مجلة البيان للبرقوقي/العدد 39/صور هزلية

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 39/صور هزلية

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 2 - 1918



من أخلاق الناس

عم سرور

لي الشرف بأن أقدم إلى القراء صورة رجل يأكل ويشرب ويمشي على قدمين ويخاطب الناس، ويجلس في مجالسهم، ولكنه لا يعيش ولا يحس بالحياة، ولا يعرف من علم الجغرافيا إلا القطعة الصغيرة من الأرض التي تحوط مسكنه، ولا يعلم من التاريخ إلا أن صوت معدته يستصرخه إلى طعام الإفطار وأكلة الظهر ووجبة العشاء ولعل حياته التي عاشها إلى الآن لم تكن إلا صورة حقيقية لمبحث الجولان في النوم وهو لهذا يستطيع أن يزوغ من الحساب في الآخرة لأنه كان في الحياة الدنيا في الإجازة ولا أظن أن يديه ورجليه ستعرف كيف تؤدي الشهادة عليه، وهو لم يكلفها عملاً، ولم يلتمس إليها سعياً ولا شغلاً، وقد لا يكفي نشادر الجنة لإيقاظ هذه الروح من ضجعتها الدنيوية الطويلة، وآخر ما يمكن أن يصنع لأجله هو أن يلقى في نهر من أنهار الخمر فلعله مستفيق من ذلك الرحيق الإلهي العذب.

هذا الرجل، بل مادة النوم التي يتوزع عنها أسلاك النعاس إلى أجفان الإنسانية أو مندوب أهل الكهف في هذا العصر، أو شركة النوم والبلاهة ليمتد هو - ولي الشرف - عم سرور: بواب منزلنا سابقاً، والمدير الفني في حفلات الدلوكة الآن.

وسيعجب القراء وتتولاهم الدهشة الكبرى أن يكون هذا الطيف الإنساني بواباً وأن يلقى إليه أمر الحراسة، وأن يستأمن على الأبواب والأمتعة والأرواح، وسيذهب القراء مذاهب كثيرة في التأويل والحدس والتخمين، حتى ينتهوا إلى أن أهل البيت ولا ريب يشاركون بوابهم في ذهوله وغفلته وبلاهة فؤاده، ولكنهم لن يصلوا إلى الحقيقة وهي أن البيت والحمد لله لا يحتوي من النفائس ما يعد خليقاً بالسرقة، وأن ليس على الأرواح ضير من اللصوص، لأن اللصوص لا يخطفون الأرواح إلا إذا حالت دون سرقة المتاع.

وقد كان عم سرور مع ذلك المثل الأعلى للبوابين، وكان حارساً أميناً يحكى الكلب وفاء وحفاظاً، ولكنه لا ينبح اللصوص وإنما يغط في وجوههم، وقد بلغ من عنايته بحراسة الباب أنه في الأيام الأولى من عهده بخدمتنا لم يكن يعرفني ولم يكن قد استوثق بعد مني - ولعله إلى الآن خالي الذهن من ناحيتي - فاتفق ذات ليلة أن تأخرت في مجلس سمر مع صحابتي فجثت في موهن من الليل أدق الباب، فخرج عليّ من البيت غاضباً متجهماً وطلب إليّ تحقيق شخصيتي، وعبثاً حاولت أن أبين له أنني من أهل البيت وأسمي له أفراد الأسرة بأعيانهم، وطفقت ألتمس إليه أن يأخذ قولي صدقاً، ويجيز لي الطريق، ويغني عني الوقوف طويلاً في قرة الليل، ويشفق على أن تصيبني وعكة من أثر برد الشتاء، فلم تكن توسلاتي وضراعاتي لتزحزحه عن فكرته الراسخة في ذهنه وهو أنني رجل غريب جئت لمأرب شرير في قرارة نفسي، ولو لم أستصرخ أهل البيت في تلك الهدأة وأثير الجيران من المضاجع وأعدو إلى أقرب شرطي من الناحية استعديه على عم سرور، إذن لأصبحت الغداة واقفاً بالباب أحمل الزمهرير في فؤادي.

