مجلة البيان للبرقوقي/العدد 56/رأيي في الزواج

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 56/رأيي في الزواج

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 6 - 1920



من أكبر معضلات الحياة التي لا يفتأ الناس يديرون فيها وجوه الرأي. ويتحدثون يها في الندى والسامر، والمجلس، والمسجد والسوق. مسألة الزواج. فهي اليوم مشغلة الإنسانية الحاضرة، وهي الموضوع المودة الذي لا يزال يحاول كل إنسان أن يصل إلى اختراع لون منه واكتشاف هيئة ظريفة له. ولا تنى الصحف تعادوه من الحين إلى الحين. ولا تزال الكتب تخرج عنه. وقد أدمجه الروائيون في قصصهم. واستخدمه فريق من السياسيين الاجتماعيين في التدليل على الاضطراب الاجتماعي الواقع اليوم في أكثر بلاد الحضارة.

إن الوظيفة الطبيعية الأولى للزواج. والغرض الغريزي منه. هو بلا ريب الاحتفاظ بالنوع. وبقاء الجنس. وعمران الدنيا. ولكن الأدب العصري يتنازع والعلم الحديث عند هذه اليقظة من البحث. ومذ اليوم الذي افتتح فيه الروائي هنريك اييسن. بروايته الكوميدية بيت العروسة المناقشة في مسائل الزواج. والكتاب جارون في الكلام عنه. والروائيون عاقدون عليه القصص. ومنشئون الفصول والأبواب. وقد تضافر الجميع على أن للرجال والنساء الحق أن يقيسوا الزواج بمقدار ما يجلب لهم ارتباطهم به من الهناء واللذة. وقد ذهب اييسن إلى أن الزوجة التي ترى زوجها لا يستطيع أن يقدر عواطفها من ناحية اللذة - ويشبع رغبتها في الهناء ينبغي لها أن تغلق الباب في وجه زوجها وأطفالها. وتحرر من هذا القيد الثقيل. وتخرج من هذا الغل اللعين - وتلتمس لها عيشاً من وراء أية صناعة. وقد عمد روئي اسكندناوي آخر من كبار روائي الإنسانية الحاضرة في الدفاع عن الزوج من هذه الوجهة نفسها فجعل يقول أن الزواج يعطل رقي المزايا الرجولية في الرجل وأن المرأة تستعبده وتستأثر به وتضطره إلى كثير من التضحيات في سبيل لذتها وهنائها ولا يزال الروائي العظيم برناردتشو يقول هبذا الرأي. وينحو في البحث هذا النحو. وقد أبدى كل ذلك في روايته المشهورة (الإنسان والبرمان) وقد اعترف الشاعر رديارد كبلنغ بإيثاره العزبة على الزواج إذ قال في شبيته الأولى. يم كان حدثاً غفلاً لم ينضج بعد (أشد السفر سرعة وإيفاضاً، المسافر وحده، غير متخذ رفيقاً).

فترى أيها القارئ أن امثال اييسن وسترندبرج وأولئك الطائفة التي تقول بهذه الآراء تراهم يمثلون الوجهة الأنانية من البحث. وقد لا يبعد أن يكون في ما يقولون نصيب ضئيل من الحق.

ونحن قد نظن أننا إذا استطعنا أن ننشئ في المجتمع الإنساني الحاضر طائفة كبيرة من وسائل التحصين ومقاومة قوى الطبيعة الخشنة. قد تمكننا من الفرار من قوانبن الحياة، فنحن نميل عند النظر إلى الزواج إلى اعتبار الواجب الأول في الزواج. والقصد الأكبر منه سعادة الزوجين وهناؤهما الشخصي. ونحن لا ننكر أن الزواج الإنساني في أبدع أدواره. مصدر لذة نقية عظيمة ممتعة. ولكن الهناء أنما يأتي بطريقة غير مباشرة ولا ينبغي أن يكون هو الغرض الأول المباشر. لإننا إذا عددنا سعادة الزوجين بين الناس المقياس الأكبر لنجاح الزواج فكأنما وضعنا المركبة أمام الجواد. لا الجواد أما المركبة. وكأنما قد أغفلنا الغرض. ولم نعتد إلا بالواسطة. وإذا أخذنا بهذا المبدأ. فثمت خطر كبير. وبلاء أعظم. وهو وقوفنا في منتصف الطريق الذي أرادتنا الطبيعة على أن نسير فيه حتى نبلغ نهايته. وما كانت السعادة في الزواج إلا أشبه شيء بسياج من أشجار الورد ومختلفات الأزاهر قد امتد على طريق الحياة. ليرسل أنفاس الشذى العطر ويثير الأرج الندى. فيخفف من وعثاء السفر وشقة الطريق. ولكن لا ينبغي أن نضل الطريق ونقف عند كل زهرة فنقتطفها. وندفع إلى كل وردة زهية ننتزعها من شجرها. وليست السعادة في الزواج كذلك إلا أشبه بالجزاء الطيب الذي يناله العامل الحاذق على واجب شاق يؤديه وعمل مستصعب ينفذه، ولكن في سبيل بقاء النوع ينبغي أن نحتمل الآلام والمتاعب والنفقة في سبيل إيجاد الذراري. وإن لم نصب هذا الجزاء الذي لقيه العامل الكادح. لأن السعادة ليست أمراً ضرورياً. ولا شأناً في الحياة لازماً. وقد أثبت ذلك كثيرات من الأمهات الرؤوفات. إذ ربين أطفالهن فأحسن تربيتهن. على حين كانت معيشتهن الزوجية سيئة أليمة. ولم يكن اييسن وسترندبرج وأشياعهما على شيء من حسن النية إذ وضعوا للزواج قيوداً وحدوداً. فإن تلك المبادئ الكلبية إنما تقوم على حب اللذة. والرغبة عن واجبات عن واجبات الزوج. ولكنها على الرغم من ذلك قد أعانتنا على أن نرى هذه لمسألة الاجتماعية الكبرى بنور اليقين. ونستوضح بها الشبهات.

