مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/البولشفية

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/البولشفية

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 12 - 1920



(هل عرفت حقيقة البولشفية؟)

لعل الجواب على ذلك لا يكون ميسوراً. إن نظاماً يتهمه أعداؤه بكل ألوان التهم، ويعيش ثلاث سنوات وصحافة العالم كلها تكتب عنه كتابات متناقضة متضاربة، نقول إن نظاماً هذا شأنه أن ينطوي على حقائق أكبر مما يقدر للصحف وكتابها أن ينشروا للناس.

إننا نعيش في عصر مضطرب مجنون. وآية ذلك تلك الصرخة العنيفة التي انطلقت ضد البولشفية، وذلك الصوت الذي تألب ضدها، يقذفها بإنكار التهم وأقذرها. إنها نظام إباحي يجعل المرأة شركة عامة!!

ولسنا هنا بسبيل الدفاع عن البولشفية أو نقدها. فهذا أمر لا نتصدى له في هذه المجلة. ولكنا نسوق للقراء شيئاً مما يقال عن أكبر نظام علمي اجتماعي والكلام هنا منقول عن أدق المصادر وأوثقها. والكاتب هو المستر بريسفرد كاتب انجليزي قدير محترم في بلاده زار روسيا وتجول فيها واختلط بأهلها ووقف على أنظمتها فهو يكتب عن خبرة وتدقيق. وقد كتب ما نحن ناقلوه في مجلة (الكونتمبري رفيو) التي يعرف قراء الانجليزية أنها من أكبر المجلات وأوثقها.

قال الكاتب: لقد شهد العالم أنظمة وحكومات تستمد قوتها من قوة العصبية أو الثروة أو الجنس أو التعليم أو المقدرة الشخصية. وفي روسيا اليوم أحزاب تستطيع أن تبز البولشفيك في بعض هذه المزايا أو فيها جميعاً ولكن البولشفيك يحتفظون بميزتين خاصتين بهم هما:

التدريب والنظام.

القدرة على العمل وفرط الإيمان بمذهبهم وشجاعتهم إلى حد التهوس.

وتاريخ هذا الحزب ينتهي إلى زمن الحكومة القيصرية وهذا تعليل ما هم متصفون به من قسوة التدريب وحب النظام. فلقد كانوا وهم محكومون بالحكومة المطلقة يعدون حياتهم مؤامرة مستمرة، فتعلموا التدقيق والحذر وكتمان السر والطاعة المطلقة، وتعلموا أن يقاتلوا الجاسوسية بجاسوسية أشد منها، وهكذا جعلتهم المحنة صنفاً خاصاً، فراحوا يكرهون الترف والدعة، ويكرهون الشراب واللهو وتعلموا أن يعملوا ويطيعوا وأن يعيشوا في حالة حذر مستمر ومن هنا كانوا أقدر من أعدائهم الذين ما انفكوا أهل لهو وخمول.

والحزب البولشفيكي لا يربى على أكثر من 600 ألف رجل وامرأة. فهو أقل الأحز الروسيى عدداً. ولعل في ذلك ما يبعث الدهشة ويثير الاستغراب إذ كيف تستطيع أقلية كهذه أن تحكم امبراطورية تنيف على 120 مليوناً من الناس. وتعليل ذلك أن البولشفيك يعملون على أن يحتفظوا بمكانتهم بين الأحزاب بأن يكونوا أقلية. وهم أزهد الناس في الكثرة، ومن أصعب الصعوبات أن يقبل الروسي في عداد هذا الحزب ولاا بد له إذا أراد ذلك من أن يكون رجلاً معروفاً قادراً على أن يأتي بكثيرين يشهدون له شهادة طيبة فإذا استطاع طان عليه أن يؤدي امتحاناً علمياً في مبادئ البولشفيك فإذا نجح عد (طالباً) فقط وعليه أن يبرهن على مقدرة وأهلية حتى يعد (عضواً).

والبولشفيك أقرب إلى أن يكونوا نظاماً دينياً منهم إلى حزب سياسي كسائر الأحزاب التي نعرفها في أوروبا. وللخلق المقام الأول عندهم.

