مجلة البيان للبرقوقي/العدد 44/الطلاق وتعدد الزوجات

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 44/الطلاق وتعدد الزوجات

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1918



نظرة فلسفية عامة في هذا الموضوع

للفيلسوف دافيد هيوم

لما كان الزواج عقداً يبرم بين الذكر والأنثى عن اتفاق وتراض وكان الغرض منه المحافظة على النوع فمن البديهي أنه لا يمكن أن تكون شروطه واحدة بعينها في جميع الأحوال المختلفة ولكن متنوعة حسبما يقتضيه الاتفاق ولذلك كان من الحماقة أن يحسب الناس أن الزواج يمكن أن يكون على صورة واحدة في جميع العصور والأمم، ولولا أن الناس مقيدون بالقوانين والشرائع لم تكد تجد زيجتين متماثلتين في الدنيا، بل لكنت تبصر بين كل زيجة وأخرى من الخلاف ما تراه بين سائر أنواع العقود والمساومات.

فعلى حسب اختلاف الظروف ومزايا القوانين المتعددة تختلف شرائط الزواج التي تفرضها هذه القوانين في الأماكن والأزمان المختلفة، ففي ميناء طونكين من بلدان الصين اعتاد البحارة الافرنج الذين يرسون بهذه الميناء أن يتزوجوا من الوطنيات مدة موسم البطالة، والأمر المدهش العجيب أن هؤلاء الزوجات بالرغم من قصر عمر هذا الزواج ويأسهن من بقائه يعطين أزواجهن أوثق العهود على ملازمة العفاف والصون لخدورهن وحسن القيام بجميع ما لهم عليهن من الحقوق.

وتتابعت مرة حروب وأوبئة على جمهورية أثينا (في عهد قدماء اليونان) فأفنت جانباً عظيماً من أهلها فأباحت الجمهورية للرجال زواج الاثنتين تعجيلاً بتعويض خسائرها، واتفق في ذلك الوقت أن الشاعر التمثيلي الكبير يروبيديز وقع بين امرأتين شريرتين فسامتاه سوء العذاب بكثرة مشاجراتهما ومنازعاتهما حتى بغضتا إليه النساء فبقى إلى آخر عمره من ألدّ أعداء الجنس اللطيف.

وحدث في بعض الأزمان أن سفينة غرقت على كثب من ساحل بلد قفر غير معمور فنجا جانب من ركابها ولاذوا بذلك الساحل وتصادف أن عدد الرجال فيهم كان أضعاف عدد النساء، فوقع الخصام والنزاع بين الذكور لتزاحمهم على الإناث ففض القبطان المشكل بتقسيمه العنصر اللطيف على رجاله بالطريقة الآتية: اختار امرأة جميلة لنفسه خاصة، وأعطى امرأة واحدة لكل اثنين من النوتية المتوسطي الدرجة، وامرأة واحدة لكل خمسة من النوتية الأصاغر.

ولقدماء البريطان أسلوب في الزواج لا يوجد بين غيرهم من الأمم، وذلك أنه كان يجتمع عدد منهم - عشرة أو اثنا عشرة - فيعيشون معاً وهو أمر ضروري ضمان البقاء في تلك العصور الهمجية، ثم لتوثيق عري الألفة والاتحاد بينهم كانوا يتخذون مثل عددهم من النساء ليكنّ زوجات مشتركة بينهم جميعاً بلا تخصيص، وكل ما يولد لهم من الذرية يعدونه ولداً للجميع على السواء، ويقوم الكل معاً بتربية هذه الأولاد وتموينهم.

أما بين الحيوانات فلما كانت الطبيعة هي المشرّع الأعلى فهي التي تقوم بوضع القوانين الضابطة لشؤون زواجها وتنوع هذه القوانين تبعاً للظروف الخاصة بكل حيوان، فحيث تسهل الطبيعة أسباب الغذاء والحماية للحيوان المولود فإن زواج الأبوين ينتهي عند انقضاء النزوة الأولى، إذ يترك الفحل ولده للأنثى ويمضي لشأنه، أما في الظروف التي يصعب فيها استحضار الغذاء فإن الزواج يستمر مدة موسم كامل حتى يصبح الولد قادراً على تموين نفسه وعند ذلك ينحلّ عقد الزواج من تلقاء ذاته ويصبح كل من الطرفين حراً مستعداً للدخول في تعاقد آخر في الموسم القابل، أما الإنسان فلما كانت الطبيعة قد وهبته العقل فلذلك لم تعن العناية التامة بتحديد كل مادة في عقد زواجه ولكنها أباحت له تحديد هذه المواد حسبما تقتضيه ظروفه الخاصة فنشأ عن ذلك الصور المختلفة للزواج كتعدد الزوجات في أمم المشرق وإباحة الطلاق عند قدماء اليونان والرومان، أو تقييد رجل بامرأة طول حياته في أوروبا الحديثة وهنا يجدر بنا أن نبحث في مزايا ومضار كل واحد من النظامات المختلفة.

