مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/مستقبل العالم

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/مستقبل العالم

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 12 - 1920


وهل تبطل الحرب من الدنيا

تحت هذا العنوان وضع كاتب من كبار الكتاب الاشتراكيين وطلاب المثل الأعلى الساخطين على النظام الحاضر في العالم - وهو المستر ويلزـ المبحث الأول من عدة مباحث مسلسلة، وهو موضوع طالما كتب فيه الكتاب وتناوله العلماء والمفكرون بالتفكير والتحليل. ولكن المستر ويلز انتحى فيه منحى غريباً وبسطه بسطاً جميلاً بتلك الطريقة الشيقة التي ألفها قراؤه منه. ونحن ننشر هنا هذا البحث الأول. ثم نتبعه في الأعداد القادمة بالمباحث الأخرى التي تليه.

نحن الآن أمام مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني هي أغرب ما قطعته الإنسانية. وأول ما شهده التاريخ في نوعه. فقد عدت على الدنيا طائفة من الويلات والأحداث الخطيرة فبددت هدوء الإنسانية التي ظلت أجيالاً تتطلب تقدماً مطرداً واجباً، تقدماً في سبيل إحراز قوى كبرى، وسعادة عامة كبرى. وتوسيع نطاق الحياة ورفاهيتها، قد أوقف تياره بعنف، وحيل بين الإنسانية وبينه بصرامة. وقد كشفت فاجعة الحرب اللثام عن وجود قوى مخربة هدامة اجتمعت فاختفت في أضعاف مجتمعنا الإنساني الذي بنم ظاهره على الرفاهية والسعادة. ولم يكن أحد منا يحلم بتلك القوى أو يظن أن الإنسانية بالغتها. وقد أظهرت الإنسانية عجزاً تاماً عن مقاومة تلك القوى الهادمة الناقضة لبنيان العالم، ولقد بدا لكثيرين من أهل الأذهان اليقظى، أن العامين الذين انصرما بعد عقد الهدنة، ووضع الحرب أوزارها، بما كان فيها من مجاعة وفقر، وفوضى واضطراب، في المغرب والمشرق، بل في أمريكا التي لم تسهم في الحرب بما أسهم فيه أهل الغرب. كانا شراً على المجتمع الإنساني من تلك الحرب نفسها التي سبقتهما. فالناس راحوا يتساءلون ترى ماذا يحدث للإنسانية. وما مصير العالم. وما مآل كل تلك الويلات. وهل كانت تلك الآمال الوثيقة؟ والأماني الوطيدة التي افتتحنا بها القرن العشرين إلا حلم حالم وخيال متخيل وهل دارت دائرة النعمة والتقدم فلا دورة لها إلا إلى الرجعة والنكوص، وإلى أين تحدو بنا هذه الضلات التي نحن فيها والتعثر الذي نحن نراه وتلك العداوة والبغضاء التي يحملها كل منا لصاحبه في العصر الحاضر وهل العالم مقبل على قرون عدة مفعمة بالفوضى والخراب. فلا يكون منها إلا كما انتهت الدولة الرومانية الغربية في المغرب. ودولة الصين في المشرق. وإذا حم هذا ووقع. فهل تراه سيمتد فينال من العالم الجديد. ويبلغ أمريكا القوية أم لأمريكا من نظامها وكيانها ووحدتها ما يبقيها سائرة إلى الأمام إذا تحطم العالم القديم وانهار تلك هي الأسئلة الواسعة العويصة المشكلة. التي يجب على كل رجل منا أن يتساءلها ويحتال على الجواب عنها.

فالناس يعدون أبطال الحرب عامة من الدنيا والتعفية على آثارها، ومحوها من تاريخ المستقبل، محور كل هذه المسائل، ولكن الحرب ليست شيئاً جديداً في العالم وقد حاولت الإنسانية طول تلك القرون الماضية أن تسير في سبيلها على الرغم من تكرار الحروب ورجوعها. بل السواد الأعظم من الدول والممالك ظل طول عهده وفي سبيل تطوره في حروب لا يخبو لها ضرام ولا يبرد وطيس، فلا أثرت تلك الحروب في كيانها، ولا أنقصت من هنائها ورغدها. على أن تلك الحروب الماضية لم تكن على شاكلة حروب اليوم وليست الحروب القديمة هي التي عدت على سير النمو الذي كان مطرداً منذ قرن ونصف. وليست الحروب القديمة المألوفة هي التي أوقفت التيار المندفع إلى الأمام بل هي هذه الحروب الجديدة بما دخل عليها من التغيير وما أوسع من جوانبها ومد في نطاقها من الوسائل المستحدثة والمخترعات المستطرفة، بل هو هذا التغيير بعينه، وهذا التوسع في الحرب بذاته، وليست الحرب في نفسها بخيلها ورجلها هو ما ينبغي لنا أن نأخذه بالتحليل والشرح والبحث.

