مجلة البيان للبرقوقي/العدد 47/روح الإسلام

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 47/روح الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1919


ما كدنا ننشر في العدد الماضي ذلك البحث الممتع الذي وضعه عالم من علماء الغرب فأدلى فيه برأي عدل مكين، في هذا الدين الحنيف المتين، حتى استحثنا القراء على الاسترسال في نشر كثير من هذه الأبحاث. والإفاضة نقل ما كتب في لغاب الفرنجة عن الإسلام والانتصار له والنضح عنه ولذلك قد أخذنا على أنفسنا وأجمعنا النية، ورسمنا الخطة على أن ننقل للناس أمهات الأبحاث الإسلامية ونزهي إلى العالم الإسلامي أبدع ما كتب المنصفون عنه وخير ما نشر الكتاب العدول في فضله وإظهار محاسنه بعد أن رأينا الملاحدة والمستهينيين بالعقيدة، والمستخفين بالإيمان، والكافرين، عمي البصائر، الذين على قلوبهم أكنة، وفي لأفئدتهم مرض، وقد ملأوا هذه الحياة، وراحوا يرسلون أنفاس الكفر بين الشبان، ويظهرون كفرهم واستخفافهم وتخلخل عقائدهم في المجامع والكتب، والأحاديث والمحافل، جهراً وعلانية، ويعيشون عليها سراً وكتماناً، حتى أصبح المؤمنون في خشية من أتن يغلب الكفر الإيمان، في عصر غلبت فيه المادة الروح وسادت مبادئ العقل على مبادئ القلب، وجعل عداد الذين يسلكون أنفسهم في صفوف الملاحدة وأنصار الملاحدة من الزائغين والمستهينين يتكاثر يزداد كل صباح، ويحشد حشده في كل مغيب.

واليوم لم نجد في جميع الأبحاث والتواليف التي أنصف فيها الكتاب ديننا الحنيف ورسالة محمد سيد الدنيا قاطبة، ورسول الله إلى الناس كافة، كتاباً أحق أن نبتدئ به، وأقمن أن نصدره في رأس هذه النية التي انتويناها ونفتتح به هذه العزيمة التي اعتزمناها، من ذلك الكتاب الممتع العجيب الذي وضعه رجل من كبار رجال الدنيا وأعرف الناس بفضل الإسلام، وأشد الكتاب اضطلاعاً بأسرار الأديان جميعاً، على كثرة ألوانها، وتعدد مذاهبها ونحلها، ألا وهو السير سيد أمير علي صاحب كتاب (روح الإسلام) فلعل هذا الكتاب خير ما أخرج للناس في فضل الإسلام والانتصاف له، والدفاع عنه، وقد وضعه ذلك السيد العظيم بالإنكليزية، فتجلى بين دفتيه استمكانه من أدب اللغة، وإلمامه الواسع بأسرارها، ولم نعرف رجلاً مثله كتب في الإنكليزية بتلك البلاغة التي كتب بها وصدع برأي يداني رأيه.

والكتاب قسمان. خص السيد القسم الأول منه بتاريخ الإسلام وظهوره وما كان من غزوات النبي وأعمال صحاب الشريعة، وجعل الثاني وقفاً على الدفاع عن قضية الإسلام بين الأديان، وشرح مبادئه والتبسط في إظهار فضل سننه، وكشف الحجاب عن الأمثلة العلي فيه، والاستفاضة في بيان آدابه وروح تعاليمه والغرض الإلهي منها والمقاصد السامية التي ضمنها كتابه.

وهذا القسم الأخير الذي اعتزمنا أن ننقله بجملته إلى قراء العربية والدانين للإسلام حتى نحارب روح الإلحاد الذي أخذت يتفشى في صفوف المسلمين، ونعده لأمة وسلاحاً نجاهد به الضالين المضلين، وحتى تقوى مشاعر الإيمان، وتتفتح لأسرار سيد الأديان.

الفصل الأول

الإسلام ومعناه في اللغة العربية - آداب الإسلام ومبادئه الأخلاقية، فكرة الله في جميع أديان العالم - عبادة المسيح - المسيحية الكمالية المتحضرة - الغرض الأول في الإسلام.

