مجلة البيان للبرقوقي/العدد 42/تفاريق

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 42/تفاريق

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 6 - 1918



لماذا نكبر؟

سؤال صعب، وموضوع خطير، لا يزال العلماء يحاولون له جواباً، ويلتمسون له حلاً، ومنهم أكبر علماء هذا العصر، وسادة فلاسفته، ويلوح لهم أن السبب الأكبر في الشيخوخة هو تجمع مقدار معين من الفضلات الحية في الجسم على مدى العمر، والجسم يتخلص من كثير من هذه الفضلات بكل سهولة، ولاسيما من الغازات كحامض الكربونيك، ولكن منها ما لا يستطيع البدن أن يتخلص منه كل التخلص ويؤول به الأمر إلى تسميم الأجهزة وتصلب الشرايين والمفاصل، وإسقاط الشعر أو تشييبه، وإحداث الغضون والمكاسر في البشرة، والناس هم الذي يعجلون إحداث هذه التغيرات أو يبطئون أثرها في أبدانهم بحسب لون الحياة التي يحيونها، وسبل المعيشة التي يسلكونها.

وقد ترى رجلاً في الأربعين يلوح أهرم وأكثر شيباً في المفارق، وأظهر شيخوخة من رجل في الستين، وليس كر الغداة ومرّ العشي هما وحدهما اللذان يحدثان الشيخوخة، ولكن ما يحدث في أجهزتنا على ممر أعمارنا، فأما اللذين يعيشون عيشة رزينة عاقلة، ولاسيما الذين لا يسرفون على أنفسهم شراباً وطعاماً وينامون النوم الذي يكفي جسومهم ويعدم أو يطرد السموم التي حدثت لها في يومهم، لا تعجلهم الشيخوخة كما تعجل الذين لا يعيشون عيشة منظمة، ومن الناس قوم خلقت لهم أرواح هادئة وطبائع ساكنة وهؤلاء تبطئهم الشيخوخة، ويمهلهم الهرم، والناس مصيبون في الاعتقاد بأن الهموم والأحزان تكبر الناس قبل أعمارهم، والحقيقة أن هذه الآلام النفسانية تضعف القوة التي في البدن على قتل السموم، وكذلك ترى ذوي الطبائع المضطربة العصبية يموتون قبل أهل الطبائع الهادئة الساكنة.

وجملة القول أنا نستطيع أن نقول إن اللذين لا يهرمون سريعاً هم الذين يرعاهم الأطباء الثلاثة، الهدوء والحمية والعقل.

لماذا يعد العيش في الريف أصح من عيش المدن؟

ليس هناك في الحقيقة إلا سببان يرجحان بعيش الريف على أخيه عيش المدن، ولكنهما لا يزالان من الخطورة بمكان عظيم فأولاً الهواء الذي نتنفسه دافعاً إلى اللهي والرثات من الحقول هو بلا ريب أنقى من الهواء الفاسد الذي نعيش في صميمه في المدينة، ولا يحتوي ما يحتويه عيش المدن من الأتربة التي أكثر ما تكون خطرة فاسدة، ولأنه غير مفعم بالغازات السامة التي يحملها هواء المدينة، ثم إن فعل أشعة الشمس أشد أثراً في الريف منه في المدينة حيث الناس مختنقون في الدور المظلمة والمساكن البعيدة عن مهبط الشمس، والشمس من أكبر معدمات الجراثيم والنور من أشد أعداء القذارة والتعفن.

ونستطيع كذلك أن نزيد على هذا أن السكون والهدوء المستتب في القرى والريف يسكن الجهاز العصبي، وإن الإنسان في الريف أبعد ما يكون من الملاهي والملذات ووسائل الفساد والترف ويستطيع في الريف أن يتلهى برياضات تحصن الجسم وتنقي الروح، ولا يتيسر ذلك في المدائن.

على أننا لا نستطيع أن نجزم بأن المعيشة الريفية بريئة من العيوب من ناحية قانون الصحة، بل هناك ضرران عظيمان، ومنقصتان كبريان، إحداهما من ناحية المياه الصالحة للشراب، وثانيتهما المجاري والمصارف والبالوعات، إذ لا تجد في كثير من بلدان الريف ماء للشراب غير ماء الآبار ويجب اتخاذ الحيطة من هذا الضرب من المياه، لأن الآبار من العادة أن تحفر في أراضي متخللة كثيرة المنافس والنبعات قريبة من المساكن ولذلك قد تمتزج المياه القذرة والمياه الراسبة الآسنة بمياه الآبار وتفسدها وتلوثها بجراثيم أمراض خطيرة معضلة، وكذلك عدم وجود المجاري والمصارف التي تسوق هذه الرواسب والمواد البرازية التي تخرجها الحيوانات والناس إلى مسافات بعيدة عن الدور قد تحدث أضراراً لا يستهان بها ولو كان في مكنة الإنسان إذا أراد أن يجعل في الريف مقامه أن يجعل داره على منال ماء ظاهر متدفع غير آسن أو آبار صخرية عميقة الغور تخرج مياهاً نقية، لتحصن من شر هذه الآفة الضارة، وعندما يدور الزمن دورته ويتبين للشعوب الفوائد الجلى التي تعود على الناس من الهواء الطلق الطاهر والنور قد يجمعون الرأي على أن يكون بناء القرى الريفية على حال بريئة من هذه المضار.

ويجب على الحكومات أن تعمل على أن لا يلوث الهواء في المدينة بهذا الدخان الكثيف والروائح الكريهة والغازات والأبخرة الضارة التي أكثر ما تخرج الآن من البيوت المتجاورة المختنقة في المدينة ويجب أن لا تكثر هذه البيوت الصغيرة المعتمة القاتمة، بل يحسن أن يكون لكل بيت حديقة وأن يكون مرتفعاً ارتفاعاً متناسقاً مع البيوت المجاورة له، ويجب أن يعمل على قتل هذه الضوضاء الصخابة في الطرق بأن يغشي أديم الطريق بطبقة تجعل حركة العجلات المتدحرجة فوقها هادئة ساكنة لا يسمع لها هذه القعقعة المزعجة.