في عام 1914 عمدت دول المغرب إلى الحرب. كما عمدت إليها قبل ذلك في مناسبات ماضية. وظروف سابقة. للفصل في أمور خطيرة ثارت الثائرة عليها فيما بينهم. فلم يكد ناقوس الحرب يدق. وتنطلق القذيفة الأولى في الفضاء. حتى اندلع لسان الحرب بسرعة لم نشاهد مثلها من قبل، واندمج العالم كله فيها واشترك في نارها. فأحدثت الحرب شناعة. ووسائل مخيفة من وسائل التخريب والتدمير. لم نشهد نظائرها في الحروب المتقدمة. فهذا الاختلاف في طور الحرب هو لب البحث وجوهر الموضوع. وقد تبين أهل الأذهان المفكرة أن الحرب مهما وجدت لها من الشفائع في الماضي والمعاذير المبررة للالتجاء إليها عند احتدام الاختلاف بين الأمم والأمم. لم تعد الطريقة التي يصبح اتخاذها الآن في الخلافات الدولية. وكان من ذلك فكرة عصبة الأمم. وإنشاء محكمة عالية كبرى يرجع إليها عند الخصومات الاجتماعية.

والآن ما هي هذه التغييرات التي ألزمت الإنسانية بأن تفكر في ضرورة إبطال الحروب دفعة واحدة. فقد كانت الحرب قدماً قي جميع البيئات الإنسانية فكرة مهذبة بانية مقررة منظمة. وهذا ما لا يشك فيه إلا القليلون. والفضل في إصلاح السنن السياسية وتنظيم العلاقات الدولية راجع إلى الحرب. ومن الحرب وثب. وقد قام كيان كل أمة في العالم على أمرين وحيدين هما الدفاع والهجوم. كما قام التعاون في التجارة والصناعة على الاحتكار والضغط والإجبار. فإذا أجمعت الإنسانية الآن فجأة نيتها على إبطال الحرب - فستجد أن هذه النية ستؤدي إلى تنقيح القواعد والمبادئ الاجتماعية والسياسية في العالم كله.

هذا هو المبحث الذي سنفرد له هذه الأبحاث التباع، ولب البحث في هذا السؤال. ماذا يكون حال العالم إذا انمحت الحرب من الدنيا كلها، وماذا يجب أن نصنع إذا هي نفيت ومنعت إلى الأبد من النشوب بين الناس والناس إذ يجب أن لا ننسى هذه الحقيقة وهي أن إبطال الحرب بتة ليس أمراً سهلاً ولا خطوة طبيعية ذلولاً. بل إن إبطال الحرب إذا نحن استطعنا أن نحققه وننفذه. سيكون رجعة وانقلاباً في الحياة الإنسانية العامة. ونقضاً لقوانين الطبيعة نفسها - قوانين تنازع البقاء. بل سيغير وجه الحياة بأجمعها. والتاريخ الإنساني كله. وسنحاول في هذه الأبحاث شرح العبء الذي سيلقى على عاتق العالم إذا ألغيت الحرب حقاً وأبطلت. وتفهيم الناس أن محاولة إبطال الحرب بتلك المحاكم والمجالس التي يسمونها عصبة الأمم ومؤتمر الشعوب وهلم. هو في ذاته أشبه بمحاولة إبطال الظمأ والجوع والموت من الدنيا بإصدار قانون من البرلمان وليس النجاح في الأمرين والتوفيق في المحاولتين إلا واحداً.

