مجلة البيان للبرقوقي/العدد 62/كتاب الصور

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 62/كتاب الصور

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 11 - 1921



تأليف واشنطون إيرفنج

وهو الكتاب المقرر على طلبة الشهادة الثانوية في هذا العام

السياحة

لا جرم أن الوافد على أوروبا من الأمريكان مصيب في سياحته الطويلة أفضل ممهد لوفدته. وأحسن مهيأ لقدمته. وذلك أن فترة انقطاعه عن المناظر والأشغال الدنيوية خليقة أن تترك صحيفة ذهنه على أتم استعداد للتأثر بما سوف تتلقاه من الصور والعاني الجديدة. فإن بطائح المياه المنفسجة الفاصلة بين شطري الكرة الأرضية هي كصحيفة غفل بيضاء في كتاب الحياة فليس قمة انتقال تدريجي كالذي يكون في أوروبا سببا لاندماج مملكة في أخرى من حيث أهليهما ومعالمهما. فمتى اختفى عن بصرك البر الذي تفارق لا ترى إلا فراغا حتى ترسي على الساحل المقابل ثم تزج دفعة واحدة في غمرة ضوضاء عالم جديد وتغمس في حومة طرائفه وغرائبه.

والسياحة البرية تتصل فيها المناظر وتطرد فيها سلسلة نظام الأشخاص والحوادث المؤلفة من حلقاتها قصة الحياة والتي هي جديرة أن تضعف ما ينشأ في النفس من أثر الغيبة والفرقة ولا مشاحة في أننا لا نزال أثناء السياحة البرية نجرسلسلة تتزايد حلقاتها بعد كل مرحلة نقطعها من سفرنا ولكن هذه السلسة متصلة غير منقطعة نستطيع أن نتتبع ما خلفناه منها وراءنا حلقة حلقة ولا نزال نشعر أن آخر هذه الحلقات يربطنا بالوطن أما السياحة البحرية النائية فهذه تصرم الأسباب وتجذم الروابط للتو واللحظة وتشعرنا بأننا قد نبذنا من مرسى الحياة المستقرة وقذفنا من مرفأ العيشة المطمأنة على غارب غباب عالم ظنين متهم تحفه الشكوك والريب. فهي تحول بيننا وبين الأوطان بهوة حقيقية غير وهمية عرضة للعواطف والظنون والمخاوف يظل معها البعاد أمراً محسا ملموسا والأوبة غير مضمونة.

تلك كانت حالتي شخصياً. فلما غاب عن بصري أخر معالم بلادي مضمحل الزرقة أقصى كأنه السحابة المنجابة خيل إلي كأنما قد أقفلت جزء من كتاب الدنيا وشؤونها وأنفسح لي مجال التأمل والاعتبار قبل افتتاح جزء آخر. هذه الديار المتقلصة من ناظري - تلك التي تضم في حضنيها وتجمع بين دفتيها كل كل ما هو محبب إلي في الدنيا - ماذا يحتمل أن يصيبها من صروف المحن. وتقلبات الزمن. وماذا يحتمل أن يصيبني أنا من تبدل وتحول قبل أن تسعدوني المقادير بالإياب! ومن ذا الذي يستطيع حين يهم بالرحيل أن يعلم أيطوح به تيار القدر التعسف. أم متى تكون أوبته إلى وطنه. وهل يتاح له ثانيا أن يشهد معالم طفولته. ومآلف شبيبته.

أم هل يباح الورد ثانية ... ويلذ برد الماء مرتشف

قات أنك لا ترى في البحر إلا فراغا وإني لجدير أن أصحح من هذه الفكرة بقولي بل إن البحر لصحيفة مملوءة بالمعاني الباعثة على التفكير والتأمل ولكن هذه المعاني ليست سوى عجائب البحر والهواء مما هو أجدر أن يصرف الذهن عن شؤون الدنيا ويجرده من شوائب الحياة المدنية ولكم سرني أن أشرف من فوق سياج السفينة في اليوم الساجي منغض الرأس للنعاس أو أعتلي ذؤابة الدقل أقضي الساعات تأملا فيس ساحة صدر اليم الهادئ المشتمل في غلالة المصيف أربو إلى ركام السحب المطرزة بحواشي النور المذهب تشرأب إن تبرز من حجاب الأفق فأخالها مآلف جان ثم أعمرها بخلائق من صنيع خيالي - وأراقب مجرى الأمواج تقلب أجرامها اللجينية كما لو كانت تود أن تضمحل فتموت على تلك السواحل الهنية السعيدة.

