مجلة البيان للبرقوقي/العدد 51/محاورة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 51/محاورة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1920



بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد

للفيلسوف الألماني الأكبر آرثر شوبنهر

(تابع ما نشر في العدد 7 و 8 سنة سابعة)

الفيلسوف - وكذلك ترى القساوسة ينزلون منزلة بين الخداع والوعظ لأنهم لا يجرأون على تعليم الناس الحقيقة حتى لو كانوا يعرفونها - وإنهم لا يعرفونها وعلى كل حال يمكن أن يكون هنالك فلسفة حق ولكن لا يمكن أن يكون دين حق - أعني ديناً حقاً بمعنى الكلمة الحقيقي وليس بالمعنى المجازي الرمزي الذي وصفته آنفاً.

ولا بدع في أشرف الحقائق وأهمها وأقدسها وأسماها لا يمكن إظهارها للعامة إلا ممزوجة بالأكاذيب بل لا بدع في أن هذه الحقائق إنما تستفيد سلطانها وقوتها من هذه الأكاذيب إذ كانت الأكاذيب أبلغ أثراً وأروع وقعاً في نفوس العامة. أقول لا بدع في ذلك لأنها سنة الطبيعة التي ما برحت تبرز الخير بالشر مقروناً والشرف بالخسة والكرم باللؤوم والبر والفجور والوفاء بالغدر.

وهذه الحقيقة هي عنوان العالم الأخلاقي. على أنه لا يليق بنا أن نيأس من مجيء يوم يبلغ فيه الناس من العقل والعلم مبلغاً يمكنهم من إنتاج فلسفة حق ثم قبولها واعتقادها. والواقع إن الحقيقة المجردة هي من البساطة وقرب الفهم بحيث يمكن إيصالها لي أذهان العامة بلا أدنى مزاج من الأساطير والخرافة (طائفة أكاذيب) أعني بدون جعلها ديناً.

الفقيه - إنك لا تستطيع أن تتصور مبلغ غباوة العامة وضآلة أفهامهم.

الفيلسوف - إني أقول هذا الكلام على سبيل الأمل لا غير. على أني لا أستطيع إطراح هذا الأمل - أقول إذا عرضت الحقيقة على الناس في صورة أبسط وأقرب إلى الفهم لم تلبث أن تنزل الدين عن أريكة سلطانه التي ما زال يتبوؤها منذ أقدام الأزمان وإذ ذاك يكون الدين قد ادى رسالته وجرى شأوه. فلا بأس عليه أن يترك النوع الإنساني وشأنه ملقياً حبله على غاربه ولا جرم فلقد تولاه في طفولته حتى بلغ سن التكليف والرشد - وعلى الدين إذ ذاك أن ينسحب هو ذاته ويتوارى ويستتر في أمن وسلام وطمأنينة وله ألف حمد وشكر. وعلى كل حال فما دام الدين موجوداً فإن له وجهين - وجهاً من الحق وآخ من الزور والباطل فهو تارة سر متأمله وأخرى يسوءه. ولذلك يجب علينا أن نعد الدين أذى لازماً وشراً لا بد منه وإن ضرورته مبنية على سخافة عقول العامة وضعف أذهانهم حتى أصبحوا بعجزهم عن إدراك الحقيقة محتاجين إلى ما يقوم وينوب عنه.

الفقيه - إنكم معشر الفلاسفة لتتكلمون كما لو كانت الحقيقة رهن أدنى إشارتكم تدعونها فتجيب وعلى متناولكم تمدون أيديكم فتأخذون بزمامها وتقبضون على ناصيتها.

الفيلسوف - إذا كنا لا نملكها فذلك والله راجع إليكم معشر الفقهاء إذ جعلتم من الدين في جميع الأمكنة والأزمان سلاسل وأغلالاً شللتم بها حركة الفلسفة وحبستم سعيها. ولم يكفنا إن منعنا الناس من نشرها أو النطق بها حتى حلنا بينهم وبين التصدي لها التفكير فيها واستكشافها بوضعنا أذهان الأطفال في نعومة أظفارهم في أيدي القسوس يعبثون بها كما شاؤا ويملأونها من السخافات والخرافات بما أرادوا - ويحفرون في أدمغتهم المسالك التي تخصص لمجرى الأفكار الأساسية والآراء الجوهرية في أمهات المسائل حفراً عميقاً يبقى ثابتاً معيناً أبد الدهر. وإني ليزعجني أحياناً ما أراه في مؤلفات الفطاحل من أكبر مفكري القرن السادس عشر والسابع عشر من شدة تقيد عقولهم وفرط اعتقال أذهانهم بعقائد التوراة والإنجيل - وأظهر ما يكون أثر هذا الأسر والاستعباد الذهني في نظري عقب تلاوتي مؤلفات المفكرين من فلاسفة المشرق. فأقوام يهيئون مثل هذه التهيئة العقيمة خلقاء أن لا يدركوا للفلسفة الصادقة أدنى معنى!

