مجلة البيان للبرقوقي/العدد 52/محاورة
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 52/محاورة
بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد
للفيلسوف الألماني الأكبر آرثر شوينهور
(تابع ما نشر في العدد الأول من هذه السنة)
الفقيه - ولكنك لن تؤنس ذلك! هذا وأن الأديان ليست بخديعة ولكنها حقيقة وأهم الحقائق. ولكن فرط سموها هو الذي يبعدها عن منال أذهان العامة ووهج ضيلئها، هو الذي يعشى العين الاعتيادية فلا تراها ومن ثم كان وجوب خفائها تحت ستار الرمز والكتابة حتى أصبح الدين يعلم الناس ماليس بحقيقة في حد ذاته ولكنه حقيقة باعتبار ما يكمن وراءه من المعاني. فإذا نظرت إلى الدين من هذه الوجهة رأيته حقاً.
الفيلسوف - قد يجوز لك لو كان يحكم للدين بأنه حق من الوجهة الكنائية ليس إلى ولكن أنصار الدين يدعون أنه حق بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهنا موضع الغش والتدليس. ومن هذا الوجه يجب على ناصر الحق أن يقاوم الدين ويحاربه.
الفقيه - ولكن هذا الخداع شرط أساسي لا بد منه وذلك أن الدين إذا صرح بأن عنصر الحق فيه مقصور على ما تتضمنه عقائده من المعنى الرمزي الكنائي لزالت عنه قوة نفوذه وسلطانه وزال بزوالها جميل أثره في مشاعر الناس وعواطفهم وحسب تهذيبه لطباعهم وأخلاقهم. فبدلاً من تناول الذين بهذا الانتقاد المر والاعتراض الشديد ينبغي أن تنظر إلى فوائده العملية الجليلة من حيث تهذيب النفوس وترقيق المشاعر وتسكين العواطف باعتباره هادياً إلى سبيل الرشاد. ودليلاً على طرق الصلاح والسداد، وملاذاً وملجأً وعمادً وعصمة للإنسانية المنكوبة المحروبة المتوجعة المتفجعة في الحياة والممات. ولا مشاحة في أنه يجب عليك أن تحاذر إيقاظ الريب والشكوك في صدور الجماهير بإثارة المجادلات النظرية فتسلبهم بذلك أحسن مصدر للعزاء والسلوان وأغزر منبع للأمن والسلام، والتوكل والاستسلام، مما هم في أمس الحاجة إليه - بل أحوج إليه منا نحن المتعلمين - لتخفيف وطأة النحس. وتهوين فدحة البؤس، وتنفيس غمة الكرب وتفريج أزمة الخطب. ولهذا السبب وحده لا يصح الطعن على الدين.
الفيلسوف - إن حجتك هذه لواهنة واهية وبمثلها كان يمكن خذلان البطل لوثر ورده بالهزيمة حين شن حربه العوان على الكاثوليكية وصب غارته الشعواء على فعلتها القبيحة المنكرة أعني بيعها عفو الله وغفرانه بالذهب والفضة في سوق الكذبة والخديعة. أفلا ترى أن أوراق العفو وصكوك الغفران التي كان قسوس الكاثوليكية يزورونها على الله في ذلك الزمان كانت تمد العدد العديد من البشر بأمتن أسباب العزاء والسلوان وأحسن وسائل الأمن والسلام في سكرة الموت وغمرة الاحتضار حتى كان الرجل يفارق الدنيا قرير العين مثلوج الفؤاد مملوءاً ثقة واعتقاد بصحة ما يحمل في يده من تلك الأوراق المزورة وهو على سرير الموت مقتنعاً بأنه يحمل منها عدة ترخيصات وجوازات بدخول الجنان والتمتع بصفوة خيراتها ونخبة لذائذها. أي فائدة وثمرة في تقديم أسباب العزاء والسلام إذا كان لا يزال مشهوراً فوقها سيف الغش والخديعة؟ الحق يا سيدي - الحق وحده - هو القوي المتين الوفي الأمين. والحق أبلج والباطل لجلج. والحق هو العزاء المادي الوحيد الراسخ الأساس الصلب الدعائم الذي لا تزعزعه الحوادث والكوارث - هو الجوهر الفرد والمفرد العلم والحي الباقي.
الفقيه - أجل ما أصح قولك هذا لو كنت تحمل الحق في جيبك وتضم عليه أصابعك تمن علينا وتنعم كلما سألناك منه حفنة أو قبضة ولكن ما لديك هو مذاهب فلسفية لا مادية. (أي عما وراء المادة) ليس فيها شيء محقق سوى وجع الرأس. والقنوط من الحقيقة واليأس. وقد كان أجدر بك أن تعلم أن على أطلال ما هدم ويشيده على أنقاض ما قوض.
