مجلة البيان للبرقوقي/العدد 60/اللورد نورثكليف

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 60/اللورد نورثكليف

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 8 - 1921



لوسئل أي قارئ هل تعرف شخصا يدعى الفرد هارمسورث لأجاب بالنفي القاطع، ولكن ما أشد دهشته إذ يعلم أن هارمسورث هذا الذي جهله هواللورد تورثكليف الذي يعرفهحق المعرفة أكبر صحفي في العالم وصاحب التيمس وأكثر من نصف الجرائد والمجلات الإنجليزية التي تتداولها الأيدي. وبالإجمال هونابليون الصحافة وأكثر رجل له نفوذ في العالم. ولعل القراء أشوق ما يكون إلى التساءل كيف تم له هذا وأي رجل هو؟

ولقد أجاب على هذين السؤالين كاتب قدير وصحفي كبير هومستر جاردنر مدير جريدة (الديلي نيوز) الذي اشتهر بوصف مشهوري الرجال والكتابة عنهم ولا شك أن أقواله ستعطى نصيبا أكبر من الثقة والاعتبار بصفته صحفيا يكتب عن زميل له ولا سيما وأنه يروي عن نفسه أنه ربما كان الصحفي الوحيد الذي لم يعرف اللورد تورثكليف ولم يقع تحت نفوذه ولم يكتب له قط بل ولا رآه إلا في رواق مجلس اللوردات. فليس هناك من التعصب أوالمحاباة ما يحمله على التغالي في القول. وسيرى الراء من وصف المستر جاردنر أن الصحافة الإنجليزية الراقية لا تقترف كثيرا في أساليبها وأغراضها عن صحافتنا المصرية! قال:

أن اللورد تورثكليف هومثال (رجل الشوارع) فليست له نفسية محجبة بالأسرار نود الكشف عنها ولا عقلية عميقة المدى نرغب في الوصول إليها. بل هورجل عادي بسيط واضح، لا يفهم شيئا غير النجاح المادي ولا مقياس لديه يقيس به الحياة غير هذا. لقد كان نابليون يسأل عن النجاح لنفسه فقط ولكنه يعجب به لدى الآخرين. وهذا هوالشيء الوحيد الذي يفهمه والذي يقدر به الأشخاص. وإنك لتنال التفاهة في اللحظة التي تنجح فيها.

ذهب مرة إلى جلاسجوليحضر اجتماعا عقده مستر تشامبرلين ليدافع فيه عن خطة الحكومة إزاء الضرائب، فما كاد يرى عظمة الإجتماع وحماسة الجماهير البالغة حتى أيقن أن النجاح هنا وأنه سيبقى وحيدا مع الفشل. فعمد إلى تغير خطته في ليلة واحدة. وقد كانت جرائده من قبل تنعي على هذه الضرائب وتكتب قي ذمها والسخر بها. لقد حدث شيء لا يتوقعه فوثب من فوق السور في الحاللأنه يعتقد كما يعتقد المستر بيجلو (أن العناية الإلهية الرحيمة قد خلقتنا على هذا الشكل الأجوف لنستطيع أن نبتلع مبادئنا). والمبدأ الوحيد الذي يحتفظ به ولا يبتلعه هوالوقوف بجانب الفريق الغالب دائما.

واعتياده هذا على سرعة تقرير الأمور دون مراعاة لمبدأ أواحتفاظ برأي هوسر نجاحه، فليس له مبدأ أخلاقي أوفكري يقف عقبة في سبيله ولا علة تتغلب عليه، ولا نظرية يخضع لها، ولا رأي في الحياة يذود عنه. ولا هم له إلا أن يسأل ببساطة (أي شيء أربح؟) ثم يقذف بنفسه في تلك الجهة.

