مجلة البيان للبرقوقي/العدد 36/الآداب وتطورها

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 36/الآداب وتطورها

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 5 - 1917



ـ 2 ـ

الأثرة الذاتية وحب الغير

جبلت الكائنات الحية على الأثرة وحب النفس فالنبات يمد جذوره في الأرض إلى مسافات بعيدة ويخص نفسه بأوفر نصيب من الغذاء الضروري لحياته ويمانع غيره من أن يقتات بجانبه أو يعيش معه في بقعة واحدة، وإذ كانت المادة المغذية غير كافية للاثنين حاول كل منهما قتل الآخر، وتقتتل الحيوانات فيما بينها طلباً للحياة فتعدوا الضاريات على آكلة النباتات لتقتات بلحومها فتدافع هذه عن نفسها، وينشب بينهما القتال أو تطلق لساقيها العنان، وتتناجز الضاريات فيما بينهما للإنفراد بالبقاء، وكذلك تتناطح آكلة النباتات لتستأثر بالأعشاب وورق الأشجار.

والإنسان مع كل هذه الكائنات في حرب عوان لا يفتر عن مقاتلها ليأمن شر بعضها وليستخدم البعض الآخر في منفعته، وهو مع بني جنسه في عرك مستمر أيضاً ليستقل بخيرات الأرض ونعيمها.

فالأثرة الذاتية أساس كل حياة والعالم قائم على جهاد وقتال، القوي فيه فائز والضعيف مخزوم، وإذا لم يكن بد من أن يكون بعض الناس آكلاً والبعض الآخر مأكولاً فلتكن من الصنف الأول لا الثاني إن أمكن.

ومحبة الغير وهي عاطفة طبيعية في النفس فرع من محبة الإنسان لذاته. فالمرء لا يريد لغيره الخير إلا إذا ناله أو ظن أن يناله خير من جراء ما أصاب هذا الغير. ولا يحافظ المتوحش على حياة أخيه المتوحش إلا لأن أخاه يذب عنه ويعينه على أعدائه.

ولا يقف الإنسان إزاء مصائب غيره جامداً بل يحزن ويتألم، إن وقع نظره على جريح أو مبتور اقشعر بدنه وانتفضت أطرافه، ولو رأى مريضاً توجع له ورثى لحاله ويفزع من أخبار الموت ويجزع منها وذلك لأنه يتمثل نفسه في الحالة التي رأى غيره فيها فتطير نفسه شعاعاً من الألم وتنتابه هذه الحركة القسرية المسماة بالقشعريرة والتي كانت في الأصل حركة اختيارية يراد بها درء الألم. ألا تجد أنك لو رأيت إنساناً مبتور أحد الأعضاء سرت القشعريرة في العضو المقابل له من جسمك وربما تلمست هذا العض لتطمئن عليه. وأشد ما يكون فزع الإنسان من ذكر الموت حين مرضه وأيام الأوبئة المعدية.

ولو مر بك فقير يقطر ذلاً ويتساقط جوعاً انقبض صدرك وانفطر قلبك ومددت يدك إليه بالصدقة لترد إليه مسغبته وفي الحقيقة لتدفع عن نفسك الألم الذي شعرت به حينما رأيته ووضعت نفسك مكانه فمثل الصدقة كمثل القشعريرة وانقباض اليد حينما نشعر بقرب النار منها تنزل إلى القلب الراحة والسكينة وتبعد عنه الألم. والمتصدق في الواقع ونفس الأمر إنما يحسن إلى نفسه من قبل أن يحسن إلى غيره.

والفقير أبر الناس بالفقراء وأشفقهم عليهم ومعظم دخل الشحاذين من جيوب المعوزين الذين يتوقعون الفاقة من وقت لآخر وذلك لأنهم واقفون على حافة العدم ومهددون بالفقر فكل مظهر من مظاهر الفاقة يخيفهم ويهوي بمخيلتهم إلى جحيم الحاجة وسرعان ما يجدون أنفسهم مكان الشحاذ يستعطون، فيمدون أيديهم بالصدقة ليبعدوا عن أنفسهم هذا الخيال المفزع ولا يمكن أن يقال أن منظر المرض أو الفقر في حد ذاته مؤلم فكثيراً ما يمرض بعض الناس به ولا تجد الشفقة إلى قلوبهم سبيلاً ولا يتأثر الإنسان من التمثيل مهما كان متقناً والممثلون بارعين في محاكاة الطبيعة إلا إذا نسي الإنسان نفسه وظن التمثيل حقيقة وامتزج بأبطال الرواية. أما إذا أقام بمعزل ورجع إلى نفسه وأدرك أن ما يمر به محض تمثيل سخر منه وضحك في المواقع التي تستوجب البكاء.

يجمع الإنسان بين جوانحه كثيراً من المتناقضات فبينما نجده شغوفاً بالعدل وحب الغير إذ تجده يحب نفسه حباً جماً ويؤثر مصالحه على مصالح غيره وتعترك في نفسه أميال شتى يرجع بعضها إلى حب الذات ويرجع البعض الآخر إلى محبة الغير. والإنسان بين هذين الفريقين مع الغالب فتارةً تفوز الأثرة الذاتية وطور ينتصر العدل الذي هو محبة الغير. وفوز أحد الجانبين على الآخر متوقف على مزاج الإنسان وبنيته وما ورثه عن أسلافه من القوة والضعف والشدة واللين وعلى ما يحيط به من الظروف والأحوال. وهذا العراك في أغلب الأحايين فاتر لحسن الحظ ولا يدوم طويلاً.

