مجلة البيان للبرقوقي/العدد 51/جامعة الدين

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 51/جامعة الدين

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1920



وجامعة الوطن

إن نزعة مقدسة لأنها رسالة إلى السماء إلى أهل الأرض. ولكن نزعة الوطن أقدس منها لأنها جاذبية الأرض لأهلها. ومغناطيسية التراب لمن خلقوا منه ودرجوا فوق أديمه. والنزعة الأولى إحساس داخلي عميق صادر من مكان خفي. وعوامل غامضة. ولكن النزعة الأخرى ليست إلا حاسة واضحة، ونتاج بواعث جلية ظاهرة. وتاريخ الدنيا ليس إلا تاريخ النزاع المستمر بن العاطفتين، وسجل الحرب الطاحنة بين الحاستين، وليست المدنية التي نزهى اليوم بها والحضارة الحديثة التي نشيد بذكرها، إلا وليدة الأولى، وربيبة الأخرى، على أنه كثيراً ما بنيت الثانية. وكثيراً ما هدمت الأولى. وكل دين في العالم لم ينهض إلا على أنهار من الدماء. ولم يذع إلا بعد ذبح عظيم، ونفوس تلاشت في سبيله، وأرواح ذهبت في طريقه، وقد كان الدين لا يزال في الجماعات الدينية التي لا تزال تعيش بروح القرون الماضية، يدخل في كل قطعة نم الحياة ويتغلغل أثره في كل ظاهرة نم ظواهر العيش، وكان الدين في الحياة الإنسانية الأولى السلطان الأكبر الذي يحكم الناس ويمتلك رقابهم. وينفذ أحكامه في نفوسهم وأفئدتهم. وهو الذي أثار تلك الحروب المخيفة التي ما أن تزال عنواناً على تاريخ الماضي المظلم. وآية باقية على مبادئ القرون الوسطى. إذ كان الناس يأبون إلا أن يقتتلوا ويدس الأخ أخاه في الثرى، ويبقر الجار بطن جاره على حاسة الدين التي ليست إلا العلاقة الخفية القائمة بين الفرد والكون العظيم الذي حوله. ولا شأن لها بعلاقة الفرد بالفرد والجمع بالجمع. وما كان ذلك إلا لأن الدين وإن عظم إذ ذاك سلطانه على الأرواح. كانت تغلب عليه الروح المادية. وكان أكبر مظاهرة الأنانية. إذ كان الناس يرون يومذاك في أوثانهم آلهة محسوسة فعالة نافذة السلطان. وإن حياتهم لا تسير إلا إذا جرها الدين جراً. وساقها الإيمان بالعقيدة سوقاً، وإن نشبهم لا يزيد إذا لم يجاهدوا للعقيدة التي يدينون بها. وإن شاءهم وأنعامهم لا تسمن ولا تربو إلا إذا حاربوا من أجلها. وكانوا يرون من الأنفة وقوة الجانب والعزة الكبرى أن يكرهوا الدنيا على أن تدين بدينهم. وإن لا يسمحوا بالحياة في جوارهم لما ليسوا على نحلتهم.

وبجانب تلك الحاسة العظيمة الجبارة. كانت تعيش نزعة الدفاع عن الأرض التي يعيش الجماعات الإنسانية فيها متضائلة بجانب أختها حاسة الدين، مستسلمة لأحكامها، نازلة على أمرها ونهيها، إذ كان الناس يرون يمذاك أن الأرض فسيحة فحيث القي الفرد خيامه، وضرب مضاربه، وسرح ماشيته. فله أن يميها وطناً، وينسبها له داراً، فإذا سئمها وانتقل به عنها مطلب من مطالب الحياة أو وثبة من وثبات الدين، فما هم بضائره أن يتحمل إلى مكان آخر يختاره وينزل حيث تحط به ركابه، فإذا هو عند وطن جديد، وإذا هو ناشئ في قوم آخرين، ولهذا كثير ما اقتتلت عشائر كانت تعيش في إقليم واحد، وتتجاور في صعيد مفرد، وحمل القوم على إخوانهم الذبن يشاركونهم في ملكية الأرض التي هم عليها جميعاً، وراء الخلاف الديني، ونزاع العقيدة للعقيدة، فلم يكن من ذلك إلا أن أغار عليهم من هم أقوى منهم جانباً، وكان من خلافهم أن ديثوا بالصغار وحقت عليهم المهانة وذلة الأسار.

