مجلة البيان للبرقوقي/العدد 42/سنة 2900

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 42/سنة 2900


هذا مقال فكاهي طريف، نقدمه للناس لكي يتكهنوا هم في أنفسهم عن حال الدنيا يوم تدور دورة الدهر ألفاً، وتجري عجلة القرون عشراً، ويتخيلوا مصير الأرض في المستقبل البعيد والزمن الرخيّ القادم، ويتفكهوا بخيال كاتب من كبار كتاب الملح والنقد المضحك والفلسفة البهيجة، ويذكروا ما قد رأوه له في أعداد البيان السابقة من أفكاره البليدة وآرائه الممتعة التي يلبسها ثوب التهكم والأضحوكة العذبة، ونعني به الكاتب الروائي المشهور جيروم. ك، جيروم الذي وسم نفسه بلقب المفكر البليد.

وقد عثرنا بهذا المقال في كتاب من كتبه الفرائد، ومقالاته المبدعة، فآثرنا أن نسوقه إلى القراء، لأننا أحوج إليه في زمن يظن أهله أنهم قد لمّوا على المرقاة الأخيرة من مدارج الحضارة.

كنت ليلة الأمس في سمر طيب، ومحضر جميل، إذ جلست إلى العشاء في ناد يجمع طائفة من أصحابي الراقين على الاصطلاح الجديد، وكنا جلوساً أمام عشاء فاخر، يحتوي صحافاً عذبة المذاق، وألواناً من الطعام متعددة، فلما نهضنا إلى جلسة التدخين، لم نلبث أن سقطنا في جدل طويل عن موضوع المساواة القادمة بين الناس، وتوحيد الثروة، وإبطال الغنى الفردي.

ولم أكن أستطيع أن أسهم في هذا الجدل، أو أهجم مع صحبي في مثل هذا الحديث، لأنني لم أجد فرصة من زمني مذ كنت صبياً تؤاتيني على أن أذاكر هذه الأبحاث، إذ كنت فقيراً أسعى إلى الرزق طفلاً.

على أنني لبثت أستمع إليهم، وهم يشرحون كيف أن الدنيا قد ظلت منذ آلاف من الأجيال، قبل أن ينحدروا إليها، تسير على خطأ، وتدور دورة شمالية وكيف أنهم يستطيعون في بضع سنين أن يصلحوها ويردوها إلى مدارها المضبوط.

وكان محور حديثهم المساواة العامة، المساواة في كل شيء، في الثروة والامتلاك والعمل، والمساواة في الرضى والسعادة، وكيف أن الدنيا حق للجميع، وخلقت للجميع، ويجب أن تقسم القسمة العدل على الجميع، وأن عمل الفرد ليس له ولكنه حق المجموع، وعليه أن يطعمه ويكسوه، ويجب أن يكون هذا العمل يقصد به إسعاد الجنس الإنساني كله، لا إسعاد صاحبه.

أما الثروة الفردية - هذه السلسلة الاجتماعية التي ربط فيها القليلون الكثيرين، هذا المسدس الذي يحمله بضعة من اللصوص فيسرقون به ثمرات أتعاب الجميع فينبغي أن ينتزع من الأيدي التي ظلت تقبض عليه كل هذا الزمن الطويل.

إن ثدي أمنا الأرض يجب أن يرضع جميع أطفالها بالسواء، فلا يجوع أحد، ولا يبشم بالغذاء آخر، وليس للقوى أن ينال نصيباً أكثر من الضعيف، ولا للذكي أن يظفر بما لا يستطيعه المغفل الأبله.

ولم يكد ينتهي صحبي من حديثهم الحار، حتى رفعنا الكؤوس عالية فشربنا في صحة المساواة، المساواة المقدسة الجميلة، ونادينا غلام النادي فاستزدناه شراباً وتبغاً.

وانطلقت آخر السهرة إلى البيت مفكراً متعب الذهن. ولم تغمض لي جفن ساعة طويلة، بل أمسيت أتقلب في الفراش، أفكر في هذا العالم الجديد الذي فتح أصحابي مغاليقه لعينيّ.

ورحت أقول لنفسي ما ألذ الحياة لو يتحقق مشروع أصحابي فلا يعود في الدنيا كل هذا التنازع وكل هذا التقاتل، ولا يصبح ثمة غيره ولا تنافس ولا مخافة فقر، ولا يشتغل الإنسان في اليوم إلا ثلاث ساعات - هذا على تقدير أصدقائي، فلا يطلب مني أن أشتغل بعد ذلك - وهذا هو الفرح الأكبر من ناحيتي، ثم لا فقراء فيحسن إليهم، ويرثي لأمرهم، ولا أغنياء فيحسدون ويلعنون.

