مجلة البيان للبرقوقي/العدد 61/المقتطف مجلة مصرية للمصريين

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 61/المقتطف مجلة مصرية للمصريين

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1921



للمقتطف مكانة محترمة عند فريق كبير من قرائه ولأقواله قيمة خاصة لما يبدو عليها من دلائل الميل إلى التحقيق العلمي، لذلك كان عجيبا لدينا أن يصدر حكما قاطعا يتناول فيه أشرف وجوه الوطنية المصرية وبالتجريح ويردفه بأحكام أخرى تناقض ما اقتنع به المصريون بل وما اعترف به خصومهم الإنجليز، وهو يدلل على ذلك كله بعبارات سفسطية متفككة لم تسلم من التناقض ومنطق كمنطق العامة الذين لم يرق بهم التفكير إلى الوصول بين المقدمات والنتائج وتحقيق من وجوهها المتعددة.

ورد في مقتطف شهر أغسطس في باب المسائل سؤالان بل ثلاثة ذات صبغة سياسية وجهها سائلها إلى أصحاب المجلة. ولا نخطأ إذا قلنا إن هذه الأسئلة الثلاثة هي عماد ما تقوم عليه القضية المصرية وإن من جار في الحكم على واحد منها فقد طعن المصريين في أشرف جانب من جوانب وطنيتهم وكفاءتهم وكرامتهم.

كان سؤال السائل الأول (ما رأي المقتطف في السياسة الإنجليزية في مصر في الأربعين سنة الماضية هل أضرتها أم نفعتها) وكان السؤال الثاني (لمن ينسب فشل التعليم في هذا القطر وإتباع نظام الدراسة الحالي العقيم) والسؤال الثالث (إذا استقلت مصر استقلالا تاما أيمكنها أن تجاري اليابان في ارتقائها). ولقد كنا نود أن لا يخرج المقتطف عن دائرة علمياته اللا مرنة ليتورط في الإجابة عن هذه الأسئلة وأن يدع ذلك للمقطم الذي حذق سياسة الجانبين في هذه الأيام!!

وما قصدنا الآن أن نتولى الإجابة على هذه الأسئلة التي تشمل تاريخ مصر المحزن في الأربعين سنة الماضية. ولكن نريد أن نبين كيف شرح المقتطف كل هذا التاريخ في خمسين سطرا! وكيف قرر أحكاما تضعها بكلام العلماء المحققين بإضاعة ثقة كان يحاول أن يكسبها في نفوس قرائه! وسنعرض الآن نماذج من إجابته على هذه الأسئلة دون أن نحاول التعليق عليها كثيرا وإن كنا سنخص ببعض العناية مسألة فشل التعليم في مصر.

ـ 1ـ

أما السؤال الأول الخاص بما جنته مصر من نفع أو ضر من السياسة الإنجليزية في الأربعين سنة الماضية فيظهر أن أصحاب المقتطف عند إجابتهم عليه لم يفطنوا إلى تعب السائل بكلمتي (السياسة الإنجليزية). وهو قول لا يقد منه الإصلاحات أو المشروعات ولكن عموميات السياسة في الإدارة والتشريع والتنفيذ. وفرق كبير بين أن نقول مثلا ماذا كانت سياسة التعليم في مصر وبين أن نقول ماذا كانت حالة التعليم وإن كان بعض الأمر عي ذلك يحمل بعضه. فسياسة التعليم في مصر في عهد الاحتلال شرحها اللورد كرومر بعبارة وجيزة شهيرة وهي أن المدارس مصانع لتخرج الكتبة للدواوين! كذلك كانت سياسة التعليم في مصر ترمي إلى القضاء على لغة البلاد وتجنب كل منحى في التعليم يسمو بالنفوس أو يربي الملكات أو ينعش روح الوطنية أو يعود حرية الفكر واستقلال الرأي. أما حالة التعليم في مصر فمن أسوأ الحالات، فمن مدارس محدودة العلوم والفنون إلى قلة عدد المعلمين الذين أخرجتهم إلينا السياسة الإنجليزية في أربعين سنة إلى مناهج سيئة الوضع والاختيار لا تحقق أماني المصريين في التعليم بل كانت سببا في إرباك العقول الناشئين وشل استعدادهم وعدم تهيئتهم للنجاح في الحياة العملية مما دعا مستر كاربنتر رئيس المفتيشين في وزارة المعارف إلى كتابة تقريره الشهير الذي هو وصمة المعارف عندنا والذي وصف فيه ما آلت إليه حالة التلاميذ السيئة من جراء مساوئ نظام التعليم.

