويقر بإيمانه بوجود الله وقوته، ولكنه مع ذلك يأبى إلا أن يكون مزاحاً حتى مع خالقه، ولكن الله أعرف بفؤاده وسلامة مزاحه مع الناس، وقد نزع عنه روح الإلحاد وأبقى فيه على روح المجون، ثم ماذا هم قائلون إذا قرأوا الشذرة الآتية التي جعل يصف فيها اعتقاده في وجود الآخرة.

قال يخاطب قراءه عزاء يا قرائي وسلوى، فسنلتقي ثانيةً في عالم أحسن من هذا. هناك حيث في نيتي أن أكتب لكم كتباً أبدع مما كتبت - إني آخذها قضية مسلمة، إن صحتي ستتحسن هناك وإن العم سويدنبرج لم يخدعنا. إذا أنبأنا بكل توكيد وثقة أننا سنسترسل في علمنا القديم الذي كنا نزاوله في ذلك العالم الآخر كما كنا نفعل هنا، حذوك النعل بالنعل، وإننا سنحتفظ هناك بشخصياتنا، فلا تتغير ولا تتبدل، وإن الموت لن يحيل شيئاً من نظامنا. إن سويدنبرج رجل شريف، طيب القلب، ولا يسعنا إلا أن نصدق كل ما قاله عن العالم الآخر الذي أبصر فيه بعيني رأسه الأشخاص الذين لعبوا دوراً كبيراً في الأرض، وقد قال عنهم أن أكثرهم ظل على حاله لم يتغير، ولكنهم أصبحوا هناك مودة قديمة وأصبحت طبعتهم متأخرة. فمثلاً الدكتور مارتن لوتر ظل متمسكاً بعقيدته التي لبث ثلاثمائة سنة يكتب عنها كل يوم الحجج والبراهين، ولكن كثيرين منهم لم ينجحوا ولم يبقوا على شخصيتهم، بل تهذبوا كثيراً وتحسنوا، وتطوروا إلى الشر أو الخير، ففريق منهم كانوا في الأرض أبطالاً وصناديد وقديسين فتدهوروا هناك فصاروا فجرة فسدة سفهاء لا يصلحون لشيء، وفريق آخر من الذين كانوا هنا أقوياء الإرادة، صارمي العزيمة، عادوا فأصبحوا الآن أشراراً مجرمين، وبالعكس صارت بنات لوط على ممر الزمن من بنات الفضيلة وعدت في العالم الآخر الأمثلة العليا للعفاف والحشمة والأدب.

وكان هايني في أيام شبيبته لا يترك صديقاً أو عدواً إلا سخر منه وأخذه بمجونه ولكنه عاد فرأى خطأه، وتبين سوء ما فعل، فكتب قطعة تعد أحسن وصف للدنيا، فقال. . وا أسفاه الحق أقول لكم لا ينبغي أن يسئ إنسان إلى أحد في هذا العالم. كل منا مريض في هذا المحجر الصحي، ولكل منا علته في هذا المستشفى. ولقد ذكرتني تهكمات الكتاب بشجار غريب وقع في مستشفى كراكاو، وكنت أنا شاهده. وذلك أن المرضى انطلقوا يتهكمون بعضهم ببعض ويتباهلون ويتعايبون بأمراضهم وعللهم، فسمعت المسلول الذي أكل السل رئته وهضم لهاته يسخر من آخر أهزله الإستسقاء، وهذا ينكت على مريض بالسرطان، وصاحب السرطان يعيب على صاحب الجذام. حتى وثب أخيراً مريض محموم في أشد صرعات الحمى طافراً من سريره فمزق كل الضمادات المقطعة الحاجبة جروح رفاقه وعللهم، فبدت السوءات والشناعات وكل أنواع الدمامة والقبح!!. . . .