فطالب الانضمام إليهم موطن نفسه لا محالة على امتحانات شديدة قاسية. فلا بد له من أن يكون شديد المواظبة على الاجتماعات الحزبية وأن لا يهمل قط في أعماله وأن يطيع رؤساءه طاعة مطلقة. فإذا قبل عضواً كانت الرقابة على سلوكه أشد واقسى فإن الميسر وشرب الخمر والإهمال والفتور والتمرد جرائم يحاكم عليها بالموت وهم يكرهون الرقص ويمقتون التدخين وأكبر جرم في نظامهم الأدبي هو طالب الربح المادي.

والأسباب التي يتجعلهم أقلية صغيرة واضحة. ذلك أن الثورة التي أقاموها لا تزال تقاتل لتعيش فهم أقلية مختارة تعيش للفكرة والمبدأ. فإذا هزم جزء من الجيش الروسي يؤتى بالآليات البولشفية لتقذف في أحر القتال وأشده وإذا أبطا المعمل في مقدار ما ينتجه من العمل فلا بد من إرسال طائفة من العمال البولشفيك إليه. فإذا انتقضت قرية أو ثارت عليهم يؤتى بعضو أو اثنين من الحزب ليعيشا فيها. وإنهم يحيون حياة جهاد مستمر وهم مصدر القوة والنشاط في كل روسيا فإذا انتقصت غيرتهم للعمل أو تهاونوا أو أهملوا فإن نظامهم لا محالة مقضي عليه بالخذلان؟

ولكن هل نجحوا؟ وإلى أي حد بلغ نجاحهم؟

لقد ألقيت على واحد منهم هذا السؤال! فأجاب: نحن البولشفيك نؤدي الواجب ولا ننتظر الفائدة. إننا نعيش لحياة الحزب. فحياتنا رهينة القيادة العليا للحزب، وإن أحدنا ليتلقى الأمر فينطلق ويترك وراءه أولاده وزوجه ولعله لا يعود إليهم قط. والأعمال التي تلقى إلينا تنفذ بدون بحث فقد تكون تنظيماً أو حرباً أو نشر دعوة. وأهونها جميعاً القتال في الجيش وإننا لنعد أنفسنا في راحة وبطالة إذا تلقينا الأوامر بالانضمام إلى الجيش. إننا نخضع لأنظمة من السلوك والآداب رفيعة لا يحتملها غيرنا. يدلك على هذا أن الضابط البولشفي يعاقب بالقتل إذا أمسك في شراب ويقتل الموظف البولشفي إذا سرق أو تقبل رشوة. أما غير البولشفي فيعاقب بالسجن على هذه الجرائم نفسها، فليس ثمة ما يبعث الناس إلى الانضمام إلينا إلا شعور سام بالفكرة التي ندين بها.)

ونقاد البولشفيين وأقسى خصومهم يقرفونهم عادة بأنهم يستبيحون لأنفسهم من الترف والنعمة ما لا يتوفر لخصومهم. والتهمة باطلة بطلاناً تاماًًَ ولقد أتيح لي أن أراقب البولشفيين عن كثب واختلطت بهم (في مؤتمر الصلح في منسك) فرأيت أكبر موظفيهم يعيشون عيشة أبسط عمالهم ومسترزقيهم. ومقر الوزارة في قصر الكرملين في موسكو لم تكن قبلاً إلا بيوت ضباط حرس القصر. والحق في هذه التهمة - إذا كان لا بد من تقرير الحق - هو أن الموظف البلشفي أو غير البلشفي يتمتع بشيء من الراحة والميزة في أسفاره إذا كان موفداً في عمل رسمي للحكومة. وإن الذين يعملون في أعمال خطيرة كرجال الجيش والتعليم وصناع الذخائر يعطون من المؤن أكثر مما يعطى غيرهم وهذه الميزة متمتع بها البولشفي وغير البولشفي وهي مطلوبة للضرورة الباعثة عليها إذا أريد جعل الكفاءات الفنية موفورة الكرامة.

ويذاع مما يؤاخذ به البولشفيين أيضاً أن توزيع الطعام والملبس تراعى فيه المحسوبية والتحزب ومصداقاً لهذا أقول انه اكتشفت في الأقاليم حادثة من هذا النوع ولكن مما يقال دفاعاً عن البولشفيين أن مفتشيهم هم الذين فضحوا الجريمة وأبرزوها للتحقيق مما يدل على أنهم يكرهون مثل هذه الجرائم ولا يشجعونها والرشوة والمحاباة داآن معروفان في روسيا وقد تكون هناك جرائم أكبر مما اكتشف الآن السبيل إلى إذاعتها قط ولكن الحق يقضي إنصافاً للنظام البلشفي أن نقول أنهم يعاقبون المجرم المتهم بالرشة أو المحسوبية بالموت وهم من صرامة العقاب يزيدون الجرائم ولا يقللونها ذلك أن الناس يكرهون أن يدل بعضهم على بعض ويقودوهم للموت.

