مجلة البيان للبرقوقي/العدد 41/جولة في الأصيل

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 41/جولة في الأصيل

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 4 - 1918



معربة عن الانكليزية بقلم حضرة الكاتب الشاعر الأشهر محمود أفندي عماد:

أعط الفكر هدنة، ودعنا نخب في أحشاء هذه المروج الخضر، ونتسنم متن ذلك الساحل الرملي، أو ننحدر إلى مسارب تلك الغابة الغلباء، طائرين بأجنحة الخيال بين مجاهلها الموحشة لنشهد الطبيعة تختال في ثوب عرسها القشيب.

اطرح آنة ما صحفك الميتة التي كنت تقرؤها في ليالي الشتاء لترى فيها وصف غيضة أو غدير، وحسبك فاقرأ هذه الصحيفة الحية، صحيفة الطبيعة الحكيمة ن واجمع من أساطرها نخبة صالحة من العظات البالغات، فما أرى كل نجم أو شجر أو ورقة أو زهرة غضة كانت أو يابسة ألا تحتوي على سفر ضخم مكتظ بالحكم الرائعة، والطرف المستملحة فلنقرأ ثم لنقرأ، ولننهب بالعين مخبوءات هذا السفر القيّم.

رويدك وانظر قبل أن نغادر عتبة الدار هذه الزهرة التي يسمونها (فلة الوادي) واقرأ طرفتها المعلقة بأجراسها المتدلية البيضاء، أنها لا تنبت على جوانب الطرق العامة حذراً من أن تلهبها شمس الظهيرة المحرقة، وهي ليست على شيء من حب التبرج المكذوب والظهور الخادع، بل تراها قانعة بقميصها الأبيض العادي الذي يتضوع من أردانه ريحها الطيب فيرشد المعتسف إلى منبتها الخفي البعيد.

وفي الوقت الذي تطأطئ فيه أترابها الشامخات رؤوسهن أمام سلطان النسيم القاهر تتنفس هي بسكينة ورفق في مخبئها الوادع الأمين، وسواء عليها مرت الريح رخاء تتخلل ثنايا الكروم الدانية أو نكباء تنطح هامات أشجار الحور والبلوط العالية فتحطمها بشراسة وبأس:

وكذلك النفوس المتواضعة لا تشعر كثيراً بضربات القضاء المتوالية التي تهز بقوة عرش الملك العظيم.

وليست العلياء على منعتها إلا رصداً للمهالك، فلنقنع ولنتواضع نعش في سكينة وسلام، ولكن هلمّ، فقد أبطأنا، وتسلّل برشاقة وحذر لئلا توقظ زهر (الزعفران) النائم أو يراك (الأقحوان) اليقظ الذي يولي وجهه دائماً شطر قرص الشمس، وانظر على كثب منه (زهرة الربيع) التي كأنما أضناها الحب فنكست رأسها لتخفي صدرها المجروح أو زهرة (الدمروز) الملساء ذات الطرف الساجي، وإلى جانبها زهرة (الهندبا) التي تذكرني بالتلميذ يمرح زماناً في ثوب المدرسة الذهبي، ثم تمسه يد القسيس فإذا هو في ثوب روحان ساذج.

أو هل بصرت بتلك الزهرة الحزينة، زهرة (الهيكنت) التي يقولون إنها تحيا الليل باكية والنهار منكسة الجبين؟

لله ما أنضر هذا الحقل، وأبهج منظره الذي ترتاح إليه النفوس، إنه كصبي غض الصبا يخب لاهياً في طيلسان من حرير وقد تهدلت على كتفيه خصل شعره الناعم الأثيث ولكأني بالنجوم التي تنتثر في زرقة السماء أقل عدداً من زهرات (كأس الملك) المنتثرة في خضرة هذه الأرض وقد تخللتها زهرات الأقحوان، لشد ما عانى الفلاح الماهر في تهذيب هذه الغروس وتشذيبها وأخص من بينها أشجار (التنوب) الصلبة فنشطت تحمل سلالها الذهبية.

على رسلك يا صاح، ولا تدن منها، فإني لأشفق عليك من نصالها المشحوذة التي تدب بحماس عن زهراتها المتدلية.

لقد زعموا أن (الأرواح) يألفن كثيراً هذه الأشجار ويهرعن إليها إذا جن الليل جماعات جماعات، وفي يد كل واحدة منهن زهرة من زهرات (كأس الملك) تحتسي بها سلسال النسيم العليل، ثم يأخذن في الرقص والطفر على وقع النغمات البعيدة التي ترويها الريح عن تلك القرى، أو سجعات البلابل الأنيقة التي ترددها عند انتصاف الليل.