قد يقول أنصار تعدد الزوجات إن هذا النظام هو الدواء الوحيد لآفات العشق والوسيلة الوحيدة لتحرير الرجل من استبعاد المرأة إياه الذي هو نتيجة لزومية لعاطفة الحب، فهذا النظام وحده (أعني تعدد الزوجات) هو الكفيل لنا باسترداد حق سيادتنا على المرأة، لأنه بإشباع شهوتنا للنساء يعاد إلى نفوسنا سيطرة العقل على الهوى وبالتالي يعاد لنا نفوذنا وسلطتنا في بيوتنا، فالرجل مع النساء كالحاكم الضعيف مع رعيته فكما أن هذا لا يستطيع أن يقاوم مكايد الشعب ودسائسه إلا بتسليطه بعض الأحزاب على بعض فكذلك الرجل بإشعاله نار الغيرة بين نسائه يصبح مطلق النفوذ والسلطان عليهن، وفي المثل السائد فرّق تسد وإن ترك هذه الخطة هو الذي أوقع الأوروبي من الرق والعبودية فيما هو أمر واد هي من حالة رعايا ممالك الشرق الذين يخضعون لحاكم هو على كل حال بعيد عنهم ولكنهم في بيوتهم حكام مطلقون وملوك مستبدون.

وعلى نظام تعدد الزوجات قد يعترض بحق بأن استعباد الرجل للمرأة هذا إنما هو ضرب من الظلم والاغتصاب وأنه يفسد صلة المساواة التي يجب أن تكون بين الرجل والمرأة وإن الطبيعة قد جعلت من الرجل حبيباً للمرأة وعاشقاً وصديقاً، أفيليق به بعد ذلك أن يستبدل من هذه العلاقات الودية المحبوبة علاقات العبودية الكريهة ولقب الجبار المستبد والغشوم الطاغية.

وماذا نستفيده من هذا النظام، هل نستفيد من وجهة كوننا عشاقاً أو من وجهة كوننا أزواجاً، كلا لا فائدة البتة، لأن هذا النظام الاستبدادي يفسد في نفوسنا صفات العاشق وصفات الزوج معاً، ألا ترى أنا بهذا النظام نفقد ألذ أدوار الحياة أعني دور المغازلة والتودد الذي يقع بين الخطيبين قبل الزواج الاختياري القائم على رغبة الطرفين ورضاهما، فإن هذا الدور اللذيذ لا يتفق مع النظام الاستبدادي الذي تباع فيه المرأة للرجل بيع السلع في الأسواق، وإن الزوج الذي يهتدي إلى إتلاف جميع عناصر الحب إلا عنصر الغيرة لملئ بالخيبة والخسران، فإن الغيرة بين سائر أركان الحب الممتعة الشهية هي كالشوكة بين أوراق الوردة الناضرة، والويل للأحمق المأفون الذي ينتزع أوراق الوردة فينبذها ويحتفظ بالشوكة.

وهكذا نرى أن هذا النظام الاستبدادي (القاضي بتعدد الزوجات) الذي يتلف كل عناصر الحب إلا الغيرة إنما هو عامل فعال في حل روابط الحب والصداقة فإن الغيرة تقطع أسباب الألفة والوداد بين الأفراد وتفصم عرى الثقة والعقيدة، فترى الرجل لا يجرأ أن يدعو إلى داره صاحباً أو صديقاً مخافة أن يكون قد جلب إلى زوجاته عاشقاً مغراراً، ولذلك ترى البيوت والأسر في بلاد المشرق منعزلة منفصلة كأنها الممالك المستقلة، فلا عجب والحالة هذه أن تلقي سليمان (الملك والنبي) يذم الدنيا ويعدد آفاتها ومصائبها مع ما أوتي من أبهة الملك ورغد العيش وسط زوجاته السبعمائة وسراريه الثلاثمائة لأنه كان مع كل هذه المتاعب لا يجد صديقاً واحداً يشاركه في أفراحه وأتراحه، ولو كان جرب لذة الحياة الغربية التي تنعم بها أوروبا الحديثة وهي زوجة أو رفيقة واحدة وبضع أصدقاء وعدد وافر من الجلاس والسمراء لوجد الحياة أخف محملاً وأحلى مذاقاً، عجباً للإنسان يمحو من حياته عنصري الحب والصداقة ماذا بقي في الحياة - لا درّ درّه - بعد ذلك؟