نعيد الكرة بعد هذا الشرح الذي شرحناه ونسائل أحاب المقتطف ما الذي جنته مصر من السياسة الإنجليزية على حريتنا رويدا رويدا وساب حقوقنا واحد بعد واحد؟ هل عملت السياسة الإنجليزية على تربية الشعب المصري تربية سياسية استقلالية وأعدته إعدادا أخلاقيا وعلميا فاق به حالته من قبل؟ ألم يكن لنا مجلس نيابي تام السلطة فألغته سنة 1883؟ ألم تسلخ السودان عنا وتجعله شركة الذئب والحمل بيننا وبينهم؟ ألم تتدخل في شؤوننا حتى سقطت وزارة فخري باشا بعد تشكيلها بأربعة وعشرين ساعة لأن اللورد كرومر لم يرضى عنها؟ ألم يقل اللورد جرانفل في برقيته الشهيرة أن على الوزراء المصريين أن يسمعوا كلمة المعتمد البريطاني أو يتركوا مناصبهم؟ ألم يستأثر الموظفون الإنجليز ومستشاروا الوزارات بكل السلطة في أعمال الإدارة والتشريع والتنفيذ حتى قال اللورد كرومر إن أصغر موظف إنجليزي له حق الطاعة على أكبر موظف مصري؟ وأخيرا ألم تحاول السياسة الإنجليزية أن تخمد روح الحرية وتطارد الحركة الوطنية بجميع الوسائل القهرية والاستثنائية من أمثال قانون المطبوعات وقوانين الصحافة والتجمهر و الاتفاقات الحنائية؟

قد كان يغتفر لمثل المقتطف لو اقتصر في إجابته على السؤال بقوله مثلا أن الإنجليز نظموا المالية وأصلحوا فروع الإدارة وقاموا ببعض المشروعات المهمة ولو أن هذا يخالف منطق السؤال كما بينا، ولكنه أندفع مع أمياله وركب الشطط في إجابته على السؤال بقوله إن مصر المستقلة ما كانت لتستطيع أن تبلغ إلى ما بلغت إليه من التقدم الذي هو نعمة الاحتلال!! وكان أقصى ما وصلت إليه همته في التشييد بهذه النعمة مقابلته بين مصر وسوريا قبل عهد الاحتلال مباشرة أعني في إبان التخبط والارتباك الأخيرين. فمن نماذج براهينه قوله (لقد انتشرت المدارس. . وتعددت الجرائد. . وأصبحت حروف المطبعة الأميرية غير سقيمة!. . . وكان المقتطف يطبع على ورق من سورية!. . أيها المصريون. . . احدوا الله. . . فإن مصر لم تتقدم على سورية إلا لأن الإنجليز احتلوا مصر ولم يحتلوا سورية!!. . .) ولعله نسي أن يذك ردم الخليج!. . . وتوسيع ميداني المنشية وباب الحديد. وجنينة الأسماك!!

إننا لا نجد غير كلمة واحدة نقولها للقوم وهي إننا فقدنا الاستقلال!! فإذا كان المقطميون لم يشعروا بما يشعر به قلب الوطنية المصرية إزاء هذا الحق المقدس، وقد غلبتهم المظاهر المادية من انتشار المدارس وكثرة المطابع والمتاجر فإن نذكرهم بالتاريخ الذي يدعون أنه خدامه، نذكرهم بعهد محمد علي وما وصلت إليه مصر في زمنه من الرقي العظيم الذي ما كان شيء يحول دون تقدمه المطرد لولا احتلال الإنجليز الذين ما كادوا يدخلون بلادنا حتى باعوا السفن ومحتويات مصانعها وأقفلوا معامل المدافع والأسلحة والضربخانة ومصانع الورق والمغازل والمناول!. وأغلقوا المدارس وألغوا المجانية منها! قال رزنر في كتابه مصر في عهد الاحتلال (في سنة 1883 ألغي 22 مدرسة تجهيزية من مدارس الحكومة وثلاث مدارس فنية ومدرسة المعلمين ومدرسة المساحة لأسباب اقتصادية).