لقد كنت أشعر بمزيج من الأمن والخوف والرهبة والطمأنينة لئن كنت أشرف من ذلك المربأ الشاهق على عجائب مخلوقات اليم تلعب ألعابها الخشنة الخرقاء - فمن أسراب درفيل تتنزى حول مقدم السفينة وحوت يرفع جرمه الجسيم فوق الماء في بطأ وتثاقل. وكلب بحر جارح فراس يمرق من خلال اللجة الزرقاء كالطيف السانح. والبرق اللامح. وعند ذاك يستثير خيالي كل ما سمعت أو قرأت من عالم الدأماء الذي أعتليه ـعن ذوات الزعانف الجائبة ووديانه السحيقة الأعماق مما لا يدرك مداه. ولا يبلغ أقصاه. وعن الخلائق المنكرة الهائلة غير ذات الصور والأشكال - الكامنة بين أساس الأرض وقواعدها وعن تلك الخيالات الخارقة مما تفيض به أقاصيص النوتية وصياد البحر.

وأحيانا يبدو لك من أقصى مسافة شراع سفينة تنساب على حافة اليم فيكون مبعثا لخطرات بالك. وسنحات خيالك ويا عجبا لهذه السفينة المنسابة. إنها لعمرك عالم ضئيل ودنيا دقيقة تسرع لتنضم إلى السواد الأعظم في هذا الوجود! هذه آية بارعة من آيات إبداع البشر قد تغلبت بوجه ما على الرياح والأمواج وضمت طرفي العالم. وقامت بين أنحاء الأرض واسطة تبادل للخيرات. وتقايض للبركات تصب في حجر الشمال الممحل الجديد. جملة مناعم الجنوب. وتبث نور العرفان وثمار التربية والتهذيب. فهي بذلك قد ألفت الشمل بين المتفرق المنتشر من أجزاء النوع البشري مما كان يحسب أن الطبيعة قد أقامت بين بعضه والبعض حائلا صعب المرام وسدا منيعا متعذر الاقتحام.

ولقد بصرنا ذات يوم بشبح مبهم الشكل يطفو على مسافة منا. وكل شيء يبدو على ظهر الماء يظل لانفراده وسط ساحة المياه الفيحاء المتماثلة الأرجاء المتشاكلة الأنحاء خليقا أن يلفت النظر. ويجذب البصر. ولما استبن ذلك الشبح ألفيناه دقل سفينة لم نشك في أنها قد غرقت فأهلكت إذا أبصرنا بقايا مناديل كان بعض النوتية قد شدوا بها أنفسهم إلى ذلك العمود حتى لا يحتاجهم الموج ولم يكن ثمة من آثار الفينة ما يستدل بها على اسمها والظاهر أن حطامها كانت الأمواج ما برحت تتقاذفه منذ شهور عدة فهو يذهب على سطح العباب كل مذهب ويضرب في كل مضرب: وكان قد اعتقله ونشبت به قطع متكاثفة من المحار وخففت على جانبيه أوراق بسيطة مسترسلة من عشب الماء. فقلت في نفسي (ترى أين النوتية؟ لقد انقضى كفاحهم العنيف منذ بعيد وقد رسبوا بين زماجر العواصف فعظامهم اليوم بأعماق اليم يضمحل ثاويها. ويبيض باليها. وقد طواهم النسيان (كما صنع بهم العباب) بين غضونه وأثنائه، وغيبهم الصمت والسكون في ضمير أحشائه، فليس من أحد يستطيع أن يدل على آثارهم أو يحدث عن أخبارهم. وهذا المركب الغريق كم من زفرات لدى الرحيل شيعته. وكم من نظرات ودعته. وكم من دعوات بالغنم والسلامة تصاعدت لركبه التعساء من حول مواقد هجروها في ديارهم فأضحت من بعدهم موحشة نابية. وعادت روضة النعيم بهاذاوية. وتعطلت فيها مجالس اللهو وكانت بهم صدورها حالية. وكم من زوجة وحبيبة عكفت على صفحات جريدة لتظفر بين سطورها بشارد نبأ عن تلك السفينة الجوابة للبحار: الوثابة على القحم والأخطار! وكيف استحال القلق إلى ظلمة الخوف واستحال الخوف إلى السواد واليأس. فوا أسفا أن لا يرجع البتة من تلك السفينة تذكار واحد يكون عما مضى عزاء تستريح إليه النفس ويهفوا إليه الضمير بل كل ما عساه أن يعرف هو أنها أبحرت من المرفأ ثم نقطع خبرها أبد الآبدين؟).