وإذ ذاك نسيت نفسي فانحدرت في سبات عميق لا يعرف غوره. . . . ونمت!.

فلما أفقت وجدتني نائماً ممدداً في تابوت زجاجي، في حجرة عالية السقف، ساكنة، لا يسمع فيها صوت ولا حس، وفوق رأسي يافطة معلقة، فالتفت لأقرأ، فإذا هي بهذا النص:

إنسان - نائم

التاريخ - القرن التاسع عشر

وجد هذا الرجل نائماً في بيت بلندن سنة 1900، ويلوح من أقوال صاحبة البيت أنه يوم العثور عليه كان نائماً نحو عشر سنوات (ويظهر أن صاحبة البيت نسيت أن توقظه) ولهذا تقرر إذ ذاك لغرض علمي أن لا يحاول أحد إيقاظه، حتى يعلم كم مدة يظل فيها نائماً، ولذلك نقل إلى متحف الغرائب لحفظه، وتاريخ دخوله المتحف هو 11 فبراير سنة 1900.

ملحوظة: الرجا من حضرات الزائرين أن لا يسكبوا ماء من خلال فتحات الهواء حتى لا يستيقظ.

ورأيت رجلاً أشيب تلوح عليه مخائل الذكاء، يرتب بضعة ضباب في تابوت قريب من تابوتي، فلما لمحني دنا مني ورفع الغطاء عني وهو يقول ماذا حدث، هل أزعجك شيء.

قلت - كلا، هذه عادتي عندما أفيق من النوم، بعد تعب شديد، وسبات ولكن في أي قرن نحن الآن؟.

فأجاب الرجل - نحن في القرن التاسع والعشرين، وقد نمت ألف سنة!

قلت - لا ضرر عليّ من ذلك، فقد شبعت من النوم، وليس أعز لديّ من إخراج كل مادة النوم التي كانت مختزنة في أعصابي وبدني.

ولم أكد أتم القول حتى قفزت من التابوت.

فأنشأ الرجل يقول وقد لمحني وأنا أشتمل بأثوابي وكانت موضوعة في التابوت بجانبي أظن أنك كالعادة ستطلب إليّ أن أجول جولة معك في المدينة، وأشرح لك التغييرات التي طرأت عليها، وتنطلق تسألني أسئلة طائشة، وتبدي أموراً ودهشات سخيفة.

قلت - هو ذلك، وهذا ما يجب عليّ أن أفعل. .

فتمتم يقول: ليكن ما تريد، هلم بنا إلى التجوال، ومشى أمامي يدلني على الطريق.

فلما نزلنا السلم رحت أقول - أبخير الآن؟

قال - أي شيء بخير تعني؟

أجبت - الدنيا، فقد كان جماعة من أصحابي يفكرون قبل أن يضرب الله على أذني ويرسل النوم إلى عينيّ في أن يفكوا القطع المركبة منها ماكينة الدنيا، فيركبوها كما يجب، فهل استطاعوا تصليحها الآن، هل الناس متساوون اليوم، وهل انتهى عهد الآلام والأحزان وأشباهها؟

فأجاب دليلي، نعم بالتأكيد، وستجد كل شيء الآن بخير، لقد اشتغلنا كثيراً وأنت نائم، ويمكنني أن أقول لك أن الدنيا قد تحسنت الآن. .

وانطلقنا نسير في مناكب المدينة، فإذا بها آية النظافة والسكون وإذا الطرق متشعبة بعضها من بعض على شكل زوايا قوائم وعلى نظام واحد، وطريقة مفردة، ولم أجد بها من جياد ولا مركبات، بل تسير حركة الطرق فيها بالكهرباء، وكان جميع الناس الذي تمر بهم على سمت واحد، وغرار متساوٍ حتى ليخيل للرائي أنهم أهل عشيرة واحدة وكان الجميع يرتدون كدليلي سراويل سوداء، وسترة سوداء كذلك تمتد حتى العنق ولها منطقة في خصرها وكل رجل منهم حليق اللحية والذقن، والكل سود الشعر فحمه.