على أن المقابلة إن صحت بين بلدين فلا تصح بين مصر وسورية لاختلاف ما بينهما من الأحول المدنية، فقد كانت سورية ولاية تركية طالما قيل لنا أنها كانت تتأخر في كل يوم درجات بسبب مساوئ الحكم التركي بينما كانت مصر دولة مستقلة تضارع الدول الأوروبية ولا يربطها بتركيا سوى السيادة الاسمية، وقد أغدق عليها محمد على مدينة ضلت نامية زاهرة إلى عهد إسماعيل.

ـ 2ـ

كان السؤال السائل الثاني لمن ينسب فشل التعليم في مصر؟ وكان في استطاعة المقتكف أن يقضي شهوة نفسه بقوله مثلا إن فشل التعليم في مصر راجع إلى الأهالي الذين لم يعتمدوا على أنفسهم في إنشاء المدارس الحرة والتبرع للجمعيات القائمة بالتعليم وإيفاد البعثات إلى أوروبا وغير ذلك. ولكنه عمد إلى جواب ينكره الواقع وينكره المصريون والإنجليز بل وينكره المقطم نفسه في كثير من وسائله التي كتبها عن التعليم وعن قلة عدد المتعلمين الذين يعتمدون على أنفسهم في الأعمال الحرة. وأقربها إلى ذاكرتنا ما كتبه على نظام الكلية الأمريكية في قسمها غير الحكومي.

يقول المقتطف إن التعليم لم يفشل في مصر! ونقول له أن نسبة المتعلمين كانت في عهد إسماعيل 23 في المائة من عدد السكان على حين أنها كانت 3 في المائة في الرسيا و 10 في المائة في تركيا و 33 في المائة في إيطاليا. وكان عدد التلاميذ 140987 وعدد المدارس 4817 وكان في القاهرة وحدها ما يزيد عن 295 مدرسة بلغ عدد تلاميذها 10000 عدا طلبة الأزهر والمعاهد الأجنبية والمعاهد التابعة للأوقاف والمدارس الحربية (راجع صحيفة 225 من كتاب تاريخ مصر لوزارة المعارف تأليف سليم حسن وعمر الإسكندري). أما الآن فنسبة الطلبة إلى عدد السكان تبلغ 4، 5 في المائة ونسبة من يعرفون القراءة والكتابة 12 في المائة حسب الإحصاءات الرسمية. أما ع الطلبة الموجودين في المدارس فيبلغ 600000. ولكي ننصف الأهالي في أعمالها والحكومة في أعمالها فإنا نقول أن الكتاتيب التي أنشأتها الأمة إلى سنة 1915 بلغت 7454 أما الحكومة فتدير 142 كتابا! أما المدارس الابتدائية الحرة التي أنشأتها الأمة فتبلغ 943 مدرسة يتعلم فيها 108641 تلميذاً، في حين أن للحكومة 22 مدرسة عدد تلاميذها 6837 تلميذاً أي إن نسبة عدد من تعلمه الحكومة في مدارسها الابتدائية إلى عدد جميع التلاميذ كنسبة 17 في الألف وللأهالي 508 في الألف. أما في التعليم الثانوي فالحكومة لا تعلم سوى 6 في الألف والأهالي 12 في الألف وباقي الألف في درجات التعليم الأخرى (راجع في كل ذلك كتاب التعليم العام لأمين باشا سامي).

يقول المقتطف أن التعليم لم يفشل في مصر!! ويقول اللورد ملنر في تقريره (أن من أسباب الاستياء العام عدم النجاح في سياسة التعليم كما هو ظاهر جليا فأدى ذلك إلى تخرج عدد دائم الازدياد ولا حاجة إليه من طلاب الوظائف الحاملين شهادات الامتحان والخالين من تأثير التهذيب الحقيقي) ويقول أيضاً (ولكن يظهر هنا أيضاً أن الحال بقيت بلا سعي يذكر في تنقيح نظام وضع في ظروف استثنائية وبالا التفات إلى كون الأحوال المتغيرة تقتضي إتباع طرق جديدة. فالتعليم والتهذيب الذي أقبل عليه الناس إقبالا حقيقيا وجعلوا يلحون في طلبه لا يزال قاصرا جدا والسواد لأعظم من الأهالي أميا وليس ذلك فقط بل ولا يزال بلا تربية اجتماعية أو أدبية أيضا). ويقول السرفالنتين تشيرول مكاتب التيمس في مقالاته التي نشرها عن مص (إنها ذات نظام مرقع في التعليم سيء في وضعه وفي تنفيذه) ويقول المستر جون روبرتسون العضو بمجلس النواب الإنجليز (لقد مكثنا في مصر مدة ربع قرن فوصلنا بالمصريين إلى هذا الانحطاط في التعليم. . وكذلك كانت وصايتنا السياسية مقترنة في مصر بسياسة تأخير التعليم). ولكن المقتطف يقول إن التعليم لم يفشل في مصر والمقتطف أصدق!!.

