مجلة البيان للبرقوقي/العدد 50/محاورة بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 50/محاورة بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1919


للفيلسوف الألماني الكبير آرثر شوبنهور

الفقيه: يسؤوني منك أيها الفيلسوف تهكمك على الدين وسخرك منه جهاراً، وكان خليقاً بك أن تذكر أن دين كل امرئ مقدس في نظره وكذلك يجب أن يكون في نظرك.

الفيلسوف: لا أراني ملزماً باحترام الأباطيل والأضاليل لمجرد أن غيري من الناس غبي أبله. ولا أنكر أني أحترم الحقيقة أينما كانت واحترامي للحقيقة هو الذي يدعوني إلى احتقار كل ما ينافيها.

الفقيه: يجب عليك أن ترى في الدين الدواء العام لأرواح البشر. وأن تذكر أن احتياجات الناس ينبغي أن تعالج حسب قوة مداركهم ومبلغ أفهامهم. وأن الدين هو الوسيلة الوحيدة لجعل العامة والطغام ذوي العقول الضعيفة والأذهان الكثيفة المنغمسة في الحقائر والسفاسف والماديات ومداق المكاسب ومساف الأرباح - أقول أن الدين هو الوسيلة الوحيدة لجعل من هذا شأنهم يشعرون بشريف غرض الحياة وسامي مغزاها. وذلك أن الرجل العادي لا يفكر ولا يهتم إلا بما يقضي حاجاته البدنية وشهواته الحيوانية فيفسح له مجال للهو واللذة. فيظهر مؤسس الأديان والفلاسفة في الدنيا لينفضوا عن مثل هذا الرجل غبار البلادة والاسترخاء ويكشفوا له عن جلال معنى الوجود - فأما الفلاسفة فيؤدون هذه الرسالة للفئة المتنورة القليلة، وأما مؤسسوا الأديان فيؤدونها للأغلبية الغبية - للعامة والدهماء. فالديانة هي فلسفة العامة فلا بد لهم من الاحتفاظ بها. ولذا يجب احترامها لأن إنكارها يؤدي إلى زوالها. وكما أن هنالك شعراً عامياً وحكمة عامية (في الأمثال السائرة) فكذلك يلزم أن يكون ثمت فلسفة عامية. لأن العوام يحتاجون أيضاً إلى شرح لمعاني الوجود وتفسير لألغاز الحياة وهذا الشرح والتفسير ينبغي أن يكون ملائماً لأذهانهم، والأديان في جميع الأزمنة والأمكنة تقدم للناس هذا التفسير في صورة ثوب رمزي للحقيقة - وهذا الثوب الرمزي يؤدي من النفع والفائدة لبني الإنسان فيما يتعلق بحياتهم العملية ووجداناتهم أعني من حيث اعتباره دليلاً مرشداً في معاملاتنا ومعاشراتنا وعزاء وسلوة في الأحزان والمصائب وعند حلول الموت - هذا الثوب الرمزي للحقيقة يؤدي من النفع والفائدة من هاتين الوجهتين مثلما كانت تؤدي الحقيقة ذاتها لو أننا عرفنا فأحرزناها.

تستنكر أيها الفيلسوف ما يبدو لك من سخافة هذا التفسير - هذا الثوب الرمزي الذي يقدمه الدين إنارة لأذهان البسطاء وشفاء لغليلهم. ولا تمقت ما يطهر لك من فاحش زخرفته وزبرجه وظاهر باطله ومحاله وغلوائه وإغراقه لأنك مع ما قد أوتيته من فضل وعرفان وعلم واسع لا تستطيع أن تتصور ما يلزم اتخاذه من لمناهج الملتوية والمسالك المتعرجة الملتفة لإيصال الحقيقة إلى أذهان البسطاء السذج. فالأديان المختلفة إنما هي قوالب مختلفة تفرغ فيها الحقيقة ليستطيع الناس إدراكها إذا كانوا يعجزون البتة عن فهمها وهي عارية مجردة - وكان من المستحيل عليهم تصور هذه الحقيقة منعزلة عن الثوب الرمزي. فلا تغضب أيها الصديق إذا قلت لك أن ازدراءك وهزءك بهذه الثواب الرمزية - بهذه الأشكال والصور والقوالب - دليل السخف والظلم.