الفقيه - وعلى فرض إمكان التوفق إلى هذه الفلسفة الصادقة فإن ذلك لا يقتضي إلغاء الديانة كما تتوهم إذ لا يمكن اشتراك الناس أجمع في مذهب فلسفي وأحد لاختلاف طبائع الأذهان وتعدد أساليب التعليم والتربية. ولا بد أن ينصرف السواد الأعظم من الناس إلى الاعمال الدينية البدنية الشاقة التي عليها المدار والمعول في سد حاجات النوع البشري ففضلاً عن أن هذا يحرم أغلبية الناس الوقت اللازم للتربية والتعليم والتفكير والتأمل ولكنه بسبب ما هنالك من التباين والتناقض بين القوى الجثمانية البحتة والقوى الذهنية المحضة قد تقرر أن الإفراط في المجهودات البدنية ببلد الذهن وبرده ثقيلاً كثيفاً وبالتالي عاجزاً عن أن يدرك من المعاني إلا الساذج البسيط والملموس المحس. وعلى هذا النحو تسعة أعشار العالم - إن الناس يحتاجون إلى مذهب عن العالم الغيبي أو فيما وراء الطبيعة أعني أصل العالم والوجود وحياة البشر لأن هذا من أمس حاجات النفس البشرية ومما تشرئب إليه الأرواح بفطرتها وتتطلع. ولكنه يحتاجون إلى أن يكون هذا المذهب الباحث في هذه المسائل مذهباً مألوفاً وهذا لا يتأتي إلا بشرائط ومزايا - أهمها الوضوح والجلاء على أنه يجب مع ذلك أن يكون في بعض المواقع مبهماً غامضاً بل ملغزاً معمي لا يهتك الذهن حجبه ولا ينفذ الوهم إلى لبابه. وإلى هذا يضاف نظام أخلاقي صحيح مرض.

وأهم من كل ذلك هذا المذهب الآنف الذكر يجب أن يتضمن ذخراً وافراً من وسائل العزاء والسلوان وأسباب الترويح والترفيه يقدمها للإنسان في المحنة والمصاب والألم وعند حضور الوفاة. فينتج من هذا أن الدين ليس حقاً إلا من الوجهة الرمزية لا بالمعنى الحقيقي. وينبغي فوق ذلك أن يستعد سلطانه إلى الأذهان وروعته في القلب مما له من الثقة المكتسبة من تواتر الأجيال الحائزة لمزية الإجماع والإطباق المؤيدة بالآيات المدونة والصحف المأثورة - وهذه الصفات والمزايا مما يتعذر جمعه وتأليفه وضم شتاته - بحيث أن المفكر المدقق والمتأمل المحقق البعيد الأناة والروية إذا تدبر الأمر لا تطاوعه نفسه على التصدي لهدم أي دين ما وتقويض أركانه ولكنه جدير أن يرى الدين أنفس ذخيرة وأحسن عدة للسواد الأعظم من بني البشر.

فعلى من أراد انتقاد الدين أن لا يزال يذكر طبائع الجماهير التي من أجلهم وضع ويصور لنفسه فرط انحطاطهم الذهني والأخلاقي. وليعلم بعد أن وراء أكثف حجاب من سخيف الخرافات ومستنكر الشعائر والمناسك تلمع وتتألق جذوة من الحق كامنة في تلك السخافات كمون العطر في عوده والمسك في مادته وإن هذا الأرج الذكي يتعلق ويعبق بكل ما قد لامسه واتصل به.