دعنا أولاً نفحص التغيير الذي طرأ في شؤون الحياة الإنسانية فحول الحرب من طورها العادي وهو تنازع الجماعات الإنسانية على البقاء فأصارها شناعة وهولا ونذير الخراب للجنس الإنساني بأسره فنقول: إن هذا التغيير في جوهره لم يكن إلا تغييراُ في مقدار القوة المهيأة لأغراض الناس ومصالحهم ومقاصدهم. ولا سيما مقدار القوة المادية التي يستطيع الفرد الواحد أن يديرها فقد كانت القوة الإنسانية منذ قرنين فقط أحد أمرين فقط. قوة العامل: وقوة الحصان فضلاً عن مقدار معين من القوة المائية والقوة الهوائية. وقد ظهرت البوادر الأولى لهذا التغيير الذي أدى إلى هذه الحرب منذ سبعة قرون. أي منذ اختراع البارود إذ استخدم المغول في القرن الثالث عشر للقتال الاكتشاف الذي اكتشفه أهل الصين. وهو البارود. فاستفادوا به فائدة حربية كبرى. إذ أغاروا على الممالك المعروفة إذ ذاك وفتحوا البلدان. ولم يلبث بارودهم أن طاحَ بالقصور وهدم الحصون. وهزأ بالقلاع والأسوار. وأبطل الفروسية. وبروز القرن للقرن. ووثوب المغوار على المغوار. وخرب أرض ما بين النهرين. وأفسد نظام ريها. على حين كانت تلك الأرض آهلة متحضرة قبل عهد الدنيا بهذا التاريخ المعروف، ولكن كعرفة ذلك العصر بعلم المعادن وصهرها وما يجري مجرى ذلك كانت محدودة ضيقة المضطرب فلم يتجاوز حجم ما اخترع يومذاك من المدافع والبنادق ومدى مرمى القذائف حداً محدوداًّ، ولكن لم يكد يقبل القرن التاسع عشر حتى اتسع نطاق المخترعات من جراء نمو العلوم الكمية والمخترعات الحديدية وإنما بدأ اتساع نطاق القوة الإنسانية في القرن الثامن عشر باستخدام الفحم والبخار ففاضت المخترعات فيضها. وألقت في أيدي الناس مقادير عظمى من القوة والنشاط لم يبلغ نهايته حتى اليوم ونحن لسنا بحاجة إلى تكرار القصة من أولها فذلك أمر معلوم للناس قاطبة. كيف أن التلغراف والراديوجرام جعلا كل حادثة خطيرة تسير سير البرق فتبلغ كل ذهن من أذهان الدنيا في لحظة واحدة. وكيف كانت الأسفار تستغرق الأشهر فراحت لا تأخذ من المسافر أياماً وهلم وهلم مما تعرفونه ولا حاجة على التغني بذكره أو بسط تأثيره في فنون الحرب وإنما ما نقصد إليه هو أن الجماعات الإنسانية قبل عصر المخترعات طالما تناحرت وتناجزت وتلاكمت أشبه بشجار الصبيان في (الكتّاب) أو المدرسة الابتدائية في دائرة قوتهم النسبية وقد آذت كل أمة صاحبتها ولكنها لم يعدم بعضها البعض كلية ولهذا يصح لنا أن نعد تلك الحروب القديمة مقوية صالحة مروضة مهذبة. ولكن دخل هذه المدرسة الابتدائية العلم فدفع في أيدي هؤلاء الأطفال السكاكين والمواسى مسمومة الأطراف والسنان والقنابل والمفرقعات والسوائل والغازات الخانقة اللعينة. فانقلب شجار هؤلاء الأطفال في الحال فكان منه ويل وشناعة أي ويل وأية شناعة. وما لبث صحن الكتاب أن تغطى بأكداس الجثث ورميم الأشلاء وقد يكون تداخل (عريف) الكتاب حائلاً بين الأطفال وهذا الشجار المقيت. ولكن الإنسانية واأسفاً ليس لها عريف إلا حكمتها الفقيرة المسكينة. والمشكلة الكبرى التي تشغل أذهان الإنسانية في العصر الحاضر هي هل تستطيع هذه الحكمة المسكينة أن تحدث أثراً فعالاً وتداخلاً متيناً يمنع هذه الحروب الموحشة المخيفة.