وما أحسب هذه الدائرة الصغيرة إلا مكان التئام الحفلة، فهنا أتى أبيرون (ملك الأرواح) يقود رهطه على ضوء مشعلته الكبيرة وأخذ معه في اللهو والمرح ولعل ذلك هو سر ما نراه من احتشام الشاة هذه النواحي الخصبة، وتهيبها مراعيها على ما بها من نضارة وإيناع.

ويقولون إن هذه الأرواح لا يزلن على حالهن تلك إلى أن ينشطر الليل نصفين ويصيح الديك صيحته المعهودة، فيقفن رقصهن وزمرهن ثم ينصرفن أسرع من سنحات الفكر، ويتبعن (نصف الليل) أينما حل في أنحاء الأرض!!

هكذا ينسج الخيال نسيجه الشفاف، ويعجب العقل بهذا الصنع الدقيق، فيفلت من أسره، ويطير بجناحي النسر، محلقاً فوق الشمس.

ألم تر إلى تلك الغابة التي تكسو هذا المنحدر كيف تتموج أوراق أشجارها عندما يحركها النسيم فتعكس لوناً فضياً بهيجاً؟ خذ بنا إليها، ولنسلك هذا الدرب الأرنّ، ولنلقف بأسماعنا بعض ما يساقط علينا من الأنغام المطربة التي تعجز عن أن تخرجها الصنعة الموسيقية الحديثة.

أو تدري ما الذي يلقى إلينا بهذه الأنغام؟ أنها آلة دقيقة تطير حول الشمس يسميها الناس البلبل.

إن الطبيعة كثيراً ما تصر آلاءها في دائرة ضيقة!!

أنصت! ها هي البلبل تغنينا، ولا أحسب كل من لعب على سمعه شيء من غنائها بقادر على أن يفلت منه.

إنها لطائر ذات مروءة، تسعى دائبة في سرور غيرها، وليست كأولئك المغنيات اللائي يغريننا بأصواتهن المصقولة حتى إذا ما استعدناهن أشحن عنا متدللات متكبرات وتركننا بين الراحة والألم!!

وهذا هو (الحسون) الصغير، ذو الريش الجميل، يلتقط حبات (البابونج) ثم يقفز برشاقة على فروع (التفاح) المزهرة، فيتأنق في جلسته ما يشاء، ويحيينا بصوته الأغن.

ولا أراني ممارياً إذا قلت أني أضن به على القفص ولو أعطيت الدنيا وما فيها.

على أني أستميحك وقفة لدى هذا العش الصغير، أو إذا شئت ذلك البناء الحصين وأرجو أن تستظهره ببصرك وتستنبطه، ثم تفضي إليّ بما عساه أن ينالك من الدهش عندما تعرف أن (العصفور) لم يستعن على بنائه بآلة من آلات البناء!! فلا أثر لقاطعة تشذب شواذه، أو مسمار يربط أجزاءه، أو مبرد يصقل خشونته، أو غراء يلصق جوانبه، بل تراه غني عنها جميعاً بمنقاره الصغير!! وبناؤه مع ذلك آية في الدقة والأحكام!

فأية يد ماهرة تستخدم كل أسباب العمل، وتفرط فيه عقدين من السنين، ثم تغدو علينا بآخر يحكيه متانة وإتقاناً؟؟

ألا أن حقاً علينا أن ندهش ونعجب من هذه المهارة التي تفضل مهارتنا الفطرية أو لست ترى (النحلة) تلك الصناع الحاذقة، كيف تهزأ بالإنسان الذي يعمد إلى النماذج والأدوات عندما يراد على صنع جرم سداسي بينما هي لا تعمد في صنعه إلا إلى النظر؟ إنها لمهندس داهية كبير، أما رأيت كيف تبدأ بناءها بالسقف عندما نبدؤه نحن بالأساس؟؟

على أنها رغم ما تصرفه في هذا البناء من الجهد تظل هائمة بياض يومها بين الأشجار متنقلة من زهرة إلى أخرى بعزمة لا يتطرق إليها الملل.

فقل لأولئك (الكسالى) الذين حق عليهم القول إنهم يسرقون قوتهم هلموا فانظروا كيف تبتغي الحياة الشريفة من طريق الكد والعمل!!