أما قول المقتطف إن التعليم لم يفشل في مصر لأن كل الذين يشار إليهم بالبنان درسوا على هذا النظام فهو كمن يقول إن حامض الفنيك غير مميت لأن طالبا تجرعه فلم يمت! وغاب عنه أن النجاح في مزاولة أعمال الحياة تابع لنضوج العقل واكتماله وتقوية الذهن بالتجارب والمشاهدات وإنماء الملكات التي لا تلبث أن تتغلب على مساوئ التعليم المدرسي كما تتغلب البنية الصحيحة السليمة على ما ينتاب الجسم من الأمراض والمكروبات أو تضعف عملها كثيرا. فالفضل لنجاح هؤلاء الذين يشار إليهم بالبنان ليس مرجعه إلى أساس الدراسة الحالي كما يقول المقتطف ولكن إلى جهادهم الشخصي في حث مواهبهم والانتفاع بما مارسوه واطلعوا عليه من التخلص من بذور سيئة بذرها أساس الدراسة الحالي.

وأخيرا يقول المقتطف إننا لا نرى ما ننتقده غير عدم انقطاع أحد للبحث العلمي! فهنيئاً لمصر التي لا يرى المقتطف في نظام تعليمها ما ينتقده سوى عدم انقطاع أحد للبحث العلمي!! ولكن ألا يرى المقتطف أن نقده هذا اعتراف بسيئة من سيئات التعليم وإشهار بجانب من جوانب إخفاقه؟! أليس التعليم الصحيح هو الذي يخرج رجالا يميلون إلى البحث والاطلاع وتضحية مص2الحهم لمنفعة أمتهم؟! ونسوق إليه في هذا المعنى كلمة لناظر مدرسة الحقوق سنة 1907 مسيو لامبير إذ يقول (منت عضوا في لجنة امتحان طلبة شهادة الدراسة الثانوية في القسم الأدبي فتحققت إذ ذاك أن درجة التعليم الثانوي في مصر لا تكاد تعادل درجة التعليم الابتدائي الفرنسي في الوقت الحاضر. فقد محوا طبقا لخطة موضوعة من برنامج التعليم الثانوي تلك الأنظمة التي من شأنها أن تكون قوة الحكم والتعقل وتنبه في ذهن الطالب حب الاطلاع والبحث وجعلوا محل ذلك في المكان الأول ما يحتاج إلى إجهاد الحافظة).

ـ3ـ

أما السؤال الثالث الخاص بإمكان مصر مجاراة اليابان في ارتقائها إذا استقلت استقلالا تاما، فقد أجاب عليه المقتطف إجابة غريبة قائلا إن ذلك لا يمكن لتفاوت عدد السكان بين البلدين تفاوتا هائلا ولكثرة المصالح الأجنبية هنا عن هناك وأخيرا لأن التعليم في اليابان عمومي إجباري وهذا غير مستطاع في مصر لأسباب كنا نود لو ذكرها لنستطيع التعليق عليها. ولكنا نعود فنذكره مرة أخرى بأن التقدم العظيم الذي أدركته مصر في عهد محمد علي في زمن وجيز كان وسكانها لا يزيدون عن المليونين وليس الغرض أن نقول أن مصر ستصبح بعد استقلالها مساوية لليابان في ارتقائها ولكن الغرض المقصود هو هل تستطيع مصر أن ترتقي بنسبة عدد سكانها ومواردها ارتقاء يتناسب مع ما بلغته اليابان في الخمسين سنة الأخيرة يوم بدأت تنقل الحضارة الأوربية إليها؟

ط. ر