مجلة البيان للبرقوقي/العدد 55/الملوك ورؤساء الجمهوريات

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 55/الملوك ورؤساء الجمهوريات

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 55
الملوك ورؤساء الجمهوريات
ملاحظات: بتاريخ: 1 - 5 - 1920



موازنة

وضع أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية السابقين - المستر روزفلت - وهو من أكبر رجال السياسة. وقدر كتاب العالم الجديد. مذكرات لرحلة من رحلاته طاف فيها بلاد الغرب وعاج فيها على الشرق. وقد وصف في تلك المذكرات ما كان منن لقائه الملوك. وزيارته قصور الإمارة. وآداب الحكام الذين نزل عليهم ضيفاً. وهي من أبدع ما كتب رجال السياسة. لذلك آثرنا أن نقتطف منها القطعة الآنية لغرابة موضوعها وطلاوة بحثها. وهي الموازنة بين الملك ورئيس الجمهورية والفروق التي بينهما في الحقوق والامتيازات.

  • * *

وقد أضحكني عند وصولي رومه أن وجدت سفير أمريكا بها على خلاف حاد وشجار مستطيل ورئيس تشريفات الملك. وقد أدار الأول أن يكره الآخر على لأن يستقبلني عند وصولي الحاضرة الكبرى بما يجب لي من الحفاوة الخليقة بملك. وأصر على رأيه من أنني لست إلا زائراً عمومياً. ورجلاً من عامة الناس لا حق لي في استقبال ملكي ولا يصح استقبالي كما يستقبل الملوك وأهل الألقاب الموروثة كابرا عن كابر فلما وصلت ورأيت ذلك الشجار الحاد تداخلت بسرعة في الأمر وأخبرت السفير أنني مشارك رئيس التشريفات كل المشاركة في رأيه. وطلبت إليه أن يعدني كما عدني رئيس التشريفات. رجلاً عمومياً لا أكثر ولا أقل. وأن ينبئ جميع عماله بأن يكون لهم في شأني هذا الرأي بعينه. وكاشفته برغبتي في أن أترك في كل حركة من حركاتي. أرسمية كانت أم غير رسمية افعل كما أشاء. وأمشي وأجلس وأتنقل كما أريد وأن أنزل على حكم أهل المدينة وحكامها. فأظهر في المجالس إذا أرادوا. واختفي إذا شاؤا. وقد أردفت كلماتي تلك بأنبائه أنني لم أقل ذلك تواضعاً مني وتنزلاً. بل عزة وإدلالا وفخراً. فأنني علم الله أشعر باحترام صادق للملك الذي يؤدي واجبه خير الأداء وأسر بإظهار الاحترام الخليق به وإبداء الإجلال الواجب لمكانته ولكني أكره ما أكون للرجل العادئ الناشئ نشأة العامة والذي وثب من الصفوف فكان القائد الديموقراطي. وما أبغض شيئاً من شؤونه قدر ما أبغض افتخاره بأنه الديموقراطي الواثب من عرض الجماهير ث إلحاحه في طلب حقوق وإكراهه الإنسانية على منعه امتيازات ورسوماً وفرائض ليست منه إلا حجة تناقض ادعاءه الديموقراطية. وافتخاره بها، وإذلاله على الناس من ناجيتها. ولعمري ما أبدع رأى الأمريكان. وما أجمل نظريتهم. وهي أن الرجل من عامة الناس قد يثب من غمار الجماهير فيشغل من سمع الدنيا وبصرها مكاناً قد يساوي فقي عظمته مكانة أكبر ملوك الأرض. ويكون له من السلطان ما بين سلطان القياصرة والعواهل العظم والباباوات الكبار. فإذا أتم دوره ترك المكان لسواه. ومضي لا عطاء يتناوله. ولا معاش يتقاضاه. ولا وظيفة تجري عليه. وعاد إلى صفوف الناس موفور الكرامة. لا يطالب الدنيا من الاحترام إلا على قدر كفاءته الشخصية. ومواهبه واستعداده ومقدار عمله. وأسخف شيء وأحمقه. أن ترى رئيس الجمهورية. أو الرجل الذي كان يوماً رئيس للجمهورية بريد الناس على الاعتقاد بأنه أشبه بتقليد ملك. أو ملك (نصلبه) أو إمبراطور (ترسو) ولو فعل لكان أشبه بالقائد الروماني الذي أراد أن يعامل في الناس معاملة ملم من ملوك آسية الأقدمين. إذ ينبغي أن يعلم الناس أن يعلم الناس أن مكان الملك جد مخالف لمكان الرئيس درجة ومرتبة وشكلاً وصورة. ومن الحماقة نسيان هذه الحقيقة أو تناسيها. ونحن لا يهمنا أن تتقبل الشعوب الأخرى مبدأ الأمريكان ويرتضوه مبدأ طيباً لهم. وإنما أكرب همنا أن لا يحيد أمريكي يصعد مكان الرآسة، ويتربع في دست الولاية، عن ذلكم المبدأ، أو ينجرف عن هذا الرأي الجميل.