قلت لصاحبي - أيكون هؤلاء الناس جميعاً توائم؟

فصاح الرجل: أتقول توائم؟ لك الله من ماجن، كلا، كلا، وماذا بعثك على هذا الظن؟

قلت: وكيف لا والجميع متشابهون، وكلهم سود الشعور، فأجاب الدليل: هذا هو اللون الرسمي القانوني للشعر، إذ ينبغي أن يكون الجميع كذلك، فإذا ولد رجل بطبيعته غير ذلك فعليه أن يصبغه صبغة سوداء.

قلت - ولماذا؟

فأجاب الرجل - وفي لهجته دليل الغضب والاهتياج من كثرة أسئلتي، أتسألني لماذا، لقد كنت أظن أنك قد أدركت أن الناس قد أصبحوا الآن متساوين، فماذا لعمرك الله يكون مصير مساواتنا إذا سمحنا لرجل أو امرأة أن تخطر بيننا إعجاباً وإلالاً بشعر ذهبي إزاء آخر بشعر كلون الجزرة، فنحن بإكراهنا الجميع نساء ورجالاً على أن يكونوا حليقين وأن يكونوا سود الشعور وأن تكون شعورهم متساوية الطول، نصلح بعض أغلاط الطبيعة.

قلت: ولم اخترتم اللون الأسود؟

فأجاب بأنه لا يعرف السبب ولكنه اللون الذي أقروا عليه.

قلت: ومن الذي أقر عليه؟

فرفع الرجل قبعته وحسر عن رأسه وأطرق بعينيه خاشعاً كأنه في موقف من مواقف التسبيح والعبادة، وقال: الأغلبية!.

وانطلقنا حتى إذا بلغنا جمعاً كثيراً من الرجال، أنشأت أقول: ألا يوجد في هذا البلد نساء؟.

فأجاب الرجل وهو في أشد الدهشة: أتقول نساء، بلا ريب، لقد مر بنا مئات منهن. . .

قلت: يلوح لي أنني أعرف النساء إذا أنا لمحتهن، ولكني لا أذكر أنني أبصرت امرأة واحدة في طريقي. . .

قال: وهو يشير إلى شخصين يمشيان على مقربة منا، وهما في الثوب العادي، السراويل والسترات السوداء انظر هاك امرأتين تسيران هناك!.

قلت: وكيف عرفت أنهما من النساء!.

فأجاب الرجل: كيف لا أعرف ذلك، ألا ترى القطعة النحاسية المرقومة بنمرة التي يلبسها كل شخص في عنقه؟. .

قلت: نعم، لقد رأيت ذلك وجعلت منذ لحظة أفكر كيف جعلتم هذا العدد العظيم من رجال الشرطة، وإذا كان كل هؤلاء من البوليس فأين أذن الناس؟. .

أجاب صاحبي: لا حاجة بنا إلى شرطة ولا إلى بوليس، بل إن أهل القطع النحاسية المكتوب فوقها نمر زوجية هم النساء وأما النمر التي بالفرد فهم الرجال.

قلت: وقد مشينا قليلاً، ولم وضعتم لكل امرأة ورجل نمرة.

فأجاب: لنميز كلاً منهما بها.

قلت: إذن أليس لكل اسم يعرف به؟

قال: كلا.

- ولماذا؟

- لك الله، لقد كان في الأسماء ظلم أي ظلم، فقد كان قوم من قبل يسمون أنفسهم عبد العزيز ولطيف وكانوا بهذه الأسامي ينظرون نظرة احتقار وازدراء إلى الذين يدعون زعرب وجحلش وهؤلاء بدورهم يهزأون بالذين يلقبون أنفسهم زعزوع وحجلوف فلكي نمنع هذا الهزء ونريح الجميع قررنا أن نلغي الأسماء بتة ونضع لكل إنسان نمرة!

قلت: ولكن ألم يحتج على ذلك عبد العزيزيون واللطيفيون؟

قال: نعم، ولكن الزعربيون والجحلشيون كسبوا منهم القضية، لأنهم كانوا الأغلبية!.

قلت: ثم ألم يصبح حملة نمرة 1 ونمرة 2 يحتقرون نمرة 3 ونمرة 4؟

قال: نعم، كان ذلك في أول الأمر، ولكن عندما ألغيت الثروة، فقدت الأرقام قيمتها، ولم تصبح لها قيمة إلا في الصناعة فقط، ولكن الآن نمرة 100 لا يعد نفسه أسمى أو أكبر مكانة في شيء عن نمرة مليون.