كان اللورد تورثكليف يزيد شعلة الحرب التهابا في جنوب إفريقيا، ولم يفعل ذلك عن شعور حقيقي بالكراهة للبوير. لأنه كما أظن ليس من الذين يحملون في صدورهم ضغناء أوعداوة، لأن العداوة تفيد التعلق بمبدأ في الحياة وتدل على خلق ثابت صحيح. ولوأن البوير فازوا في الحرب لخشيت أن يكتب لهم جواب تهنئة! ولكن الرأي العام كان إذ ذاك تغلي مراجله حماسة وكرها. ز كانت خطته الصحفية أن يقدم إلى الجمهور الطعام الذي يرغب فيه. فإذا كان يرغب في الحرب فإن واجبه يقضي عليه بتصويره الأعداء في أبشع الصور وأشنعها. وإذا كان يتوق إلى التحمس أمده به. فإن كانت حماسة الجماهير تتطلب سحق فرنسا فإنه يصبح أشد المناوئين لها ويكتب في سنة 1899 قائلا (إذا كان الفرنسيون لا يقلعون عن أهانتهم فإن مستعمراتهم تؤخذ منهم وتعطى لألمانيا وإيطاليا. إن الفرنسيين قد أقنعوا جون بول (الإنكليز) لأنهم أعدائه الألداء. لقد ترددت إنجلترا كثيرا في الاختيار بين فرنسا وإنجلترا. إننا نحترم دائما الأخلاق الألمانية ولكن بدأنا نشعر باحتقار فرنسا، لا شيء يقوم مقام اتفاق ودي بين إنجلترا وبين أقرب جاراتها إليها) فإذا تغير تيار الرأي العام وابتدأ يسيء الظن بنوايا ألمانيا كان هوأول من يلقي الحطب في النار قائلا سنة 1903 (نعم نحن نكره الألمانيين ونكرههم من أعماق قلوبنا. إن أعمالهم قد بغضتهم إلى أوروبا كلها. إني لا أسمح لأي إنسان أن يخط اليوم حرفا في جريدتي يمس به فرنسا كما أني لا أحب أن يكتب أحد سطراً واحداً يرضي به ألمانيا)

فهويحذف من قاموسه تلك الكلمة الخرقاء (الثبات على الخطة). ويغاير يومه أمسه غير خائف من النقد والتقريع. إنه يعلم أن الجماهير تنسى كل شيء ولا يطلب إلا التأثير الحاضر والغذاء اليومي. فهولا يعتبر نفسه في الحقيقة إلا مورداً لبضاعة عامة. فإذا تغير ذوق الجمهور كان أسرع الناس إلى التغيير معه. والحقيقة أن اللورد نورثكليف معدود من ذوي العقول الوضيعة الضئيلة. فليست آراءه ذات قيمة كبيرة وهولذلك لا يحجم عن استبدالها بآراء غيره بشرط أن تكون هذه آراء الأغلبية. ففي سنة 1904 كان يؤيد حزب التقدم إذ كان النصر في جانبه ولما تحقق سقوطه في سنة 1907 أخذ يملأ جرائده بالمطاعن والحكايات الخيالية في سوء أعماله. وليس كل هذا لأنه اختلف معهم - لأن الاختلاف على شيء يدل على التمسك بمبدأ أوعقيدة - ولكنه يتبع الجماهير.

هذه الفكرة التجارية المحضة عن الصحافة هي فكرة اللورد نورثكليف التي أهداها لعصره. لقد كانت الصحافة مهنة فأصبحت تجارة. لقد كان لها غرض أخلاقي فأصبحت بين يديه ولا غرض أخلاقي لها أكثر من الغرض الذي ترمي إليه صناعة الصابون، لقد كانوا يقولون قديما عن الجرائد أنها مرشدة الرأي العام. أول واجباتها أن تنقل الأخبار دون تحيز شخصي أوعمومي. وثانيها أن تدافع عن خطة سياسية تعتقد أنها في مصلحة الأمة والدولة. تحترم الحقائق وتعتقد أن هناك قانونا أخلاقيا جامعا تخضع له الأشياء.

ولكن اللورد نورثكليف غير كل هذا. لقد بدأ عهده بالصحافة وهوخال من المبادئ والعقائد. كانت الصحافة قديما تخاطب عقول الرأي العام المسؤول فأصبح هويخاطب أهواء غير المسؤولين. كانت الجرائد تمد الناس بالأخبار فأصبح هويمدها بالحماسيات والمشوقات، كانت الجرائد قديما تكتب ما تمليه الآراء المعقولة فأصبح هويكتب ما تمليه العواطف المنفعلة.

لقد قلت أن اللورد نورثكليف هورجل الشوارع وأعني بذلك أن عقله لا يرقى عما يتطلبه تيار الجماهير. فترى في كل أعماله طابع العقل العادي بدرجة غير عادية، ومظهر الخلومن الأفكار والجري وراء كل تافه والإعجاب بكل ضجة جوفاء والنفور من كل شيء قوي نافع سليم في الحياة.