إن الدين الذي جاء به عيسى يسمى المسيحية، وهذه التسمية مستمدة من تلقيب عيسى بالمسيح، وكذلك دين موسى وبوذا لا يزالات يعرفان باسمي الرجلين اللذين نشراهما في العالم، ووثبا بهما إلى الدنيا، ولكن دين محمد وحده هو الذي استمد من نفسه اسماً خاصاً يعرف به. ولفظ مفرداً ينادي ويدعى في العالم به وهو (الإسلام) ولا تستطيع أن تقدر هذا الدين حق قدره، وتعدل في الحكم له، حتى تفهم الفهم كله المعنى الحقيقي لكلمة (الإسلام) فإن مادة هذا المصدر سلم وما ينفرع عنه تؤدي معان كثيرة، منها سكون النفس وسلامها والوفاء بالواجب وأخيراً الاستسلام والإذعان إلى الله والخضوع له. والاسم منها يؤدي معنى السلام والتحية والأمان والنجاة والخلاص. وليس معناها مقصوراً على الإذعان المطلق لإرادة الله كما وهم الناس، وحسب القوم بل لا تزال تؤدي معنى البحث عن السلام والحق.

والأساس الذي قام عليه دين الإسلام ينفرع عن خمسة مبادئ. أولاها الاعتقاد بوحدانية الله وأنه لا يحيط به مكان، ولا يشغل حيزاً وأنه يتجرد عن المادة والتصديق بقوته ورحمته، وإخلاص المرء وجهه وقلبه لحب الخالق عز وجل، والمبدأ الثاني الإحسان والرفق والأخوة العامة بين الناس أجمعين. والمبدأ الثالث قمع الشهوات وقتل شرة النفسي، وإخماد بهيمية الروح والرابع القنوت لله وشكره خالق كل خير. والخامس التصديق بالحساب في حياة وراء هذه الدنيا، وآخرة بعد الأولى، وآجلة لعاجلة، ولعل المبادئ السامية الشماء التي تضمنها القرآن في بسط قوة الله وحبه وعظمته ورحمته لا مثيل لها ولا ضريب في أي دين آخر من الأديان، ثم لا تزال وحدانيته متجردة عن المادة وجلالة وقدرته ومغفرته ورحمته أنشودة فياضة ثابتة لا نهاية لها ولا ختام ولا حد، تتدفق في آيات وقطع ورسالات من أبلغ آيات البيان وأشدها إثارة للأرواح وهزة للنفوس. ثم لا تزال الروحانية في الحياة وفيضها ونورها مبادئ لا ينتهي الإنسان منها. ولكنك لا تجد في دين الإسلام كله من أوله إلى آخره أثراً من آثار الاستبداد الفكري والسفسطة وتشعب النظريات السفسطائية والمبادئ العقلية، واللجاج والمحاجة والثرثرة، بل لا يزال هذ الدين يمس الروح، وينادي الضمير العميق في الإنسان، ويناجي الفؤاد والوجدان، ويمشي مع الصوت الخارج من حبة القلب، الصادر من سويداء الروح، ولا يسمع إلا لمنطق القلوب معقل الغريزة والفطرة.

ولنأخذ الآن في شرح موجزة ونظرة غير مستطيلة إلى الأفكار الدينية التي كان يدين بها شعوب الدنيا لما بدأ نبي الإسلام يدعو دعوته، ويبث رسالته، فقد كانت فكرة الله عند العربي الجاهلي تختلف تبعاً لآداب الفرد أو القبيلة فمنهم من كانت تبلغ فكرة الله عنده إلى حد الإلوهية وطبيعة الإلهع، وآخرون كان يسفون من هذه الناحية فتتردى عقيدتهم في الإلوهية إلى حد عبادة الأوثان، وتنزيل الإلوهية واعتقادها في قطعة من الصخر، أو العصي أو الأخشاب، وكان قوم منهم يعتقدون في حياة أخرى، على حين كان فريق آخرون لا يعلمون عن ذلك شيئاً البتة، وكان أعراب الجاهلية يدينون ويسلمون أنفسهم إلى سلطان الساحرات، أسوة بالفينيقيين، وكان سكنة الصحراء والضاربون في البيداء والعرب العرباء والعادون في المهمة القفر، ولا ريب خلاء قلوبهم من عبادة الله، ولكنهم مع ذلك لم يكونوا عمياً عن أن يروا ويتخيلوا يداً خفية وراء هذه الرياح الهوج التي تعصف في الصحراء فتغمر الأرض رمالاً تزجيها وترسلها هوجاء، وإن تشاء تردها شمالاً، أو إن تشاء تعيدها نسيماً سجسجاً، وهي التي ترسم تلك الألوان الجميلة الخداعة التي تنهض لأعين القافلة، تستبيهم لموتهم، وتجتذبهم على حر الأوام ولهب الظمأ إلى حتوفهم، وكذلك تعلم أنه كان يجري في العالم الذي يحيط بالعرب فكرة غير محسوسة، ورأي غير ملموس، ولا محقق أو محدود، في أن فوق هذه الأكوان قوة عالية، هي رب الأرباب.