وإذا نحن نظرنا إلى الزواج في الإنسانية الحاضرة فلا يسعنا إلا الاعتراف بأن الزواج العصري مريض ضعيف لا نجاح منه ولاصلاح. فإن عدد الأنانيين من الشباب والمحبين أنفسهم من الفتية وأطفال الإنسانية الكبار الذين ينعمون بالعزوبة. ويرونها خيراً متاعاً من الزواج. لا يزال آخذا في الازدياد. مربيا على عدد الذين يؤدون أكبر الواجبات الإنسانية المحتمة على الجنس في سبيل بقائه. فإن هؤلاء متناقصون في كل يوم. منزوون. آخذون في القلة والاضمحلال.

هذه هي الحقيقة الواقعة في العالم المتحضر كله في السنين لأخيرة، فإن الرفاهية وتكاثر أنواع النعمة. وازدياد ألوان الترف. وحشد المصانع ألوفاً من ضروب البهجة واللذة، قد أفسد على الإنسانية عملها الأول. وبث في شباب العالم روح الأنانية اللئيمة القذرة الثوارة المستبدة. وجاء الكتاب الأدعياء. والشعراء الأخساء، ضعاف القلوب والأبصار فراحوا يعلمون الناس أن الزواج يحول بين الرجل والمرأة وبين تنمية شخصيتهما. وتهذيب قواهما السامية. وآخرون أشد من أولئك كلبية وأنانية يقولون أنه يحول بينهما وبين النجاح في الحياة. ولا يكون مآل ذلك إلا أن الفرد يصيب اللذة. ولا يصيب المجموع إلا الفناء والانقراض. والفتى الحدث يعلم انه مدين بوجوده في الحياة لآبائه وأجداده. ولكنه من الأنانية وحب ذاته بحيث لا يرد أن يحمل مصباح الحياة فيمشي به إلى الأجيال القادمة كما حمله آباؤه من قبل.

ونحن قد رأينا من خلال صحائف التاريخ أن جملة من أكبر المدنيات التي ظهرت في العالم تهدمت ودالت دوائها وبادت. لأن العمل على بقاء النسل، والاحتفاظ بالجنس، ضعف في قلوب أهلها وغلبت عليه أميال أخرى. وقهرته رغبات ونزعات متباينة. ولم يقتل مدينة الإغريق. ويحطم حضارة الرومان. إلا قلة الزواج في أخريات أيامها. وولوع الناس من العاهل إلى أحقر رجل في الصفوف الرومانية، بجميع وسائل الحيوانية. واشباع الشهوات. وكثرة ألوان الرفاهية والترف.

وهذه النكبة التي وقعت لتلك المدنيات القديمة تكاد تحف اليوم بحياة العالم المتحضر. ولا تزال الإنسانية سائرة في الطريق التي سارت فيها اليونان ورومة القديمة. فقد جن جنون الناس رجالاً ونساءاً اليوم بحب المال. والتهالك على كسبه. والتنعم بلذته. وإيجاد ألوف من وسائل الترف واللذاذات. حتى أصبح سواد شباب الإنسانية يؤثرون العيش في ظلال العروبة طوال حياتهم.