الفيلسوف: أوليس من السخف والظلم أيضاً أن يطلب الفقهاء بمحو كل فلسفة غير تلك الفلسفة التي تقول أنت من مؤسسي الأديان صاغوها لمعالجة حاجات الجماعات وشفاء غليلهم من حيث المعاملات المادية والأماني الروحانية وجعلوها طبق أذهانهم الضيقة ووفاق أفهامهم السقيمة؟ أيصح أن تجعل تعاليم الدين أقصى حد لطموحات الذهن البشري ومقياساً لكل تأمل وتفكير بحيث تصبح فلسفة الفئة القليلة المتنورة (باعترافك أنت) وجل همها وغايتها مطابقة وتأييد فلسفة العوام وشرحها وتفسيرها؟

وهل يصح أن يصبح التساهل والتسامح دعوة صادرة عن الدين الذي هو مثال التشدد والقسوة؟ وهل تراني في حاجة إلى تذكيرك بمحاكم الزندقة والإلحاد ومحاكم التفتيش والحروب الدينية والصليبية ومصارع سقراط وبرونو وفانيني بالسم والنار. أي عقبة هي أكأد في سبيل الفلسفة الصائبة الحكيمة والبحث الصادق عن مكامن الحقيقة الذي هو أسمى وظيفة لأسمى العقول البشرية من هذا النظام الفلسفي التوطئي (أعني التعاليم الدينية) المؤيد من جانب الحكومات التي يبالغ في غرس مبادئه في كل رأس منذ أوائل الطفولة بكل جد وهمة وتحمس غرساً شديداً عميقاً تصبح معه تلك المبادئ مستحيلة الإزالة إلا من الأذهان التي أوتيت من المرونة درجة خارقة للمعتاد؟ ألا أن نتيجة هذا هو إفساد قاعدة التفكير الحر وأساس التعقل الصحيح إفساداً تاماً أبدياً لا يرتجى إصلاحه حتى ترى مقدرته الضعيفة على حرية التفكير وإصدار الأحكام العادلة فيما يختص بكافة الشؤون والأحوال والأشياء قد أصابها الشلل والتلف الدائم.

الفقيه: وهذا معناه أن الناس قد وصلوا إلى عقيدة لا يرضون أن يبيعوها بعقيدتك؟.

الفيلسوف: لو أنها عقيدة مبنية على النظر الصحيح لقدمنا براهيننا ولاقينا الخصم في ساحة الجدال وميدان المناظرة بمثل سلاحه وعدته. . ولكن الأديان لا تقيم عقيدتها على البرهان ولكن على الوحي والتنزيل. وقابلية الاعتقاد أقوى ما تكون في عهد الطفولة. فإذا ألقيت على الإنسان في هذا العهد طائفة من التعاليم والعقائد بلهجة جد ووقار وحمية وحماسة مع نفي كل ما يعترض من الشكوك والريب في صحة هذه المقولات ومع تهديد المرتاب بالخسران الدائم والنكال الأبدي كان لذلك من شدة الوقع ورسوخ الأثر في نفس الإنسان ما يدفعه إلى اليقين التام بصحة ما يلقى عليه بحيث يصبح الشك في صحتها أصعب عليه من الشك في الوجود نفسه. ومن ثم نرى أنه لا يكاد يوجد فرد واحد في عشرات الألوف يستطيع أن يشذ عن الجماعة فيسائل نفسه هل هذا صحيح؟ فمثل هذا جدير ولا ريب أن يسمى قوي الذهن. أما الذهن العادي فتنغرس فيه أسخف السخافات وأبعد المستحيلات إذا ألقيت فيه بالطريقة الآنفة الذكر. فإذاً أفهم مثلاً أن قتل زنديق أو ملحد وسيلة إلى رضوان الله جعل ذلك جل همه وغايته في الحياة كما كان يفعل أهل إسبانيا. وكما كان يصنع فريق من الهنود كانوا يظهرون تدينهم وطاعتهم للإلهة كالي بقتلهم أخوانهم ورفاقهم كلما سنحت الفرصة للاستيلاء على أموالهم وأملاكهم وكانوا قد أقنعوا أن عملهم هذا محمود مشكور يورثهم غفران الله ورحمته ورضوانه ويكسبهم نعيم الآخرة.