ولم أكن اغتسلت منذ خرجت من التابوت، إذ لا سبيل إلى الاستحمام في المتحف وأحسست الألم من حرارة الجو، وما عراني من الأوساخ، فقلت ألا سبيل إلى الاستحمام الآن؟.

قال: كلا، فليس لنا أن نستحم بأنفسنا وعليك الصبر حتى تأذن الساعة الخامسة من المساء، فيذهب بك إلى الحمام!. . لكي. . يحموك؟

قلت في دهشة يحموني؟ ومن ذا الذي يقوم بذلك.

قال: الحكومة!

ومضى يحدثني كيف أنهم لم يستطيعوا أن يحتفظوا بمساواتهم إذ أذنوا للناس أن يستحموا بأنفسهم، فقد كان فريق يدخل الحمام ثلاث مرات أو أربعاً في اليوم وآخرون لم يمسوا الصابون والماء من أول السنة إلى آخرها، حتى انقسم القوم إلى طبقتين، الطبقة النظيفة، والطبقة القذرة، وعادت إلى الظهور مناوءات الأحزاب، ومنافسات الطبقات فالفريق النظيف جعل يزدري الفريق القذر، وهؤلاء جعلوا يكرهون الأولين، فلكي نقطع هذا الخلاف، ونذهب بأمر هذا العداء، أقرت الحكومة أن تقوم هي بنفسها بعملية الاستحمام، وأصبح كل فرد من أهل المدينة ملزماً بالحضور إلى الحمام مرتين في اليوم، وأبطل الاستحمام الخصوصي.

ولاحظت ونحن مغذان في المسير أننا لم نقف ببيوت، ولم أشهد منزلاً واحداً، بل لم أر إلا أبنية شاهقة عظيمة أشبه بشيء بالقلاع والثكنات، والجميع على نظام واحد، وسمت واحد، ولكني بين آونة وآونة كنت أمر بأبنية صغيرة موسومة بكلمة متحف مستشفى قاعة المناظرة، الحمام، مجمع العلوم، معرض الصناعة، مدرسة الكلام الخ ولكني لم أجد بيتاً.

قلت: ألا يسكن أحد في هذه المدينة؟

فأجاب الرجل في حنق: إنك لتسألني أسئلة حمقاء، أين إذن يسكنون؟، إذا لم يقيموا بالمدينة؟

قلت: هذا ما أحاول الاهتداء إليه، لأني لا أجد أمام عيني منازل ودوراً.

فأجاب: لسنا بحاجة إلى المنازل والدور، نحن نعيش اليوم على الاشتراكية، ونقيم معاً في ظلال المساواة والأخوة العامة، ونسكن في تلك الأطواد الشامخة التي ترى فكل بناء منها يحتوي ألفاً من أهل المدينة، وألفاً من السرر والمهاد الموطأة وفي كل قاعة مائة منها، ثم فيها الحمامات وقاعات الملابس، وقاعات الطعام والمطابخ، فإذا أذنت الساعة السابعة من الصبح دق الناقوس فنهض كل نائم فأصلح ما اضطرب من أفراشه ثم ينحدر الجميع إلى قاعات الملابس فينظمون من زينتهم، وفي الساعة الثامنة يطاف عليهم بطعام الفطور، وقد أصبحنا اليوم جميعاً نباتيين، نعيش أكثر غذائنا الخضر والبقل، فإذا أقبلت الساعة الأولى من المساء نفخ في الصور مرة أخرى فهرع الجميع إلى الطعام، وإذ تدق الساعة العاشرة من المساء تطفأ الأنوار والمصابيح، ويذهب كل إلى مضجعه، وكذلك نعيش سوياً في إخاء تام، الكاتب بجانب الكناس، والسمكري بجانب الصيدلي، أما الرجال فيسكنون في الأبنية القائمة في هذا الجانب من المدينة، وأما النساء ففي الناحية الأخرى.