ونرى كبار الشعراء والروائيين يمجدون الحب الذ يؤول الحب الزواج، وبتمجيدهم الزواج من ناحية العاطفة إنما يتفقون المفكرين والعلماء الذين ينادون الناس إليه من ناحية الغريزة ويقاء النوع. لأن هؤلاء يرون أن الفرد يجب أن يخضع لمطلب المجموع. ولو درسنا الزواج من الناحية العلمية. لم نجده ضرراً للإنسانية أو أذى. وليس فيه ما يحول بين الفرد وتنمية قواه وذاتيته. وليس عائقاً دون النجاح في الحياة. لأن أوفا من المتزوجين استمدوا من الزواج ومطالب الأسرة والعناية بابنين. وتربية الأطفال قوة كبرى وكدحاً أعظم. وأنك لترى الذئب الوحيد أشد الوحوش شدة وحولا إذا عضه الجوع بنابه. ولكنك ترى كذلك الذئب ذا الجراء والصغار يطلب غذاء أشد منه وحشية إذا استنفره. وتلك حال الناس حذوك مثلاً بمثل. فهم أشد كدحاً وأدأب على العمل. وأجلد على العناء إذا كانوا يعملون لأنفسهم وأطفال لهم وزوجات في ذمتهم منهم إذا كانوا طليقين أعزاباً منفردين بذاتهم.

ولم تقل الطبيعة بأنه لا بد لارتباط الجنسين، المرأة والرجل، والذكر والأنثى، من وجود مصدر لذة كبرى للأبوين بل أرادت أن تكون الغاية من إنشاء الذرية أسمى من ذك وأعظم. بل في كثير من طبقات الحيوانات الدنيا نرى الطبيعة تضحى لأب أو الأم في سبيل الطفل، ولبقاء النوع، فإن الحشرة المسماة دودة القز لا تلبث أن تموت إذ توشك أن تضع أفراخها، وتترك عند موتها غطاء جمها ليكون غلافاً واقياً لنسلها، ومن هذا ندرك أنه إذا كانت مصلحة النوع تتوقف على مصلحة الفرد من ناحيته، لا تزال مصلحة النوع تتطلب من الوجهة الأخرى بعض التضحية من الفرد، على أن النصيب الأكبر من المتاعب في عالم الحيوانات الدنيا لا يزال واقعاً على الصغار، وهذه تبيد في أغلب الأحيان ألوفاً ألوفاً، فإن الحوت قد ينتج أكثر من مليون بويضة ولكن لا يعيش من هذا المقدار العظيم إلا الألف أو أقل من ذلك قدراً، وقد أرادت الطبيعة أن يكون أكثر طبقات الحيوانات الدنيا أشد حناناً على صغارها من فريق كبير من أهل المدينة الذين يعتزون بأنهم أصابوا المكانة العليا على الحيوان، فإن عدد اللقطاء الذين يلقون على قوارع الطريق، من وراء الارتباط الأثيم، وإغواء العذارى العفل، وخديعة النساء المتزوجات، لا يزال معرة إنسانية كلها، ومن أقسى الحقائق التي اهتدى إليها الاحصائيون أن موالي الأطفال المزنمين غير الشرعيين أقل من الأقاليم الجاهلة التي جادت فيها الأمية، وفشى الجهل، وضعف مستوى الحضارة، عنها في البلاد المتناهية في المدينة، التي أدركت أوج التهذيب، فإن عدد أولئك المواليد في بلاد مثل الروسيا وإيرلندة ومقاطعة بريتانيا لا يكاد يذكر بالنسبة لعددهم في البلاد المتحضرة المجاورة لهم، وإليك

إحصائية عن نسبة المواليد المزنمين غي الشرعيين في كل ألف طفل يولد

الدانمارك 101

السويد 113

النرويج 74

النمسا 141

ألمانيا 84

فرنسا 88

اسكوتلندة - ايقوسيا 64

انجلترة 40

ايرلنده 26

روسيا 27

من هذه الأرقام تدرك أن التعليم والتمدن والحضارة والرفاهية أسباب كبرى لتكاثر الزنا والارتباط الأثيم والولادة غير الشرعية.

وإذا كنا الآن على أبواب انتقال جديد في الحياة وتطور اجتماعي طريف، فما أخلقنا بأن ننمي فكرة الزواج والاقبال عليه بين الشباب والرجال، وبين العذارى والفتيات لأننا تابعنا تيار المدينة، ورضينا بأمراضها تعمل في كياننا، وعللها تسري في مجموعنا، فلا يكون من ذلك إلا أنقع في نكبة اجتماعية أليمة، ولا نستطيع أن نستفيد شيئاً من هذه الحياة الجديدة التي نحن اليوم مقتحمون أبوابها، قاصدون إلى حيث نعيش أمة محترمة متينة البنيان. (ع. ح)