على أن الملك إيطاليا تلقاني بأكبر الحفاوة، وأنزلني أكبر منزل. فلما أعدت حفلة العشاء في القصر، والشيء يذكر بالشيء. اضطرتني الحال إلى أتن أستغل آداباً لم أستعملها في بلاط ملك آخر من الملوك الذين نزلت عليهم، وقد اجتهدت أن أترك قبعتي وأمشي إلى المائدة حاسر الرأس، عند ما تركت معطفي في الحجرة المجاورة لحجرة المائدة، ولكن لم ألبث أن وجدت قبعتي مردودة إلى. وقد تولي القوم الدهشة وأنكروا تلك الغفلة مني واستفظعوها ولم أدرك شيئاً نم ذلك. حتى رأيت الضيوف الآخرين قد أبقوا قبعاتهم فوق رؤوسهم، ففعلت فعلهم، ومشيت إلى المائدة بالقبعة فلما أقبل الملك والملكة، وقدمت إلى الملكة لآخذ بذراعها إلى المائدة، ظننت أنه يصح إذ ذاك أن تخلى عن القبعة، ولكن القوم أفهموني أنه ينبغي أن أمسك ذراع الملكة بذراعي، وأمسك في يدي الأخرى قبعتي، ولم أكن رأيت هذه الآداب من قبل إلا في حفلات اليهود في نيويورك وأعراسهم.

وقد أذكر حال أولئك الملوك بوجه شبه بينهم وبين ضباط جيشنا الأمريكي القديم في القرون الماضية، وإن كان هذا الشبه يلوح غريباً شاذاً مؤلم الوقع، وذلك من ناحية علاقاتهم بعضهم بعض، يوم كان أولئك الضباط وأزواجهم محتبسين في بقعة بعيدة عن الحضر ضاربين خيامهم في أرض قفز قصية عن المدينة، وكان بينهم وبين من دونهم نم الجند والكشافين والقابضة والصيادين البلدين بتلك الأرض، وإن كانوا متربطين برابطة واحدة، وعقد متينة، على شيء كثير من الغيرة والتنافس والمشاحنات والكراهية والمنازعات تفرق بينهم وتقطع حبل الصلة بين بعضهم والبعض وشبيه بهذا ما يقع هؤلاء الملوك والأمراء وما يحدث بين الملكات والأميرات، وما يكون بين الملك الصغير والإمبراطور العظيم إذا أراد هذا أن يغيظه ويحنقه عليه ويضرق عليه أشبه شيء بما يقع يبن زوجة السكابتن وابنة الكولونيل.

وكنت أتصور قبل رؤيتي هؤلاء الملوك أن حياتهم لا بد نم أن تكون محدودة ضيقة الجوانب مقيدة فزادتني هذه الرحلة التي أديتها ثقة بصحة ظني وإيماناً بعقيدتي وأنا أستطيع أن أفهم رغبة المرأة في أن تكون ملكة وأقدر اعتزازها بهذا اللقب العظيم ولكني لا أستطيع أن أدرك لم يبتهج الرجال بأن ينادوا في الدنيا ملوكاً، وأنا لا أنكر أن لذة الملك والسلطان عظيمة فاتنة ساحرة إذا كان الرجل منا ملكاً وحاكماً مسيطراً، كان له من القوة والنفوذ ما يجعل منه فردريكاً كبيراً، أو على الأقل أشبه بالإمبراطور ويليم الأول. وهو وإن لم يكن رجلاً عظيماً، وملكاً بطلاً. كانت له الصفات والسجايا والأخلاق التي مكنته من استخدام أمثال بسمارك ومولتكي وفون رون، والنزول على إرادتهم كذلك واستخدامهم له وأما الملك العادي البسيط فلا سلطان له على شيء سوى الأزياء والمودات فإن كان فاضلاً مستقيماً شريفاً استطاع أن يكون لامته الأسوة الحسنة، فإن لم يكن على شيء من ذلك اضطرت حاشيته وعلماء الدين حوله وأهل بلاطه وصنائعه أن يكونوا عمي البصائر فيقولوا له أن الفاضل والمستقيم والشريف ويخلقوا له فضائل ومقدوا عليه مدائح ليس هو منها في شيء، وأمثال هؤلاء الملوك العاديين لا يؤدون في الحياة عمل قواد الإنسانية الذين يبثون من صفوف الشعب فيقودوا الناس والحياة طوعاً أو كرهاً، وهذا العجز ينطبق على ملوك الحكومات الملكية الدستورية.

وهنا أسأل القراء أن يفهموني ويضعوا بألهم معي عند هذه النقطة من البحث. أنني لا أريد بقولي هذا أن الملك الحكومة الدستورية لا يستطيع أن يؤدي عملاماً، أوان لا تكون منه قائدة: بل أنه لأشبه بالراية الأهلية والمعنى الذي يدور حولها. والفكرة الاجتماعية التي تخفق مع خفقة قماشها، ولكن الرجل المجنون الأحمق لا يري الراية الوطنية إلا قطعة مصبوغة من القماش وخرقة بالية، على حين أنها في الحقيقة رمز عظيم الأثر في حياة الشعب وتفكيره وآدابه الاجتماعية وكذلك لا يكون الملك إلا رمزاً كرمز الراية ولا أريد أن أبحث قولهم أنه قد يكون من سوء الحظ في بعض الشعوب أن يروا على رأسهم مثل هذا الرمز وهذه التصويرة الخيالية الغريبة. فإنني لا أريد أتن أتكلم عن فائدة الملك لشعبه. فذلكم ما اعتقد، وإنما أريد أن أقول أنه إذا كان الملك عظيماً في نفسه، وثاب النشاط، عظيماً في سلطانه وقوته، فلا يمكن أن يحتمل ولا يرضى لنفسه أن يرى كل ماله في الدنيا وفي أمته أن يبقى رمزاً مقرراً وصورة خيالية لا بد منها.