ولعل اليهود وهم أولئك المحافظون على فكرة الوحدانية كما لقبهم بذلك التاريخ كانوا الذين أعانوا على تكوين هذه المشاعر، على انهم أنفسهم أظهروا الإعراض والعلل التي تنجم عن التطورات والانقلابات في آراء أمة من الأمم عندما يعوزهم في شرائعهم الدينية العنصر التاريخي أو القوة العقلية الصحيحة، فقد دخل اليهود شبه جزيرة العرب في أزمان مختلفة وببواعث متعددة، ووراء ظروف متباينة وأنت تعلم أن آراء المهاجرين والطارئين على البلاد والواغلين على أمة من الأمم، والنازلين بمملكة من الممالك، والنازعين إلى بلد من البلدان، يختلفون كثيراً بطبيعة الحال في نزعاتهم، ويتباينون في آرائهم، ولا ريب في أن أفكار الذين فزعوا إلى بلاد العرب من جراء اضطهاد الآشوريين والبابليين كانت أكثر نزوعاً إلى نسبة الإنسانية للإله، وتشبيهه بالإنسان وإطلاق صفات الآدمية عليه، من أولئك الذين هاجروا إلى بلاد العرب قبل عهد فسباسيان وتراجان وهارديان، ولم تكن تلك الصفات التي أدت ببني إسرائيل مراراً إلى النكوص والرجوع إلى عبادة الأوثان في بلادهم ومسقط رؤوسهم من جراء وجود الكهان بين ظهرانيهم، ومشيهم في صفوفهم، تستطيع أن تحميهم من وثنية أخوانهم العرب الذين فزعوا إلى جوارهم وانحدروا للمقام بينهم، بل جعلوا يخلطون مع رب إبراهيم فكرة مادية في الإله ويصورونه تصويراً ملموساً، ويجردون منه الصفات الإلهية المقدسة، فراحوا يعبدون تمثالاً صنعوه ومثلوا فيه إبراهيم وبجانبه الكبش معداً للتضحية والقربان، ووضعوا تمثالهم ذلك داخل الكعبة.

ثم هبط المجوس بعدهم فجعلوا يعبدون الشرع ويغالون فيه إلى حد الوثنية ومضى كهانهم ورؤوسهم يطالبونهم باحترام يداني العبودية، واعتقدوا أنهم حراس القوم وحماة الناس، وحفاظ القانون، ورعاة الشرع، ونظروا إلى أنفسهم كأنهم صفوة الأمة وزهرة القبيل وخلاصة الإنسانية وكان الناس من ناحيتهم يعدونهم بعد الله ويحسبون أن بينهم وبين الله حجاباً غير مستور وأنهم على التنبؤ قادرون، وبلغ حب اليهود موسى مبلغاً حتى جعلوا يعظمون اسمه كما يعظمون اسم الله العلي العظيم، ثم خلعوا شيئاً من هذا التعظيم الذي هو أشبه شيء بالعبادة على عزرا، منقذ حياتهم وشريعتهم على عهد الأسرة الكنعانية.

فلما أظهر عيسى، لم تجد فكرة وحدانية الله والاعتقاد بأن فوق الكون إرادة عظيمة مسيطرة بقوتها وعظمتها قبولاً وتصديقاً ورضى إلا من شعب واحد وهم عبدة يهوذا بل لم تلبث لديهم كذلك أن ضعفت واختلط جوهرها بما دخل عليها من جراء الامتزاج بالأمم الوثنية، أو ما جاء إليها من الفلاسفة الوثنيين. وكذلك كان الهنود على فرط ما عندهم من آلهة.

