مجلة البيان للبرقوقي/العدد 36/صور هزلية

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 36/صور هزلية

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 5 - 1917



دباغ جديد

أنا رجل أحب ما يكون إلي الطعام، وأشد الناس احتفالاً به، ولي في الولائم غارات، وفي الأفراح - بل وفي المآتم أن أردتم الحق، عند ما يطاف على المعزين بالصحاف المفعمة بسد الحنك، بعد السبحة - جولات وغزوات، ولا أظن أن عمتي ذاقت اللحم منذ سنين، وما كان ذلك منها زهادة فيه، ولا كان لأننا لا نشتريه، وإنما هي تأتي إلا أن تدافع القطع المتجاورة وغير المتجاورة في الإطباق إلى ناحيتي، وتفتح سككاً في الصفحة وطرقاً لكي ترسل إلي ما يدنو إليها من قطعة فخمة، أو ريشة طيبة، وتجتزئ هي بالسلطة، أو غيرها من الألوان التي تحبها، وأحاول دائماً أن يصنعوها بجانب ما أشتهيه من الطعام وأبتغيه من الأصناف لكي تكثر الأيدي على ما أكره، وتغيب يدي فيما أحب. ويبقى بذلك مبدأ التوازن قائماً بيننا، وفكرة العدل منفذة، ولكنه ولا ريب ضرب من العدل المعوي، وهو في ذلك يخالف العدل السماوي أو العدل الأرضي. لأنه صادر من فلسفة الأمعاء، وهي فلسفة خاصة مبتكرة تؤول إليها كل فلسفات العالم، بل هي نهضمها جميعاً وتأكل الأذهان التي أحدثتها. وهذه الأسلاك الدقيقة المتشعبة المتثنية هي أشد سرعة في تبليغ الإنسان أوامرها من أسلاك التلغراف وخطوط التلفون. .

ولعل أيثار عمتي إياي على نفسها في مجالس الطعام، بعد الفضيلة الكبرى التي أعلمها عنها، لأنها فضيلة لها طعماً، ثم هي بعد حسنة منها تتحول دائماً إلى الدم. وهذا الدم العبيط وأسأل القراء المغفرة لعباطة دمي - يتصاعد إلى رأسي فيزيد في قوة خيالي وتفكيري، وبذلك تكون كل قطعة من اللحم تقذفها عمتي إلي، إذ نحن صافون حول المائدة، هي بمثابة فكرة ألهمتني إياها فالتهمتها. وعلى ذلك يصح للقراء أن يقولوا أن عمتي متعهدة مقالات للصحف والمجلات، وإنها شريكة لي في حتى الإعجاب الذي قد أصادفه من بعض القراء.

ولكن وا أسفاه. لي في البيت عواذل، ولي في الأسرة منافسون، ونحن إذا جلسنا إلى المائدة، فكأنما نجلس أمام خريطة حربية في مؤتمر من مؤتمرات الصلح، إذ يتفاوض الأعضاء في تقسيم الأراضي، ويتحاورون في التوزيع، ولذلك إن لي قريباً رزقه الله مصيبة الولوع في الطعام، وهي بالطبع تعد في نظري مصيبة من ناحيته، ولكنها نعم كبرى من ناحيتي. وهنا يثبت فوق المائدة شبح العم دارون يحمل قانون تنازع البقاء، فيدهن بأنانيته أطراف الشوك والملاعق والسكاكين لكي تكون أحد في الحمل والقطع، فإذا امتد الخوان، ووضعت الصحاف والألوان، وجلس قريبي بجانبي، لا يلبث أن يجيل البصر في المائدة، فيعد قطع اللحم، ويعد الجلوس ويقيس القطع على حساب تواريخ الولادة، وبموجب قسايم الصحة، ويحاول لو استطاع أن يجيء بشهادات من الأطباء يعترفون فيها بأنهم يرون الضرر الأكبر في أكل اللحوم، وقد استطاع أن يهزمني من المبدأ الذي يسير عليه في عملية التوزيع، وأعني به مبدأ السن، لأنه أكبر مني عمراً، ويكاد يطوي طيتين من سني، وعبثاً كنت أحاول أن أقنعه بأن يعتبر السنة من عمري سنة ونصفاً على قانون الخدمة في السودان، المعروف بالضمايم ذهاباً إلى أنني أديب وأنه ينبغي لي مقدار كبير من الغذاء لكي أكتب كتباً جميلة، وأضع أفكاراً رائعة، ولكن مثله لا يخدع من هذه الناحية، ولا ينهزم بهذه السرعة، إذ ينثني يجادلني في الأدب، ويروح ويثبت لي أن من أكبر ما يفسد الذهن، ويحدث الغباء، ويظلم الخاطر، أن يكثر الأديب من الطعام، ويحيلني إلى قائمة طويلة من الصوفيين والزهاد والنباتيين والخلوتية فلا يسعني إلا أن أرضى بقطعتي صاغراً منهزماً.