ولا بدع في ذلك ولا غرابة فإن العقيدة الدينية المغروسة في الصغر يكون لها من قوة الأثر ما يفسد الضمير ويمحو الرأفة والحنان والرحمة. ولكن إذا شئت أن ترى بعينك قوة تأثير التعاليم الدينية في الصغر فانظر إلى الأمة الإنكليزية. وانظر إلى هذه الأمة التي ميزتها الطبيعة على سائر الأمم ووفرت حظها من العقل والذكاء وحسن التمييز وأصالة الرأي وصرامة العزيمة وقوة الخلق - وتراها مع كل ذلك منحطة المنزلة بين الأمم ساقطة القدر وسط الشعوب لفرط مت قد أفسدت الخرافة الدينية رأيها وشوهت جمال ذهنها - فلقد يبدو هذا العنصر الخرافي وسط سائر مزاياها العقلية ومحاسنها الأخلاقية كفكرة ثابتة راسخة أو بعبارة أدق كفكرة جنونية.

وسبب ذلك راجع إلى القساوسة القائمين بأمر التعليم والتربية إذ يبذلون أقصى الجهد في نقش قواعد الإيمان على صدور الصغار في أيام الطفولة بطريقة تؤدي إلى شلل جانب من الدماغ - هذا الشلل يظهر لنا أثره وتبدو أماراته فيما لا يزال يشاهد فيهم طول أعمارهم من التعصب الممقوت والجمود المستنكر الذي قد يسف والغباوة يصبحون معه لغزاًَ غامضاً وأحجية معماة. وإذ قد ثبت لنا أن التعاليم الدينية لا يمكن غرسها وترسيخها في القلوب إلا في عهد الطفولة اللين الرقيق فإن فكرة البعثات الدينية هي لا شك باطلة ومشروعها ضرب من العبث محكوم عليه بالخيبة والفشل - وهو فرق ذلك نوع من اللجاجة المرذولة والفضول الممقوت والجور والطغيان والحمق والسفه - بدليل أن هذا المشروع لا يقصره أربابه على الأمم التي لا تبرح في طور الطفولة كأمة (الهوتنتوت) و (الكفرة) وأهالي جزائر البحر الجنوبي وإضرابهم ممن قد ظهر فيهم نجاح المشروع بالفعل - بل يحاولون تنفيذه في بعض الأمم ذات المدنيات القديمة والأديان العميقة المهذبة.

فتراهم إذا حاولوا تنصير البراهمة من الهنود فلا يكون من أولئك البراهمة إلا أنهم يقابلون ما يعرض عليهم المبشرون من عقائد المسيحية بابتسامة الساخر الهازئ المتفضل على محدثه بالتنازل إلى استماع حديثه أو يقابلون ذلك الحديث بهزة استهزاء من أكتافهم. فلا يكون نصيب المبشرين من أمثال هؤلاء الأقوام إلا الفشل والخيبة.

وقد جاء في بعض التقارير الموثوق بها بالعدد الحادي والعشرين من مجلة (اشياتيك ريفيو) المجلة الآسيوية لعام 1826 أنه بالرغم من مجهودات المبشرين العظيمة المتوالية مسافة أعوام عدة في كافة بلاد الهند (البالغ فيها عدد المحكومين بالدولة البريطانية مائة وخمسة عشر مليون نفس) لا يربو عدد المتنصرين عن ثلاثمائة وقد اشتهر أولئك المتنصرون فضلاً عن ذلك بمنتهى الفسق والفجور وفساد الأخلاق. أجل هذه الملايين العديدة لا يبلغ فيها عدد المرتشين القليلي الذمة المتجرين بعقائدهم وأرواحهم أكثر من ثلاثمائة ولا أرى أن النصرانية ازدادت رواجاً في الهند منذ ذلك العهد بالرغم مما يبذله المبشرون الآن - ضد المعاهدات والاتفاقات - من التأثير في نفوس الأطفال في مدارس موقوفة على بث تعاليم الكنيسة الإنكليزية بقصد تهريب المسيحية إلى داخل بلاد الهند ولكن الهنود لسوء الحظ واقفون لتلك البضاعة المهربة بالمرصاد فتنصر أولئك الكبار من الهنود والكبار على الإطلاق واستعارتهم ديناً جديداً وعقيدة مستحدثة ما هو إلا قناع يسترون به مصلحة شخصية. وإيقان الناس ذلك دون أدنى شك هو الذي يسقط الرجل المتحول عن دينه إلى دين آخر في عهد رجولته من عيون الناس في كل آن ومكان - وهذا يدل على أن الناس لا يرون الدين نظرية تقبل أو ترفض بالبراهين المبنية على أصول المنطق والمعقول ولكن عقيدة تغرس في الطفولة قبل عرضها على أي مسبار أو ميزان منطقي.

