مجلة البيان للبرقوقي/العدد 7/الرأي العامي في العربية الفصحى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 7/الرأي العامي في العربية الفصحى

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 4 - 1912


هذا مذهب من الكلام في اللغة كثيراً ما يشتبه فيه اليقين حتى لا يُنفذ إلى تمحيصه، ويلتوي الظن حتى لا يطاق على تخليصه، وأنت فكيف مددت عينك في هذا الجيل فلست آمناً أن تقع من نشئه الذين يطمحون إلى مشيخة الكتب. . . على كل ضيق المجم، ضئيل الهم، ألفّ اللسان، ملتف البيان، وهو مع ذلك يُسمّع بالفصاحة والفصحاء، ويستطيل في البلاغة والبلغاء، ويبسط في هذا الرهان. من جلده علي هزاله، ويفسح في هذا الميدان. من خطوه علي كلاله، ومهما أخطأك فيما يَعمى عليك من حقيقة أمره، ويكاتم مهب ريحك من دخانه وجمره، فلا يخطئك أن تستبين منه رأياً كأنه في رأسه نزوة ألم، وعقلاً مدنفاً لو هو مات لما قطرت له دمعة من قلم.

ومن آفة الجهل أنه على استواء واحد في نظر أهله على ما يتحرون بزعمهم من النصفة والمعدلة فلو تدسس أحدهم إلي كل مكروه وأصعد في كل بلاء لكان بعض ذلك كبعضه سواء في بادي الرأي وعند تقليب النظر لا بدرك فرق ما بين درجاته، ولا فصل ما بين صفاته، حتى إذا ضرب كل سبب في غايته، واتصل كل مبدئ بنهايته، ووقعت الواقعة بركن أمة كان قائماً وتعثرت المصيبة بشعب كان متقدماً، عرف ذلك الجاهل من مقدار الرزيئة مقدار جهله وعلم حينئذ أنه كان يملك من الكف عن هذا البلاء مثل الذي ملك من التسبب له وأسَفَّ من ذلك ولكن بعد أن يكون السهم قد مرق والأمر قد مضى وبعد أن لا يكون قد أفاد من الجناية إلا معرفته كيف جناها فكأن المصيبة على هولها إنما حلت لتفهمه أنه جاهل وما أعزها كلمة لا تفهم إلا من مصيبة.

وليس ينفك الجاهل بالشيء إذا رأى فيه رأياً من خصال: فأما واحدة فاقتضابه الرأي لا يغبه للخبرة ولا يبلوه بالتثبيت ولا يكاد يرى فيه مذهباً لتقليب النظر فما هو إلا أن ينزو في رأسه نزوة أو نزوتين حتى يكون قد وزنه ورازه وعرف مقداره صواباً من خطأ وخطأ من صواب فيصدره على أنه مما أنبطه الزمن من قليب قلبه وافتكَّهُ من عقال عقله وعلى أنه الحق لا مراء فيه وعسى أن لا نجد في باب المراء مثلاً أدل منه على الرأي القائل كيف يهلك أو يفيل.

وأما الثانية فتزين ذلك الرأي له على فسولته وضؤلته حتى يدفع عنه كل الدفع ويحوطه بكل حجة ملجلجة وحتى يرى أن الكد في ذلك هو يثبته وأن الثبات على الكد هو يحققه يزال يخور بمقدار ما يشتد في أمره ثم لا يصيب من وجه الأمر إلا ما يضل في مجاهله فيكون قد تأتي من سبيل الثقة إلى الغرور ومن سبيل الغرور إلى الباطل وكبر ذلك مقتاً وساء سبيلا.

وأما الأخرى من تلك الخصال فأن الرأي متى تماسك بما يجم حوله ويلتقي إليه ويستمر عليه من الخواطر فأنه سيكون منه عقد (اعتقاد) يخرج عن أن يكون رأياً موضوعاً، إلى أن يصير وحياً مرفوعاً، ويكبر عن أن يكون مضطرباً في العقل بين الحجج والبراهين، فينحدر إلى القلب عند مستقر العاطفة والدين، ثم لا يكون من هذا إلا ما تراه في كل جاهل من الرأي يصدره شرعاً معصوماً لا يزيغ عنه الزائغ إلا بخذلان من الله. . . فأن هو لم يتبع عليه ولم يتشيع له فيه أحد كان هذا الجاهل نبي نفسه لا يبالي ما ترك الناس مما اتبع ولا ما اتبعوا مما ترك.