على أنه كان الدين في العصور الماضية قد تغلب على الروح الوطنية. فما كان ذلك إلا لأن العقل الإنساني كان لا يزال ضيق الدائرة، محصور المضطرب لا يستطيع أن يتحمل التسامح الفكري، وحرية المبدأ، لأنه كان يخشى أن يكون في تقلبه ذلك الشر كله على مبادئه. وكان يشفق من أن يهدم عقيدته أو يضعف من شوكتها، أو يفقدها مكانتها إذا أجاز بجانبها عقيدة عقل غيره وارتضى أن تعيش مذاهب الناس بجانب مذهبه. وخاف أن يفقد كل شيء إذا هو فعل ذلك ثم تبين له سخف بجانب عقائد جاره ومنافسه.

ولكن العقل الإنساني الذي صير على سلطان الدين ومشى على حكمه قروناً عدة وأجيالاً، ما زال يوسع من جوانبه أن خفية أو جهاراً يفتح نوافذه المطلة على حدود الشك والتفكير المطلق الحر خلسة واستتاراً، لكي تدخل إليه نسائم الرياح النقية المتطهرة فتمسح عنه بعض أقداره حتى استطاع آخر أمره أن يعلن على رأس العالم كله أن العقل الإنساني لا حدود له ولا تخوم وأن من أكبر الجرائم أن يوحد العقل في العالم بأسرد فتعيش الدنيا كله بعقل واحد. وأنه ينبغي لهذا أن تحترم كل عقيدة. لأن في احترامها احتراماً للعقل الذي صدرت عنه. وكان في ذلك أول بواكر التسامح الفكري. وظهور حرية الأديان في العالم وإذا استتب بالتسامح في الدنيا المقام بدأت روح الدفاع عن الأرض تنمو وتزحزح روح الدفاع عن السماء. حتى جعل الناس في المدينة الحديثة يؤثرون وطنهم على الدنيا بأجمعها. وعلى الأرض والسماء معاً، وانكمشت الروح الدينية فأضحت في مكانتها الواجبة لها. وهي أن تكون العلاقة الشخصية القائمة يبن الفرج وخالقه دون أن تمس العلاقة بين الفرد وجاره. وأصبحت الأمم تقف صفاً صفاً، أمام أي خطر يحدق بأرضها غير حافلة جموعها باختلاف أحزابها في عقائدهم وتنوع مذاهبهم. وأصبح الدفاع عن الأرض ديناً للإنسانية عاماً. ومشى الدين الروحاني بجانب ذلك الدين العام المقدس ورضيه وتقبله وانبرى زعماء الأديان ورجالاتها في مواطن الخطر المحدق بأوطانهم ينضون عنهم أثواب القساوسة. وينزعون معاطف الكهنوت. ويثبون إلى محاربة أعداء بلادهم في لباس الجند. وشملة الحرب. ونحن لا نستطيع أن نحصي عدد رجال الكنيسة الذين تطوعوا في هذه الحرب الطاحنة من كل أمة من الأمم التي تناجزت فيها وأسهمت في وطيسها. على حين كانت المسيحية هي الدين الذي يؤمن به الجميع:

وإذا كان هذا هكذا. فلا عجب أن ترى مصر التي كن يظن العالم أن أقباطها ومسلميها يوم النضال عنها وفي موقف الذود عن ذمارها سيظلون أقباطاً ومسلمين ويخذل عنصر عنصراً قد انضووا تحت لواء دين واحد، هو دين الحياة والإنسانية كلها. وهو الوطن فإذا هم جميعاً صفوف منظمة تسير إلى غاية واحدة هي نشدان الحيرة أو الفناء.

الخرطوم

ع. ح