والدليل على أن رأي الناس هذا في الدين صحيح أن التشبث الأعمى بدين الآباء والأسلاف ليس مقصوراً على الجماعات والجماهير الضعاف العقول بل يشمل كذلك طائفة القساوسة من كل ملة ونحلة الذين قد درسوا أصول الأديان وعقائدها وبراهينها وقواعدها وفروقها واختلافاتها. ومن ثم كان من أندر الأمور وأبعدها انتقال أي قسيس من ديانة آبائه إلى أي دين آخر. إلا أن من أفظع الفظائع أنه حيثما يولد امرؤ تغرس فيه تعاليم بعينها في زمن طفولته وحداثته ثم يحمل على الاعتقاد بأنه إذا أبدى أو أضمر أدنى شك في صحة هذه التعاليم كان عقابه الحرمان الأبدي ن نعيم الآخرة. بيد أن هذه التعاليم الدينية لها تأثير شديد على أصول سائر العلوم والمعارف - فإذا كانت صحيحة جعلت قاعدة نظرنا وأسلوب بحثنا في ماهية كافة الأشياء صحية - والعكس بالعكس.

وأيضاً لما كانت التأثيرات المنبعثة عن هذه التعاليم لا تزال تشن الغارات على مجموع نظام العلوم والمعارف فقد أصبح مجموع المعارف البشرية متأثراً بها أشد التأثر في جميع أنحائه وأجزائه وهذا ثابت من مؤلفات كل أمة وجيل ولاسيما مؤلفات القرون الوسطى وأيضاً مؤلفات القرن الخامس عشر والسادس عشر. فمن اطلع على هذه المؤلفات لم يعدم دليلاً قاطعاً على أن أذهان الجلة الفحول من مفكري هذه العصور كانت مشلولة بتأثير تلك الآراء والتعاليم الأساسية فكانت ماهية مادة الكون ونظام حركته ممنوعة محصنة من جميع جهاتها من نظرات البحث العميق والفحص الدقيق. ولا نزاع في أن الاعتقاد بوجود الله مازال طول مدة العصور المسيحية جاثماً كأثقل كابوس على كافة المجهودات العقلية وعلى الأخص المجهود الفلسفي بما قد صد ووقف كل عوامل الرقي والتقدم.

ففي اعتقاد النوابغ من علماء هذه العصور كان الإله والشيطان والملائكة والجان يحجبون الكون والطبيعة بأسرها. فلم يجترأ على الاستمرار في أي مبحث على نهايته ولا على فحص أي موضوع إلى أقصى أعماقه. فكل شيء لا يرون علته ضمن سلسلة العلل الواضحة والأسباب الظاهرة ينسبونه بلا أدنى تردد إلى أحد هؤلاء (إلى الله أو الشيطان أو الجان أو الملائكة) فإذا ظهر في الناس من قد أوتي مرونة الذهن - أعني الخلة الوحيدة التي تمكن الإنسان من صدع القيود التواطئية وتحرير ذهنه من أغلالها - الفى هو وكتاباته في النار - كما وقع للعالمين برونو وفانيني.