وتأليف هذا الحزب مثير للدهشة باعث على العجب. ذلك أن حزب الشباب. وأنا أسوق هنا إحصاء كنموذج لذلك. والإحصاء مأخوذ عن سنة 1919 في بلدة سامارا -

من سن 16 إلى 18 عدد الأعضاء 67

من سن 19 إلى 30 عدد الأعضاء 1353

من سن 31 إلى 40 عدد الأعضاء 607

فوق الأربعين عدد الأعضاء 205

وعدد الرجال 1912 والنساء 247. والمهن كما يأتي: -

صناع يدويون 1293 عضواً

كتبة وموظفون 498 عضواً

فلاحون 156 عضواً

أطباء ومعلمون 154 عضواً

ومثال آخر يدل على أن الشباب هو الذي يمد هذا الحزب بالنصيب الأوفر من القوة والنفوذ هو ما يدل عليه الإحصاء في جامعة سفرلدوف في موسكو وهي جامعة خاصة بتدريب رجال البولشفية على النظام والإدارة. وعدد طلا بها نيف وألف شاب وشابة هم صفوة الطبقة العاملة وأحسن مفكريها يدرسون العلوم السياسية كما يفسرها البلشفيك وكما تتساوى مع أنظمتهم. ومدة الدرس ستة أشهر. يأخذون فيها دروساً في الاقتصاد السياسي وتاريخ الحضارة وتاريخ روسيا وتاريخ المذاهب الاشتراكية كما ارتآها كارل ماركس الزعيم الأكبر. وبعد الستة أشهر ينقطع الطلاب لدرس أساليب الإدارة والنظام في الوزارة التي يستخدمونها (الزراعة أو التعليم أو الطعام الخ) ويجمعون فيها بين الدرس والعمل. ولما كانت الستة أشهر غير كافية لتخريج أخصائيين أكفاء فقد جعلوها سنتين وهذه الجامعة واحدة من عدد عظيم مثلها قائم في سائر أنحاء روسيا.

وطلاب الخدمة المدنية يقترعون لهذا التدريب العلمي بواسطة المجالس السوفيتية والنقابات والجمعيات البلشفية. وهم في الجملة يمثلون 25 شعباً من شعوب روسيا حتى الآسيوية منها ولكن للروس الأصليين الأغلبية إذ يبلغون 73 في المائة من المجموع ويأتي بعدهم اليهود ولهم سبعة ونصف في المائة فقط.

والحزب البلشفي ينتقي رجاله اليوم من الشباب - رجالاً ونساء - الذين شهدوا الثورة وعاشوا في ظل حكومتها. ولهم هيئات منظمة يسمونها (الحزب الكوموبي الفتي) يضم 400 عضو وهو يكاد يتساوى مع الحزب الأصيل في قوته ونظامه.

زارني أربعة فتيان من هذا الحزب في إقليم فلدمير وهم متحمسون غلاة في عقيدتهم لهم جرأة وإقدام نادران. جاؤوا إلي يسألونني أسئلة عن حزب العمال الانجليزي ويصفون نظام حزبهم. وقد علمت منهم أن إقليمهم يضم 9000 عضو ثلثهم فتيات وهم ينشرون فكرتهم بواسطة الخطابة والاجتماعات. مثال ذلك أنهم يعقدون اجتماعات عامة يحضرها أنصارهم وغير أنصارهم ثم يثيرون مسألة خلافية كفكرة كارل ماركس مثلاً ويتركون للخطباء الدفاع عن آرائهم ومن هنا يذيعون عن المبادئ الاشتراكية دعوة ناجحة. ولهم في التربية والتعليم غايات محدودة واضحة المعالم ولقد قيل لي رداً على سؤال مني عن هذه الغايات هذا القول: إننا نذهب إلى خلق نفسية جديدة في الشبان ونعدهم أعداداً خاصة للعمل الاجتماعي نريد أن نجعل الذين تمتعوا بحظ من التعليم العالي أن يؤدوا بعض هذه النعمة في شكل عمل اجتماعي منظم لا أن يكتفوا بأداء عمل حكومي تافه. وقد علمت منهم أنهم يبذلون مساعدتهم في ملاجئ الأيتام ومدارس الأطفال وينظمون عمال المعامل الكبرى لزيادة المزارع وهكذا مع الزراع لزيادة المعامل.