وعلى كثرة أربابهم ومعبوداتهم، والمجوس وما كان بينهم من تنازع إلهين على السيادة ومصارعة ربين على السلطان والعبادة، واليونان والرومان والمصريون ومتاحفهم مفعمة بصور الآلهة ودمى الأرباب. وإن كانت آداب تلك الآلهة أحط من آداب الذين كانوا يعبدونه، يوم ظهر عيسى عليه السلام، وكذلك حالة الدنيا المتحضرة يوم بدأ المسيح ينشر تعاليمه، ويدعو إلى الله دعوته، ولقد كان ذهنه على فرط أمانيه الجميلة التي كان يريد تحقيقها في هذا الكون الأرضي، وآماله وعلالات نفسه ومقاصده ومبادئه العالية، خلواً مما نسبه إليه أتباعه من تلك الدعوى الكاذبة التي ألصقوها به إلصاقاً فهو لم يدع أنه روح القدس ولم يقل أنه كان لله ولداً، حتى أن المسيحية الكمالية العصرية في هذا الزمن المهذب، والعهد المتحضر، لم تستطع على اليوم التخلص من تلك الوراثة القديمة والعقيدة المنحدرة إليهم من العهود الماضية، والمزاعم التي ورثوها عن أولئك الذين كانوا يشبهون الله بالناس وينسبون إليه الصفات الآدمية، في الحقب السالفة، وقد مضى الجيل بعد الجيل، وتعاقبت القرون أثر القرون، حتى أخرج الناس كل شيء آدمي إنساني، من تاريخ ذلك النبي العظيم ومحوا منه كل صفة إنسانية أرضية، حتى أضحت شخصيته مختفية وراء حجب وسحائب من الأقاصيص والترهات.

وأنت تعلم أن كثيرين من الناس تأبى عليهم أذهانهم القصيرة، وأبصارهم الحسيرة من جراء عجزهم عن الشعور بقرب الله العلي الأسمى، على منال أعينهم ومستشرف أنظارهم، أن يبحثوا عن (محل استراحة) في وسط الطريق بين الله والناس فيخصوا إنساناً بالعبادة، وينادوا به إلهاً، وهذا هو السبب الذي جعل المسيحية الحاضرة تلقب أمراً خيالياً بالألوهية وتكسوه اللحم والعظم وتعبده كأنه إنسان إلهي.

ونحن ننكر إنكاراً باتاً أن عيسى ادعى يوماً من اليام أو مرة من المرات أنه ابن الله بالمعنى الذي أوله زعماء المسيحية ورجالاتها وقد أبان الشاعر الأديب النقادة العظيم ماتيو أرنولد أن كتاب العهد الجديد - الإنجيل - لا يصح من كثير من الوجوه الاعتماد عليه.

ولئن فرضنا أنه قال تلك العبارة التي نسبت إليه فهل يثبت ذلك أنه ادعى حقاً أنه ابن الله، أو لم يسمع أهل المسيحية بنبأ ذلك (الدرويش الشرقي) المشهور باسم الحلاج الذي ادعى أن الله بذاته وجعل يقول (أنا الحق. . .) فما كان من زعماء المسلمين والمتنطعين في الدين إلا أن حكموا عليه بالكفر وأهدروا دمه.