أما الذهن العادي فإن مبلغ عجزه وشلله بتأثير التعاليم الدينية في الصغر يبدو لك في أجلة مظاهره وأسخفها وأجدرها بالهزء والسخرية عندما يحاول نقد ديانة أجنبية فكل ما يصنعه الرجل العادي هو محاولته إثبات أن تعليم الدين الأجنبي مخالفة لتعاليم دينه فهو يجهد نفسه ليثبت أن الخلاف بين هذه التعاليم وتلك ليس منحصراً في اللفظ فقط بل يتعدى ذلك إلى المعاني والمقاصد ثم تره لفرط سذاجته وبلهه يتوهم أنه قد أثبت بذلك بطلان الديانة الأخرى. وكأنما لم يخطر بباله البتة أن يسائل نفسه أي الدينين أصح؟.

ولا عجب فإنه يرى في تعاليم دينه قضايا مسلمة ومبادئ مفروضاً فيها الصحة قبل الشروع في البحث والمقارنة. ومن أعجب الأمثلة على هذه الطريقة المضحكة ما أورده القسيس الفقيه المستر موريسون في العدد الثاني والعشرين من المجلة الآسيوية في مقاله المشتمل على نقد ديانة الصينيين وفلسفتهم.

الفقيه: أذلك رأيك أيها الفيلسوف؟ ألا فاعلم أن هنالك رأياً أعلى - ذلك هو أنه لا بد قبل كل شيء من وضع نظام يكبح جماح الجماعات ويصد نزعاتهم السيئة وأميالهم الشريرة حتى لا يأتوا الرذائل والمنكرات والخبائث ولا يرتكبوا الجرائم والفظائع. ونحن إذا تركناهم بدون هذه القيود والموانع حتى يعرفوا الحقيقة ويفهموها كان في ذلك تأخير للمنفعة لا تحمد عقباه. وهب أنهم عثروا على الحقيقة فسيجدونها ولا شك فوق مداركهم ودون منال أفهامهم. وعلى كل حال فإن هؤلاء الجماعات لا يصلح لهم ولا ينفعهم إلا ما كان من قبيل الرموز والاستعارات والخرافات. ولقد قال كانت يجب أن يكون هنالك قاعدة عامة للحق والباطل توطد أركانها وتؤيد دعائمها ويرفع لوائها في كل آن. فمتى كانت النقوش الرمزية الموقومة على هذا اللواء تعبر عما وضعت له من ناموس الحق والباطل فليس من المهم اختلاف أشكالها وتعدد صورها.

فمثل هذه الحقيقة الرمزية لا يزال في كل زمان ومكان خير بدل وأحسن عوض لعامة الناس من حقيقة لا يستطاع الوصول إليها أبد الدهر ومن فلسفة لا يتأتى لها فهمها - فضلاً أنها مستمرة التغير والتبدل تتلون كل برهة لوناً وتتشكل كل يوم شكلاً. فلا جدال يا صديقي في أن المقاصد العملية مفضلة من كل الوجوه على المقاصد النظرية.

الفيلسوف: كأني بك تقول لي أنه يجب إرضاء الجماعات والجماهير حتى نكفى شر حملاتهم وهجماتهم ونأمن انحطاط سيل غضبهم علينا ونحن جلوس على مائدتنا نأكل ونشرب هنيئاً. ولكن هذا الرأي باطل بمقدار ما هو مستحسن محمود. ومن ثم إسراعي إلى تفنيده. أجل من الزور والباطل أن تظل الحكومة والعدالة والقانون ولا قوام لها ولا حول ولا قوة إلا بمعونة الدين وتعاليمه وأن المحاكم والبوليس لا تستطيع تنفيذ قوانينها إلا بتداخل الدين. أولم تر القدماء ولاسيما اليونان كيف كانوا يديرون أمورهم أحسن إدارة، ويدبرون شؤونهم أحكم تدبير بدون الاضطرار إلى اتباع هذه الخطة العقيمة. وأولئك اليونان لم يكن عندهم أدنى شيء مما نسميه نحن الدين. فلم يكن لديهم كتب مقدسة ولا تعاليم محتم حفظها ودرسها ونقشها على صحائف القلوب في الصغر.