وأسوق هنا بعض ما يعمله الشباب منقولاً عن جريدة الحزب الأسبوعية.

أقام الحزب في قرية معملاً للصابون يوزعونه مجاناً على الفلاحين توخياً للنظافة بينهم.

وفي قرية أخرى أقاموا محلاً لإصلاح الأحذية القديمة مساعدة لعائلات الجنود المحاربين.

وفي أخرى نظموا طوائف من السكان لمحاربة الأمراض الوافدة.

وفي أخرى أحصوا الأميين من السكان الذين تزيد سنهم عن الست عشرة سنة وافتتحوا مدرسته لتعليمهم.

وفي إقليم خزان افتتحوا 35 مكتبة ضمت بين أعضائها 1500 مسلم منهم 250 مسلمة.

وفي بلدة أخرى جمعوا الحديد القديم البالي ودقوه محاريث للفلاحين.

وفي بلدة سوزدال (قرب فلدمير) وبخوا سكرتير الحزب لارتياده المراقص الليلية.

وفي التركستان جمعوا إحسانات لإعانة الأطفال في موسكو وبترغراد.

قال الكاتب بعد كلام عن (اللجنة الخاصة) وهي التي لا تحاكي خصوم البلشفية: (وأنا ولا شك معط فكرة غير صحيحة عن البلشفيين إذ قلت أنهم يستخدمون القوة وحدها لتأييد نظامهم. والحق يدعوني أن أقول أنهم لا يستندون على القوة إنهم يأخذون أقرب طريق لتحقيق سياستهم وهذا مثال من ذلك.

كانت الأكاديمية العلمية في بترغراد قد قررت قبل شبوب الثورة الأولى العدول عن طريقة الكتابة بالحرف الروسي القديم (البيان: يكتب الروس لغتهم بحروف تختلف عن الحروف اللاتينية وهي أقرب إلى اللغة الأرمنية منها إلى اللغة اللاتينية) فلما حلت حكومة كرنسكي محل الحكومة القيصرية نشرت أمراً عالياً لتنفيذ توصيات الأكاديمية ولكن شيئاً من ذلك لم يقع وظلت المطابع تستخدم الحروف القديمة. فلما جاء البلشفيون عمدوا إلى وسيلة عملية ناجحة ذلك أنهم أرسلوا رجال الجيش إلى المطابع كافة ليرفعوا الحروف القديمة ويحلوا الجديدة محلها وهكذا نجحت الفكرة الإصلاحية بواسطة القوة.

إن البلشفيين رجال عمل ونشاط. وعملهم لا يستند على القوة وحدها لإنجاحه بل لعله لا توجد في العالم حكومة تفوق البلشفيين في استخدام الإقناع ونشر الدعوة وبث التعليم. البندقية دائماً معدة في أيديهم ولكنهم لا يعمدون إلى استخدامها إلا إذا فشلت المطبعة ولهم في نشر دعوتهم طرق منوعة. فهم يكثرون الإعلانات الملونة التي تلصق على الجدران ففي كل طارئ من طوارئ السياسة العامة يتلقى الناس درساً في الاقتصاد أو الجغرافيا عن طريق الإعلانات فإذا حرم الناس السكر أو الزيت فإن الحكومة تعمد إلى تبيان الأسباب التي أدت إلى ذلك مثال ذلك أنهم ينشرون خريطة للبلاد الروسية ويلونون كل جزء منها بلون لإظهار ميزته من الوجهة الاقتصادية فالمقاطعات التي تنتج السكر بلون والتي تصنع الزيت بلون آخر وهلم جرا. فالرجل العامي لأول مرة في تاريخ روسيا بدأ يعرف شيئاً عن حدود بلاده بعد أن كان لا يدري أكثر من حدود قريته.

وهذه الطريقة نفسها طريقة نشر الخرائط الملونة متبعة في إظهار مقدار ما أصلح من الخطوط الحديدية وما خرب منها وبها يذيعون أخبار انتصارات الجيش أو الثورات الداخلية، وهكذا جعلوا للعامل فكرة عن نفسه أدخلوا إليه روح الاعتداد بعمله.