غير أنه قد تصيب الإنسان في بعض الأحايين أزمة شديدة تتماثل فيها الأميال وتتساوى القوى المعارضة ويحار في الأمر فلا يدري ماذا يفعل ولا لأي الجانبين ينحاز.

أمر المؤمنين عمر بن الخطاب بجلد ابنه ولكن هل تظن أن هذا الأمر كان سهلاً عليه! وهل صمم عليه من أول وهلة حينما ظهرت له إدانة ابنه!

إن دون الوصول إلى هذا الحل عراكاً شديداً بين حب الإبن وحب العدل وحاد للغاية، لا يصبر عليه إلا كل بطل شجاع كعمر بن الخطاب والفضل في فض الخلاف وترجيح إحدى الكفتين راجع إلى يقين عمر وإيمانه العظيم وإيثار الآخرة على الدنيا واعتقاده بأن العقاب يطهر النفس ويشفع في غفران الذب وبعبارة أخرى خوفه من الله سبحانه وتعالى وعذابه وإلى حبه لابنه وتوخيه الأنفع والأصلح بأن اختار له نعيم الآخرة لأنه أعظم وأبقى.

وحب الإنسان لابنه شكل من أشكال حب الذات بل هو بعينه إلا أنه أوسع وأعم وكذا الخوف من الله نوع من أنواع الحب الذاتي. فالحب الذاتي هو الذي هيج عواطف عمر وأثار أشجانه وهو الذي هدأ روعه وأنزل السكينة وأملى عليه الواجب.

وهو الذي حمل السمو أل على الوفاء بعهده وتضحية ابنه وإيثار الثكل على أن يشوه سمعته ويسلم شرفه ويسلم سلاح امرئ القيس لأعدائه.

وهو الذي يحمل الجندي على الإستماتة في الدفاع عن بلده والاحتفاظ بترث أسلافه. إن منشأ حب الوطن آتٍ من تمتع الإنسان بخيرات بلاده ونعيمها - ووجود مصالحه فيها فهو إن دافع عنها فإنما يدافع عن نفسه وأهله وقوته وماله.

وكلما كانت المصالح الشخصية أكثر التئاماً مع المصالح العمومية كانت الأمة أقدر على الدفاع عن نفسها والأفراد أشد تفانياً في حبها يدافعون عنها وكأنهم يدافعون عن أرواحهم ويلقون بأنفسهم في غمار الحرب لا طلباً للموت وإنما حباً في البقاء واحتفاظاً بحريتهم وحقوقهم.

يقول جوستاف لوبون إن وطنية الإنكليز والأمريكان والألمان قوة عظيمة دونها قوة المدافع وكل أمة فقدت وطنيتها فعن قريب تفقد كل شيء.

نسي جوستاف لوبون أمته ولكن نحن لا ننساها فإنها في طليعة الأمم التي تتقد حمية وتشتعل وطنية فقد دكت المدافع الألمانية حصون فردان وصيرتها أطلالاً بالية وغيرت معالم أرضها وجعلت عاليها سافلها ولكن فردان لم تؤخذ لأن الأمة الفرنساوية أبت أن تسلمها واستعاضت عن الحصون بصدور أبنائها الأبطال فثبتت هذه حيث لم تثبت تلك لأن حشوها الغيرة والحماسة والوطنية وهل للمدافع سلطان على هذه العواطف.

ولا غرو أن يكون الإنكليزي والفرنساوي بهذه الوطنية فإن حكومتيهما من خير الحكومات حرية وعدلاً وأكثرها عطفاً على أبنائها ورعاية لمصالحهم.

لا توجد الوطنية إلا حيث توجد الحرية والعدل ولا يدعو إلى انقسام البلد وتفرقها أحزاباً وطوائف إلا اختلاف المصالح ولا تنشأ الثورات والفتن إلا عند وجود هيئة حاكمة متمتعة بخيرات البلد وهيئة محكومة تتقلب على الذل والفقر. وإذا ثبت أن الحب الذاتي أثاث كل عاطفة شريفة وإحساس راق كما أنه جرثومة الشرور ومدعاة الفساد فمن الحمق إبادته وإزالة أثره من النفس ومن المحال نزعه إلا بنزع الحياة ولولاه لما نشطت الهمم وتسابقت الأمم والأفراد في مضمار المدنية بل لماتت الإنسانية في مهدها وكل ما يستطاع عمله ويحسن بنا أن نفعله هو أن نتوخى له سبيل الرشاد قدر الإمكان ونبتعد به عن مهاوي الفساد، أما تطهير النفس منه فمحال وضار للغاية.

وقد حاولت الإشتراكية من أول وجودها أن تبني نظامها الإجتماعي والإقتصادي على مبدأ نكران الذات فأخفقت إخفاقاً تاماً لا لأن مبادئها لم ترق في أعين الجمهور بل هي بالعكس خلابة تبهر الأبصار وتستهوي العقول وإنما لأنها لم تهتد إلى دافع غير الحب الذاتي يدفع الأفراد إلى العمل ولهذا رجعت بعض الفرق الإشتراكية عن مبدأ المساواة التي بدأت منه واعترفت بالحب الذاتي وإنما تحاول فقط تنظيمه وتنسيقه وتطهره من الشرور، وقد سعت الإنسانية إلى هذه الغاية بأديانها وقوانينها وشرائعها وما زالت تسعى فهل تصل إلى بغيتها وهل يصبح الإنسان ملكاً لا يتقاسمه الخير والشر! ولا تخالج نفسه الأفكار السيئة! لا أظن.

عبده البرقوقي

المحامي