وكان خدام الدين وسدنته في تلك الأمة لا يلقون الخطب الدينية والمقالات الوعظية ولا يبدون أدنى اهتمام بمسائل الأخلاق والآداب والواجبات والمعاملات أعني بما يأتيه الناس وما يتركونه. أجل لم يعن قساوسة اليونان ولم يحفلوا بأي شيء من هذا القيل. ولكن واجباتهم كانت محصورة في شعائر المعبد ومناسك الهيكل والصلوات والأناشيد والضحايا والمواكب والتطهيرات وما شالك ذلك مما لا علاقة له البتة ولا مساس بإصلاح الفرد وتهذيب أخلاقه. ولم يكن شهود هذه الحفلات محتماً على غير الكهنة القائمين بشعائرها ولم يطالب أحد قط من غير هؤلاء الكهنة بالتصديق بها والاعتقاد بصحتها. ولم يؤثر عن العصور القديمة والدول العتيقة بأسرها ما يدل على أنه كان فيها أدنى إرغام للأفراد أو للجماعات على الاعتقاد بأي مذهب أو ملة.

وكل ما هنالك هو أن العقوبة كان تقصر على من يجاهر بإنكار وجود الآلهة أو الطعن عليها. إذ كان صنيعه هذا يعد بمثابة إهانة وتحقير للحكومة التي تخدم الآلهة المذكورة. ولكل امرئ بعد هذا أن يرى في تلك الآلهة رأيه الخاص.

وإذا شاء أي إنسان أن ينال رضا الآلهة في السر والكتمان بواسطة الصلاة أو القربان فله أن يفعل ذلك على حسابه وتحت مسؤوليته. فإذا لم يفعل فليس لأحد ما أن يتناوله بالقدح والمذمة - وابعد الناس من أن يصنع به ذلك الحكومة. وقد كان كل روماني يحرز في داره الآلهة التي يعبدها، وما هي في الحقيقة إلا صور أسلافه الأول. ولم يكن للأقدمين آراء محدودة ثابتة مقررة معتقدة عن مسألة خلود الروح والحياة الأخرى.

ولكن كل فرد كان يذهب في هذا الصدد مذهبه الخاص مكوناً من أفكار متقلبة متجددة مبهمة مشوشة تخمينية، وعلى نحو هذه الحال من التعدد والتنوع والغموض كانت أفكارهم عن الآلهة.

ونتيجة هذا أن القدماء لم يكن لهم دين بالمعنى المعروف لدينا. فهل كان لذلك تأثير سيء على حالة النظام والأمن العام في تلك الدول القديمة؟ أليست هي منشئة القوانين والنواميس التي لا تبرح حتى الآن أساس قوانينا وقواعد شرائعنا؟ الم يكن أهل هذه العصور آمنين على أملاكهم مستوثقين منها مع أن معظمها كان من العبيد الأرقاء؟ ألم تدم هذه الحالة أكثر من ألف عام؟.

إزاء هذه الحقائق أرفض وأحتج على ما تعزوه إلى الأديان الحاضرة من المقاصد العملية، وما تقرره من ضرورة وجودها كأساس لازم تقوم عليه كافة النظامات التشريعية. . لأننا إذا قررنا صحة ذلك أصبح لا حق لطلاب الحق الصراح وأنصاره المولعين بالتماسه والتنقيب عن مواطنه - في اتهام العقيدة الدينية باغتصاب أريكة الحق وإبقائه في حوزتها بالتمادي في الغش والخديعة.

الفقيه: ولكن الدين ليس مناقضاً للحقيقة لأنه هو ذاته يعلم الحقيقة. وكل ما هنالك هو أن الدين لا يبرز الحقيقة مجردة عارية. لأن منطقة نفوذ الحقيقة ودائرة تصرفاتها ليست ضيقة محدودة ولكنها الإنسانية بأسرها والعالم أجمع. ولذا وجب أن تكون الحقيقة مطابقة وملائمة لهذا المجموع العظيم المختلط، فلا يصح للدين والحالة هذه أن يجرع الناس الحقيقة محضة صريحة بل يجب تسهيلاً لتجرعها أن يقدمها لهم في برشامة من الخرافة. ويمكن أيضاً تشبيه الحقيقة من هذا الاعتبار ببعض المواد الكيماوية التي هي في ذاتها غازية ولكن تسهيلاً لاستعمالها وتيسيراً لحفظها في الأوعية أو نقلها من موضع إلى آخر تعقد بمادة أخرى (أو بالتعبير الكيماوي) توصل بقاعدة ثابتة ملموسة منعاً لها من التطاير. مثال ذلك مادة الكلور إذا أريد استخدامها في الأغراض الآنفة الذكر أبرزت في صورة كلورور.