وقد حرك منظر الحطام بعض القوم - كما هو المعتاد - إلى سرد الكثير من فاجع الروايات وقد جرى ذلك لأخص ساعة الغروب إذ طفق الجو بعد صحوه يكفهر ويربد. وينذر ويهدد. ويؤذن ببعض هاتيك الزوابع المباغتة التي ربما أغارت على صفاء سكينة السياحات الصيفية. فجعل كل منا وقد أخذنا مجالسنا من الطارمة حول شعاع مصباحها الكليل الذي كان لا يزيد ظلمة المكان إلا وحشة ورهبة - يلقي بما عن له من القول عن حوادث الغرق والهلاك. فكان أدهش ما سمعت من هذه الأحاديث موجزة ألقاها القبطان قال:

بينما أنا ذات مرة في مركب رائع ضخم أسيح بين سواحل (نيوفوندلاند) أتيح بعض تلك الضبابات الكثيفة مما يكثر في تلك الأنحاء فقصرت مدى ألحاظنا ومنعتنا رؤية ما تباعد من الأشخاص حتى في ضوء النهار. أما بالليل فقد أفرطت كثافة الغيم بما أبهم علينا صور المرئيات وأخفى أشباحها حتى على مدى ضعف طول المركب. فأشعلت أضواء في ذؤابة الدقل. وأقمت الأرصاد يرقبون ما عسى أن يسوقه القدر من قوارب السمك المعتادة الرسو على السواحل وكانت الريح إذ ذاك تهب نسما نفاحا والمركب يهفو بنا سريعا. فإنا لكذلك إذ صاح الرقيب بغتة (هاكم قارب!) وما كاد يفوه بها حتى هبطنا على القارب وكان زورقا صغيرا وكان زورقا قد ولانا عرضه وكان النوتية كله رقودا وقد فاتهم أن يرفعوا مصباحا فاصطدمنا بالقارب. ثم كان من قوة الصدمة وضخامة مركبنا وثقل أبداننا ما حط ذلك القارب تحت الأمواج وغمره بالأمواه ثم اجتزنا من فوقه ومضينا في طريقنا. وبينما القارب المتحطم يرسب من تحتنا حانت مني التفاتة فلمحت اثنين أو ثلاثة من ركابها البؤساء عارية أنصاف أجسادهم خارجين من الطارمة.

لقد هبوا اللحظة من فرشهم لتبتلعهم ذئاب الموج العاوية. وسباعه الضارية ولقد والله سمعت صرخت غرقهم يخالطها عزيف الريح العاتية. وما لبث الإعصار الذي حمل إلينا تلك الصرخة أن أطاحنا وراء مسمع كل صوت من أصوات تلك المأساة الفاجعة. على أني مهما أعش فلست بناس تلك الصرخة! ولم يك إلا بعد برهة أن استطعنا تعديل سير مركبنا لما كان قد تغلب عليه من سطوة اليم. ثم عدنا مسترشدين برائد الحدس والتخمين إلى حيث كان القارب قد أرسى فسرنا بضع ساعات في ضباب كثيف وأطلقنا طلقات أشارية لعلنا نسمع هتاف من عساهم يكونون قد أفلتوا من مخالب المنون ولكن الصمت كان شاملا، ولم تر أبصارهم ولم تسمع أذاننا من أثر منهم ولا خبر.