وتلك خصال في نسق واحد وعلى نظم مطرد لا هوادة بين أولها وآخرها فهي وإن تعددت إلا أنها كما يتعدد الموج تنتصب منه أشباه الجبال ثم لا يستند منها الغريق إلا إلى الماء الذي يغرق فيه وهذا تفسير القول إن الجهل على استواء واحد في نظر أهله.

لا جرم كان العنت كل العنت والبلاء كل البلاء أن تفهم من لم يستجمع أداة الفهم لما تلقى إليه وأن تناظر صاحب الرأي وليس له مما قبلك ألا أنه يرى وألا أنك تدفع فإن الحجة في مثل هذا وإن وضحت واستبانت بيد أنها لا تصيب من غرض يستهدف لها وإنما تستعرض ما يستعرض السهم من الهواء يمر فيه منطلقاً لا يلتوي فمهما نلت من ذلك لا تنال سبباً إلى الإقناع وليس لك بعد إلا أن تطيب نفساً عن نتيجة أنت فرغت من مقدماتها، وترتد عن غاية كنت في ظل قصباتها، لأن الحجج لا تنتهي إلى الحق إلا إذا كانت متكافئة فهي تختلف متدابرة ولكنها متى تواجهت وأخذت كل حجة برقبة الأخرى فاختصمت ثم ارتفعت إلى العقل قضى بينها وكشف القناع عن وجه الإقناع. أما الحجة الواهية التي لا يسد منها علم ولا تنهض في جانب اطلاع فهذه تظل مدبرة وإنما قوتها في إدبارها ولياذها بكل منطلق فأنت تجد في كل الناس إلا في صاحبها مقنعاً ومعدلاً وما أن تزال معه في إدبار ثم لا تزال مقبلاً منه على مدبر عنك حتى تنكص عنه غالباً كمغلوب، وتنقلب طالباً كمطلوب. وأنا لا أدري ولا جرم ما الذي زيَّنَ لفلان من الناس أن يكون صاحب رأي في العربية وآدابها وأن يتمحل لرأيه ويشتد للنضال عنه ولا يعدو بالخصومة فيه من لا يقاره عليه أذلك حين بذلت له اللغة مقادتها أم حين حجمت عنه وحين استطاع له علمه أم حين طوع له وهمه، وما فلان هذا والعربية وآدابها والمراء في كل ذلك وهو بعد في حاجة من هذا العلم إلى استئناف الطفولة كرة أخرى. . . أئن التوي عليه أمر اللغة منذ دراسه فيها طلبة يسمونهم من فلم يفيدوه من المعرفة حتى ولا معرفة كيف يعلم نفسه. . . رمى هذه اللغة بالنقص وجعل الكمال لله ثم له فأراد أن يحيلها عن وضع انحرف به حَوَل عينه ويخرجها من حيز لم ينله ضيق ذرعه فذهب في طنطنته الضئيلة كل مذهب وافترش لسانه البكئ كل مفترش وهل اللغة إلا علم بعد أن انتقضت فينا الفطرة واختبلت الألسنة وهل يناظر في كل علم إلا أهله. ولم لا ينصب هذا وأمثاله لمن يقدم على أداة من الآلات البخارية فيقول له لو كانت هذه القطعة مكان تلك ولو كان هذا التركيب القبيح أجمل مما هو ولو أخرت أو قدمت ولو زدت أو أقللت ولو نقضت أو أقمت ولو فعلت وفعلت! وليت شعري ما يكون أمره وأمر صاحبه ذاك وكيف يراه ويرى فيه من لسن كله وعلم كله جهل؟ ألم يأن أن يعلم هؤلاء أن من الرأي غررا وأن راكب الخطر من ذلك إنما يركب رأسه وأن في الصمت زاوية مظلمة باردة تسمى قبر المخزيات ولو عرف الجاهل معنى المخزية. . .!

إن العجز مطواع وأن ما يعي أهل الحزم يهم به العاجز ويراه سهلاً لأن ذلك هو الذي يحقق معنى عجزه وما زال من يعجز عن الكتابة هو الذي يريد أن يصلح لغتها وأساليبها ومن يعجز عن الشعر هو الذي يضطلع بتخفيف أوزانه وتجفيف بحوره وهلم إلي أن تستوعب الباب كله فقد قالوا أننا نخاطب الدهماء والأجلاف ومن يُسف إلى منازلهم بكلام أهل نجد وألفاظ أهل السَّراة ونتوهم من سبل الحاضرة بوادي قيس وتميم وأسد وبالجملة فنحن نضرب في حدود الفوضى التي لا مخرج منها ولا وجه فيها وفي ذلك مضرة على الأمة وفساد كبير.