الفيلسوف - يسؤوني أن أراك متمسكاً بهذا القول، ألا تعلم أن تحرير المرء من أغلال أكذوبة ليس معناه أنك سلبته شيئاً بل أنك وهبته شيئاً. لأن عرفانك عن شيء أنه باطل إنما هو حقيقة من الحقائق. هذا وإنك لن تجد أكذوبة أية كانت إلا ولها شر وفيها أذى. وليس من أكذوبة إلا ستلحق الضرر باتباعها عاجلاً أو آجلاً. فعليك إذن أن تكف عن خديعة الناس وتقر أنك جاهل بما لا تعرف وتترك الحرية لكل امرئ يختار من المبادئ والعقائد ما يشاء وتشاء أمياله ونزعاته ويكون آراءه وأفكاره لنفسه. ولعل هذه الأفكار والآراء لن تكون في النهاية كما تتوهم أنت من السخافة ولرداءة إذ كان في طول احتكاكها واصطكاكها ما هو كفيل بتهذيبها وتنقيحها وتصفيتها من خبث الضلال وتنقيتها من شوائب الكذب والبهتان. وعلى كل حال فإن اختلاف المذاهب والآراء يقيم بين الناس التسامح والتساهل ويبث فيهم روح الملاينة والمهادنة. ولمن أوتي بعد من العلم والقدرة ما يمكنه من الاشتغال في الفلسفة أن يفعل ذلك وأن يعدو بها شأوا وراء ما قد وصلت إليه إذا استطاع ويسمو بها درجة فوق ما بلغت.
الفقيه - حبذا ذلك أو أمكن! شعب كل أفراده فلاسفة يجتمعون في حومة الخصام تحت عجاجة المغالطة والتضليل والسفسطة يثور بعضهم على بعض ويثب بعضهم ببعض وقد يضرب بعضهم بعضاً.
لذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم ... حجج تضل عن الهدى وتجور
وهن كآنية الزجاج تصادمت ... فهوت وكل كاسر مكسور
الفيلسوف - إن القليل من اللطمات واللكمات يتبادله الجماعات من آن إلى آخر ليصلح من أحوالهم كما يصلح الطعام القليل من الملح والبهار. وبفرض أن هذا التلاكم شر فإنه على كل حال أهون من شر حكومة القسوس وما تتضمنه من اضطهاد الشيع من المارقين والخوارج ونهب الأهالي ونصب محاكم التفتيش وشن الحروب الصليبية وما إلى ذلك. كل هذه الآفات كانت نتيجة خرافات الدين ورموزه وكناياته وأساطيره المقررة المسجلة المسنونة المشروعة. ولذلك لا أزل أقول إنك لن تحصد الخير من الزور والباطل كما لن تجني العنب من الشوك.
الفقيه - إلى م أكرر سمعك أن الدين ليس بزور وباطل وإنما الحق ذاته في ثوب من الرمز والكتابة. أما قولك أن لكل فرد أن يقرر لنفسه ما شاء من المذاهب الدينية فإني أعترض عليه بأن مثل هذا التخصيص جد مخالف ومناف لطبيعة البشر، فلو حدث لمحي النظام الاجتماعي بحذافيره. وقد قيل أن الإنسان حيوان لا مادي (مولع بالبحث فيما وراء المادة) أي أن له في الغيب وفيما وراء الطبيعة حاجات ومآرب. ومن ثم تراه لا يزال ينظر إلى الحياة من وجهتها اللامادية ومن هذه الوجهة وعلى هذا الاعتبار يحاول أن يفهم معاني كل شيء في الوجود وأسرار كل كائن.
وعلى ذلك فبالرغم مما نراه من ضعف الثقة ومرض اليقين في كافة العقائد الدينية وكثرة ما يغشاها من الريب ويحوم حولها من الشكوك فقد نرى أن الأديان كلها متشابهة متماثلة في الجوهر الأساسي من أركان ناحيتها اللامادية وعناصر جانبها (الغيبي) حتى لترى أن الصداقة لمتينة والتحالف الدائم لا يكون لا بين الأمم المتحدين أراء في هذه النقطة ونتيجة هذا إنك ترى تشابه الأمم واختلافها أشد وأعظم في مسألة الدين منه في أمر الحكومة بل اللغة وعلى ذلك فإن نظام المجتمع أعني الحكومة لا يضمن ثبات أركانه ورسوخ أصوله إلا إذا قام على أساس مذهب (لا مادي) شائع معترف به من جميع الطبقات ولا مراء في أن مثل هذا المذهب اللامادي لا يكن أن يكون إلا مذهباً (لاماديا) مألوفاً - أعني ديناً من الأديان فحينئذٍ يصبح على تمام ملاءمة ومطابقة للحكومة ولكافة أساليب الحياة الوطنية ومناهجها ومظاهرها لجميع ما يقوم به عامة أفراد الشعب من الأعمال المقدسة في حياتهم الشخصية. ولقد كانت هذه هي الحال عند قدماء الهنود والفرس والمصريين واليهود واليونان والرومان ولا تزال هي الحال عند البراهمة والبوذية والمسلمين.