ومن نتائج هذا النظام الزواجي الشرقي أيضاً سوء تربية الأولاد لاسيما أولاد السراة والأعيان، وماذا تنتظر من ذرية تنشأ بين أمهات رقيقات وآباء جبابرة إلا أن يشبوا على طبائع الذل والجبروت فيصبحوا عبيداً أذلاء وطغاة جبابرة، فتراهم في مخالطتهم رؤساءهم ومرؤوسيهم لا يكادون يذكرون أن الله قد خلق الناس أمثالاً متساويين بالفطرة وماذا تنتظر من والد له خمسون ولداً أن يكون مبلغ اهتمامه وعنايته بغرس مبادئ الآداب والعلوم في ذرية لا يكاد هو نفسه يلم بأطرافها أو يعرف أفرادها لهذه الأسباب كلها يظهر لنا أن الانحطاط والبربرية نتيجة لزومية لنظام تعدد الزوجات.

ومما يزيد النظام المذكور شناعة آفة الحجاب وتضييقه الخناق على الجنس اللطيف في كافة أنحاء المشرق، ففي هذه الأقطار يمنع الرجال البتة من كل اتصال بالإناث حتى الأطباء والجراحين فلا يسمح لهؤلاء أن يعودوا النساء في أمراضهن إذ يكون المرض قد أخمد فيهن كل شهوة بريئة أو أثيمة وصيرهن من الوهن والذبول بحيث لا يطمع فيهن طامع، وقد حدثنا الطبيب تورنيفورت أنه لما استدعي إلى سراي الحرم السلطاني بالاستانة أدخلوه صالوناً فسيحاً فنظر فإذا أذرع ممدودة خارجة من ثقوب في جانبي الصالون يمنة ويسرة فتناهى عجبه من ذلك المنظر المدهش وسأل عن سر ذلك فأعلموه يفحص شيئاً منها خلاف تلك الأذرع، وإنه محظور عليه أن يسأل المرضى أو غيرهن من الخدم والوصفاء أدنى سؤال خشية أن يؤدي ذلك إلى التساؤل عما لا يصح إعلانه من حديث القصر، ومن ثم كان ما يدعيه أطباء الشرق من استطاعة معرفة كافة الأمراض بواسطة النبض فقط شبيهاً بدعوى الدجالين عندنا (انكلترا) معرفة المرض بمجرد النظر في البول، وظني أنه لو كان الطبيب تورنيفورت من أولئك الدجالين لما سمح له أهل البلاط الملوكي في الاستانة بهذه المادة (البول) يستعين بها على ممارسة فنه وصناعته وذلك لفرط غيرة الأتراك على المرأة.

أما وقد دحضنا نظام تعدد الزوجات وقضينا عليه لنظام توحيد الزوجة فلنبحث الآن في موضوع الطلاق هل يصح أن يكون اختيارياً كعهده أيام اليونان والرومان، وهنا نورد الحجج التي يقدمها أنصار مذهب الطلاق والأسباب المبنية عليها هذه الحجج.

يقول أنصار هذا المذهب أن الزواج كالقرص من عسل النحل فيه الشهد والشمع - فالشهد هو ما يسبق العرس من زمن المغازلة والزلفى إلى المعشوقة والتودد وما يحتويه ذلك الزمن من حوادث القرب والبعد والوصل والهجران والخصام والتصافي - وبعد هذا الدور اللذيذ ينتهي العسل ولا يجد الزوجان أمامهما سوى الشمع، ثم يحدث بينهما الفتور والجمود والملل والضجر والمشاحنات والأذى، وهذه الجراح لا يزيدها الزمن إلا اتساعاً، أليس الأصوب والأليق بنا والحالة هذه أن نفرق قلوباً لم تخنق على مثال واحد ولم يرد الله أن تتآلف وتمتزج، ولكنها قد تجد أشكالها وأشباهها في أناس آخرين إذا هي انفصلت وتزايلت، وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته.