بيد أن هذه الأسلحة المميتة المهلكة لا تزال تنمو وتزداد ولقد اطردت زيادتها من سنة 1914 إلى أوائل سنة 1918 إذ حيل بينها وبين الاندفاع والتكاثر - من أثر النقص في المواد والفتور في النشاط، ومنذ عقد الهدنة والعلم الحربي لا يزال يدأب على النمو والازدياد. ولقد أكد لنا علماء الحرب أن الحرب القادمة - إن هي وقعت - ستكون أثر من تلك الدابرة سرعة واتساعاً في نطاق التدمير والحصد. إذ لم تعد الجيوش بعد اليوم تتقدم على طرق دروب بل ستنتشر في مركبات كبرى تحرث الأرض التي تجري فوقها حرثاً. وتقلب أديمها قلباً. وستكون القذيفة ترمى من قباب السماء كافية لحصد مدينة بأسرها على مسافة ألف ميل وراء خط النار وسينسف ما على ظهر البحر من سفائن وعمائر ولن يكون ثمة تمييز بين المحاربين وغير المحاربين من العجزة والشيوخ والأطفال والنساء. فسيحصدون حصداً. لأن الكل مستهلك طعاماً. والطعام أبقى للقوي وأجدي عليه. والحرب حرب. وديدنها الهول والنكر. ويجب أن يضرب المحارب بكل ما استطاع من قوة. ولكن يكون انتصار المنتصر إلا فوز الرجل المتعب المنهوك القوي المضمحل المحتضر على الرجل الميت الخامد الأنفاس.

ولقد قيل وذهب الرأي إلى أن لا حرب كحربنا الماضية (1914 - 1918) واقعة إلا بعد ردح طويل من الدهر. من جراء ما هزت تلك من كيان المجتمع. ولكن ليس في هذا الرأي ما نفرح له وبه نبتهج. لأن معناه أن ما دامت الإنسانية ضعيفة مريضة فقيرة فلا حرب ولا قتال فإذا نقهت وأبلت عادت إلى الحرب وآضت إلى القتال. بأهول مما بدت الأولى وأشنع. بفضل ما اخترعت الإنسانية منذ ذلك العهد واستحدثت. وأنه ما دامت الانقسامات والاختلافات باقية فلا بد من رجعة الحرب رجعة شنيعة رهيبة. تهدم البناء من قواعده إذن ليس هناك حل لهذه المشكلة. وشفاء من هذه الآفة إلا أمراً واحداً. وهو إعادة بناء المجتمع الإنساني على نظام وطريقة وطراز يكره الناس في الحرب كراهية التحريم. فقد أصبح العالم مجموعة واحدة متصلة بعضها ببعض كالحلقة المفرغة وقد تستطيع الإنسانية أن تعيش على هذه الوتيرة بمرور الزمن. وقد ينجح الناس كجنس بشري مجتمع في الرغبة عن الحرب والزهد فيها والحيد عن الصراع والقتال. وللسعي في الوصول إلى تعاون جامع شامل وتسامح متبادل وقد تستطيع أن تترك محاولتها القديمة على أن تعيش في ممالك منفصلة وتأخذ في كل طرح كراهياتها القديمة وأضغانها الأولى والعيش تحت ظل قانون واحد وسلام واحد. فلا يكون من ذلك إلا أن هذه القوى العظيمة التي كانت معاول في أيديها للهدم والتخريب تعود فتستخدم في وجوه صالحة ترد السعادة على بني الدنيا في صورة لم تصل إليها من قبل.

ولكن هذا الجنس الإنساني قدير على الشروع في هذا السعي الذي سيكون في ذاته انقلاباً للمشاعر الغريزية والتقاليد الاجتماعية التي رسخت في فؤاده إلى اليوم وهل نتوسم خيراً في حياتنا الحاضرة السياسية والعقلية، وإلى أي حد نعمل أنا وأنت أيها القارئ مثلاً للوصول إلى هذه الغاية. بل هل نحن واعوها في الأذهان جاعلوها نصب الأعين. وهل الناس الذين حولنا كذلك، أم لسنا أنا وأنت والجميع مندفعين في نفس التيار كما كنا قبل عام 1914، فّإذا لم يقم منا قائم، ولم يسع ساع. ولم يبد اجتهاد، فسيؤدي بنا ذلك التيار إلى الحرب فالجوع والفقر ونقص في الأموال والثمرات وينتهي أمرنا إما بالانقراض التام أو بانحطاط لا تتصوره الأذهان.

(انتظروا المبحث الثاني)