فمن الإعلانات الملونة التي رأيتها إعلان منها يدل على مقدار الحرية التي تتمتع بها المرأة في ظل الثورة ونقد الأمثال الروسية القديمة عن المرأة وآخر ينطوي على تهكم مر على خصوم الثورة وهم أصحاب المال والارستقراطيون وكهنة الدين.

وفي كل بلدة أو محطة غرفة للمطالعة تقوم فوق جدرانها هذه الإعلانات المصورة وفيها تجد الكراسات التي تنشر فكرة خاصة عن موضوع خاص ولهم أيضاً قطر السكك الحديدية المعدة لنشر الدعوة - وعددها ستة - وهي مسلحة بكل وسيلة للإعلان والنشر. ففي كل قطار تياترو وسينماتوغراف ومطبعة وجوقة موسيقية وهكذا يزخرف البلشفيون الحياة ويبعثون فيها لذة وفتنة.

وهم يجمعون بين استخدام القوة واستخدام الإقناع والجدل. مثال ذلك الطريقة التي يتبعونها في جمع الغلال من الفلاحين وهي التي يأخونها بديلاً من الضرائب. وقد صور تولستوي وسائل الإرهاب والجلد التي كانت تتبعها الحكومة القيصرية في جمع الضرائب أما البلشفيون فيتبعون وسائل أخرى، ذلك أنهم نظموا شرطة خصيصين لجمع الغلال وهؤلاء لا يتقاضون ما للحكومة قبل أن يعقدوا اجتماعات عامة للفلاحين ينبري فيها الخطباء للتأثير على السامعين بالكلام عن حاجة المدن وبؤس أهلها فإذا انتهوا من البلاغة وإقامة الحجة خلع الشرطة أرديتهم وأخذوا المناجل وانحنوا على الأرض للحصد والجمع، وهكذا يجمعون إلى قوة البيان قوة البندقية.

وقد صرفت في فلدمير وقتاً استمعت فيه خطباء البلشفيين وهم معروفون بلقب (الدعاة) (ولعل ألطفهم وأفتنهم النساء) وعمل هؤلاء الدعاة شاق فإنه ليس ما يستهان به إقناع القرويات الروسيات بنظريات البلشفية وحملهن على تسليم أولادهن إلى المدارس التي أقاموها ولهم في هذا السبيل وسائل ممتعة جميلة، ذلك أنهم ينظمون حفلات (بساتين الأطفال) ويدعون الأمهات إليها فتأتي الأمهات ويبتهجن بهذا النوع من التعليم ويطلبن إلا كثار منه.

ولعل أكبر الصعوبات في سبيل البلشفية هي مسألة الدين، والبلشفيون أهل تسامح ولكنهم معادون لرجال الدين عداء قاسياً لأن الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا أشد العالم كله تأخراً وأكثرها تشبثاً بالخرافات السخيفة والبلشفيون معدودون عند الكبار وأهل الجيل الماضي كغرة ملحدين ولكنهم ليتخذون من انحطاط رجال الدين وسيلة للاستظهار عليهم والظفر بهم فالخرافات التي يروجها القساوسة هي التي يستخدمها البلشفيون وسيلة لنقد الكنيسة، فالروس يعتقدون إن صلاة الكهنة تجلب لهم المطر إذا أجدبت أرضهم وقد وقع مثل هذا الجدب وهم يتخذون عقيدة الناس في أهل التقوى والصلاح الذين تكثر مزاراتهم والمقامات التي يقدسها العامة وسيلة لهدم هذا التقديس. فالروس يعتقد أن جثة القديس محفوظة في الجدث حتى يوم البعث وإن البلى لا يجد إليها سبيلاً. وقد فتح البلشفيون قبور أهل التقوى فإذا هم عظام نخرة وأكوام تراب. هذا وأمثاله مما يفعل فعله في هدم الكنيسة وتقويض دعائمها.

وأهل الكنيسة مبغوضون لتلك الحياة التي يحيونها والناس لا يعدونهم إلا عمال جمارك على حدود هذه الدنيا والدنيا الأخرى. وهذا ما يجعل للدعوة التي يبثها أعداؤهم (البولشفيك) قوة ونفوذاً.