قالوا هذا وما يجري مجراه ولم يستحوا أن يصدعوا به وهم يرون إلى جانبهم من المستشرقين أعاجم قد فصحوا وأقبلوا على آدبنا وتاريخنا فوسعوها بما اتسع لهم من العلم وأحاطوا بها على ما أطاقوا بل كادوا يكونون أحق بها وأهلها ولقد كانوا في غنى عن كل ذلك بلغاتهم وآدابهم وما أفاء الله عليهم ومكن لهم فيه. ثم لم يشفقوا أن يبتلوا تاريخهم بالعقوق وهو الثكل الذي لا عزاء معه فأرادونا على أن نخلع بأنفسنا عن هذا التاريخ لا نعطيه طاعة، ولا نبايع له منا عن جماعة، ثم نكون كزنوج إفريقيا إذا غابت عنهم الشمس غاب عنهم التاريخ وإذا طلعت عليهم استأنفوا تاريخاً جديداً. أليسوا ينقمون منا أننا نشد أيدينا على لغة ليست لنا فلم لا ينقمون أننا نصرف وجوهنا إلى قبلة ليست في أرضنا؟ ثم يقولون أنهم يهجنون التصرف في اللغة وإرسال الألفاظ والأساليب على وجوهها العربية ويريدون أن يزيلوا التدبير في هذه الصناعة عن هذا الوجه لأنهم لا يحسنونه.

ولا ينفذون فيه إذا تعاطوه ويريدون فوق ذلك أن يطرحوا عنا كدَّ الصناعة لتكون من عجائبنا صناعة بلا كد.

ولعمري كيف يؤاتيهم هذا الأمر أو يستوسق لهم إلا إذا قلبوا أوضاع الكلام وزايلوا بين أوصاله وذهبوا فيه مذهب الترقيع في الخلق بالجديد وفي الجديد بالخلق.

لقد أهملنا اللغة ثم أهملناها حتى صارت معنا إلى حال من الجفوة جعلتها كالواغلة علينا والغريبة عنا وجعلتنا من نقص فهمنا فيها بحيث نضطر إلى التماس شيء غيرها نفهمه فصار إصلاح اللغة كأنه دُربة لإفسادنا وإفسادها فيما نتوهم دُربة لإصلاحنا وإنما هما خطتان لا تفضي كلتاهما إلى شر من أختها مبدأ أو منقلباً وأن أقبح ما ترى في شيئين أن يكون أحسن الرأي تركهما جميعاً.

زعموا أنهم يريدون أن تسهل الألفاظ وتنكشف المعاني وتكون الكتابة في استوائها وجمالها كصفحة السماء فهل البلاغة العربية إلا تلك وهل هذا أمر غير عربي؟ بلى وهل يعرفون أصلحهم الله أن الطفل يرى كل ما يدور في مسمعه من ألفاظ والديه كأنه إنما يتفق لهما اغتصاباً واعتسافاً واستكراهاً إذ لا يفهم من كل ذلك شيئاً إلا بمقدار ما يعتاد وعلى حسب ما تبلغ حاجته.

فلم لا يكون الرأي أن ينزل الآباء إلى لغات أطفالهم ويقتصر هذا المنطق الإنساني على المترادف والمتوارد من أسماء الألعاب الصبيانية وما يلتحق بها؟

ثم ما هو حكم العامي - وهو في كل أمة الطفل العلمي - بجانب أهل العلوم أتراه يلقف عنهم إلا بميزان تلك الغريزة الفطرية في الطفل الصغير مع أبويه فلم لا تمحي العلوم وألفاظها ومصطلحاتها وأساليب التعبير عنها ونحو ذلك مما تتراخى به شقة الفهم إذا تعاطاه ذلك العاميّ أو حاوله ويكون سداد العلماء فيما تطيقه العامة وسداد العامة فيما يطيقه الأطفال. . .؟ وأنت إذا تخطيت أمر الطفل اللغوي والطفل العلمي وأسندت في حدّ هذه الطفولة لم تر إلا طراز أصحابنا وهم أطفال الأقلام فهل يكبر عليهم أن يكبروا ويشتدوا وأن يساوقوا الفطرة في مجراها فيأخذوا الشيء بأسبابه، ويأتوا الأمر من بابه ويدعوا الأمر حتى يكونوا من أربابه؟ يصدرون رأيهم على جهل فإذا كشفت لهم معناه وبصرتهم بمصايره ووقفت بهم على حدوده وأريتهم وجوههم في مرآة النصيحة أنكروا ما جئت به وحسبوك تفتري الكذب وأصروا واستكبروا استكباراً لأن رأس علمهم أن يظنوا لا أن يحققوا ما يظنون فالرأي هو الرأي في ذاته لا ما يتعلق به ولا ما يتأدَّى إليه.