ولا أنكر أن هذه الأقاصيص أودت بلذيذ تصوراتي مدة من الزمن. واشتدت العاصفة على امتداد الليل وضربت الزوبعة غوارب الموج بأصوات الرياح فبددت وئامه. وشوشت نظامه.

وكان يسمع بتكسر الموج وتدفع الأذى صوت مخوف موحش. وتجاوبت من اللجج الأعماق. وتراءت الأنواء بالآفاق. وخيل إلينا في الأحايين أن سود السحائب فوقنا كانت تتصدع بصوارم البارقات الخفاقة على رؤوس الموج المزبدة الراغية فتضيء لحظة ثم تترك الظلمة التالية أرهب وأخوف وتداعت زماجر الرعود فوق قفار المياه الموحشة فأجابتها الأصداء من غيران الجبال بما أطال صوت زئيرها ومد في شأو هديرها.

ولما نظرت إلى سفينتنا تترنح وتتعثر بين هذه الحومات المتفجرة وكهوف الماء الضجاجة المزمجرة، خيل إلي أن تماسكها وسط هذه الزعارع وتوازنها بين هذه الزلازل كان حقا أحد المعجزات الخارقة. وكانت ربما انغمست رواجعهاو اندفن مقدمها تحت أطباق الموج وأحيانا كانت تشرمن فوقها اللجة فتهم أن تتلمسها لولا حركة حاذقة من الدفة تقيها الهجمة الهائلة والصدمة الغائلة.

ومازال ذلك المنظر المخوف يتشبه لي ويتراءى حتى بعد ما عدت إلى حجرتي وقد جعل حفيف الريح خلال الجبال يرن في آذاني كعويل المآتم. وما كان أشنع صريع الأدقال وأنين الحواجز وضجيجها إذ المركب يكدح في عباب اليم المتقلب وكان يخيل إلي والموج على جنبات المركب يتمطر وهديره في آذنه يضج ويزأر كأنما الموت ذاته يدور ثائرا حنقا حول ذلك السجن العائم يتلمس فريسته فلو إن مسمار ند عن مغرزه أو انفجر ما بين لوحين من ألواحها الملتئمة لا نفتح بذلك الباب لوافد المنية فأخلى ما بينه وما بين الضجة. ولكن لما طلع علينا الغد بالصحو الجميل ولانت سورة البحر وخيمت عليه السكينة وهبت الريح رخاء مؤاتية بدد هذا الصفاء ما كان قد استحوذ على نفسي من تلك الخواطر الحزينة.

ولا غرو فإن المرء لا يسعه إلا أن يلين رقة ويصبو طربا إلى محاسن الصحو الجميل و النسيم العليل على صدر اليم. ومتى تبرجت السفينة في جل أبرادها وحللها وانتفخ كل شراع ومر يزهى مرحا فوق طرائق الموج المسرد وحبائل الماء الطرد بدت لك وأيم الله أكمل ما تكون أبهة وجلالا وروعة وجمالا وكأن قد أدالها من الخضم الزاخر وأثرها عليه بالعزة والسلطان.

لو سمح لي المجال ها هنا لأفعمت كتابا هائلا بوصف ما يعتاد المرء في الرحلة البحرية من سوانح الخيال فإن هذه السوانح لتطرد عندي إطرادا غير منقطع ولكنه قد آن لنا أن نعمد إلى الساحل.

وفي ذات صباح وضاء وضاح الجبين نودي من قمة الدقل (البر) ليس يتأتى لغير مجرب مكابد أن يدرك لذة ما ينثال على قلب الأمريكان من معسول الخواطر العذبة وشهي الإحساسات لدى أول رؤيته سواحل أوروبا. فإن مايقترن بهذا الاسم من السوانح والمعاني لجدير أن يملأ كتابا كاملا.