قلت: وأين يسكن إذن الأزواج؟

فأجابني: لا أزواج بيننا ولا زيجات، فقد أبطلنا الزواج منذ مائتي عام أو تزيد فإن العيشة الزوجية لم تنجح معنا البتة وألفينا الحياة البيتية نقيضة الاشتراكية، لأن الرجال في شغل إذ ذاك بأزواجهم وعشائرهم عن التفكير في الأمة، وكانوا يجنحون إلى العمل والدأب للإجداء على أحبابهم القلائل ونسوا صالح المجموع، واحتفلوا بمستقبل أصبيتهم وذراريهم أكثر من احتفالهم بمستقبل الإنسانية العامة، وكان من روابط الحب والدم أن جعلت في الناس عشائر وأسرات صغيرة، ولم تؤلف بينهم فتجعلهم جميعاً عشيرة واحدة وأثار الحب رذيلة الطمع في قلوب الناس، فلكي يظفروا بابتسامات النساء اللاتي يحبونهن، ولكي يتركوا وراءهم اسماً مذكوراً وأحدوثة طيبة يحملها أبناؤهم من بعدهم، تدافع الناس جميعاً وراء البحث عن السمعة والرفعة، وكان دأب الرجال أنهم إذا أحبوا امرأة حسبوها أسمى من أية امرأة سواها وأعلنوا ذلك على رؤوس الأشهاد، واعتقدت البعولات أن أزواجهن أسمى وأعقل وأروع من أزواج غيرهن، والأمهات يؤمنّ بأن أبناءهن لا يدانيهم في الفضل والحسن أحد، وتعلم الأطفال من آبائهم أن أمهاتهم وواديهم هم أفضل الأمهات، وأعظم الوالدين، في العالم كله.

وكذلك رأينا الأسرة من كل وجه عدوة المساواة ورأينا في الحي الواحد الرجل يعيش في ظل زوجة حسناء فاتنة وله ولدان جميلان، وفي البيت المجاور لداره رجل يبني بامرأة دميمة وقاح، تخرج له ذراري سوء، بالعشرات، فهل كنت ترى ذلك في شيء من المساواة.

ثم لا تزال الأسرة قائمة، يرفرف عليها ملك الأحزان وملك الفرح، فإذا أدجنت السماء، وأرخي الليل سدوله، ألفيت زوجين مكدودين ينتحبان في الكوخ، وفي الناحية الأخرى من المدينة يخطر حبيبان يضحكان من آلام الناس، ويرتشفان كؤوس النعمة والحب.

وكذلك رأينا الحب عدونا اللدود، لأنه قتل روح المساواة، وجاء إلى العالم بالألم والفرح، وساق الدموع والعبرات، وجلب النعمة والهموم، فحذفناه من الحياة حذفاً، ومحوناه محواً، وطمسنا على آثاره وآثار ما فعل.

ولم يعد الآن في العالم زيجات، ولذلك لم تعد الآلام تزور الناس، ولم يبق في الدنيا دموع ولا قبلات.

قلت: يخال إلي أنها نعمة الطريقة، ويا حبذا المذهب، ولكني أسألك ولي معذرة في هذا السؤال، إذ لا باعث عليه إلا الغرض العلمي، وكيف تحتفظون بالنسل؟

قال: ما أبسط الوسيلة، وما أسهل السبيل، وكيف كنتم في زمنكم تحفظون نسل الخيل والبقر، أم يكن ذلك بالتعشير والتنطيط كذلك نحن، فإذا أقبل الربيع، وضعت الحكومة تقديراً لميزانية الأطفال الذين يلزمون لها، وأخذت العدة لذلك، وأجرت الترتيب، فإذا ولدوا أخذوا من أحضان أمهاتهم (حتى لا يعتدن على حبهم) وربوا ونشأوا في المستشفيات العمومية وفي مدارس الأمة حتى يبلغوا الربيع الرابع عشر، وإذ ذاك يفحصهم رجال يعينون لهذا الغرض، ليعلموا الصناعة التي تلائمهم في الحياة، فإذا اختاروا لهم السبيل، وربوهم على الصناعة، ولقنوهم العلم والفن، وألموا على العشرين، ظفروا بحق الانتخاب ذكوراً وإناثاً على السواء.

وسرنا كذلك بضعة أميال، فلم أرَ غير أبنية شاهقة، وصروح عالية، فقلت: أليس في المدينة حوانيت للبيع والمخازن وأسواق؟

أجاب: كلا، ما حاجتنا إلى الحوانيت والمخازن، إن الحكومة تطعمنا وتكسونا وتكننا وتطببنا وتحمينا وتزيننا وتحصد غلاتنا وتواري سوءاتنا، فما حاجتنا إذن إلى الحوانيت.

قلت وقد أحسست تعباً من أثر المسير، ألا نستطيع أن نجلس في أي مكان ونلتمس شراباً؟

قال: شراباً! ماذا تقصد بكلمة شراب إننا نتناول مقداراً طيباً من الكاكاو في جلسة العشاء، هل تريد ذلك، فلم أشأ أن أشرح له وأفسر، إذ أدركت أنه لم يكن ليفهم لو شرحت له.