اللغة مظهر من مظاهر التاريخ والتاريخ صفة الأمة والأمة تكاد تكون صفة لغتها لأنها حاجتها الطبيعية التي لا تنفك عنها ولا قوام لها بغيرها فكيفما قلبت أمر اللغة من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها واشتمالها جلدَة أمة أخرى فلو بقي للمصريين شيء متميز من نسب الفراعنة لبقيت لهم جملة مستعملة من اللغة الهروغليفية ولو انتزت بهم أمة أخرى غير الأمة العربية لهجروا العربية لا محالة وكذلك يتوجه هذا القياس طرداً وعكساً كما ترى وأن في العربية سراً خالداً ذا الكتاب المبين (القرآن) الذي يجب أن يؤدى على وجه العربي الصريح ويحكم منطقاً وإعراباً بحيث يكون الإخلال بمخرج الحرف الواحد منه كالزيغ بالكلمة عن وجهها وبالجملة عن مؤداها وبحيث يستوي فيه اللحن الخفي واللحن الظاهر. ثم هذا المعنى الإسلامي (الدين) المبني على الغلبة والمعقود على أنقاض الأمم والقيم على الفطرة الإنسانية حيث توزعت وأين استقرت فالأمر أكبر من أن تؤثر فيه سورة حمق أو تأخذ منه كلمة جهل وأعضل من أن يزيله قلم كاتب ولو تناهت به سن الدهر حتى يلقى من الأمة أربعة عشر جيلاً كالتي مرت منذ التاريخ الإسلامي إلى اليوم.

والقرآن الكريم ليس كتاباً يجمع بين دفتيه ما يجمعه كتاب أو كتب فحسب إذ لو كان هذا أكبر أمره لتحللت عقده وإن كانت وثيقه عليه الزمان أو بالأحرى لنفّس من أمره شيء كثير من الأمم ولاستبان فيه مساغ للتحريف والتبديل من غال أو مبطل ولكانت عربيته الصريحة الخالصة عذراً للعوام والمستعجمين في إحالته إلى أوضاعهم إذا ثابت لهم قدرة على ذلك ولو فعلوه لما كان بدعاً من الرأي ولا مستنكراً في قياس أصحابنا. . . لأنهم لم يعدوا منفعة طلبوها من سبيلها، وخطة انتهجوها بدليلها.

وليس يقول بهذا إلا ظنين قد انطوي صدره على غل واجتمع قلبه على دخلة مكروهة وإلا جاهل من طراز أولئك لا يستطيل نظره بتجربة ولا ينفذ بعلم وإنما هو آخذ بذنب الرأي لا يوجهه ولكن يتوجه معه ولا يقبل به ولكن يدبر به الرأي.

إنما القرآن جنسية لغوية تجمع أطراف النسبة إلى العربية فلا يزال أهله مستعربين به متميزين بهذه الجنسية حقيقة أو حكماً حتى يتأذن الله بانقراض الخلق وطي هذا البسيط. ولولا هذه العربية التي حفظها القرآن على الناس وردهم إليها وأوجبها عليهم لما أطرد التاريخ الإسلامي ولا تراخت به الأيام إلى ما شاء الله ولما تماسكت أجزاء هذه الأمة ولا استقلت بها الوحدة الإسلامية ثم لتلاحمت أسباب كثيرة بالمسلمين ونضب ما بينهم فلم يبق إلا أن تستلحقهم الشعوب وتستلحمهم الأمم على وجه من الجنسية الطبيعية - لا السياسية - فلا تتبين من آثارهم بعد ذلك إلا ما يثبت من طريق الماء إذا انساب الجدول في المحيط.