خذ مثلاً على ذلك الحكمة النابغة والعظة البالغة الواردة في الأسفار المقدسة الهندية القديمة المسماة اليوبناشاد - اتظر إلى هذه الحكمة النابغة والعظة البالغة ثم حوّل عنها بصرك إلى شعائر الوثنية الجنونية الشائعة اليوم في بلاد الهند وما تتضمنه من المواكب والأعياد ورحلات الحجيج أو إلى جنونيات الطوائف الهندية العصرية المسماة السانياساي في مراسمهم الدينية ومناسكهم التعبدية. ومع ذلك فليس في وسعنا إنكار ما يكمن تحت كل هذه الجنونيات والسخافات من معنى هو في الحقيقة مطابق للحكمة البالغة الآنفة الذكر بل هو صورة منها. فهذا المعنى الفلسفي يحتاج إلى إبرازه في تلك الأشكال المستنكرة لتقريبه من أفهام الجماهير الحشية البهيمية. وكذلك نرى في هذا المذهب المتناقض الطرفين قطبي الإنسانية: أعني حكمة الفرد (العبقري الواضح لتلك الأسفار الحكيمة المقدسة) وبهيمية الجماهير وكلا القطبين يلتقيان على كل حال في نقطة ائتلاف مشتركة بينهما في العالم الأخلاقي. ومن ذا الذي لا يذكر حكمة القائل إن الغوغاء والطغام يبدون لي كأنهم بشر على أني لم أر في صنوف الخلائق مثلهم حمقاً وخسة وغباء وقول الآخر يا أشباه الرجال ولا رجال وبيت القائل:

إني لأغمض عيني ثم أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحداً

إن العالم التحرير يعد الدين من قبيل العناصر الإصلاحية فيراه ضرورياً للجماعات كالملح للطعام ويمكنه أن يتخذ لنفسه سراً مذهباً فلسفياً واحداً لا يصلح لكل الناس. فكل فلسفة تجذب إليها - بناء على ناموس التآلف الطبيعي - فريقاً من الناس تكون ملائمة لأسلوب تعليمهم وكفاءتهم العقلية. وعلى ذلك فلا يزال ثمت مذهب فلسفي (غيبي - متعلق بما وراء الطبيعة) لمتعلمي العوام ومذهب أرقى للفئة القليلة المختارة. مثال ذلك أظن مذهب الفيلسوف كانت - ذلك المذهب الأشرف الأسمى قد تناوله العلماء فرايز وكروج وسالات بالإفساد والتنكير والحط والتسفيل تنزلاً به إلى مدارك العامة واحتياجاتهم. وهذا مصداق لقول جيتا (شاعر الألمان الأكبر وكاتبهم الأشهر) الواحد لا يكفي الجميع. فمحض الإيمان بالوحي والتنزيل ومحض الفلسفة هما طرفا نقيض وقطبا تباين واختلاف تنحصر بينهما عدة مذاهب هي بمثابة تعديلات وتحويرات مؤلفة من عناصر هذين القطبين وجزئيات ذينك الطرفين بما يلائم مآرب ومشارب لطبقات المنوعة والفرق المختلفة. وهذه نتيجة لزومية مترتبة على ما أحدثته الطبيعة ونظامات التربية بين ضروب الناس وصنوف البشر.

الفيلسوف - إن رأيك هذا يذكرني ما قد ذكرته قبل من أسرار القدماء وإنهم كانوا يرمون إلى معالجة الشر المترتب على فروق الكفاءات العقلية وأساليب التعليم وكانت خطتهم في ذلك إنهم ينتخبون من بين الجماهير أناساً قلائل فيكشفون لهم قناع الخفاء عن جانب من الحقيقة فيبصرون طرفاً منها بعد أن كانوا في ظلام دامس وعمى مطلق عن جميعها. ثم هذه الفئة القليلة يختارون فئة أقل وإلى هؤلاء يحسرون اللئام عن جزء آخر من الحقيقة ثم ينحون هذا النحو حتى يصلوا إلى النخبة المتقاة والصفوة المختارة. وهي أساسها المعرفة الصحيحة والخبرة الدقيقة باختلاف الكفاءة الذهنية في طبقات البشر.

الفقيه - إن ما تتخذه الآن من أساليب التربية الثلاثة أعني الابتدائي والثانوي والعالي هي إلى حد ما صورة مما كان يتبعه القدماء من طريق تعليم الناس أشرار العلوم.

الفيلسوف - هذا على التقريب فقط وهو صحيح من هذه الوجهة وهي أن العلوم الراقية كانت تكتب باللاتينية التي كان لا يفهمها إلا الصفوة المختارة من العلماء. فإما وقد ألغي هذا النظام فقد تدنست تلك الأسرار المقدسة بإبرازها من حجاب اللاتينية وابتذالها بعرضها على أبصار الغوغاء المدنسة.

الفقيه - كيفما يكن ذلك فلا تنس أن الواجب عليك عند انتقاد الدين أن تتأمله من الوجهة العملية أكثر مما تتدبره من الوجهة النظرية. فغير خاف أن الفلسفة الغيبية (ما وراء المادة) قد تكون عدوة الدين ولكن الفلسفة الأخلاقية لن تزال صديقة له وخليلة. ويحتمل أن يكون أكذب ما في الدين هو جانبه المتعلق بالغيب وما وراء المادة. ولكن لا مشاحة في أن جانبه الخاص بالأخلاقيات حق صراح. وهذا ظاهر من الأديان المختلفة إذا تباينت وتناقضت من حيث ناحيتها الغيبية (الخاصة بما وراء المادة) فإنها لتتفق في ناحيتها الأخلاقية.