وأنا عندما تصلني رقعة دعوة إلى وليمة أو عرس، أبيت قبل ميعادها أياماً وأنا في ذهول ونشوة، ويزيد شكري لصاحب الدعوة إذا أرسلها إلي قبل موعدها بزمن يسير، لأنني أجلس إلى مائدته ست مرات أو تزيد في الحلم، وبذلك يشبع ذهني، ويأكل خيالي، بينما يكون طاهي الوليمة لم يبدأ بعد في تقشير بصلها، وأنا أنصح لصحابتي وأصدقائي قبل أن ينتهوا من ترتيب ألوان الوليمة، إذا فكروا يوماً في إقامة وليمة - إن يسألوني رأيي - لأنني أكون قد تخيلت في المنام أحسنها وأضمنها لاكتساب إعجاب المدعوين، وأعتقد أنني خليق بأن يركن إلى ذوقي، في مثل هذه المهمة، لأنها توافق. . . . مشربي. ولكني بعد أعجب العجب كله وأتساءل لماذا يأبى الناس إلا أن يخجلوا أو تثور العزة في نفوسهم إذا عرف عنهم أنهم يحبون الطعام ويستكثرون منه، ولماذا لا يأنفون من أن يكونوا مرابين ومحامين وصحفيين وممثلين وأشباه هؤلاء، ثم يموتون آنفة وخجلاً وحياء إذا قيل عنهم دباغين مع أنني أعتقد وأؤمن بأن جميع الناس دباغون وإنما تختلف درجات دبغهم وتتباين قوة هجماتهم في الخوان، وكل رجل لا يريد أن يحتمل كلمة دباغ يجب أن نقول عنه دباغ سابقاً أو دباغ في الإجازة أو دباغ متقاعد أو دباغ تحت الإختبار لأنه إما أن يكون ولوعاً بالطعام فأسرف فيه حتى بشمت معدته، وتعطلت أمعاؤه، وأما أن يكون قد خلق ممعوداً مريضاً مهزولاً - يعيش في حسرة دائمة، وحزن طويل، ولكنه يحيل إقلاله من الطعام في الولائم والإكتفاء باليسير من المآكل في المآدب، إلى مظهر من مظاهر الحياء والقناعة والرضى بالقليل.

وأنا أقول أن حياء الناس من هذه الوجهة هو ضرب من الرياء الإجتماعي والسفسطة الكاذبة، لأننا قد خلقنا لكي نأكل، ونعيش لكي نأكل، ولا نصدق أبداً أننا نأكل لنعيش. وإلا لما خلقت معنا الديوك الرومي والحمام والسمان وصيد البر والبحر، ولما فكر الطهاة في اختراع البفتيك والروستو والساندويش وكل ما لذ وطاب، ولو كان الأكل فقط لكي يسد الإنسان أرماقه، ويمسك على مادة الحياة فيه، لاكتفى كلنا باليسير من الطعام، وأصبحنا جميعاً معريين نخشى أن نرى الديك مذبوحاً، والعجل - ولا مؤاخذة أيها القراء - مهدور الدم، ولما تكالب الناس على الحياة تكالبهم اليوم، وطمع رجل في أن يأكل أبدع مبتكرات الطهاة، وأذ ما جاء في قوائم اللوكاندات وترك ملايين من الناس تأكل. . . . بعضها. . . مع أنه لم يصل إلى الظفر بطعامه الفخم، ومآكله الدسمة، إلا بعد أن فتح نفسه بأكل لحوم ألوف من الفقراء والذين تحت يده في عمله أو مصنعه أو مزرعته، ولعل الأغنياء يجدون اللذة الكبرى، والمذاق العذب اللطيف، في طعم اللحم الآدمي، لأنهم يريدون دائماً أن يستكثروا منه، ويظهر أن اللحوم الآدمية تقوي الأسنان، واللثة، وتفيد الأعصاب، وتحجر القلوب، وهذا هو السبب الذي بعث الأغنياء والأكابر على اعتياد تناول هذا الأبيراتيف قبل الجلوس إلى مائدة العشاء، بعد أن يكون قد دخل في جيوبهم وخزائنهم مئات الألوف، وخرج العمال من عملهم في مصانعهم وأشغالهم وشؤونهم بثمن الفول المدمس.

والآن لغضب مني الدباغ القديم، وليصرخ في الشوارع، وليطلبني في ساحة المحكمة، لأني جئت أستلب منه إسماً يقال أنه ألقى إليه وهو لا يستحقه، لأنه نحيف، صغير المعدة، ومن المقلين في الأكل والأدب معاً، إذا تجاوزت معه في نصيبه من الثاني، وعلى أني لا أصدق أنه أديب ولو نظم ونثر - وأذن فلا مناص لنا من أن نسميه دباغ كؤوس أو دباغ وسكي إذا كان يغضب من تهمة الإكثار من الصحون والألوان.

والآن أدع القراء يهيمون مع الدباغ في تخيل سلطة الحاثي وكبابه وأعود عنهم إلى عمق لأنها في انتظاري عند المائدة، لتغيب هي في التوابل، وأمعن أنا في التهام اللحم، وإلى الملتقى.