إنما الله علينا بلاء فتياننا لأنهم ينشؤن في أرضنا نشأة المستعبد الرقيق وأنّ غنما لهم أن نحرص على ما بقي من جنسيتنا العربية وأن نشعب لحفظ الصلة وتوثيق تلك العقدة بيننا وبين أسلافنا ونمد من ذلك سبباً إلى حاضرنا ثم إلى مستقبلنا فلا يكون في تاريخنا اقتضاب ولا بتر ولكيلا نكون على ديننا ولغتنا ما كان أولئك إلا وشاب والزعانف من الترك والديلم إلى غيرهما من أصناف تلك الحمراء التي اجتاحت العرب منذ الدولة العباسية ورتعت في أمور الناس وجعلت بأسهم بينهم لعلة المباينة في الجنسية اللغوية حتى لم يكن في ثمانمائة سنة من استبدادهم ما يعدل ثمانين سنة كانت منذ أول العهد بالإسلام ولكن أني لفتياننا ذلك وهم لا يأخذون من لغتهم ولا يصيبون من آدابها إلا كما يأخذ الإسفنج من الماء ينتفخ بقليل منه ثم لا يلبث أن يمجه أو يجف فيه.

على أنك لو اعترضت كل من يهجن العربية ويزرى على سبكها لرأيته أجهل الناس بتركيبها وحكمة اشتقاقها ووجوه تصريفها ثم لرأيت له غرَّةً في تاريخ قومها فهو إن عرف منه شيئاً فقد تجرد من ثمرة المعرفة كأنه يحفظ طلاسم لا يتخبط فيها حتى يتخبطه الشيطان من المس ثم ترى الآفة الكبرى أنه مُستدرج من حيث لا يعلم فهو يكافئ محبة لغة أجنبية أحكمها بعداوة لغته التي جهلها ويجزي منفعة تاريخ علمه بمضرة التاريخ الذي لم يعلمه والناس أعداء ما يجهلون.

نعم بقي لأصحابنا مذهب آخر ينتحلونه ويستدفعون به الظنة وهو من أحسن رأيهم الذي يعانون عليه لو فهموه على الوجه الذي يفهم منه ولو أبدو لنا صفحته دون قفاه. . . وذلك أنهم يقولون أننا نريد أن نلائم بين حاجة الأمة من الكلام وبين الكلام الذي تبلغ به هذه الحاجة ونريد الإصلاح ما استطعنا فنلبس تاريخنا وعاداتنا ديباجاً من الكلام بطراز وغير طراز (نظماً ونثراً) ولا نترك أمتنا على سوم (في المزاد) بين العربية والعامية واللغات الأجنبية. ونحن نقول أن هذا أمر ليس له مَترك ولا عنه محيص ولكن أين ما ينزعون إليه مما ينزعون به وهم إنما خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً وإنما يؤتون من حسبان العربية الفصحى لغة أثرية لاتحاد الزمن ولا تشايع روح التاريخ فيرون أنها لا بد أن تكون قد انقرضت مع أهلها فلا تبقى إلا لقوم في حكم أولئك المنقرضين ثم يفضون من هذا الوهم إلى تلك المخرقة التي أشرنا إليها في صدر الكلام لأنهم لم يمارسوا هذه اللغة وإنما علموها عن عُرض وهذا ولا جرم ضرب من الجهل العلمي - ولوهم فقهوا سر العربية ووقفوا على طرق تركيبها وجاذبوا من أزمتها وصرفوا من أعنتها واكتنهوا محاسنها الفطرية التي خرجت بها من ثلاثمائة تركيب إلى ثمانين ألف مادة كما فصلنا القول فيه لعرفوا كيف يتسببون للإصلاح اللغوي الذي ينشدونه وكيف يكشفون لفظ الإصلاح عن معنى غير فاسد كما ذهبوا إليه وتقلدوا البلية من حيث يدفعونها لا من حيث تدفعهم ولكنهم كما ترى يصفون لنا الفوضى وهم صفاتها، ويطبون للأمة وهم آفاتها، ويبادرون حسم الأمور بما يتفاقم به صدعها، ويضعون أوزار النوائب بما يثور به نقعها، وما عليهم إذا تبينوا أن يصيبوا قوماً بجهالة، أو يردوهم عن الهدى إلى ضلالة، فاللهم بصرنا بأقدارنا، ولا تذلنا بصغارنا، ولا تخذلنا في الأمل وأنت الرحيم، دون غاية أتحت لنا وقتها، ولا تجعلنا في العمل كأهل الجحيم، كلما دخلت أمة لعنت أختها.

مصطفى صادق الرافعي