ولما كانت الحقيقة النقية المجردة الخالصة من كل رمز أو خرافة ستبقى أبد الدهر فوق متناول العالم أجمع وضمنه الفلاسفة فيصح تشبيهها بمادة الفلور التي لا يمكن البتة عرضها منفردة بل لا بد من ضمها إلى مواد أخرى. وهاك تشبيهاً آخر وهو أن الحقيقة لا يمكن إبرازها والتعبير عنها إلا بطريق الرمز والخرافة، فهي في ذلك كالماء لا يمكن حمله ونقله إلا بواسطة وعاء. فالفلاسفة الذين يأبون إلا إحرازها خالصة مجردة هم كحاطم الإناء للحصول على الماء منفرد بذاته.

وعل كل حال فالدين هو الحقيقة مبرزة في قالب من الرموز وصيغة من الخرافة حتى يتسنى للناس بهذه الواسطة فهمها وهضمها. لأن الناس لا يستطيعون بحال ما هضمها خالصة غير ممزوجة كما أننا لا نستطيع أن نحيي في الأوكسجين الخالص بل نحتاج إلى إضافة الأوكسجين إلى أربعة أمثاله من الآزوت.

أجل إن مغزى الحياة البعيد ومعناها العميق وغرضها السامي لا يمكن كشفه وإبرازه للعامة إلا بواسطة الرموز لأنهم لا يستطيعون فهم الحياة بمعناها الحقيقي. أما الفلسفة فهي كالأسرار تخص بها الفئة القليلة المختارة.

الفيلسوف: لقد فهمت فحوى كلامك فغاية تفسيرك لهذا المشكل هو أن الحقيقة تبدو في زي الباطل وتلبس ثياب الكذب. ولكنها بصنعها هذا تدخل في محالفة مشؤومة. فأي سلاح خطر فتاك يلقى في أيدي من يخولون استخدام الكذب والباطل كمطية للحقيقة. فإذا كان الأمر كذلك فإني أخشى أن تربو مضار الكذب والباطل على منافع الكذب.

ولو أن الرموز والقصص الخرافية كان يقر ويعترف بأنها كذلك لما قمت معارضاً ومحتجاً ولكن الإقرار والاعتراف بأنها رموز وخرافات يسلبها كل وزن وقيمة ويسقط منزلتها في الأعين فيضيع تأثيرها ونفوذها ولذلك كان حتماً على هذه الرموز والخرافات أن تدعى - وتؤيد دعواها - أنها حق في ذاتها وكنهها لا من الوجهة الرمزية فقط وهنا موضع الداء العضال والشر الدائم. ومن هنا لا يزال الدين ولن يزال في نزاع مستمر وحرب عوان مع المجهود الشريف والسعي الحر إلى التماس الحق الصراح.

الفقيه: إن فلسفة المعقول راشناليزم تخطئ كل الخطأ من افتراضها أن الدين يزعم أن رموزه وخرافاته هي حقيقة مطلقة. وبناء على هذا الفرض تشرع الفلسفة المذكورة عند نقدها الدين في محاولة إثبات أن تلك الرموز والخرافات كاذبة عارية عن الصحة أو أنها إذا سلم بصحتها فهي لا تعدو كونها سخافات. وأما الواقع فهو أن الخرافة والرموز عناصر أساسية للدين ولكن بشرط أن تقوم بسد الاحتياجات الروحانية لبنى البشر فتشغل مكان الحقيقة الفلسفية المحضة التي هي غاية في الصعوبة ومستحيلة المنال.