الفيلسوف - وهذا يؤيد القاعدة المنطقية وهي أن المقدمات الباطلة قد تؤدي إلى نتيجة صحيحة.

الفقيه - تمسك إذن بنتيجتك التي وصلت إليها ولا يفوتنك أبداً أن للدين جانبين فهو إذا كان باطلاً ومحالاً من الجانب النظري أعني من الجانب الذهني فإنه من الجانب الأخلاقي الوسيلة الوحيدة لهداية وإرشاد وتعليم وتهدئة هذه الحيوانات المتعقلة الذين قرابتهم إلى القردة لا ننفي أن لهم نسبة قريبة ورحماً ماسة بالذئاب والنمرة والدين في الوقت ذاته فيه قضاء حاجتهم وشفاء غليلهم من حيث تفسير أسرار الكائنات والغاز الحياة والموت والفناء والخلود والروح والمادة والآجلة والعاجلة تفسيرا يلائم كثافة أذهانهم وانحطاط مداركهم. والظاهر لي أنه يعوزك الفطنة التامة إلى الفرق الهائل الذي هو كفرق ما بين السماء والأرض والهوة السحيقة بين الرجل العالم المستنير المدرب على التفكير والتدبر وبين سخافة عقول البهائم الإنسانية وكثافة أذهانهم وقصر مداركهم وبلادة مشاعرهم وغلظة أفهامهم وانحصار أفكارهم في سبيل واحدة ترمي إلى إحراز الغذاء خوف الفناء - سبيل يلزمونها طول اعمارهم لزوم الإنسان لظله لا يريدون بها بديلاً ولا يبغون عنها حولاً ولا تستطيع قوة أن تصرفهم عنها إلى غيرها - ولا بدع فإن ما تقتضيه أشغالهم من حصر مجهوداتهم في كد القوة العضلية يضئل ويهزل القوة العصبية التي هي مصدر الذكاء والفطنة. فأمثال هؤلاء يجب أن يعطوا عماداً ودعامة يعتصمون بها ويرتكنون عليها أثناء مسيرهم على زحلوقة الحياة الزلقة وسبيلها الشائكة - أعني ينبغي أن يقدم إليهم القصص الخرافي الشائق والأساطير الخرافية المستملحة البديعة معروضاً فيها ما يهمهم ويعنيهم من مسائل الحياة والموت والروح والمادة وأسرار الكون والغاز الطبيعة في قالب الصور والحكايات إذ كان والقلب الوحيد الذي تستطيع إدراكه أذهانهم البليدة وإفهامهم البطيئة وإذ كان من المستحيل أن تسمو بعقولهم الراكدة إلى فهم التفاسير الدقيقة والفروق اللطيفة الغامضة فأنت إذا نظرت إلى الدين هذه النظرة وتذكرت أن أغراضه وغاياته عملية من الوجه الأهم نظرية من الوجهة الضأل كنت جديراً أن تراها خليقه بأجزل المدح والثناء وأجل الاحترام والتبجيل.

الفيلسوف - أجل. التبجيل الذي أساسه المبدأ القائل بأن الغاية تبرر الواسطة. إني على كل حال لا أوافق على جعل هذا المبدأ الأساس الذي عليه يبني حل هذه المشكلة وفك تلك المعضلة. أنا لا أعارض في أن الدين أحسن واسطة لكبح جماح ذوات الاثنين من بهائم الإنسانية البلداء الأذهان الخبثاء النفوس ذوي الحران والعناد والإصرار. غير أن أخا الحق يرقص الزور والبهتان وينبذ الغش والخداع مهما قيل أنه واسطة إلى الخير. وإن من أعجب الأمور أن تروج الفضيلة بوسائل الخدع والأكاذيب. أما أنا فقد أعطت بيعتي وعهدي وذمتي لسلطان الحق المبين ودخلت في شيعته وتحت لوائه ولن يراني الله ما حييت خافراً للذمة ناكثاً للعهد. وعزمي ونيتي أن أقاتل شيعة الباطل وأنصار الأخاديع والأكاذيب ذوداً عن حمى وذباً عن حريمه غير مكترث لما عساه يصيبني في تلك السبيل من الأخطار والأهوال والمتالف والمهالك. فإذا آنست من جانب الدين دلائل العداء ونوايا الاعتداء -.

لها بقية