وكذلك أزاحوا من الأرض مخلوقاً مسكيناً التهب قلبه بنار فكرة غامضة ولا يزال البابي يعتقد أن سيده ومولاه الباب إلى الحياة الأبدية، لم يقتل وإنما رفع إلى السماء بمعجزة، فهل يعقل أن أبا مغيث الحلاج والبابي إذا أسميا نفسيهما الحق والباب كانا يقصدان بهذه التسمية إلى أنهما روحان من الله، ولو أنهما كانا حقاً يعنيان ذلك فهل كان ادعاؤهما ذاك دليلاً وبينة، وحجة وإثباتاًَ، ولكنا نقول كما ذكرنا من قبل أن عيسى - على ما علمنا من مبادئه إذا نحن خلصنا بها نجيا من شوائب أتباعه وما أدخلوه عليها - لم يستخدم أي تعبير يبرر الدعوى التي حاول الناس إلصاقها به، بل أإن فكرته من جهة أبوية الله تشمل الإنسانية جمعاء إذ كان بنو آدم كافة أبناء الله وكان عيسى رسول الله إلى أنبائه، ولذلك نقول أنه قد كان نصب عين المسيحي مثلاً صالحاً، واسوة طيبة، وكان أحق بتعاليم بني الناصرة أن تسمو به وترتفع إلى عقيدة أظهر وفكرة أنقى من ناحية الخالق، ولكن مضت ستة قرون فحاطت شخص سيدنا المسيح بهالات وسحائب وغمائم من الغموض والخرافة كانت على نقيض كلمه التي قال، ودعوته التي دعا، وتعاليمه التي علم، حتى جعلته تلك الخرافات مظهراً لله، وحتى اتخذ الرسول مكان سيده في عبادة الدنيا، أما الجماهير والعوام فلعجزهم عن إدراك هذا المزيج من تعاليم المسيح بما دخل عليها من الشوائب راحوا يعبدون عيسى كأنه رب مجسم وإله في صورة إنسان وعادوا إلى العبادة الأولى الوثنية من احترام الآثاؤر واعتبار مريم العذراء إلاهة، وهكذا نرى أن المسيحيين انحرفوا عن بساطة تعاليم الناصري فأضحت عبادة الصور والقديسين والآثار والأيقونات مختلطة بالدين المسيحي اختلاطاً لا انفصال عنه ولا غناء وعادت العبادات الأولى التي جاء لهدمها والمناقص التي سعى إلى حربها، رويداً رويداً فدخلت في دينه وتكونت منها عقيدة قومه.

قبالة هذه الحماقات كلها التي ذكرناها، نهض محمد وجعل نصب عينيه محاربتها وتعفية آثارها، وقام وصوت الحق يتردد في حنايا ضلوعه ووحي الله يملأ شغاف قلبه بين صفين من الناس بين قبائل من العرب عبدة أوثان وصور ودميات، وبين أتباع المسيحية المغشوشة وأهل الموسوية المشوبة، وانبرى سيد البلغاء كما سماه الناس بحق، فلم ينحرف مطلقاً ولم يحد شعرة واحدة عن حدود العقل، فجعلهم جميعاً ندون خجلاً ويستشعرون الخزي من قبح ما هم فيه وسوء ما يعبدون. وكذلك كان محمد رأس الدعاة إلى وحدانية الله، ينهض في التاريخ خير مجاهد في الله. وأكبر محارب لنكوص الإنسانية على أعقابها تريد أن تجعل مع الله شركاء سبحانه وتعالى عما يصفون. وأنت لا تني تجد في كل قطعة أو سورة من القرآن آيات حارة تلتهب التهاباً. نثبت هنا شيئاً منها - جاء في السورة الثانية: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم - إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون. ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله}.

فانظر ما أروع وما أعمق هذه العاطفة التي ينادي بها القرآن أهله إزاء هؤلاء المشركين.

وجاء في السورة الثالثة عشرة: {وهو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينشيء السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم لا يجادلون في الله} الآية: ثم انظر آية الكرسي: ثم انظر آية {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة في مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار - نور على نور - يهدي الله لنوره من يشاء} الآية.

وكذلك تجد هذا الكتاب القيم مفعماً بهذا الآيات البينات. ينادي أنبل ما في الإنسان من عواطف ويتغلغل إلى لبه وصميمه. ولا تكاد سورة تخلو من آيات بينات تدور حول إظهار عظمة الله ورحمته ووحدانيته. وقد أساء كتاب المسيحية فهم عقيدة المسلمين في ربهم فقالوا أن المسلمين مثلوا ربهم مستبداً طاغية لا رحمة لديه. يلعب بالإنسانية لعب اللاعب بحجارة الشطرنج ويجري الحجارة كيف شاء دون أن يحسب لعذابها حساباًُ فلننظر مكان هذه التهمة من الصحة إن إله الإسلام هو العليم العادل رب العالمين خالق السموات والأرض وهو كذلك الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار وهو كذلك الحليم الغفور الشكور. إلى آخر أسماء الله الحسنى بل إن اتصافه بالرحمة لا تزال نغمة من أجمل نغمات القرآن. بل لا تزال كل سورة من الكتاب تفتتح باسم الله الرحمن الرحيم. . .

تم الفصل الأول الذي هو كالمقدمة لما يليه من سائر الفصول. .

انتظروا الأعداد القادمة.