أجل إن في بلاد الصين ثلاث عقائد دينية وأشيع هذه الثلاثة أعني البوذية أقلها نصيباً من رعاية الحكومة وعطفها وحمايتها ومع ذلك فإن الأمثال السائرة في بلاد الصين الكثيرة التردد على الألسن ذلك المثل القائل (إنما الثلاث العقائد هي في الحقيقة عقيدة واحدة) أو بعبارة أخرى إنها متحدة في الجوهر. وإمبراطور الصين يقر بالثلاث ويوافق عليها جميعاً. وهذه أوروبا هي حلقة دول نصرانية. والنصرانية هي أساس كل واحدة من فرائد هذه الحلقة وهي رابطة الكل والعروة الوثقى المؤلفة شمل الجميع ومن ثم ترى أن تركيا بالرغم من وقوعها داخل حدود القارة الأوروبية لا تدرج ولا تدمج في سلكها. وعلى هذا النحو ترى أن ملوك أوروبا ليسوا ملوكاً إلا بإذن الله رضاه وإن الباب ولي الله في أرضه ووكيله ومندوبه وعلى ذلك فلما كان عرشه باعتباره وكيل الذات الإلهية ومندوبها هو أسمى عرش في أوروبا رغم أن سائر عروش هذه القارة إنما هو عالة على عرشه وذيل له وحاشية أو هو فرع منه مستأجر من قداسته. وعلى هذا النحو ترى البطارقة والكرادلة والأساقفة ليس سلطانهم محصوراً في دائرة الدين بل يتناول أيضاً الشؤون الدنيوية والمسائل المادية. ألا ترى أن الأساقفة ورؤساء الأساقفة لا يزال لهم إلى الآن في بلاد الإنجليز مجالس يشغلونها وأصواتاً يرفعونها في مجلس الشيوخ. هذا وإن الملوك البروتستانتيين يصبحون بفضل بروتستانتيهم زعماء الدين في مملكهم ورؤساء الكنيسة.
ولقد كان الذي يشغل هذه الوظيفة الدينية الكبرى في إنكلترا منذ أعوام قلائل فتاة لا تجاوز الثامنة عشرة من العمر. ولما ثارت البروتستانتية ثورتها في وجه البابا مزقت شمل النظام الأوروبي وهدمت بنيانه وبددت سلسكه وحلت عراه ولا سيما أواصر الوحدة الألمانية الصادقة بإلغاء دينها المشترك. فقضى على هذه الوحدة وما زالت مقضياً عليها حتى أتاح الله من عوضنا منها - لا أقول خيراً - ولكن شراً - أعني بذلك ما قد أقامته السياسة على أنقاض الوحدة الدينية المتينة القوية الرصينة بعد انقراضها بأزمان من تلك الوحدة الحالية التي هي محض سياسية وبحث اصطناعية. وبعد كل ما سردته لا أخالك تشك في شدة الارتباط الكائن بين الوحدة الدينية في الشعوب وبين حسن النظام وصلاح غيره من الشؤون الدولية والأحوال الاجتماعية. فهذه الوحدة لا تزال في كل زمان ومكان عماد الشرائع والستور أي أنهما قاعدة النظام الاجتماعي الذي لا يكاد يقوم على أساسه ويعتدل في نصابه إلا أذا استمدت الحكومة قوة وتأييداً من جانب الدين واستمد الملك الحاكم فخامة وأبهة زجلالاً.