قلت: نعم، هذا ما أردت.

ومر بنا رجل حسن الخلقة، وشاب جميل السمت، ليس له إلا ذراع واحدة، فلفت إليه نظر الدليل وطلبت الشرح.

قال: نعم، إننا إذا وجدنا رجلاً فوق المسوى العادي، قطعنا ذراعه، أو ساقاً من ساقيه، لنجعل كل شيء متساوياً، لأن الطبيعة كما ترى، أبداً في اختلاف وخطأ، فنحن محاولون دائماً أن نصلح سيرها، ونهذب من شأنها.

قلت: فماذا تفعلون لو خرج إليكم رجل ذكي أوى من النبوغ وتوقد الذهن ما لم تؤتوا.

قال: لسنا نجد ذلك الآن، ولو يخرج لنا منذ زمن طويل قوة ذهنية خارقة للعادة حتى الآن، ولكن لو عرض إنسان له مثل ما وصفت من حدة الذهن، فليس علينا إلا أن نؤدي له عملية جراحية في مخه حتى تجعل ذهنه يبرد وبهذا يكون في مستوى الأذهان العادية.

وانطلقنا.

حتى إذا مشينا قليلاً قلت: ثم ألا يؤذن لكم بقراءة الكتب.

أجاب: أما عن الكتب فإني أقول لك أن ليس لدينا الكثير منها، إذ كنا نعيش الآن عيشة كاملة، خلوا من المظالم والآلام والفرح والأمل والحب والحزن، فلم بعد لنا ما نكتب عنه!

قلت وماذا صنعتم بالكتب القديمة، وماذا كان مصير شكسبير وسكوت وملتون وغيرهم من سادة كتاب العهد القديم، وماذا صنعتم بالكتاب أو الكتابين اللذين وضعتهما أنا في زمني، ماذا جعلتم من كل هذه الكتب والتواليف البديعة؟

فأجاب الرجل: لقد أحرقناها جميعاً، فقد كانت كلها مفعمة بوصف الآلام القديمة، يوم كان الناس دواباً كدواب الحمل.

فسألته: أليس لكم دين تدينون به.

قال: نعم.

قلت: ألكم إله تعبدونه.

قال: نعم.

قلت: وماذا تسمونه.

قال: الأغلبية!.

قلت: دعني أسألك السؤال الأخير، وأرجو أن تغفر لي كل جرأتي هذه.

هل كثيرون منكم يرتكبون جريمة الانتحار؟

فأجاب: كلا، لم يكن هذا ليوجد لدينا.

فنظرت إلى الوجوه التي أمر بها، وجوه النساء وملامح الرجال فرأيت في معارفها هيئة صامتة هادئة، فجعلت أسائل النفس حائراً، أين رأيت مثل هذه الوجوه، لأنها لاحت لي كأنني كنت أعرفها من قبل.

ولكني لم ألبث أن تذكرت، لقد كانت بعينها الهيئة الهادئة المذهولة الحائرة التي كنت ألمحها في وجوه الخيل والثيران التي كنا نرعاها ونربيها في عالمنا القديم.

نعم، بلا ريب، أمثال هؤلاء الناس لا يستطيعون أن يفكروا في الانتحار!. . . .

يا الله! لقد أمست الوجوه مظلمة والأشباح معتمة في ناظري، وأين دليلي، لقد ضللته، ولماذا أنا الآن جالس فوق أفريز الشارع، آه، ماذا أسمع! هذا ولا ريب صوت مسز بجل صاحبة البيت الذي أنا فيه، هل كانت في سبات مثلي ألف عام، إنها تقول لي الآن أن الساعة الثانية عشر صباحاً، الثانية عشر فقط، هالوا!. . . .

هذا أنا في فراشي، أكان كل ذلك حلماً! وهل عدت إلى القرن التاسع عشر؟

فتحت النافذة فإذا بي أسمع حركة معركة الحياة القديمة، والناس يتقاتلون ويدأبون ويكدون والناس ضاحكون وباكون ومبتئسون ومبتهجون، يفعلون السوء، ويؤدون الخير، ويقعون وينهضون.

إذن إلى العمل، إلى العمل، فقد تأخرت في النوم، وليتني لم ألح على كؤوس الوسكي ليلة الأمس!