الفيلسوف: نعم تشغل مكان الفلسفة المحضة كما تشغل الرجل الخشبية مكان الرجل المبتورة. أنها لأسوأ عوض عن الرجل الطبيعية ومع ذلك فهي تطلب أن تعد بمثابتها وأن تعطى مكانتها. ومع هذا فهنالك فرق بني المشبه والمشبه به - وذلك أنه بينما ترى أن الرجل الطبيعية أسبق وجوداً من الخشبية فإن الدين لم يزل في كل بقعة أسبق عهداً من الفلسفة.

الفقيه: قد يكون هذا صحيحاً ولكنك لا تنكر أن الرجل الخشبية عظيمة القيمة عند من لا رجل له. ولا تنس أن حاجيات الإنسان الروحانية لا بد من سدها - غذ أنه يجب تحديد نطاق فكره لا أن يترك مبهماً غير محدود والإنسان العادي معدوم ملكة الحكم الصحيح التي تمكنه من وزن الأسباب والعلل والتمييز بين ما هو حق وما هو باطل.

وفضلاً عن ذلك فإن الأعمال والواجبات التي تفرضها عليه الطبيعة واحتياجاتها لا تترك لديه فراغاً لأمثال هذه المباحث ولا فرصة لإحراز العلوم والمعارف التي تمهد السبيل للاشتغال بالمباحث المذكورة. ولذلك فلا موضع البتة لتصورك أن مثل هذا الإنسان يمكن إقناعه بالأسباب والعلل فلم يبق له والحالة هذه إلا الإيمان والتسليم بأقوال الثقات بلا بحث ولا جدال.

وهنا وصلنا إلى مذهب فلسفي صحيح فأحللناه محل الدين فإنك ترى تسعة أعشار الناس يأخذونه قضية مسلمة فيصبح كما كان الدين قبله مسألة إيمان وعقيدة بيد أن الثقة صفة لا تثبن وتتقرر إلا بمرور الزمن وبتأثير ظروف خاصة فليس في طاقتنا أن نلصقها بما لا مزية له سوى الحجة والبرهان.

وعلى ذلك فلا يصح لنا أن نعزوها إلا إلى ما نالها بمضي العصور، ولو لم يكن إلا حقيقة رمزية. فهذا الصنف من الحقيقة المؤيدة بالثقة يلائم المزاج الروحاني للإنسان أشد الملاءمة - أعني ما يلائ \ م احتياجه إلى نظرية تفسر له لغز الكون الذي بدهه ويواجهه في كل آن ولحظة، والذي ينشأ وينجم من شعوره بأن الشيء الطبيعي في الكون لا بد أن يكون خلقه شيء وراء طبيعي - شيء ثابت لا يتغير ولكنه أساس لهذا التغيير الدائم في الوجود. هذا الصنف من الحقيقة المؤيدة بالثقة يلائم أيضاً مخاوف وآمال الإنسان العاجز الضعيف الفاني الدائم الافتقار والاحتياج - فالدين يمده بالآلهة والشياطين التي يستنجد بها ويستصرخ ويأوي ويلجأ ويركن ويسكن ويبتهل ويتضرع وهي (أعني الحقيقة المؤيدة بالثقة) تلائم أيضاً شعوره الأخلاقي (شعوره بالفضيلة الرذيلة وبوجوب إتيان الأولى وترك الثانية) الذي لا شك في وجوده - وتعيره تأييداً وتوثيقاً لولاه لصعب عليه جداً مقاومة الأهواء والشهوات في معترك الحق والباطل.

فالدين من هذه الوجهة مصدر عزاء وسلوة لا ينفد في مرحلة هذه الحياة المملوءة هموماً ومصائب وأحزاناً - عزاء لا يخذل الإنسان ساعة الموت بل يعطي إذ ذاك أكرم فضائله وأنفس مزاياه ويؤثر أحسن أثره.

افلدين في ذلك أشبه شيء بالهادي الذي يأخذ بيد الأعمى فيرشده إذ كان لا يبصر سبيله بنفسه - وكل ما يحتاجه ذلك الأعمى هو بلوغه غاية منهجه لا أن يبصر كل ما يمر به في طريقه.

لهذه المحاورة بقية يبلغ مقدارها مثلي ما نشر منها في هذين العددين نرجو أن نوفق على نشرها كلها في العدد القادم.