ولكني عمدت بعد ذلك إلى اتخاذ الحيطة لنفسي حتى لا أقع في مناورة كتلك معه فاعتدت إذا خرجت في الأصيل أن أذهب إليه وهو جالس عند الباب مهوماً في محضر من الملائكة، فأنهضه من مكانه وأنظر له ملياً في وجهه، وألتمس إليه أن لا ينساني وأتضرع إليه أن يتذكر معارف وجهي وتضاعيف صوتي ولهجتي ولم تكن هذه الوسيلة لتبعثني على الطمأنينة، فاجتهدت في أن أحمل دائماً في جيبي شهادة ميلادي وبطاقتي، مخافة أن يكون الشرطي حديث العهد بالناحية فأروح ضحية جهل الشرطي وأمانة عم سرور، وأبيت في الطريق مقروراً حتى يتنفس الصبح.

ولما ظهرت تلك البراعة منه في أمر الحراسة، أردنا أن نبتذله في الخدمة، فكان فيها القدوة المثلى والمثال المحتذى، إذ بلغ من ذكائه أنه كان لا يعرف كم قرش تحتويه القطعة ذات الخمس، وكان يكرهنا إذا أردنا أن نرسله في شراء حاجتين معاً على أن لا نعطيه ثمنهما إلا قروشاً، ونضع ثمن واحدة منهما في يد من يديه، وقيمة الثانية في اليد الأخرى، ونشيعه حتى السلم تذكيراً، ونستحلفه إلا ما أفاق قليلاً، ونجلس ندعو الله أن يعيده سالماً ويرده إلينا بالطلبتين آمناً، ولكنا لا نلبث أن نراه طالعاً علينا بشربة من الملح الانكليزي، وكنا سألناه شراء ملح من ملح الطعام، أو ورقة من البن وكنا طلبنا إليه ابتياع شيء من البندق، وكذلك طفق يشتري لنا الأشياء التي تلوح له في حلمه أو التي توحي إليه نفسه أنها أفضل لنا من سواها، وكذلك جعلنا نخسر كثيراً من المال بسببه، فكأنه كان يعارض أمانته في الحراسة بهذه الخيانة النومية في الخدمة، ولكنا رأينا لهذه النقيصة مع ذلك شيئاً من الفضل، فقد وجدنا لدينا بعد زمن قليل مدخراً من المآكل والحاجيات كنا نريد أن نتناساها ونغفل أمر خزنها ن مكرهين على ذلك بدافع الاقتصاد الذي أكرهتنا الحرب على مراعاته.

على أن هذه لم تكن وحدها الخسائر التي لحقت بنا من هذه الذاكرة الزنجية فقد كان لدينا طابق من طباق البيت ظل زمناً لم يستأجره أحد وقد بقي إلى الآن بلا مستأجر، والفضل أو النكبة في ذلك تعود إلى العم سرور فقد حاولنا ألف مرة أن نوصيه أشد الوصاة أن يقول لطلاب الإيجار أن إيجار الشقة لا يقل عن جنيهين ونصف جنيه، ولكنه كان ينسى ذلك في كل مرة يعرض فيها للطابق مستأجر، فلا يفتح الله عليه بما يقوله للمستأجرين إلا أن الإيجار هو جنيه ونصف وقد كان الطابق لا يساوي حقاً إلا هذا القدر فكأنما وضع عم سرور له الأجرة العدل الواجبة، فلم يسع المستأجرين إلا أن يأخذوا بقوله ويسخروا من أقوال أصحاب البيت، فظللنا في خلاف وعم سرور، مصرين نحن على ما قدرنا، ومصراً هو على ما قدر - وكذلك ظلت الشقة بدون إيجار حتى اليوم.

ورأى عم سرور بعد حين الرغيف الذي يقدم إليه في جلسات الطعام يصغر شيئاً فشيئاً ويتضاءل حيناً فحيناً ولم يكن قد سمع بالحرب ولا يعرف في أي قطعة من الأرض تشتعل هذه الحرب وتنتشب، لأنه لا يدري أن وراءه الحارة عالماً خارجياً، ودولاً عظمى هي السبب الأكبر في صغر حجم رغيفه، فشكا إلينا الأمر وسألنا الباعث والداعي فلما أنبأناه بأن الحرب قائمة وأن الإنسانية تتنازع وتتقاتل، لم يدرك من كل ذلك شيئاً وحسبها شجاراً في الدرب الأحمر ولما لم ير صلاحاً لحجم رغيفه أفلت من البيت هارباً.

تلك هي صورة من صور الفضيلة البلهاء النائمة، وقد يستعذبها كثيرون ويستثمرونها ولكني أؤثر عليها ذكاء مشتعلاً شريراً يأتي بالإثم والضر، لأني لا أنسى ألم وقوفي بالباب الساعات الطوال في صميم الشتاء بفضل تلك الفضيلة السلبية الناعسة. . . . . . .

عباس حافظ