هذا وحرية الطلاق ليست فقط دواء التشاحن والكراهة العائلية، بل هي أيضاً وقاية من هذا الضرر، وهي السر الوحيد في استبقاء تلك المودة التي ألفت بين الزوجين في أول الأمر، وبيان ذلك أن الرجل يفرح بنعمة الحرية ويغتبط ومجرد فكرة المضايقة والتقييد تؤلمه أشد الألم، فإذا قيد قلب الرجل بعشرة المرأة التي لم يضمها لنفسه إلا عن محض إرادة واختيار فإن العاطفة تتغير في الحال وتنقلب عن الميل والرغبة إلى النفور والزهد، فإذا كانت القوانين تحرمنا بنظام توحيد الزوجة لذة التنويع والتنقل التي هي من أكبر لذائذ الحب أفلا أقل من أنها تبقى لنا مزية الحرية التي هي من أوجب ضروريات الحب، ولا يقولن أحد لصاحب مبدأ الطلاق ارض بزوجتك فإنك أنت الذي اخترتها بمحض هواك وغرضك فعلى مثل هذا المعترض نرد بالكلمة الآتية نعم لقد اخترنا سجننا بأنفسنا ولكن لا عزاء لنا في هذا إذ كان لا مفر من بقائه لنا سجناً مؤبداً.

ويقدم المعارضون لمبدأ حرية الطلاق نفياً للحجج الآنفة ردين قاطعين وهما:

(أولاً) ماذا يكون مصير الأولاد بعد افتراق الزوجين، لا مناص من ترك معظمهم لامرأة أب يلقون على يديها كراهة عدوة لهم أو إهمال أجنبية غريبة باردة القلب من ناحيتهم، أفليس في الطلاق الإجباري (الموت) كاف لا يقاع تعساء الأطفال في هذه البلية حتى تضاعف عدد هؤلاء التعساء بمضاعفة حوادث الطلاق ووضع سلطته الرهيبة في أيدي الأزواج ينفذونها لأقل باعث من هوي أو شهوة مما يسوق الذرية إلى موارد العذاب والأسى.

(ثانياً) لا مشاحة في أن الإنسان يثور بفطرته ضد الأسر والتقييد ويفرح بالحرية ولكنه من وجهة أخرى يخضع للضرورة ويوطن النفس على السيء الذي لا مناص منه ولا موئل، وهذان المبدآن - مبدأ كراهة التقييد والرضا بالواقع الذي لا محيص عنه - إن قلت أنهما متناقضان فهذا حق، ولكن أليس الإنسان إلا خليطاً من المتناقضات ومزيجاً من الأضداد، هذا وإن الضدين من أخلاق المرء لا تراهما في العادة يتحاربان ويمحو أحدهما الآخر، ولكن ترى أحدهما يتغلب على الثاني تبعاً للظروف الخاصة الملائمة له المؤيدة لسطانه، فطبيعة النفور من التقييد وكراهة التضييق تقوي وتستفحل في دور العشق الذي يسبق الزواج لأن العشق بطبيعته عاطفة قلقة نزقة وثابة مملوءة بالأهواء المتضاربة والنزعات المتباينة فهي تنشأ فجأة من تأثير لحظ أو ابتسامة أو ملاحة أنف أو وجنة أو حركة أو جلسة أو خطرة أو من لا شيء ثم تنطفئ وتزول على هذا النحو، فمثل هذه العاطفة تتطلب الحرية قبل كل شيء، أما مبدأ الصداقة والعشرة فهو خلق ساكن هادئ يدبره العقل وتؤيده العادة، وينشأ عن طول الصحبة وتبادل الأفضال والمنن - وهو خال من أسباب الغيرة والظنون والمخاوف، مجرد من طوارئ الغضب والرضا وحوادث الهجر والوصل ونوبات الحميات الباردة والحارة التي يتألف من مجموعها هذا العذاب العذب والألم اللذيذ الخاص بعاطفة العشق، فمثل هذا الخلق الهادئ (أعني الصداقة بين الزوجين) التقييد أكفل باستمراره والتضييق أضمن لقوته وبقائه، فهو لا يبلغ أقصى غايته إلا إذا ارتبط الزوجان بروابط المصلحة والضرورة حتى يتفقا في المقصد ويتحدا في الغرض والغاية، فلا خوف إذن من إبرام عقدة الزواج الأبدي فإنه أوكد لمودة الزوجين إذا كانت متينة من الأصل وأحرى أن يكسبها قوة ومتانة إذا لم تكن كذلك، وكم مشاجرات تافهة وأكدار بسيطة يتغاضى عنها الزوجان اللذان يعلمان أنهما مربوطان بقيد الزواج الدائم، وهي إذا وقعت بين اثنين غير مقيدين هذا القيد كانت مليئة أن تهيج الشر بينهما إلى أقصى درجات المقت والعداوة.