الفيلسوف - حسن جميل الحق ما تقول، أجل إن الملوك ليعدون الله عفريتاً يخوفون به الأطفال الكبار الشيب ويدفعونهم باسمه الرهيب إلى فراشهم حينما تعوزهم وسائل الإرهاب والإفزاع. ومن ثم شدة اعتمادهم على الله. فأما وقد ألغيت خطة التعذيب والتنكيل ونصيبهم من الخوازيق والأوتاد وصارت في خبر كان فقد أصبحت تلك الخطة في سياسة الأمم وتدبير الشعوب باطلة ملغاة عديمة الأثر والمفعول. ولتعلم أن بعض الديانات هي أشبه شيء بالحباحب لا تضيء إلا في الظلام فالجهل العام شرط أساسي لصولة الأديان ونفوذها وهو النصر الوحيد الذي ليس إلا فيه يستقيم أمرها ويقوى شأنها. فإذا بزغت في أفق الحياة كواكب العلم على اختلاف أشكالها بين تاريخ وجيولوجيا وطبيعيات وفلك فبثت شعاعها وأفاضت نورها على أرجاء العالم وأنحائه وإذا ما استطاعت الفلسفة بعد طول الاحتجاب والاحتباس أن ترفع عبقريتها وآرائها ومعتقداتها فقد آن إذ ذاك أن تنهار أركان الأديان المبنية على الخوارق والمعجزات وتنقوض دعامها فتهلك وتبيد ووترك مكانها للفلسفة أحكامها. وقد لاح فجر العلم والعرفان وانصدع عموده في القارة الأوروبية في أخريات القرن الخامس عشر بقدوم الفلاسفة اليونان الحديثين ثم ما لبثت شمسه أن ارتفعت وأتلع ضحى ذلك العلم والعرفان ومتع نهاره أثناء القرنين السادس عشر والسابع عشر الخصيبين المنتجين.
فانكشف بذلك دياجير العصور الوسطى وتبددت غيومها وأدجانها.
وبقدر سطوع ذلك النور وانتشاره اضطرت الكنيسة والإيمان إلى الانزواء والاستتار والاختفاء تدريجاً على ممر الأيام. وترتب على ذلك تناقض الفلاسفة الانكليز والفرنسيين وتخاصمهم وتضاربهم. وما زال دأبهم ذلك حتى ظهر إمام الفلسفة وعميدها وقطبها ومحورها الحكيم الأشهر والمنطقي الأكبر عميويل كانت الألماني في عهد فريدريك الكبير فنزع من الدين والإيمان عماده وسنده الذي كان قد استمده سالفاً من الفلسفة. فكانت نتيجة ذلك ما نراه في القرن التاسع عشر من وهن المسيحية وتضعضعها وتجردها من راسخ الاعتقاد وصحيح الإيمان ودفاعها للمحافظة على كيانها. وكفاحها لصون موضعها ومكانه. والملوك المذعورون المروعون يحاولون أثناء ذلك إنهاضها وإنعاشها وإمساك رمقها واستبقاء عنصر الحياة فيها كالمنبهات الصناعية كما يحاول الطبيب استحياء المحتضر بالأودية والعقاقير، ولا يخفين عليك أن العلم والدين ما برحا أثناء هذه الحوادث التي قد يبيّنها لك ينزا أحدهما من الآخر منزلة إحدى كفتي الميزان من الأخرى إذا شالت واحدة فلا بد أن ترجح الثانية. وهذا الميزان حساس للغاية بحيث يمثل لك التأثيرات الدقيقة الوقتية، فمن أمثلة ذلك أن غارات السلب والنهب التي قام بها لصوص الفرنسيس تحت زعامة اللص الأكبر نابليون بونابرت في أوائل القرن التاسع عشر وما تكلفته شعوب أوروبا من المجهودات العظيمة لرد عاديات أولئك اللصوص وغوائلهم وطردهم من حمى أملاكهم وحريم أوطانهم - كل ذلك أدى إلى إهمال العلوم الطبيعية وبالتالي إلى تقصير عظيم في نشر نتائج هذه العلوم ونشر آثارها. وإذ ذاك بدأت الكنيسة ترفع رأسها ثانياً وبدأ الإيمان ينتعش انتعاشاً شعرياً ملاءمة لروح ذلك العصر ثم نرى من جهة أخرى أن في خلال الثلاثين عاماً التي أعقبت ذلك العهد تمالأ الرخاء والفراغ على تشييد صرح العلوم ونشر المعارف بمقدار خارق للعادة مما أدى إلى ما قد ذكرت آنفاً من تصدع صرح الدين وتفسخ أركانه وإيذائه بالتهدم والسقوط، ولعل التنبؤ بزوال الدين قاطبة من العالم الأوروبي سيتحقق عن قريب فينسل الدين من أوروبا كما تنسل الحاضن من الطفل الذي كبر ونما وبلغ أشده - ثم يسند بعد ذلك أمره إلى معلم ومهذب ليثقفه ويقومه. ولا جرم فإن مذاهب الإيمان والاعتقاد التي لا أساس لها سوى الثقة العمياء والوحي والخوارق والمعجزات لا تنفع ولا تصلح ولا تليق إلى بطفولة إنسانية. ولا خفاء أن النوع البشري لم يخرج بعد من طور الطفولة إذ كل الحقائق الطبيعية والتاريخية تقرر أن عمر الإنسانية لا يتجاوز الستة آلاف من السنين وهذا يعادل متوسط عمر الفرد مائة مرة. وحسبك بذلك دليلاً على طفولة النوع البشري.
لها بقية