لقد انكشفت حكمة الحياة لجماعات النحل فانطلقن يكدحن بعزم ومضاء، ولا قوت لهن إلا ما يصدفنه من المن، فإن العالم النباتي - ذلك الكيماوي الكبير - يقطر لهن الذهب فيستحيل إلى سائل عسليّ سائغ الطعم سهل المزدرد.

ولكن حسبك وانظر إلى الشمس، إنها تطرق أبواب المغرب تتهادى في غلالة ذهبية آية في الوراء، وتتسلل متباطئة خلف السحب المتقطعة القانية، وإن في فتور حرارتها وانحدار قرصها الأحمر ما ينذرنا بهجوم الليل.

رويدك أيتها الفارّة الحسناء، إن الأزهار الحزينة تنكس رؤوسها بوهن وخور فمديها بروح من عندك. .

أما وقد أظلنا المساء فلنعد أدراجنا ولنمر من بين تلك الأغصان المشتبكة لنلمح من خلالها الفضاء الأزرق المهيب الذي يسقف الوادي الفسيح المزدحم بالأكواخ وقد تكدست حولها كومات الأعشاب الذابلة، وإلى جانبها ينساب ذلك الغدير الفضيّ في حلة فضفاضة من حقول (البرّ وحشيشة الدينار) وهنالك على مدى البصر ترى غابات البلوط الكثيفة متلعة رؤوسها إلى السماء.

كل ذلك قد نسق بمهارة تنسيقاً يعجب الطبيعة.

فلله ما أسعد الرجل يشرب قلبه حب بلاده فلا يبتعد عن داره إلا بمقدار جولتنا هذه وهو لا يعدم خلالها وحشة تجذبه إليها حتى إذا عاد فوطئ عتبتها استشعر فرحاً وسروراً يحمد معهما العودة كما نحن الآن.

ذلك مثال مما يستقبل به الغربيون ربيع بلادهم، وهو وإن لم يخل من إبداع إلا أنه لا يعادل إبداع الطبيعة عندهم، فلقد خلعت على نواحيهم حللاً مفوّفة عريت من مثلها نواحينا، وصار حقاً على شعرائهم أن يبزوا شعراءنا في الإبانة عن خوالجهم كلما طلع عليها الربيع، فما صحيفة الشاعر إلى صورة لصحيفة الطبيعة في بلاده.

وذلك مصدر ما نراه من التباين في خيال الشعراء الغربيين والشرقيين، ولو أن لنا ما لهم من الغابات المرنة التي انفصلت عن الجنة لكان للخيال في نواحينا شأن آخر.

فلا يكونن هذا التباين مدعاة لتحقير الشاعر في الشرق، فهو إنما ينطق بما توحيه إليه طبيعة أرض وسمائه، وإذا كان ثمة تقصير فمرجعه إلى الوحي لا إلى الشاعر.

وما عسى أن يقول المسكين في ربيع لو لم تشعره به التقاويم السنوية لحسب أنه لم يطلع عليه بعد؟؟ فإن للربيع آثاراً واضحة لا تكاد تري العين بعضها في هذه البلاد إلى بمنظار يقيها (رياح السموم) التي تبث فيها (الصحراء الكبرى) تحياتها السنوية المعهودة إلى مصر والمصريين. .

فحسب الشاعر المصري في مثل هذا الفصل أن يشغل شعره بأكبار الطبيب الذي أبرأه من الحمى والرمد، لا أن يشغله بأكبار شيء لم تعرف له نفسه إلا النقمة الخالدة واللعنة المؤبدة. . . وهل الشعر إلا ما تعرفه النفس؟؟

يقولون إن ربيع هذا العام قد أظلنا، فهل هذا صحيح؟؟ إني لا أكاد أومن بما يقولون وإلا فأين ما قرأناه عن جوّه السجسج ونسيمه العليل؟؟

لا عهد لنا بشيء من ذلك، وكل ما في الأمر أنا انتقلنا حقاً من برودة حادة جمدت الدم في عروقنا إلى حرارة قاسية غلته فجأة فانبعث من مسام أجسامنا عرقاً حاراً صبيباً. . .

وليس ذلك إلا كناية عن خروجنا من الشتاء ودخولنا في الصيف، فأين الربيع؟

هذا هو السؤال الذي اختلج في نفسي عندما قرأت في (تقويم الأوقاف) خير حلول الربيع فنظمته في هذين البيتين.

يقولون بين الشتا والمصي ... ف ربيع أنيق اللباس خليع

وهذا الشتاء تولي حميداً ... وجاء الصيف فأين الربيع؟

وهما كل ما قلته في الربيع. . .