هذه هي الأرض الموعودة قد غصت بكل ما كان سمعه السائح الجوال في طفولته وتأمله أثناء دراسته.

وما زال ذهني منذ تلك اللحظة لحين وصولنا مثارا للخواطر الجياشة والعواطف المهتاجة. فكان في مشهد المدرعات الحائمة على الساحل كأنها الحرس من المردة وفي رؤوس إيرلندة الممتدة في الخليج وجبال ولز الشامخة فوق مجرى الغمام - مجال المتبصر. ومسرح المتفكر.

ولما أصعدنا في (مرسى) استطلعت أنحاء السواحل بالمرقب فقر بعيني منظر الأكواخ الأنيقة الحسنة محلاة الأكتاف ببديع البساتين وخضر الرياض وأبصرت إطلالة دير دارسة مندثرة قد نسجت عليها يد البلى حللا قشيبة من الأعشاب ورأيت مستدق ذؤابه البرج من كنيسة قروية مشرفة من جبهة تل مجاور وهذه كلها من معالم انكلترا الخاصة وآياتها المميزة.

كانت حركة المد والجزر إذ ذاك ومهب الريح مؤاتية مساعفة فتسير للسفينة أن تبلغ رصيف المرفأ للتو والساعة. وكان غاصا بالنظارة من اللاهين وبغير هؤلاء من الأحباب الواجدين المتلهفين شوقا إلى لقاء الخلان والأقارب وقد استطعت أن أميز من بين هذه الجموع المحتشدة التاجر المعهود إليه أمر السفينة - عرفته بما كان يبدو عليه من القلق وما ارتسم على جبينه من سيما التقدير والمحاسبة وكان واضعا يديه في جبينه يصفر كالمفكر المتروي رائحا غائدا وسط مجال ضيق كان قد أفسحته له المزدحمون احتراما وإعظاما لأهميته المؤقتة. وكان الهتاف والتحيات تتبادل بين الساحل والمركب كلما تعارفت الأصدقاء. وقد بصرت بامرأة فتية بذة الهيئة لكنها مستملحة الملامح والشمائل وكانت مقبلة بوجهها من بين الجموع وقد جالت ببصرها سريعة اللمحات في أنحاء المركب تلتمس من بين ركابها وجها مؤملا محبوبا وكأنما خاب ظنها فاستولى عليها الإشفاق والقلق. وما لبثت أن سمعت صوتا خافتا يناديها باسمها. وقد انبعث هذا الصوت من نوتي مسكين كان قد مرض أثناء الرحلة حتى رحمه كل من في السفينة وكان قرناؤه لما أقبل الصحو فرشوا له وسادة في مكان ظليل من السفينة ثم ألح عليه المرض في أخريات الرحلة حتى ألجأه إلى حجرته وقد قال لعواده أن أقصى مناه أن يبصر زوجته قبل مماته. فحمله أخوانه إلى ظهر المركب لما أصعدنا في النهر فاتكأ على الشراع وقد بدا من هزال وجهه وفرط صفرته وشحوبه ما ليس يستغرب معه إن أخطأته ألحاظ الشغف والولوع من زوجته المشتاقة. ولكنها ما سمعت صوته حتى انثنت ألحاظها نحو وجهه فقرأت على صحيفته لأول وهلة كتابا مستفيضا من الحزن والأسى فضمت يديها وأرسلت صيحة ضعيفة ووقفت تعصر كفيها المضمومتين في وجد صامت.

وعم بعد ذلك الهرج والمرج - فتقابل الصاحب وتصافح الأحباب. وتآسى التجار وأرباب الأشغال. ووقفت بينهم فريداً ساكتا لا أجد من ألقاه ولا من يلقاني ويهتف لي ويرحب. ثم نزلت بديار آبائي وأجدادي ولكني وجدتني فيها غريبا. .